الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في تأصيل فكرة الإشتراكية

هيثم بن محمد شطورو

2022 / 2 / 9
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


يقول تشي غيفارا:" لن يكون للاشتراكية معنى، وبالتالي لن يتم انجازها إلا إذا طرحت حضارة وأخلاق اجتماعية ونمطا لمجتمع يقف كلية على النقيض من قيم الفردانية التافهة والأنانية والمزاحمة وحرب الكل ضد الكل التي تتسم بها الحضارة الرأسمالية، أي ضد هذا العالم حيث يأكل الإنسان أخاه الإنسان."
ويبدو بشكل واضح أن هذه الكلمات تتجه إلى تضمين الاشتراكية بمضمون إنساني وروحي شامل. ففي النهاية ما تعنيه هذه الكلمات أن الاشتراكية بهذا المعنى تهدف إلى تحقيق الخير الإنساني وتبني قاعدته الواقعية من حيث الإنجاز والتـوعية والتربية و التثـقيف إلى خلق مجتمع إنساني خير يعطي الأولوية للحياة الجماعية والمصلحة الجماعية على حساب المصالح الفردية إن كانت تـتعارض مع المصلحة الجماعية. "تشي غيفارا" يضع الغاية من النضال لأجل الاشتراكية في خط مضاد للرأسمالية وبالتالي للامبريالية، ومن هنا يتضح الصراع ضد الرأسمالية بكونه صراع ضد الشر، وبالتالي يتـنـزل صراع الاشتراكية في إطار الصراع الإنساني منذ ظهور الإنسان بين الخير والشر. هذا الصراع من داخل الفرد حيث يصارع شره أو أنانيته في الثورة على قبح الواقع بما هو واقع الأنانيات الضيقة. من هنا فالاشتراكية وفق هذه الرؤية الأخلاقية الحضارية لا تخرج عن مضمون محتوى الرسالات النبوية الرسولية، وبمضمون التسامي نحو الذات الالاهية لأجل رفع الإنسان درجات نحو الالوهية، أو هي الصراع الذاتي والواقعي لأجل فك غربة الإنسان عن نفسه وأعماقه بمحاولة اتحاده مع الذات الإلاهية الخيرة في نفسه وفي أعمق أعماقه. ألم يقل ربك في القرآن " أن الله أقـرب إليك من حبل الوريد".
هل يـبدو هذا التضمين الروحي لفكرة الاشتراكية معقدا؟ لا أتصور ذلك بتاتا. جل ما يعتمر في ذهني من خلال هذا التضمين هو التـنـزه والركض بين الثنايا الفردوسية لمختلف المعاني والكلمات التي تشكل أرضية روحية فردوسية تـشعل الروح وتعطيها معنى وجوديا متضخما، بل معنى عظيم يملؤها بمختلف اليقينيات لأحقية الوجود الإنساني باعتباره صراعا لأجل تحقيق الخير في العالم. الإنسان يحتاج إلى اليقين ويحتاج إلى المعنى الروحي في الحياة. أما وأن يكون هذا المعنى متصلا باللانهاية ومتصلا بفكرة الله الواحد الأحد فتلك لعمري شطحة الروح المثلى لعقل عربي مسلم يتمحور جل تفكيره لقرون حول هذه الفكرة. الله الموجود في كل مكان، والله الذي يرعى جميع أقدارنا الخيرة والله واهب الحياة والقادر على كل شيء، والمسلم المجاهد في سبيل الله للاه في سبيل الله، هي غاية الحياة الإسلامية المتوترة بفعل الحضور الالاهي الدائم في الوعي والذي يجعل تـقبل الحياة بمثل ما هي كامتداد زمني نهائي أمرا غير معقول، ولانهائيتها في عالم ما بعد الموت هو وحده الذي يمنح للحياة الدنيا معقوليتها، ولكن لأجل الفوز بالجنة، فيتوجب إذن طاعة الله، وطاعة الله في النهاية فيما يكون؟ ألا يكون في النضال لأجل العدالة ونصرة المستضعفين وتحقيق السلام في العالم وإعلاء كلمة الله؟
