الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ما الجمال ؟..الجواب الجمالي

رائف أمير اسماعيل

2022 / 2 / 9
الادب والفن


وفّر لي كتاب (السؤال الجمالي) لمؤلفه الدكتور عقيل مهدي كثيرا من الجهد في حصر وتحديد الظاهرة الجمالية ومدياتها، وبالتالي الاستغناء عن قراءات لعشرات الكتب المتعلقة التي قد لاتخدم مسعاي في بلورة جواب جمالي أكثر عمقا ومنطقا. علما، أن أسس وحيثيات جوابي الجمالي كانت قد سبقت قراءتي للكتاب، وسبقت أي كتاب قد قرأته أو اطلعت عليه في هذا المجال، وقد صادف يوما أنني التقيت بالمؤلف وأبديت له رأيي في الجمال قبل أن أعلم أن لديه كتابا عن الجمال، بل، أنني تعرفت على الدكتور عقيل مهدي الذي عرفت أننا متقاربان فكريا جدا، وبالذات فلسفيا من خلال النشاطات الثقافية لشارع المتنبي. وما كنت أيضا أعلم أنه أستاذ في أكاديمية الفنون الجميلة، وشغل منصب العميد لاحدى أكاديميات بغداد.
وقد سبق ذلك أيضا، أنني في عام 1993 قد أبديت (جوابي) ضمن أجوبة الحضور في محاضرة أقامتها الجمعية البارسيكولوجية في نادي العلوية ببغداد. حينها، عرفت أن جوابي عن سؤال: ماهو الجمال؟ كان مختلفا عن الباقين برجوعه إلى الأصل المادي لمعنى الجمال والأصل المادي لمن يحسه أو يدركه. وتأكدت، حين انتهت المحاضرة وجاءني أحد الحضور مستفسرا مني عما قلت وأعجب برأيي ثم دعاني إلى الانضمام لجمعية فلسفية غير رسمية كان عضوا فيها، فاعتذرت لأسبابي الخاصة. علما أنني ومنذ ذلك الحين أركز على اتباع الفهم العلمي لأي ظاهرة تبدو غير مفهومة، حتى أنني كنت أردد: لايمكن أن نفهم الباراسيكولوجي إلا بفهم السايكلوجي، عندما رأيت أن أغلب اعضاء الجمعية ليس لهم على الأقل تحديدا ماديا لمفهوم النفس. وأقول هنا، بانني شخصيا لا أستطيع فهم أية ظاهرة أو أي مفهوم دون أن أفهمه من أساسه المتعلق بالعلوم الطبيعية، خصوصا الفيزياء التي هي أساس لفهم الوجود، والكيمياء التي تحدد المركبات الكيميائية التي تتكون منها الأشياء وعلاقاتها، ثم الأحياء التي تتناول دراسة الكائنات الحية، وتركيبها الخلوي ووظائفها وسلوكها؛ لذلك كان جوابي(الفطري) المادي حينها: إن الاحساس بالجمال يمثل مصلحة ، وأن الجميل هو ما نتوقع منه فائدة. وكان رأيي هذا قد تبلور من ردود أفعال لآراء قرأتها هامشا في كتب فلسفية أو في مقالات متعلقة. وهو ما سيكون محور الجواب الجمالي في الأسس والتفاصيل التي سأذكرها أدناه.
كتاب السؤال الجمالي امتد فوق 326 صفحة متوسطة الحجم، وأصدر عام 2007، وقد تناولت فصوله التسعة: ما الجمال؟، موضوعات الجمال، في فلسفة الجمال الفرعوني والبابلي، جدوى التحاور الفلسفي في الفن عند الاغريق، الحضارة والفن في القرون الوسطى، بداية التفكير الجمالي عند العرب، فلسفة التنوير ، فلاسفة جماليون، الصورة الفنية وديناميات الفكر المعاصر، ذاكرا ضمنها آراء لعدد كبير من الفلاسفة والمفكرين والفنانين، مستندا على 29 مصدر.
وقد بدا لي أن المؤلف لم يقتنع بشكل تام بأجوبة من ذكرهم من اعاظم الفكر في فصل ما الجمال ، فراح متن السؤال ممتدا في الفصول التي تليه لمظاهر وأشكال وتعابير جمعية انسانية وحضارية متعلقة بالجمال والفن، علّها تولد حدسا جديدا عند القارئ كي ينظم أجابة أجدى وأعمق للغز محير. فحفزني أن اعتبر جوابي الجمالي مهما ولابد له أن ينزل على ورق؛ فقد يرضيه ويرضي الكثير، أو الكل، فتجتاز البشرية واحدا من اسئلتها الفكرية المهمة وتمضى قدما فتتفرغ لما هو أهم.
ولابد لنا هنا أن ننقل بعض ماذُكر من آراء في هذا الفصل:
لايبنتز: أن الجمال هو قطرة في محيط الله.
فيخته: أن الجميل نافع، أه من فلسفة الجمال ونظريات علم الجمال .. إن هي إلا ألفاظ.
ستاندال: الجمال وعد بالسعادة.
كانت: لايوجد علم للجمال، بل يوجد نقد للجمال، وأثبت أن قواعد الإنتاج الفني لا يمكن أن تصاغ قبل إتمام العمل الفني نفسه.
شوبنهور: كان لايرى في الجمال إلا تجليا لروح الموسيقى.
وأهم ما ذكره المؤلف في هذا الفصل:
يعترف الفنانون، والباحثون، والنقاد، والمفكرون في ( الجمال) بأن هذا الشكل الجمالي من بين أشكال الوعي الاجتماعي الذي يرتبط بالواقع أو لا يرتبط.. يبقى عملية معقدة، تبعد عن الانطباع الأني السريع: لأنها مدخلا متفلسفا يقتضي المقدمات، والطروحات، وتقويم النتائج، وحتى أولئك الذين يحجبون العقل عن الجمال لا يجدون بدا من مناقشته بما يشبه طرائق البحث العقلانية، وإن كانت أدواته ذاتية أو صوفية غيبية...
وهناك ذكر لبعض الفلاسفة الذين ربطوا الجمال بمفاهيم أخرى، مثل افلاطون وربطه الجمال مع عالمه الروحي.. بومجارتن الذي يعتبره يتعلق بمدى المعرفة الحسية لأية فكرة، حيث ستكون الفكرة جميلة إذا كانت المعرفة الحسية كاملة، وقبيحة عندما تكون المعرفة الحسية ناقصة.
وأفكار فلسفية أخرى ربطته مع مفاهيم الحق والخير.
جوابي الجمالي:
يطلق الأنسان صفة الجميل على الأشياء وعلاقاتها من حوله أو فيه .
والأشياء: لابد أن تكون مادة، بنيتها حجم وكثافة وكتلة، أو طاقة هي عبارة عن موجة لشيء لم تعرف ماهيته بعد. علما أن المادة كانت قد تشكلت من الطاقة بعد انفجار تشكيل الكون ( بك بانك). والأشياء لها صفات مثل اللون، الصلادة، الملاسة، المرونة.
