الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جسر اللَّوْز 54

علي دريوسي

2022 / 2 / 7
الادب والفن


في صباح اليوم التالي وأثناء تناول الفطور في الفندق أخذنا نقلّب الجرائد بحثاً عن إعلانات لتأجير غرف منفردة أو شقق صغيرة، سجّلت تولين أربعة عناوين، طلبنا قهوة من جديد، دخّنا سجائرنا بروية، ثم بدأت تولين سلسلة اتصالاتها التلفونية بالمؤجرين وتسجيل مواعيد المشاهدة للإطلاع على العروض المقدّمة.

انطلقنا بالسيارة إلى موعدنا الأول، كانت الشقة متواضعة المواصفات وغالية الثمن، ومع هذا لم أحظ بها، زرنا خلال فترة الظهيرة ثلاثة عناوين أخرى، دون فائدة، في اليوم الثاني أخذنا موعداً في الرابعة ظهراً لرؤية غرفة في طوق المدينة، هناك في أحد المنازل العائلية الكبيرة الواقعة على سفح جبل مزروع بأشجار العنب التقيا بالسيدة باخ، امرأة في السبعين من عمرها قوية الشخصية تعيش في منزلها مع العشرات من القطط، استقبلتنا بحفاوة وكأنها لم تكن تنتظر منا المجيء حقاً، عملت معنا جولة صغيرة في المنزل أرتنا خلالها غرفتي في الطابق الثاني، غرفة كبيرة بسقف منخفض وجدران خشبية مائلة، فيها سرير عتيق وطاولة، لم تكن الغرفة نظيفة، كانت طبقة غبار تكسو الأرضية وسطح الطاولة، تفوح من جدرانها رائحة لا تطاق، ثم أرتني دورة المياه في الطابق السفلي والمطبخ حيث سأتشارك معها باستعماله، خرجنا من المنزل لنرى الكراج، هناك لمحت سيارتها المرسيدس البيضاء ذات الموديل القديم، عدنا إلى صالون الاستقبال، أعدت لنا القهوة وسمحت لنا بإشعال سجائرنا، حدثتنا عن سيارتها التي اشترتها قبل خمسين عاماً، عن عملها في تجارة التحف وقطع الأنتيكا، عن محلها الكبير في مدينة كولونيا، عن بيتها الحالي الذي ورثته عن زوجها، عن مرضها بالسرطان قبل بضع سنوات ونجاحها في التغلب عليه، ثم تكلمت معي عن تفاصيل عقد الإيجار، ثم سألت تولين بخبث فيما إذا ستزورني كثيراً في المستقبل، قاطعتها قائلاً: "تولين صديقة لي تعيش وتعمل في الشمال الغربي".

أمضينا عقد الإيجار وقبل أن نهم بالمغادرة قالت السيدة باخ: "لاتقلق إذا لم يكن لديك سيارة، تستطيع الاعتماد عليّ في المرحلة الأولى لوجودك هنا".

صبيحة اليوم التالي دفعت تكاليف الأوتيل وغادرنا المدينة المزدحمة مباشرة بعد تناول وجبة الإفطار واستمتاعنا الطويل باحتساء القهوة والتدخين.
كنا نعلم في قرارة أنفسنا أن هذا هو فطورنا الأخير وصباحنا الأخير ومشوارنا الأخير.