من هنا، ألم يكن الأمر بسيطا جدا عند الاشتراكيين العرب في تضمين الروح الاشتراكية بتأويل إسلامي مبدئي، فيحقق بذلك اتصالا بالقرآن ويحقق اتصالا بكينونة شعبه الثقافية المتكونة عبر القرون الفائتة، وفي الوقت نفسه يحقق حتى انسجامه الذاتي مع عقل الشعب الذي يعيش بينه وبالتالي يحقق انسجامه الذاتي كعنصر فاعل وفق وعي الشعب وتاريخه؟
العكس تماما هو الذي اتجه فيه الاشتراكي العربي الماركسي الشيوعي أساسا، بحيث كرس بكل غباء انفصاله عن الواقع الحي ليؤسس لاغترابه عنه في الوعي والممارسة وبالتالي أسهم بشكل أساسي في تكفير الاشتراكية، برغم كونها فكرة إنسانية خيرة وبالتالي فكرة متصلة بالله.
باسم الاشتراكية العلمية الماركسية التي هي كذلك في واقع أوربي بلغ مرحلة الانتصار على الكنيسة، والماركسية جاءت في واقع يتمثل وعي التـفكير المادي ولم تخلق الماركسية هذا التـفكير وإنما ترعرعت في محيطه. ورغم ذلك، فالشيوعيون العرب أغلبهم لم يقرأ لماركس مثلا انه يفرق بين الأنبياء كثوريين وتحول ما أتوا به من أديان إلى تكريس للرجعية والاستغلال للضعفاء، برغم ما دأبت الأديان على تقديمه من عزاء وتعويض نفسي عن واقع البؤس وتحويل إلى فردوس ما بعد الممات بممارسة الطاعة والامتثال لما يقوله رجال الدين المتحالفين مع السلطة والمشكلين للسلطة.
ناهيك عن أن دراسة التاريخ العربي تُـنبؤنا باختلافات حتى في هذا المنحى. فبرغم الجبرية الأموية، إلا أن الدين الإسلامي كان منفلتا عن التأويل السلطوي برغم كل محاولات السلطة في تكريس نظرتها وتأويلها الواحد للنص الديني وفق مصلحتها في استـقرار الحكم. واستـقرار الحكم هو لصالح السلطة ولكنه كذلك لصالح الرعية إن كان الحكم صالحا. لكن دعنا من ذلك وما هي سوى التفاتة إلى وجوب عدم التوقف عند الأفكار بتأويل إطلاقي جامد. على كل. برغم ذلك فالإسلام كان دوما محتـفظا بتأويلاته الثورية على السلطة. المثال الأبرز هو التأويل الشيعي للإسلام وهو التأويل الذي جعل الشيعة دوما في حالة ثورية على السلطة القائمة. الحركة الإسماعيلية والباطنية والعلوية والخوارج وغيرهم. المهم، إن التاريخ الإسلامي وبحكم أن القرآن كتاب الله في متناول الجميع وليس حكرا على رجال الدين مثلما كان الأمر في المسيحية قبل البروتستانتية، وبما أن الجو العام كان جو التناول بالنقاش الحر وفي المساجد حتى مع الملحدين، ولنا المثل البارز للحلاج الذي قال "إن الله في جيبي" والمؤمن بالحلول للذات الالاهية في العالم، ولنا المعتزلة التي قالت أن القرآن مخلوق، أي هو فعل زماني أو تاريخي بلغتنا اليوم، وفي كل الأحوال لم تـنشأ في التاريخ الإسلامي كنيسة ولم يتم تقديس رجال الدين، وحتى إن بدا بشكل عام نوع من الاتباعية إلا أنها لم تكن تقديسا وعماء بمثل ما وقع مع الكنيسة التي أماتت الروح الأوربية. كان هناك مجال كبير من الحرية بالمقارنة.. يعني في النهاية لا يمكن أبدا إلا من باب الكسل الفكري ومن باب الغرور الأجوف ومن باب