والعلاقة: هي مشتركات تنشأ بين المواد تؤدي إلى فعل ما.
والجمال هو إما طبيعي مثل: سماء صافية – جبال عالية – مروج خضراء، شلال ماء، زهور، تغريد بلابل، علاقات اجتماعية جميلة.
أو مبتدع ومبتكر في مجالات الفن، والادب. مثل الرسم والنحت والموسيقى والتمثيل ، والرواية والقصة والشعر.
أو مركب من الاثنين بزيادة الجمال الطبيعي، باجراء تغييرات عليه.
ومن خلال حالة الاحساس بالجمال أو التأثر به نلاحظ مايأتي:
1- الكائنات الحية تنجذب جسديا إلى ماهو جميل، فتقترب منه أو تحاول الحصول عليه أو التعامل معه، كما نرى باقترابها مع بعضها في الحاجة إلى الجماع. أو في تفضيلها بيئة ما.
والاحساس بالجمال أو التعامل معه أو الحصول عليه يبعث الارتياح في النفس أو يولد شعورا بالسعادة لفترة.
2- الجميل صفة تتضمن مجموعة عوامل، فهو إما يعني مجموعة أسس و صفات جزئية، أويعني صفة واحدة لكن تكون باقي الأسس و الصفات حاملة لها. أو يتطلب، أن يكون الجميل متكونا من مجموعة أشياء أو علاقات بالغة التعقيد. وأحيانا يكون اعتباريا بسبب المغايرة، وقد يجتمع الضدان في الشيء الواحد، الجمال والقبح، عين جميلة جدا، والأخرى عوراء، فيزداد الإحساس لكل منهما.
3- الجمال شيء جديد، أو فيه جديد، أو تجديد، كذلك بالنسبة لجمال العلاقة، وبذلك يكون مخترعا أو مبتكرا.
4- الملل من الجمال، حيث يقل التأثر به بسرعة، مثلا ان تحرص على شراء لوحة رسم عالمية بمبلغ كبير فتضعها في بيتك، لكن بعد فترة وجيزة تمر قربها دون أن تنتبه لها.
5- قيم الجمال متغيرة و متطورة زمنيا ومتغيرة مكانيا.
التزاوجات بين الكائنات الحية ومنهم البشر هي تزاوجات عشوائية مستمرة بناءً على عشوائية الوجود والظروف التي أوجدت صدف الالتقاء بين الزوجين؛ والنتيجة فأن الخلف يكونون عشوائيين في نسب اجسادهم، ومع التطبع مع البيئة تترجح نسب بحدود هلامية تكون هي الأفضل ولفترة زمنية، لعصر ما، فلا يصح ما يفترض البعض من وجود نسبة مثالية وذهبية.
فالنسب الصحيحة للقردة المتسلقة ومعيشتها رغم أنها لا يمكن حصرها إلا بمديات لكل جزء من الجسم لمجموعة منهم، فأنها لا تصلح للإنسان الماشي ومعيشته، مثلما لا تصلح لكل أماكن تواجد البشر على كوكب الأرض، وفي المستقبل البعيد لن تكون نسبنا الحالية صالحة لمن يتنقل بمسافات بعيد داخل مجرة التبانة، أو من مجرة لأخرى. وعلينا أن نضع التغييرات الجيوكيمائية لكوكب الأرض، والطفرات الوراثية العشوائية نصب أعيننا بشكل جلي.
6- قد يتم التأثر بالجمال بعد فترة زمنية وليس لأول وهلة.
7- الاحساس بالجمال يتأثر بالمستوى الثقافي، إلى حد أننا نرى الآن للجمال (الثقافي) مدارس جمالية لكل منها قيمها ونظرتها له، مثل مدارس الرسم المتنوعة.
8- التخصص في الاحساس بالجمال حسب الحواس أو الادراك. جمال بصري( رسم أو نحت مثلا ) وسمعي (صوت أو موسيقى مثلا) ، وشمي (عطر جميل) وذوقي( نطلق عليه طيب أو لذيذ، أو لمسي (حرير ناعم). وادراكي (قصة جميلة).
9- الجمال نسبي، أي ثمة اختلاف في اعتبارات الجمال، بسبب الاختلاف في الاحساس به ومستواه من إنسان إلى إنسان آخر بسبب اختلاف كفاءات الحواس والحاجات، ومن ثم مستويات الادراك ، كذلك فأن قدرة العقل على توليد الخيال مختلفة زمكانيا، ونسبيا بسبب تغير الحاجة بداخل الجسم وتغير البيئة من حوله.
ولو فرضنا أن ثمة تؤام بشري متماثل تماما، ومختلف بطول الجسم بفرق 20 سم ، فكل البشر سيتفقون على الفرق بالطول، لكن سيختلفون من منهما الأجمل.
10- يرتبط الاحساس بالجمال بالحالة النفسية ومدى الانشغال بمنبهات غيره تبعد الإحساس به.
11- خزنه في الذاكرة كأفضلية.
12- إكثاره ونشره. أو العكس للبعض حيث يراد الاستئثار به وعدم القبول حتى بتقليده كي لاتقل قيمته.
13- الجمال أنواع وتقسيمات ومجالات شتى ولكل نوع صفات، مثل الأدب والفن،وقد تصل إلى وصف نظام حكم سياسي بالجميل لانتظامه، أوصناعات ما.
14- الندرة، بعض الأشياء والعلاقات تبدو جميلة لندرتها.
15- الجمال والوهم ، بما أن الحواس تتوهم فأننا قد نتوهم في تقييم صفة الجمال.
16- الاحساس بالجمال لا يقتصر على الإنسان، ولا حتى الكائنات الحية ، واذا جردنا معنى الجمال فان كل شيء يحس بالجمال، كرد فعل منسجم لشيء مع شيء آخر.
ولفهم (العلاقة الجمالية) بين الجميل ومن يحس بجماله ومنها نفهم ما الجمال لابد أن نتسلسل بالفهم لكليهما وكما يلي:
1- الجميل ومستلم الجمال كلاهما من مادة أو طاقة، ويمكن اعتبارهما علاقات (أنظمة).
2- كلاهما موجود ضمن كون غير مستقر بدءاً من أبسط مواد وحالات بنائه. وبذلك فأن الاثنين متغيران في كل لحظة. والوجود الكوني بكل أشياءه يكون الوسط الناقل بينهما، فتنقل المعلومات من الجميل إلى المستلم بوسائل متعددة، الاشعاع الكهرومغناطيسي ومنه الضوء المرئي، الموجات الصوتية ومنها المسموعة، هواء، عناصر ومركبات كيميائية. وأحيانا يتم الاستلام بدون وسط كما في حالة اللمس والتذوق.