>>>>

كرهت نفسي منذ اليوم الأول لمبيتي في الغرفة المهملة التي استأجرتها، وكرهت السيدة باخ، كرهتها لأنني كنت مجبراً على استخدام حمّامها ومطبخها، كرهتها لأنني كنت مجبراً أخلاقياً على الجلوس أحياناً إلى طاولة العشاء معها ومشاهدة التلفزيون، كرهتها لأنها كانت تستمتع برائحة سجائري، كرهتها لأنها تجاوزت السبعين من عمرها وما زالت قادرة على العمل والتفكير، كرهتها لأنها لا تشبه خالاتنا وعمّاتنا في الشرق العربي، كرهتها لأنها تحب اليورو والأنتيكا والتجارة والملكية، كرهتها لأنها كانت شريرة ومتصابية، تتمكيج وتتحمر وتتبودر وتتعطر وتصبغ شعرها باللون الأحمر وترتدي تنورة قصيرة، كرهتها لأنها كانت سعيدة بوجودي، كرهتها لأني خفت أن تقع في حبي وتشتهيني، كرهتها لأني هلعت من فكرة أن تشتكي عليّ بتهمة الاعتداء عليها، كانت تلك الموضة دارجة يومذاك وكان الألماني يورغ كاخيلمان، رائد الأعمال اللامع في مجال الأرصاد الجوّية ومقدم برنامج الطقس التلفزيوني أحد ضحايا تلك الموضة والتي ما زالت مستمرة إلى الآن بغض النظر عن عمر السيدة المرأة، كرهتها لأني أكره الكبار في السن، كرهتها لأن لا أولاد لها ولا أصدقاء، كرهتها لأنها تحب القطط أكثر من حبها للناس، كرهتها لأنها أُصيبت بالسرطان وتعافت من شره وكرهت معها مرض السرطان لأنه خسر الجولة معها.

حالما زحفت شرارة الكره إلى قلبي، حالما رحت أتوجَّس خيفةً من أن تغتصبني المرأة المسترجلة الجشعة ليلاً، فكرت بالرحيل من منزلها القميء القذر، قبل أن أخسر كرامتي وسمعتي في موقع عملي الجديد.

حين أفصحت لها عن رغبتي بترك المنزل بعد أن أجد شقة تليق بي، بان عليها الغضب واضحاً، منعتني فوراً من التدخين ضمن البيت، أقسمت لحظتها أن أهجر عالم السجائر الساحر قريباً، صرت أدخن خارجاً، أرمي أعقاب السجائر بين أصص الورد انتقاماً منها، وفي غيابها أطرد قططها وأقذفهم بالحصى.

عن طريق شركة عقارات تتصدر واجهة مركز المدينة وجدت شقة جميلة للإيجار، بمساحة تسعين متراً مربعاً، دون مطبخ كما العادة، كانت من نصيبي لأن أجرتها الشهرية عالية، أربعة عشر يورو للمتر المربع الواحد، بالإضافة إلى ثلاثمائة يورو شهرياً للغاز والتدفئة وماء الشرب وماء الصرف وترحيل القمامة وتنظيف درج البناية، ومائة يورو شهرياً للكهرباء وستين يورو لموقف السيارة تحت أرض البناية، الطلب عليها قليل جداً، وأنا قبلت العرض، فراتبي الشهري الصافي في الشركة الجديدة يبلغ حوالي ستة أضعاف أجرة الشقة الشهرية.
دفعت الوديعة المعادلة لأجرة الشقة لثلاثة أشهر وكذلك دفعت العمولة، أتعاب المكتب المكافئة لأجرة الشقة لشهرين. أما المطبخ وأجهزته الكهربائية بجودة متوسطة فسيكلفني ما لا يقل عن خمسة عشر ألف يورو، وسيكلف الأثاث بجودة مقبولة ليس أقل من عشرة آلاف يورو.

أثناء توقيع العقد سألتني المالكة فيما إذا كنت أربي حيواناً منزلياً، كلباً أو قطة أو فأراً أبيض، وعندما أجبتها بالنفي استرخت ملامح وجهها، أما عن سؤالها فيما إذا كنت أدخن فقد أومأت برأسي وقلت: "أربع سجائر في اليوم، أدخنها على البلكون". لم تكن المالكة سعيدة بإجابتي لكنها أمضت العقد على مضض، على أن أستلم المفاتيح في اليوم الأول من الشهر التالي.

يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اعرف وصايا الفنانة بدرية طلبة لابنتها في ليلة زفافها


.. اجتماع «الصحافيين والتمثيليين» يوضح ضوابط تصوير الجنازات الع




.. الفيلم الوثائقي -طابا- - رحلة مصر لاستعادة الأرض


.. تعاون مثمر بين نقابة الصحفيين و الممثلين بشأن تنظيم العزاءا




.. الفنان أيمن عزب : مشكلتنا مع دخلات مهنة الصحافة ونحارب مجه