الغباء التاريخي الكبير هو فعل عملية الإسقاط للأفكار. هذه العملية التي نعاني منها حتى في أكثر الأشكال التفكرية الفلسفية مراوغة والتي تجد في قعرها في النهاية نفس العقلية الاتباعية الاستهلاكية للأفكار الجاهزة. وعوض أن ندرس الفلسفة وندرس التاريخ العالمي من اجل المعرفة أولا ومن اجل تفهم إمكانات انبعاثنا الحضاري وفهم واقعنا بتملك المناهج والأدوات المعرفية الجديدة، فان السقوط في السهولة هو المغري. تلك السهولة التي تتجه إلى المقارنة الغير تناسبية والغير تاريخية والغير مسئولة أمام الحقيقة، فتسقط في العماء المعمي، وتسقط في امتهان الذات الحضارية واحتقار العروبة والإسلام. في النهاية هو خلق دائرة وهمية لأشخاص يتورمون بالكلمات الجوفاء ويتمايزون في مخيلتهم المريضة فقط عن الشعب والدولة برمتها بكل مظاهرها، فيقلبون أصولهم الوضيعة إلى رفعة وهمية تخول لهم شرعية سلطتهم المتوهمة فيتحول كل ذي شان في البلد إلى محقر لديهم، فقط لأنهم هم وحدهم المؤهلون ليكونوا العباقرة والفلاسفة والحكام والمصلحين، ولكن كل ذلك في رؤوسهم الخاوية فقط، فيكونون مجرد ديكه تصيح وطبول تقرع لتحدث ضجيجا فقط...
فالمعادلة الضرورية التي تفرضها اللحظة الثورية العربية والتي لازالت غائبة وبالتالي فالثورة لازالت غائبة عن تجسيدها الواقعي. هذه المعادلة تتمثل في تكريس فكري وسياسي لتأويل إسلامي تقدمي يتصل بجوهر الرسالة الإسلامية كتوحيد بالله وحده لا شريك له، وهذه الفكرة تتأول في أبعاد عدة، أهمها بعد الاستقلالية التامة عن أي خضوعية لأي سلطة سوى الله وبالتالي تحقيق الحرية الذاتية بما هي ذات أخلاقية مرتـفعة ذاتيا نحو الالتزام الحر الذاتي، وتأويل الله بكونه الخير المطلق والعدل والعدالة وان البشر جميعا هم من خلقه والإنسان خليفته في الأرض وبالتالي فتكليفه وفق هذه المعاني الواردة في القرآن تتأول مباشرة برسالة الإنسان في سعيه لتحقيق الخير بما هو عدل وعدالة ومساواتية في اتجاه تعبدي للاه، " لا فرق بين عربي و أعجمي إلا بالتقوى"، وبالتالي يتم هنا بكل بساطة إدراج الصراع ضد التوحش والاستغلال والأنانية وبالتالي الرأسمالية ذات الرؤية الذئبية المحيونة للإنسان في صراع مع خط التماس المباشر مع الإيمان بالله وطاعته من جانبنا كبشر يسعى إليه. وليس من نافلة القول أن هذا الاتجاه الإنساني من شأنه أن يضمن بين أبرز معالم نضاليته كل زخم الفكرة الاشتراكية ونضالاتها وتحقيقاتها في الواقع مع تـشذيـبها وتطهيرها من الممارسات القمعية والتحريفية التي حصلت بفعل عدم توصيل الفكرة الاشتراكية الخيرة بفكرة الإيمان بالله وتحقيق المساواة الفعلية باعتبار الأحقية الفعلية لكل البشر في الحياة الكريمة والحرة والدفاع عن هذه الأحقية حتى وان اختلف معي أو انتقدني، ففي النهاية من خلق الإنسان له وحده الحق في إماتته.