3- المستلم للجمال يستلمه (يحسه) بحواس خمس، كانت قد تشابكت مع بعضها مولدة الدماغ ثم جزءه العقل ثم تتكون حالة الفهم أو الادراك فيه. علما أن المستلم كان قد خزن كميات هائلة من المعلومات من البيئة من حوله وصنفها حسب أهميتها له، ومنها كوّن له ما تم اعتباره نفس وشخصية، وهما متغيرتان بسبب توالي عملية بنائهما، بتراكم المعلومات بنائيا استجابة لحاجات الجسم وغرائزه.
4- جسم المستلم منه ماهو ثابت (نسبيا) ومنه ماهو متغير. مثلا جينات الإنسان، وشكله العام، وأجهزته واعضاؤه وانسجته وخلاياها، والوظائف لكل منها تعتبر ثابتة، بينما تتغير نسب العناصر والمركبات الداخلة فيه، والطاقة بداخله. ويتغير أيضا مكانه وعمره وعلاقاته ومسافاته الداخلية. والتغيير بسبب العوامل الذاتية أو ما يؤثر عليه خارجيا، وبتفاعل السببين والتفاعل المستمر لنتائجهما يتسبب في حاجة تتمثل في نقص أو لفظ زيادة. ويشمل التغيير أيضا الجميل خصوصا اذا كان كائنا حيا.
5- الدماغ-العقل- النفس- الروح
تستخدم هذه الاصطلاحات كثيرا في كتب ومقالات الجمال، ولابد من تعريفها أو تحديدها ماديا كي تكون أساسا صحيحا تبنى عليه اعتبارات الجمال وكالآتي:
الدماغ: هو الجزء المركزي للجهاز العصبي، وهو يمثل خلايا النسيج العصبي التي استلمت المعلومات من الحواس، وتغيرت وتحورت بموجبها كي تخزنها بداخلها فصارت ذاكرة، وتشابكت مع بعضها في مناطق، لتمثل مراحل متسلسلة في انتظامها وصولا إلى مراحل الأدراك. وهو يتكون من أجزاء ومناطق ونويات عصبية عديدة، لتقوم بوظائف متعددة منها السيطرة على الجسم وتنسيق وظائف اعضائه وأجهزته، والاستجابة الحركية أو الغدّية لما يجري بداخل الجسم وخارجه. وجزؤه الأمامي وجزء من وسطه يكون إراديا فيقوم بوظيفة خزن المعلومات وإعادة ربطها واصدار الأوامر لباقي الجسم، وجزء آخر من وسطه وآخره يكون لا إراديا ليسيطر وينظم أجهزة الهضم والتنفس ودوران الدم وغيرها من المهام اللاإرادية.
العقل: اصطلاح اعتباري، نعني به جزء الدماغ الإرادي الذي يؤدي وظائف التصور ثم التفكير، بضمنها حالات التذكر و الخيال والحلم، أو حالة الدماغ حين يؤدي هذه الوظائف، بعد أن استلم الدماغ كمية من المعلومات وخزنها، وصارت له القدرة على تشبيكها وإسترجاعها في أية لحظة. وسبب الاعتبار هو أن كل وظيفة أو جزء منها أو حالة من حالاتها تشترك فيها مناطق معينة من الدماغ أو تتركز فيها ولا يشترك كل الدماغ فيها. ناهيك أننا لا يمكن أن نعتبر الجزء اللاإرادي، الغدة النخامية مثلا، جزءا من العقل.
ويمكننا التفريق بين المصطلحين بوضوح: بأن الجنين له دماغا لكن ليس عنده عقلا، لعدم استلامه معلومات عن طريق الحواس بعد (ليس عنده ذاكرة).
النفس: بما أن المراد من كلمة النفس هو الجزء من الجسد المسؤول عن سلوك الإنسان وتصرفاته، وتتداخل مع مصطلح الشخصية، فهي بحاجة للاتفاق بين كل علماء النفس في تحديدها ماديا بشكل نهائي، فهي إما تعني المعلومات المخزنة (الذاكرة) ومنها ما أتسق مع الجسد ورغباته وصارت عنده مواقف بموجبها فتكونت له شخصية، أو يضاف لها المعلومات العامة للجسد أو الموروثة المتمثلة بالجينات. ولا يجوز اعتبارها شيئا غامضا أو غيبيا على الإطلاق.
والحالة النفسية هي أية فترة من فترات الوعي تشترك فيها جزء من المعلومات المخزنة أو مع ما اضيف اليها من معلومات آنية مولدة شعورا قد ينتشر إلى جزء من الجسم أو كله، عن طريق الجهاز العصبي أو بافراز غدي.
الروح:إما نعرفها بأنها علاقة وليست شيئا، لتعني حالة الاتحاد والتوافق الوظيفي بين أجهزة الجسم الرئيسية التي بفقدانها يموت الجسم، على اعتبار أن إطلاق الكلمة أو ابتكارها قديما كان" ظنا"، حين رأى البشر إن جسم الميت بعد لحظات من وفاته كان كاملا لكن بدون حركة، فظنوا أن شيئا غامضا قد خرج منه، ولم يستنتجوا انعدام حالة الاتحاد والتوافق بين وظائف أجهزته، لعدم فهمهم أياها وقتها.. أو استبعادها من المواضيع الجمالية تماما، وهذا ما عكفت عليه في مقالتي هذه.
6- مستويات تركيب الاحساس بالجمال
اعتدنا أن نعتبر ثمة مواد جامدة أو ساكنة وغيرها حية أو متحركة. وفي الحقيقة أن محدودية حواسنا ومحدودية الدوائر الكهروكيميائية التي تتسبب في التفكير والفهم والادراك لفترة قصيرة لتسهيل اختيار المعلومات المطلوبة هي العوامل التي تثبت مواد ما اعتباريا لفترة ما أو لظرف ما بينما تعتبر غيرها متحركا.
واقعا، كل الوجود متحرك، كل الأشياء وكل العلاقات فيه متحركة، الحركة هي الأساس لتكوين الأشياء، هي حيوية الوجود، وهي حياته وحياة كل شيء فيه. والأشياء المادية تبدأ متكونة من بنية (جسيمات دون ذرية أو كمات من الطاقة) تتحد اعداد منها بعلاقات لتكون بناءً جديدا، وهذا يتحد مع بناء أخر ليكون بناء أكبر، ومن البناءات تتكون الأنظمة لفترات ما. والأنظمة بدءا من أول نظام معرضة للتفكك، والمتفككات من نظام أو مجموعة انظمة، أو من أشياء لم تكن منتظمة، أو خليط منها، تكون أنظمة جديدة، وهكذا تستمر كل مكونات الوجود في تتابع لبناء وهدم؛ فتبقى العشوائية هي المسرح المتغير والهلامي الذي تمثل الأنظمة أدوارا بداخله.
وعندما نبدأ في تفحص أول نظام تكونت كل المواد منه، منها أجسادنا الحية المحبة للجمال وهو الذرة، فاننا نجدها نظاما غير مستقر؛ نواة موجبة الشحنة غير مستقرة تتحول فيها البروتونات إلى نيترونات وبالعكس، تدور حولها الكترونات في مدارات مشبعة وغير مشبعة. فيتسبب ذلك في أن تحتاج ذرة الكترونات من غيرها لتشبع أو تلفظ عددا مما تملك لتستقر (نسبيا)، ناهيك أنها قد تنشطر نوويا أو تندمج مع ذرة غيرها.
وهذا ما عرف أنه المسبب لنظام من مستوِ أخر يعرف بالمركب الكيميائي، وهو أكثر استقرارية، لكنه غير مستقر أيضا، مما يتسبب في اتحادات لمركبات كيميائية، وقد تستمر الاتحادات لتكون معقدات كيميائية ضخمة جدا، فتكون مثلا الصخور، والكائنات الحية منها الأنسان.
وبما أن عدد عناصر الطبيعية هي 92، وهي مختلفة الخواص، فإن اتحاداتها العشوائية طبيعيا تجعلها تتدرج في استقرار مركباتها. وميلها للاستقرار يحتم عليها استبدال عنصر بغيره، أو مجموعة منها بغيرها.
وهكذا كانت الحوامض الأمينية التي تشكلت منها نواة أول خلايا حية غير مستقرة، ومنها من زاد في الطول والتغير في عناصره الداخلة في التركيب ليتحول إلى حوامض نووية.
وأيضا لم يصمد الغشاء الفوسفو دهني الذي وجد نفسه متشكلا رغما عنه حول نواة الخلية من البقاء على حاله، فقد يتفاعل بعض منه مع عناصر ومركبات من الخارج، ومع ما دخل إلى الخلية الفتية التشكيل، وهكذا تعقدت الخلايا وتنوعت، وتعقدت متعددات الخلية وتنوعت.
والجمال الخارجي أو عكسه(القبح) هنا، أن الخلية أو مجموعة متحدة منها تجد في مركبات خارجية داعمة لنظامها واستقراره، وغيرها مفككة له ومميتة لها، كذلك الحال مع الظروف الخارجية من ضوء حرارة وضغط واهتزاز التي قد تدعم نظامها أو بعضه، أو تزعزعه وتفككه أو بعضه بشكل نهائي. والجمال الدخلي للخلية هو الكفاءة والدقة في التنسيق بين مركباتها لأداء وظيفتها، وما الوظيفة هنا في الحقيقة إلا قدرة تجمعها الكيميائي من الصمود لفترة أطول، وهو ما يمثل بالنسبة لها مصطلحات العيش والعمر والحياة.
والعوامل الخارجية المشار إليها مترافقة التأثير، وهذا الترافق على مستوى خلية هو البداية التي تتكون بتراكماتها وتعقيداتها على مدى مليارات من السنين الصور العقلية في الكائنات الحية العليا، مثل الثدييات ومنها الإنسان. وهذه الترافق هو من يتسبب في ظاهرة الاقتران الشرطي في تسلسل تأثير عامل بعد آخر.
فقد ينبعث من مادة خارجية طاقة، ضوء أو حرارة، أو صوت قبل وصولها إليها، لتتحول بعدها إلى خبرة معقدة، تستطيع منها حدس عامل من خلال عامل يسبقه في الوصول؛ وهكذا تتعلم الخلايا، ثم تنظم فيما بعد مهاراتها التعليمية.
وهكذا، انتظمت فيما بعد الحواس وتشابكت، انتظاما كيميائيا بحتا، بأنظمة خلوية ونسيجية ثم كأعضاء، كي تستطيع الكشف عما يجري من حولها، فتستجيب له بما يحفظ كيان جسدها الحامل لها لأطول فترة ممكنة.
والإنسان، بشكل أساس هو عبارة عن قناة هضمية وباقي الجسم كله ملبٍ لها، وهي تطورت من دخول مواد كيميائية إلى بدائيات البكتريا، وتحول الدخول والخروج إلى قنوات، دفعت بعض الكائنات الحية المتطورة عنها ألى الاستطالة. ومن ذلك نشأ خطأ تطوري ظهرت فيه الأمعاء البسيطة متمثلا بالديدان البسيطة في أبسط صوره، ثم تعقدت الأمعاء وسبل وظائفها، والجسد المرافق لها، حتى نشأت الأسماك والزواحف والطيور والثدييات ومنها الإنسان.
استطاعت الكائنات الحية العليا منها عبر كل مسار الشجرة الإحيائية أن تجمع خلايا عصبية منها في جزء من دماغها وهو ما اسماه العلم (الدماغ الحوفي) ليحدد مديات الصور العقلية الضارة أو النافعة، بحسب خبرات الجنس أو النوع السابقة ككل والتي بعض منها يترجم إلى افعال انعكاسية غير شرطية ، وحسب تجارب الفرد التي يتم الاستجابة لها باسلوب الاقتران الشرطي.
فأصبح استلام الضوء والوانه، أو الصوت وتدرجاته نذير خوف، أو استبشارا لارتياح وبهجة.
وأصبحنا أحيانا نخمن طعم الطعام من الوانه قبل تذوقه، ونخمن حالة الطقس من ألوان السماء، وخطر الأفعى قبل أن نراها من صوت طيور.
وسادت زرقة السماء الصافية وصوت الطبيعة الهادئ في نفوسنا المرتاحة، بينما دعت ألوان السماء البيضاء والسوداء، والاصوات العالية والمتعددة والمتنوعة نفوسنا إلى الاضطراب والحيرة والشك والخوف من نتائج فعلها، مثلما دلّت المروج الخضراء التي اعتبرها اغلب البشر جميلة على وفرة الغذاء. ودلّ جمال الماء الصافي على خلوه من الجراثيم.
ومن هذا وذاك تتشكل وتتداخل وتتعقد الصور الجمالية وغير الجمالية في كل أفرع وانواع الحياة.
7- طبيعة الحاجة وخرائطها في جسم الإنسان(الحاجة إلى الجمال)
وبتفصيل آخر لطبيعة الاحساس بالجمال عند الإنسان نقول: إن التفاعلات المستمرة والسريعة للمركبات الكيميائية المتنوعة مع بعضها البعض في جسم الإنسان، بداخل الخلايا وخارجها، تتسبب في تغير نسبها وخرائطها وخرائط العناصر المكونة لها في جسمه في كل لحظة، يتبعها تغير في توزيع الطاقة. ويتبع استهلاك بعض منها بعمليات التنفس والاخراج أو الحركة أو ممارسة الجنس وغيرها أن يحدث نقص يؤثر على وظيفة ما. وبالتالي تتجدد في كل لحظة خرائط نقص لعنصر ما أو مركب ما. ويضاف لهذه الخرائط أن تتغير خريطة الشحنات السالبة والموجبة في كل لحظة، فيحدث زيادة أو نقص في شحنة ما في مكان ما، أو زيادة أو نقص شحنة بالنسبة للشحنة الأخرى في مكان أخر، فتبرز الحاجة للتعادل، كما هو الحال عندما يحدث الزيادة والنقص في مناطق من الدماغ ليتسبب في نشوء موجات الدماغ .