وربما تقول لي انك تعود بنا إلى المربع الإسلامي، فأقول إن الإسلام ليس مربعا أصلا وإنما هو شأن روحي وعمقه روحي الاهي ولا يمكن أن يتـشكل الروحي في أي قياسات محدودة فهو متصل باللانهائي. أقول لك، إن الأمر خلافا لما ذكرنا باختزال شديد يطرح مسألة هامة تندرج في إطار المسار التاريخي منذ الصراع بين المعتزلة والحنابلة { وقد أشار الشهيد شكري بالعيد إلى ذلك في برنامج تلفزيوني بكل فطنة وذكاء وتمثل فكري أشمل وأعمق للحظة التاريخية التي نعيشها اليوم}، وبالتالي، فخلافا لمسألة التأصيل للفكرة الاشتراكية في الوعي الشعبي، فان المسألة تندرج في إطار اشمل، هو الصراع العربي الإسلامي في مسيرة تطور وعيه التي لا تغيب عنها نكبة ابن رشد، ولكن تلك النكبة ألا تنبؤ اليوم بفعل الصدمة الحضارية مع الغرب وغلبته وانتصاره الساحق وفعل تشضي الكينونة عندنا وفعل المتاهة والضياع.. ألا ينبئ ذلك بان استرجاع وعينا التاريخي بذاتنا وبالتالي تحقيق إمكان تحقيق أنفسنا في التاريخ، هو عملية استنهاض جديدة لابن رشد في زمنية متـقدمة كفيلة بتحقيق انتصاره بعد نكبته، أو بالأحرى انتصارنا جميعا بعد نكبتـنا؟
في هذا المناخ الثوري العام، فإن الاشتراكية وحدها تحقق التعبير الفعلي عن مضمون الثورة، وطبعا الاشتراكية باعتبارها ديمقراطية فعلية، ولكن في نفس الوقت فهي التي تحقق اتصالنا بالعالم من حيث توحدنا مع نضال الإنسانية في كل مكان ضد استغلال الإنسان للإنسان المكرس في الرأسمالية الامبريالية المتوحشة بكل قيمها المسلعة للإنسان والمحيونة له، بل تحويل الحرية إلى صفقة تعاقدية بواسطة المال في كل مجال، وهذه الحرية الاحرية باعتبار الذاتي الروحي فهي تسحق الإنسان في الامعنى الوجودي مما يؤدي به إلى المخدرات والإجرام والانتحار والأزمات النفسية والى الابتذال وتحوله إلى كائن يعيش ليستهلك وليس يستهلك ليعيش، وبإمكانه التحكم في استهلاكه بل بإمكانه الصيام والزهد والتمتع بالحياة البسيطة وهو مفعم بطاقة روحية ناتجة عن تملكه لمعنى لحياته. معنى الحياة لا يكون مرحا إن لم يشترك فيه مع بقية الناس. ما يسعى إلى تحقيقه المؤمن هو خلق مجتمع يعيش المعنى لأجل تأصيل سعادته، فالفرد ما هو إلا كائن اجتماعي وما سعادته إلا في سعادة المجتمع. هنا تـتـنـزل مختـلف الأبعاد في الرؤية. إنها ليست دعوى للنضال السياسي بل هي دعوة للتـفكير والتنظير والفعل اليومي في خلق معنى إنساني مشترك للحياة السعيدة التي من أجلها يثور الإنسان..
وفي تعقلنا الموضوعي للروحية الجوهرية للعربي المسلم، فإن هذا الاتجاه إن تمدرس وتمأسس فكريا وثـقافيا وسياسيا، سيملئ بالفعل الهوة العميقة للكائن العربي، ويخرجه من التلاشي والإنخداع بالوعي الزائف والحركات الزائفة وخاصة الإسلام السياسي الذي ملأ الفراغات التي تركها بكل غباء الفكر التقدمي النشيط المنتمي لشعبه وأرضه والمتأصل في صيرورته التاريخية وصيرورة العالم نحو مستقبل الأممية الاشتراكية...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما ردود الفعل في إيران عن سماع دوي انفجارات في أصفهان وتبريز


.. الولايات المتحدة: معركة سياسية على الحدود




.. تذكرة عودة- فوكوفار 1991


.. انتخابات تشريعية في الهند تستمر على مدى 6 أسابيع




.. مشاهد مروعة للدمار الذي أحدثته الفيضانات من الخليج الى باكست