إن كل حالات النقص وخرائطها تتسلل إلى الدماغ عبر فروع جهازه العصبي المنتشر في جسمه، لتدفعه إلى التفكير في الحصول على الطعام الكافي والمناسب لكل نقص، مثلما هي تنظم عملية التنفس للتعويض عن الأوكسجين (بدون تفكير) في أنوية عصبية في نخاعه المستطيل( الدماغ الانتهائي).
والتفكير يولد أحيانا خيالا، يمثل طرقا مفصلة للحصول على ما يحتاج.
والخيال هو ربط لمعلومات مخزنة بشكل جديد، بالتنسيق مع الحواس، وهذه تنسق مع جهازه الحركي لتوجهه إلى مايريد. وبذلك فان خرائط النقص ستتجه عبر الحواس كي تبحث عما يقابلها من خرائط خارج جسمه. علما ان النقص في عنصر ما قد يوجد في طعام أو مادة أخرى لاتؤكل، أو في لوحة رسم،فينجذب لها، لكن مع حالة الانجذاب يترافق تفكير بعدم جدوى الحصول على العناصر منها، فتعتبر حالة مفيدة في شروطها الأولى، والمفيد هنا، هو ما نفهمه (بدون تركيز) جميلا، مثلما يفهم رجل ما مواصفات (فوائد) امرأة الجسمانية (القدرة على الجماع والانجاب بدون تركيز أحيانا) فيحبها من طرف واحد، قبل أن يدرك أنه لن يفوز بحبها، ثم يدل حبها له على توافق أكبر بين الجسدين في تبادل أشباع النقص لكليهما.
كذلك، فأن الدماغ يضع أولويات في التصرف تجاه النواقص، مثلا، الهواء قبل الماء، وهذا قبل الطعام. وقد يحتاج الدفء قبل الطعام فيحب النار ويدقق في جمالها، وعند الاكتفاء فأنه يبحث عما يوازن وينظم طاقة جسمه وتوزيعها بالنظر إلى الذهب أو الفضة وغيرها. وهكذا.
وقد تعبر حالة الوهم حين يجوع أحد الاشخاص فيجد لوحة رسم فيها طعام فينجذب إليها بشكل جلي عن إرتباط حالة النقص مع اعتبارات الجمال.
لذلك فإن الإحساس بالجمال هو توافق خرائط.. توافق بمستويات متعددة بين خرائط النقص وخرائط الإشباع الخارجية ( نلاحظ مثلا أن الطعام له الوان وأشكال، مثل لوحة رسم) . الجميل لا يكون جميلا إلاّ حينما نحتاجه. والتوافق لن يصل إلى درجة التطابق إطلاقا، فلايمكن أن نجد ما يطابقنا ككتلة متغيرة في واقع متغير،لأننا على الأقل لا نطابق نفسنا بعد أجزاء من الثانية. عليه لا يوجد جمال كامل أو مطلق نحسه أو نفترضه.
8- الجمال الذاتي
إن التغييرات الكيميائية في جسم الإنسان والتي ينتج عنها تغييرات ووظائف لأعضاء الجسم تؤدي إلى أن يحس الإنسان بجسده وشعورا ووعيا بالذات، وانتباها لحالاته سلبا وإيجابا، وأن يعي ويضع اعتبارات للحالات الأفضل، التي بها يعيش أفضل،و يؤدي وظيفة أفضل، فرديا واجتماعيا،ويقارن جسده مع أجساد الآخرين، كي يعرف تشابهه واختلافه، ومزاياه. هذه المزايا هي التي يعتبرها الفرد( باتفاق مع المجموع أحيانا) صفاتا جمالية ذاتية.. طوله ولون عينيه وبشرته، نسب جسمه. وسيعي إذا ركز في تفكيره في كل صفة أهميتها الوظيفية.
وبالرجوع إلى خرائط النقص نجد أنها تذهب إلى الدماغ من أجهزة وأعضاء مختلفة، وأحيانا يقوم العقل بناء على خبراته بالتعويض ، أو بالتنسيق بين الأجهزة، مثلا شعور بالجوع يأتي من الجهاز الهضمي فيقوم باصدار الأوامر ألى اليدين لالتهام الطعام، لكن من الجمال الذاتي ما يحتاج إلى مساعدة خارجية مثلا الحاجة إلى تنظيف الظهر من منطقة لا تصلها اليدين ، أومرض يتطلب الذهاب إلى طبيب ، ويمكن ذلك أيضا بمساعدة ما نعتبره جميلا خارج جسمنا، حيث هو قد يحوي على معلومات مباشرة مصاغة باسلوب معين ، أو موسيقى مثلا تتردد في أماكن فتفرغ شحنات كهربية بداخل شبكة الدماغ العصبية. أي أن واحدة من ظائف وفوائد الجمال الخارجي هو تنسيق خرائط نقصنا لنكون أجمل.
ونلاحظ أن خرائط النقص الشديد قد تصل به أحيانا إلى الموت، فإن الحاجة إلى الجمال قد تكون معبرة عن حالة أقصى.. عن حالة انقاذ له، فيعبر أحد ما عن وجه رجل الدين الذي لجأ إليه، بأنه جميل ووجهه نوراني، وصوته كأنه صوت الرب.
كذلك، فإن حالات التعاون مع الأفراد الآخرين تؤدي إلى تعويض النقص المشترك، أو المبادلة (جمال مشترك).
من خرائط النقص عند البعض ما يولد النرجسية، حيث يتم التعويض الداخلي للنقص بحب الذات المبالغ به، وهي كما نرى حب جزء من الجسم لآخر تتواجد فيه نسب عالية مما يحتاجه، من شحنات أو مركبات كيميائية، ونلاحظ أن هناك اماكن في الجسم، في الكبد مثلا تخزن مركبات تعوضه النقص الحاصل من عدم توفر الغذاء أو شحة عناصر فيه( أحساس داخلي بالجمال لايدركه العقل) مثلما تخزن الشحوم تحت الجلد للتعويض بما يشبه تلك الحالة. وهذه الحالة عند الإنسان تشبه التخصص لتعويض الحاجة في الكائنات ثنائية الجنس وحيدة المسكن.
9- جمال البيئة
التغييرات الداخلية والخارجية التي تطرأ على جسم الإنسان تؤدي إلى تعديل وضع جسمه وحركته. فيمشي ويقف، ينام ويستيقظ، يستظل أو يتشمس أو يسبح وغيرها كي يلبي نتائج تلك التغييرات، لذا هي جعلته يعيش في بيئة أكبر. فبرز الاحتياج إلى اعتبارات للبيئة الأفضل، والأفضل هي ما اعتبرها أجمل، فالسكن الجميل وأثاثه، والمدن وبناياتها وشورعها الأجمل هي في الحقيقة توفر له العيش والحركة الأفضل. وبذلك اتسعت بيئته الجمالية فشملت حتى السماء وكواكبها ونجومها، حتى النجوم والكواكب استطاع عن يوظفها جماليا بأعتبارات أشكال يستدل منها عن مكانه وحركته وفصول سنينه.
10- الأدوات المساعدة للعيش
أمتاز الإنسان عن كل ما سبقه في الظهور من الكائنات الحية بذكائه، وبرز جمال ذكائه بقدرته على صناعة أدواة مساعدة تسهل أكثر سبل عيشه، فصنع الأجهزة والآلات والمركبات والمصانع وغيرها؛ وكلها دخلت في مقاييس جمال بالقياس في دقتها وقدرتها لأداء وظيفتها.
11- التفاعل الكيميائي عن بعد - الاحساس بالجمال.
نستطيع أن نعبر عن حالة التوافق بين الجميل (الحي) والمستلم لجمال بأنها حالة تفاعل كيميائي عن بعد، وأبسط مثال لها، أن الصوت الجميل لإنسان ما يبدأ من نقطة صغيرة جدا في الشبكة العصبية للدماغ، وهي حتما كانت بداية انطلاق فكرة أن يتكلم، أو يطلق صوتا ما، ولو ندقق في تلك النقطة نراها عبارة عن شحنات كهربائية قد زادت لتتسبب في سيل عصبي ينتقل إلى منطقة بروكا المسيطرة على حركات الرئتين والحنجرة واللسان، وبعد اطلاق الصوت فأنه ينتقل عبر الهواء ثم إلى أذن سامعه، ثم إلى منطقة في الدماغ تقبل التأثر به أو تستطيع تفسيره، وهذه الاستجابة هي كيميائية أيضا وهي أيضا تتسبب في سيال عصبي، مما يجعلنا أن نعتقد أن تفاعلا كيميائيا قد حدث عن بعد بين شحنة سالبة لمركب أو مجموعة منه، وشحنة موجبة لمركب أو مجموعة منه.
ويشبه ذلك الاعتقاد اعتقادا آخر يتمثل في ابتعاد الكترونات عن نواة الذرات أو تحررها لفترة عند الطرق على آلة موسيقية نحاسية، وكأنها تتفاعل عن بعد مع شحنة موجبة في نقطة ما في دماغ المستلم.
12- الجمال كثقافة
إن الاحساس بالجمال من قبل الفرد الواحد في الغالب يكون لأول وهلة، ودون وعي أو تركيز، فيكون من ضمن مهارات التفكير الدنيا: أي التفكير الذي تم تحويله إلى عادة أو ممارسة مستمرة لاتحتاج إلى تجديد أو ربط مع معلومات جدلية، وهو يعبر عن خرائط النقص بشكل مباشر، لكن منه ما يتطلب التفكير العالي وفحص وتدقيق مكوناته، ويرجع ذلك إما لوعيه العالي ، أو لاختلاط عوامل أو مكونات الجميل وتعقيدها، أو لأنه تأثر بها من خلال ثقافة إجتماعية أقحمت في تفكيره، منها ما يعبر نسبيا عن احتياجاته ومنها ما ليس له علاقة بخرائط نقصه.
إن الفرد في الحالة الأولى، لا يقيم الجميل بوعي منه لخرائط نقصه، فيقنع نفسه أن الجميل جميل لاحتوائه العناصر او المركبات الكيميائية الفلانية، أو لأن خصر المرأة مهم في أداء أعمالها المنزلية.
وهنا نرى أن الشعوب ولأعمالها الجمعية قد أبرزت بعض القيم والصفات الجمالية في فنونا وآدابها واستعراضاتها، ورغم اختلاف الشعوب في أجناسها الوراثية وبيئاتها نجد بعض المشتركات الجمالية، مثلما نجد ما هو مختلف.
وإذا ركزنا على جمال الانسان واتخاذه محور لباقي أنواع الجمال واشتقاقاته، فأننا نلاحظ أن تلك الثقافات أبرزت في الجمال بشكل عام ما يتناسب مع كل بيئة الكوكب : الجسم القوي، الضخم، السريع الحركة، المرن، الصوت العذب، اللسان الفصيح، وغيرها.
واختلفت في ما يتوافق مع البيئة المحلية في لون البشرة الجميلة، وخصائص أخرى في الوجه والجسد.
مثلا، قبائل في وسط افريقيا الحار جدا تعتبر من لديه فتحتي أنف كبيرة جميلا. لأن الجو الحار يتسبب في تمدد الكمية المناسبة من الأوكسجين.
وقبائل في كينيا تعتبر الرجل الذي يمتلك كرشا كبيرا هو جميل، لأنه يعتبر غنيا ويستطيع إشباع من يتزوجها.
فنستطيع أن نستنتج: إننا نبتعد عن الاصول الحيوانية إلى أنسنة أكفأ منها في تقييمنا لجمال الإنسان.
وقد وضعت جيناتنا أساس ذلك الابتعاد، وتحديد المسار العام للتفاعل الجمالي البشري، بين أفراد البشر وأجناسهم، وبينهم وبين الطبيعة ومفرداتها.
جيناتنا ابتعدت عن الشمبانزي الذي هو الأقرب لها جينيا بنسبة 98% كما ذكرت الدراسات العلمية،
فتغير جسم الإنسان، تشده بقوة متطلبات العيش الجديدة، العيش أن يكون واقفا منتصبا محاولا في انتصابه أن يرى أكبر صورة للطبيعة من حوله، وسائرا بخطوات كبيرة مسرعة؛ كي يتقي شرور الطبيعة، والعثور على الطعام المناسب وبسهولة، وتبعا لذلك أستطاعت حواسه أن تتشابك أفضل، لتكون دماغا أفضل.
لكن ليس البشر كلهم ساروا بنفس السرعة الجينية في هذا الابتعاد، لذلك مازال هناك طليعة تعلم التالين الوجهة الأفضل، بالصفات الجسمية الأفضل للعيش، دافعة بذلك إلى تزاوجات أفضل ليتم الشروع بصفات جينية أفضل. ومن هذا (الوعي الغريزي الجيني) انطلق وعيه الجمالي وتشكلت وتفرعت ثقافته الجمالية.
فحين مشى الإنسان وحاول أن يوازن جسمه: تحورت قدميه كي تستطيع أن تحمل كل ثقل جسمه، التي كانت تساعدها اليدين في حمله بالامساك بأغصان الأشجار، وتحورت المخالب إلى أظافر تمسك لحم الأصابع فتساعدها على الثبات. وتقوس باطنها ليساعدها في المشي بمرونة.
واستطالت الساقان لتكون أطول من الجذع كي يخطو بخطوات أكبر.
وتكورت وركاه ولحمهما كي تكسبه مع الخصر مرونة المشي وقوته.
واستطالت رقبته كي تدفع الرأس إلى أعلى، أعلى بعينين كبيرتين وحواجب عاليتين أن يرى أفقا أبعد.
ثم تمكنت التشابكات الجديدة لدماغه أن تتشعب أكثر في جسمه ورأسه ووجهه، كي تمنحه القدرة في الكلام، وتحريك عضلات الوجه، كي ترافق صوته، أو حتى بدونه في التعبير بشكل أدق عما يجول بنفسه.
كل ذلك منح دماغه صورا جديدة، أشمل وأدق، أعطته تشابكات معلوماتية أذكى عن الطبيعة. وخلال المسيرة الطويلة التي استمرت ملايين من السنين والتي رافقتها طفرات جينية عديدة، وجد نفسه كائنا حيا مبتعدا كثيرا عن كل الكائنات الحية مجتمعة، مستخدما ذكائه المتعالي في السيطرة على الطبيعة ككل، إلى حد أنه مال برقبته إلى الخلف ليدقق في السماء وأسرارها، فيتخيل بصور متجددة تصميمات مركباته الفضائية.
وخلال تطوره هذا وارتقاءه، تغيرت وتحورت ونحت فتطورت قيمه الجمالية، فصار يبحث دون أن يدري غالبا عن مكنونات الجمال في وجه غيره. صار يبحث عن ذكاء المشتركات في مسابقات ملكة جمال العالم، في حيوية وتقاطيع وجههن وسرعة بديهيتهن، مثلما يقيم جمالهن في الرشاقة وتناسق وتناسب أجزاء جسمهن ومشياتهن، وحركاتهن كي يختار الأجمل.
13- أساس الفن في فسلجة الدماغ – موهبة الفنان
الفن هو صناعة الجمال.
وبالنسبة للأدب فأن ثمة من يعتبره جزءا من الفن، لذلك فأننا هنا عندما نتكلم عن الفن سيكون ضمنه الأدب، عدا الفقرات التي يراد منها الاستدلال من فن لآخر، كما سيأتي في أحد النقاط.
وباختصار، دماغ الإنسان هو تجمع متشابك لفصوص ومناطق وظيفوية عديدة، فصار مركزا لكل الجهاز العصبي المنتشر في كل أنحاء الجسم، ومستلما من كل ماتدر به الحواس. هو متكون من أجزاء رئيسة هي المخ والمخيخ والنخاع المستطيل كما قرأنا عنه بشكل مبسط في الدراسة المتوسطة، لكن في الحقيقة ثمة تقسيمات عديدة وأجزاء لكل منها، فمثلا المخ الذي يتكون من نصفين تم تقسيمه وظيفويا إلى 47 منطقة سميت مناطق برودمان، فيها مناطق للبصر والسمع والشم والذوق ومناطق للحركة بانواعها، ومناطق لكل الحس الجسمي، كذلك هناك تقسيمات للمخيخ والنخاع المستطيل. ويختلف حجم الدماغ وأجزاؤه وتقسيماته من شخصل لآخر، وعلى الأغلب فأن زيادة حجم منطقة منه عند شخص على مثيلتها لدى شخص آخر تجعلها أكثر قابلية على خزن المعلومات، وما يتبعه من القابلية على إعادتها (تذكرها)، وربطها معا أو مع باقي المناطق كي تتولد عمليات التفكير والتصور والخيال وغيرها. ان تضخم مناطق السمع مثلا تجعل صاحبها أكثر قابلية لخزن الأصوات والموسيقى والأغاني، وهي إذا تشابكت بشكل واسع مع مناطق العاطفة في الدماغ الأوسط ومناطق الكلام مثلا، ستنمي عنده قابلية التذوق الموسيقي و موهبة التلحين. وإذا تضخمت المنطقة البصرية وترافقت مع تضخم في مناطق حركة اليد ومناطق حس اليدين بدأت عنده مهارة الرسم، وهكذا.
وهكذا تنشأ المواهب في خيالها لصنع الجمال، وما من فنان إلا ونجد عنده تضخما وتشابكا أكثر لخلايا نسيجه العصبي في منطقة وظيفوية تقابل نوع فنه.
وبما أن الإنسان كائن إجتماعي تولدت اجتماعيته بفضل التشابه العام لأدمغة البشر وتشابه أجزاؤها، فأن أصحاب مناطق أكبر ما سيستطيعون أن يعبروا عن غرائزهم واحتياجاتهم، وحتى احتياجات الأخرين بشكل أفضل. فالشاعر والرسام والموسيقي وغيرهم هم استطاعوا التنسيق بين احتياجات أجسادهم بشكل أفضل، وبذلك وللتشابه مع غيرهم، سيكونون متفوقين في قدرتهم على تنسيق احتياجات وغرائز غيرهم عن بعد، مما يسبب لهم وللغير الارتياح. هذا التفوق في التنسيق هو الجمال، والفن هو اسلوب صنعه، يتم التمرن عليه وتنميته بسبب استحسان تجربته، أو تلقيه من الآخرين. وتزيد جمالية الفن كلما زادت قدرته التعبيرية ووضوحه حتى في رمزيته. وكلما عبر عن هموم الفرد وهموم المجموع، وأعطاهم الأمل والثقة بالنفس وإيضاح الأهداف والبرامج المطلوبة للوصول إليها بيسر.
14- احتياجات الإنسان وما يقابلها من فنون
النحت هو أول فن ابتدعه الإنسان، عندما قص وحور الخشب والحجر لاستخدامها في الصيد وقطع طعامه إلى أجزاء، وصنع أواني منها، وغيرها. وهنا تبرز العلاقة المباشرة بين الفن والحاجة، بين الفن والفائدة، كما أن الرسم الذي تلاه كان تصويرا للحيوانات التي يصطادها ويأكلها، تلاها الحيوانات التي يستخدمها للتنقل، وهكذا، حتى تعقدت تلكن الفنين بفعل المحاكاة المستمرة والمتصاعدة مع دماغه، فتطور ليتطورا. وبذلك فأننا هنا عندما نسأل ما الجمال؟ نكون وكأننا قد نسينا البدايات بسبب التعقيد الذي أتى بعده. وعلينا أن لاننسى أيضا التعقيد الذي رافق تطور الإنسان، والذي أدى ألى تعقيد كل حضارته، بشقيها المادي والمعنوي.. بكل أدواتها وألاتها المادية، وكل أدواتها وأساليبها الفكرية، وزاد عدد البشر فانتشروا في بيئات مختلفة أمتدت حتى إلى أقصى الأقطاب المتجمدة. وأدناه بعض من احتياجات الإنسان وما يقابلها من أنواع لفنون أو مدارسها.
ا- الغذاء- الهواء النقي – الماء النقي --------- فن الطبخ – الواقعية في الفن
ب- الملابس –----------------------------- الأزياء والموديلات
ج- تنسيق الذات والطبيعة----------------- فن الرسم- التصوير – النحت- تجميل الوجه
د- السكن –-------------------------------- هندسة السكن وفن الديكور
ه- الدفاع عن النفس –--------------------------- الشعر - الفن الرمزي
6- المتاعب والأمراض النفسية –----------------- الفن السريالي بأنواعه
7- العاطفة- الحب- الجنس----------------------- الموسيقى والغناء، الرواية والقصة والشعر- الفن الرومانسي بأنواعه
8- الاتزان الحركي------------------------------- الفن الحركي مثل الرقص و السيرك
مع ملاحظة أن كثير من الفنون قد الهمت العلم والفلسفة.
الفنون حسب الحواس تساعد في تنسيق وظائف أجزاء ادماغ حسب الاحتياجات التي وصلتها
فالألوان والأشكال وتنسيقها في الرسم وغيرها واستلامها عبر حاسة البصر تؤثر على اشتباك وظيفة البصر مع باقي الحواس – استلام الترددات الضوئية التي تؤثر على ترددات السيال البصري، وقد يكون التأثير سلبيا أو إيجابيا، أو مضطربا بينهما.
كذلك الحال مع الاصوات والموسيقى.
توجد تقسيمات عديدة للفن بحسب الحواس المستقبلة له، أو أدوات صنعه، أو وظيفته، أو مدارسه.
وبعرض ملخص، قُسم الفن حديثا إلى ثلاثة أقسام شاملة (موسوعة ويكيبيديا)هي:
الفنون التشكيلية، مثل: (الرسم، التصوير، الخط، التصميم، فنّ العمارة، النحت، الفنون التطبيقية، الأضواء ؛ ولكل منها فروع مثلا الرسم يقسم إلى: التشكيلي، التجريدي، التوضيحي، الزخرفي، التخطيطي، القصصي،الهندسي).
الفنّ الصوتي، مثل: (الموسيقى، الغناء، عالم السينما والمسرح، إعلان، الشعر، الحكايات، التجويد والترتيل ؛ ولكل منها فروع ).
الفنّ الحركي، مثل: (الرقص، السيرك، الألعاب السحرية، بعض الرياضات، البهلوان والتهريج، مسرح الميم، الدمى؛ ولكل منها فروع).
وهناك مسميات أخرى متداولة ضمن مجال الفن مثل فن الطبخ.
15- جمال الموسيقى
أصبح من السهل فهم جمال الكلام وجمال الأدب فنعتبر الجمال فيهما هو الفائدة المتمثلة بالبلاغة والتعبير الجيد عن المعلومة، أو أن يكون الكلام رومانسيا مدغدغا للعواطف. لكن نواجه صعوبة في الإجابة: لماذا يكون ثمة صوتا جميلا أو موسيقى جميلة وغيرها غير جميل؟ لماذا نسمع موسيقى فنميل إلى النعاس، وأخرى نميل مع إيقاعاتها إلى الرقص، وحتى هنا، لماذا نسمع واحدة فنميل إلى هز الورك وأخرى تجعلنا نحرك أرجلنا أو أيدينا؟ لماذا نستجيب إلى ماهو غير مفهوم، وباستجابات مختلفة للفرد الواحد، ثم مختلفة بين الأفراد؟
الصوت، عبارة عن ضغط متقطع على حاسة السمع أو على الجسم فتسمعه الأذن من الداخل، وقد يكون عبر وسط مثل الماء والهواء، أو مباشر بالضرب على الأذن. والتقطعات تكون موجات صوتية فيكون لها خصائص، الطول والسعة والتردد، بالاضافة لخصائص نوع الجسم الذي انطلق منه الصوت.
وهنا لابد أن نرجع إلى تأثير الصوت والموسيقى من الناحية المادية. فالصوت أو الضغط المتتالي، خصوصا بترددات منتظمة عبر وسط أو بدونه قد يمزق الخلايا البكتيرية الأولية التي نشأت فيها أول حياة عندما يكون عاليا، أو خلايا رخوة تحورت منها، مثلما يمزق الآن طبلة أذن الإنسان ويمزق جسرا حديديا. والضغط أو اهتزاز الوسط قد يسرع أو يبطئ تفاعلات كيميائية تجري في داخل الخلايا أو غشائها. وعندما يعبر من أذن الانسان إلى شبكته الدماغية العصبية فإن تردداته تتسبب في ترددات كهروكيميائية يحملها السيال العصبي، تؤثر بدورها على توزيع المركبات الكيميائية وتفاعلاتها وحركاتها ونسبها في مناطق الدماغ المختلفة، فتشارك في عمليات التنبيه والتثبيط، والانفعال، والابتهاج والحزن، مثلما تؤثر في الجزء الحركي منه. وهنا تختلف الكائنات الحية في المجال الصوتي الذي تسمعه حيث ينحصر عند الأنسان من 20- 20 الف ذبذبة في الثانية، ويختلف أفراده في كفاءة جهازهم السمعي بتفاصيله، وأيضا في طرق انتشاره العصبية. وبالتالي، يختلف البشر ويتشابهون في استحسانهم أو رفضهم لنوع أصوات ما، وترددات ما، وعلو ما، وايقاعات ما، وجمل موسيقية ما. وبذلك فأن الأصوات المستحسنة ومنها الموسيقى تعتبر جميلة لمن استحسنها، والعكس صحيح.
16- اعتبارات الجمال في الأدب والفن
اعتبارات الجمال تكون مقنعة وواضحة في الأدب، وتصعب في بعض الفنون مثل الرسم والنحت ، لكن من الأول يمكننا أن نمد إلى الثاني. فالأدب هو جميل في غاياته المفيدة، في حكمه، و في نقله التجارب التي نتعض منها. في أدب القصة، نتلذذ بحبكة مفهومة لكونها مكتوبة ومعروف معانيها، لكن فيها أيضا جمال في نقل الصور بشكل كتابة رغم ان تلك الصور منها ماهو بشع، لكن هنا نرى أن صورة النهر الجاف تكون غير مريحة للنفس فتحفزنا إلى ضرورة إملاء النهر، فستمتع بوصف الماء وهو يجري فيه ليفيض فوق شقوقه، لماذا نستمتع؟ لأن يذكرنا بأننا نستطيع أن نشرب منه، وإذا بالغ الفنان في إبراز النهر ستزيد نسبة الأمل في إشباع خرائط نقصنا من الماء، وسنهتم أكثر في مقطع القصة الذي يصور هذه الحالة أو الرسم عندما يرسمها عندما نكون عطاشا. وهكذا، فأن في الجميل قد تتجمع عدة عوامل ندركها، بدون تركيز، أو به.
في عصرنا هذا فاننا حين ننظر إلى لوحة وندقق في جمالها مرتكزين إلى وعي جمالي ما، فاننا في الحقيقة نستجمع بعض من أسس اللا استقرار الأكفأ الذي مر بأجساد سلسلة الكائنات الحية وتجاربها فنقارنها بها بوعي مباشر أو غير مباشر.
أخيرا، نعرف الجمال: بأنه صفة أو مجموعة صفات لشيء، أو علاقة بين أشياء أو لصفات منها، تجعلها مفيدة لمن يحتاجها.
26/ 1/ 2022








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا