الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هاروكي موراكامي في مذكرات أسفاره . محمود يعقوب

محمود يعقوب

2022 / 2 / 9
الادب والفن


هاروكي موراكامي في مذكرات أسفاره .
هاروكي موراكامي في مذكرات أسفاره :
” بين الترويج الذاتي والسياسة الثقافية ”
محمود يعقوب
من خلال قراءة متأنية لأسفار موراكامي في جنوب أوربا ، والولايات المتحدة الأمريكية ، واستراليا ، تحلّل هذه المقالة الطرق التي يستخدمها هذا المؤلف في كتابة أسفاره ، للترويج عن صورته الذاتية باعتباره كاتباً عالمياً ، ومثقّفاً حسّاساً ، وكذلك الإطلاع على سياسته الثقافية .
وفي مستهل الأمر ، لابد من الإشارة إلى الفرق بين السائح والمسافر . إن الأول يريد أن يكون ، دائماً ، في أماكن آمنة ، ويجرّب أشياء لا تصل إلى مستوى المغامرين ؛ عكس المسافر الذي يريد أن يصل إلى كل مكان ، ويجرّب كل الأشياء ، ويتعرّف على كل الأمور الدقيقة . كما أن الأول يتقبّل الحضارة الجديدة من غير سؤال ، وليس كالمسافر الذي يقارن مع الآخرين ، ويرفض تلك العناصر الحضارية التي لا ترضيه ، مع ملاحظة أن المسافر ـ المقيم هو الذي يمكن أن ينخرط في مستوى أعمق في الثقافة المحلية ، أكثر من السائح أو المسافر العابر .
باتت كتابة الأسفار والرحلات في الآونة الأخيرة هدفاً رئيسياً للبحث الأكاديمي ، وأقبل عليها قرّاء كثر ، ومحبون ، ومتابعون بشغف لمذكراتها . وكذلك الحال ، فقد اكتسبت كتابات الأسفار مستوى أدبياً ناجحاً في اليابان . إن روّاد الرحلات والأسفار يمكن أن يقدّموا لقرّائهم طريقة للانفتاح ، بصدق ، على الثقافات الأخرى ، وإعادة تقييم المرء لنفسه ..
* * *
هاروكي موراكامي ليس كاتب سفر بالمعنى الدقيق ، هاروكي المؤلف الروائي الأكثر عالمية في اليابان ، وهو يشارك الكثيرين من الكتّاب في تدوين مذكرات رحلاته وأسفاره . وفي هذا الصدد ، لابد من التنويه إلى أن العديد من النقّاد قد أشاروا من قبل إلى تجاهل موراكامي للتقاليد الثقافية اليابانية ، أدت إلى حصول نقص في الأصالة الثقافية لديه ، بينما قدّرها آخرون كأساس لأسلوبه الفريد المبتكر .
استخدم المؤلف لكتابة رحلاته العالمية اللغة الإنجليزية كوسيلة للترويج الذاتي . في الوقت نفسه ،من خلال قراءة متعمّقة للنصوص ، فهي تلقي الضوء على السياسة الثقافية التي تميّز كتاباته . ويمكن القول أن كتب السفر لموراكامي ، في التسعينيات من القرن الماضي ، من بين أكثر الكتب شهرة وشعبية ، وهي أمثلة معروفة لكتابات السفر في اليابان . وشكّلت جزءاً لا يتجزأ من إستراتيجية التعزيز المتبادل لنجاح المؤلف كروائي وكاتب مقالات .
وقد تزامن السفر أيضاً مع مراحل مختلفة في بناء شخصية موراكامي ككاتب عالمي ، ومترجم ، ووسيط ثقافي . تم نشر أول مجموعتين من مقالات السفر بناءً على تجربة العيش في اليونان وإيطاليا ، وقد نشرها بعد فترة وجيزة من نشر روايته ، ذائعة الصيت ، ” الغابة النرويجية ” عام ( ١٩٨٧ ) . وهي الرواية الأكثر مبيعاً في اليابان ، والتي رسّخت مقام موراكامي ككاتب وطني من الطراز الأول . وبعد أن غيّر محل إقامته ، ومغادرة أوربا إلى الولايات المتحدة الأمريكية ، كتب هناك مجموعة من مقالات السفر أيضاً ، وقد نشرها في مجلدين . وفي عام ( ٢٠٠١ ) نشر مذكرات سيدني .
وهكذا تقدم لنا المجموعات الثمينة نظرة ثاقبة لنهج موراكامي في السفر ، وعلى نطاق واسع في ثقافة الاختلاف ، في نقاط مختلفة من حياته المهنية .
في هذه المقالة تقصّي لتلك المذكرات ، وفق تسلسلها الزمني ، مع إبراز كل من الاستمرارية والتطور في استخدام موراكامي للنوع الأدبي عن الرحلات ، ومكانة المؤلف في سياق كتابات السفر المعاصرة بصفتيه اليابانية والعالمية .
* * *
غادر موراكامي اليابان لأول مرّة لفترة طويلة في عام ١٩٨٦ وحتى عام ١٩٨٩ . أقام بالتناوب في كل من اليونان وإيطاليا ، مع بضع زيارات قصيرة لمناطق أوربية أخرى . ومذكراته عن هذه التجربة تمّ جمعها في مجلدين ، نُشِرَ كلاهما عام ١٩٩٠ . وخلال وجوده في أوربا أكمل موراكامي روايته ” الغابة النرويجية عام ١٩٨٧ ؛ وكان لهذه الرواية تأثير كبير على بيع الكثير من نسخ كتب أسفاره ، يجادل المترجم والناقد الإنجليزي فيليب غابرييل : ” بأن القرّاء اشتروا كتبه جراء الاهتمام بروايات موراكامي ، وليس في أسفاره ” . ، ومع ذلك ففي أسلوب موراكامي النموذجي ما يسحر القرّاء . كان المؤلف لا يقدّم في كتاب السفر سوى القليل من التفكير الجاد ، حول كيفية تأثير الظروف في الخارج على حياته ، وانعكاسها على كتاباته ، وقد ركّز على تفاصيل عادية ، وقد تبدو تافهة للبعض . وهكذا نلاحظ ، على سبيل المثال ، أن السبب وراء بعض المشاهد في رواية ” رقص . رقص . رقص ” عام ( ١٩٨٨ ) ، أنه كتب الرواية في شقة غير دافئة ، خلال فصل الشتاء القارص في روما ، حيث كان يتحدث هو وزوجته باستمرار عن الشواطئ الاستوائية ، كوسيلة لإلهاء أنفسهم عن البرد ..
وعلى الرغم من إتباع نهج روح الدعابة والخفة ، في كتابة المذكرات ، فإن وضع كتبه هذه جيداً جداً بالمقارنة مع كتب السير الذاتية وكتب الأسفار ؛وهي ” عادة ما تكون مهتمة باستكشاف الذاتية ، وتقديم الراوي ـ المسافر كمستكشف للعالم ، وتقديم التقارير عنه ” .
) الأسباب التي دفعت به لمغادرة اليابان : ” شعرت Distant Drums ويبين في كتابه الأول ( أنه إذا بقيت في اليابان ، عالقاً في الحياة اليومية ، فسوف أتقدّم في السن ببطء ، وفي هذه الأثناء سأفقد شيئاً . بعبارة أخرى ، شعرت أنني بحاجة لقضاء وقت أكثر إثارة ، ولم أتمكّن من تحقيق ذلك في اليابان ” . لذلك سافر بحثاً عن المغامرة والرؤية .
في كتابه الأول ، يتحدّث موراكامي عن المشهد اليوناني الخلّاب دائماً والبكر . الشعب اليوناني شعب مسترخي ، هم غير منظّمين ، ولكنهم طيبون ، ومضيافون . تتكرّر نفس الصورة في كتابه الثاني ، الذي يركّز في الغالب على المناظر الطبيعية ، Rainy skies , Blazing skies
والأطلال التاريخية ، ويعرض اليونان وتركيا كملاذات نقية وغريبة . من ناحية أخرى يتم تأطير إيطاليا ، في الغالب ، من خلال الصور النمطية للفوضى ، الخطر والإزعاج . يفسّر غابرييل تصوير موراكامي غير المواتي لإيطاليا كجزء من نمط في رحلته حيث المؤلف دائماً ما يقدّم تجارب سلبية في النهاية ، كإشارة إلى أن الوقت قد حان للعودة إلى المنزل . ويبدو أن تحليل غابرييل مناسب جداً حيث يرى أن موراكامي يبدو يكره إيطاليا منذ اليوم الأول . حيث بدت مروعة أحياناً ، وساحرة في بعض الأحيان ، على الرغم من تقديم طعام رائع دائماً . قد يكون هذا مجرد تعبير عن الانزعاج الموضوعي للمؤلف أثناء إقامته الذي يبدو أنه قد تمّ التخطيط له بشكل سيء ، قي بلد معروف بصعوبة بالغة للتنقل فيه . إن مواجهة الصعوبات التي يواجهها المسافر أمر شائع يرد في كتابة السفر والرحلات المعاصرة . في حين أن أوصاف الصعوبات العملية للرحلة كانت جزءاً لا يتجزأ من روايات مستكشفي الفترة الاستعمارية :
” لقد فقد المسافرون المعاصرون الوصول إلى المشقة في رحلاتهم ـ فهم يسافرون بشكل مريح ، وهناك القليل مّما يسبّب الصدمة أو البطولة في مغامراتهم ؛ ونتيجة لذلك ، فإنهم يميلون إلى المبالغة في الوصف ، وتأكيد الأبعاد الخطرة وغير السارة لرحلاتهم ، في محاولة لمنحها مزيد من الإثارة .
موراكامي لا يتفاخر بمواجهته للأخطار ، ولا يبالغ في جهله الثقافي لأجل الحصول على تأثير كوميدي ، وهو صادق في شكواه حينما يشكو ، ويبتعد عن أساليب الإبهار المفتعلة ، ويلوح رجلاً عادياً وعادلاً . ويركّز على تجربته الفردية ، ولا يتوسّع في التعمّق في القضايا التاريخية والاجتماعية إلى حدّ كبير . في حين كانت الفترة ١٩٨٦ ـ ١٩٨٩ في إيطاليا أقل إثارة : ” سنوات الرصاص ” ، ومحاكمات الفساد ” ماني بوليت ” ، وهذه هي فترة مضطربة من تاريخ إيطاليا الحديث . وشهدت أحداثاً كبيرة ، بما في ذلك محاكمة المافيا الرئيسية في البلاد ، والعديد من عمليات الاختطاف الهامة ، والفضائح المالية والسياسية .. ولكن يبدو أن موراكامي لم ينغمس في مثل هذه الأحداث . وبالمثل فإن موراكامي خلال وجوده في اليونان ، في وقت انتخابات عام ١٩٨٩ ، حيث هزم حزب قسطنطين ميتسوتاكيس حزب عموم اليونان الاشتراكي الحاكم ، ولكن بدلاً من التعليق على أهمية نتيجة الانتخابات ، بقوم موراكامي بالإبلاغ عن الجوانب الغريبة للحدث ، مثل حقيقة أنه في ليلة الانتخابات خرج اليونانيون إلى الشارع وهم يطلقون أبواق سياراتهم . ومن المثير للاهتمام أن مثل هذا الوصف غير المسيّس للبلدان التي زارها المؤلف تتضح بشكل خاص في بلدان جنوب أوربا .
* * *
موراكامي وأمريكا : يمكن أن تكون إحدى تأملات موراكامي الأولى حول فكرة العيش في الولايات المتحدة يمكن العثور عليها في مقال مبكّر بعنوان : Kigo to shite no Amerika
وهو في الواقع إعلان أنه لم يرغب أبداً في الإقامة في البلاد .
ويروي في النص كيف واجه ، وهو يترجم رواية عبارة ” تطبخ مع كريسكو ” ، وهي عبارة لم يسبق له أن سمع مثلها من قبل .سأل صديقاً أمريكياً عن معنى هذه العبارة ، بعد أن عجز من العثور عليها في القاموس ، فأخبره أن ” كريسكو ” هي ماركة زيت نباتي ، والتعبير مرادفاً لعبارة :
” أنت على ما يرام ” ؛مّما دفعه إلى التوقّف متأملاً في الثقافة الأمريكية ، وبالتالي تمثّل أمريكا مكاناً أجنبياً له ، مّما جعله يدرك حدود معرفته . إذا كان سيعيش في الولايات المتحدة لفترة ، ستدخل العلامات التجارية للطعام ، وغيره ، في واقعه اليومي ، وكلمات من مثل ” كريسكو ” ستصبح جزءاً من مفرداته ، ومع ذلك فإن اكتشاف معنى التعبير محبط في النهاية .
حكاية ” كريسكو ” ، هي بداية تفكير أوسع في قصة علاقة موراكامي مع الأجانب ، وتحديداُ أمريكا الشمالية ، واللغة والثقافة . في حين أنه سيكون أكثر عملية ، كمؤلف ومترجم أن يمتلك نوع من المعرفة اليومية للحياة حول الثقافة الأمريكية التي يجسّدها بكلمة ” كريسكو ” . يدرك موراكامي بعدم رغبته في رؤية البلد فعلياً ، وهو ما يفسّر عدم سفره إليه سابقاً : ” لست مهتماً بتضاريس أمريكا .. في الحقيقة ليس لدي أي اهتمام بأمريكا الحقيقية ” ، ما يجذبه ، على النقيض من ذلك ، هو شخصيته الخاصة .
نشر موراكامي العديد من مقالات السفر في الولايات المتحدة الأمريكية ، وقد جمعها في مجلدين ، الأول نُشِرَ في عام ١٩٩٤ ، والثاني في عام ١٩٩٦ . وفي وقت لاحق نش المزيد من هذه المقالات في عام ١٩٩٨، وقد تضمّنت أيضاً مقالات عن السفر إلى أجزاء أخرى من العالم . وخلال إقامته في أمريكا ، كتب موراكامي روايته ” يوميات طائر الزنبرك ” ، من ثلاث مجلدات ، وكانت من أكثر الكتب مبيعاً وقت صدورها .
في مقالاته الأمريكية ، موراكامي لا يناقش عمله كروائي بقدر ما يناقش انعكاس أسفاره على شخصيته . ومن المعقول أن نفترض أن مبيعات المجموعة من المقالات كانت مرتبطة بتوقعات القرّاء أن الكتب ستقدّم بعض الأفكار عن الحياة الحقيقية للمؤلف في وقت كتابة هذا العمل الروائي الناجح للغاية . والمقالات تساعد بالفعل في توضيح علاقة موراكامي بالثقافة الأمريكية ، وأهمية هذه العلاقة ضمن نهجه الأوسع في كتابة الرحلات والسياسة الثقافية .
في المقابلات مع المجلات الصادرة باللغة الإنجليزية ، المنشورة في أوائل التسعينيات من القرن الماضي ، عاد موراكامي ليتغنّى في إقامته في الولايات المتحدة الأمريكية ، وراح يقارنها بشكل إيجابي مع تجربة رحلاته الأوربية ، مشيراً على سبيل المثال : ” في أوربا القاسية ، نحن دائماً أجانب ، ولكن في أمريكا يقبلوننا . أمريكا مكان خاص للغاية ، وتتقبّل بشدّة الثقافات الأخرى .
يتحدّث موراكامي ببعض القلق عن حوادث العنف ضد السكان المنحدرين من أصول آسيوية في بداية إقامته ، مع التركيز على المضايقات البسيطة والتفاصيل المحلية . وعندما يتعلّق الأمر بالمجالات الأكثر حسّاسية من الناحية السياسية ، مثل العنصرية أو عدم المساواة الاقتصادية ، يذكرها المؤلف بطريقة غير مباشرة للغاية ، ويحوّل التركيز بسرعة إلى قضايا أقل إثارة للجدل . وهكذا على سبيل المثال ، محادثة مع سائق تاكسي يثير التفكير في التمييز ضد السود ، ولكن بدلاً من الخوض في أسبابها الاجتماعية وعواقبها ، ينتقل موراكامي في السرد على الفور إلى مناقشة السيرة الذاتية لمايلز ديفيس ( من أشهر عازفي الجاز في أمريكا ، وأكثر الموسيقيين تأثيراً في القرن العشرين ) . في مثل هذه الوتيرة من الاحترام ، قد يبدو نهج موراكامي تجاه بلده المضيف ، ظاهرياً ، مشابه لتجربة ” السائح المقيم ” في أوربا .
مستفيداً من وضعه الخارجي ، قدّم موراكامي سلسلة من الملاحظات الفضفاضة عن الاختلاف الثقافي ، كما أنه تجنّب عن عمد الخوض في الأمور السياسية ، أو التاريخية ، أو الاجتماعية بعمق في نصوص مقالاته ، وكان يبدو مرتاحاً للقواعد الثقافية الأمريكية . وهنا في أمريكا ، كان لمهاراته في استخدام اللغة الإنجليزية دوراً مهماً في سهولة التعامل اليومي ، والتساوق مع المجتمع ، حيث أتاحت له اللغة الوصول إلى جميع عوالم الحياة ، من الأخبار المطبوعة ، والتلفزيونية ، إلى المحادثات مع الأفراد ؛ والأهم من ذلك ، إن الرأس مال الثقافي الأمريكي هو ذات رأس ماله الثقافي ، ومن المفترض مشاركة القرّاء في ذلك . يتجلّى هذا بشكل أوضح في استخدام موراكامي للأسماء الصحيحة للأشخاص والأماكن ، والمنتجات الثقافية ، من الأدب إلى الموسيقى ، حيث يصف المؤلف ، مثلاً ، جامعة برينستون بأنها جامعة فرانسيس سكوت فيتزجيرالد ، أو إخبارنا كيف تذكرنا ضواحيها بكتابة رواية ” البؤس ” لستيفن كينغ ، الأسماء لا تحتاج إلى مزيد من التوضيح ، إذ يدرك الجمهور من هو فيتزجيرالد ، أو ستيفن كينغ .
في مذكرات رحلاته في أوربا الجنوبية ، يعرض موراكامي بشكل متكرّر قلة معرفته بالثقافة المحلية ، وخبرته في الثقافة الغربية . بينما في نصوصه الأمريكية نلاحظ أن وضع موراكامي “
” الجاهل اللطيف ” يختفي ، ويحل محله ” المستنير ” . وله مناقشات مختصة في موسيقى الجاز ، والأدب المعاصر ، والحياة الجامعية . وفي هذه النصوص ، يروّج موراكامي لنفسه كمفكر عالمي ، ويضع الولايات المتحدة بقوة في مركز الثقافة العالمية والشؤون الدولية . وهكذا فإن أمريكا وفرت للمؤلف فرصة للخروج من قيود المجتمع الياباني ، والحصول على هوية فردية يُفترض أنها أكثر أصالة . والسفر إلى هذا البلد يبدو بشكل واضح أنه وسيلة للترويج الذاتي لصورته على الصعيد الدولي ، مؤلف ” الذاتية الفردية ” التي يكتسبها موراكامي من خلال تجربة العيش في الخارج ، تجعله يظهر كشخص أكثر حسّاسية من الناحية الثقافية وكاتب أفضل ؛ ويُترجم هذا في زيادة مبيعات رواياته ، ويضيف عمقاً ثقافياً لشخصيته الأدبية .
* * *
بدأ موراكامي رحلة قصيرة إلى سيدني ، استراليا ، بمناسبة أولمبياد سيدني عام ٢٠٠٠ ، وقام بتدوين مجموعة مقالات عن استراليا ، وهي مجموعة من قطع قصيرة ، كتبها بتكليف من مجلة رياضية . وأعادت مجلة ” بونجي شونجو ” الأدبية اليابانية نشرها لاحقاً في عام ٢٠٠١ . وهي مقالات منظمة مثل يوميات السفر ، بما في ذلك معلومات حول الجدول الزمني اليومي لموراكامي ، وما يأكله ( وتكلفة كل وجبة ، والتعليقات حول جودة الطعام والشراب ) ، والأحوال الجوية ، والتفاصيل الأخرى التي قد تبدو تافهة ؛ ومع ذلك فالجميع يقبلون على قراءتها ، فمثل هذه النصوص غالباً ما تُقرأ على أنها ثرثرة مشاهير .
إلى جانب حضور المباريات ، والفعاليات الرسمية المتعلقة بالأولمبياد ، شارك موراكامي في مشاهدة المعالم السياحية حول سيدني ، وقام ببضع رحلات قصيرة إلى أجزاء أخرى من البلد . كما أنه قرأ على نطاق واسع عن استراليا ، سواء في الصحف ، أو في دراسات عن التاريخ الطبيعي والسياسي لها . نتيجة لذلك ، وعلى الرغم من الإقامة القصيرة الأمد ، تضمّنت مقالاته مناقشات حول الثقافة الاسترالية ، وتأملات حول سياستها المحلية والدولية ، وهياكلها الاجتماعية ، وإلى حدّ ما الأدبية . وكانت هذه المقالات أكثر تفصيلاً وتعقيداً من الأوصاف السابقة في مقالاته عن أوربا أو أمريكا . وتضم هذه النصوص عدد كبير من الصور المخزنة عن استراليا .
ومن المفارقات في المقالات الاسترالية ، هو الوصف الذي تناول البلد في المدخل الافتتاحي للمذكرات ، حيث كتب موراكامي يقول : ” استراليا قارة غريبة ، أمضت فترة طويلة في عزلة تامة ، إنها أقدم دولة في العالم ، وأكثرها تسطحاً وسخونة . نادراً ما ترى المطر . فيها عدد قليل من الأنهار الكبيرة . لا يمكنك أن ترى أي أثر تقريباً لتآكل الأرض . لا يوجد فيها براكين جديرة بالملاحظة ، ولا سلاسل جبلية ، وأكبر عدد من الحيوانات السامة يعيش هنا ” .
هذا المقطع الافتتاحي يبدو شبيهاً جداً مع المقطع الافتتاحي لما كتبه المؤلف الأمريكي بيل برايسون
( كاتب مشهور ، مؤلف في السفر واللغة والعلم ) ، حيث كتب بيل برايسون ، أثناء وجوده أيضاً في استراليا خلال ذلك الوقت ، يقول :
” استراليا هي سادس أكبر دولة في العالم ، وأكبر جزيرة [ … ] فيها أشياء ستقتلك أكثر من أي مكان آخر ، من بين أكثر عشرة ثعابين سمّية في العالم كلها استرالية . استراليا هي الأكثر جفافاً ، وسطحاً ، وسخونة ، الأكثر جفافاً ، وعقماً ، وعدوانية مناخياً من جميع القارات المأهولة بالسكان ، فقط أنتاراكتيكا ، هي أكثر عدائية للحياة . هذا مكان خامل ، حتى أن التربة من الناحية الفنية هي أحفورة ” .
تبدو مقدمة موراكامي أكثر من مجرد سرقة في هذه الحالة . مع ملاحظة أن نشر المقالتين للكاتبين قد تمّ في نفس الوقت تقريباً . قد يكون من الصعب إثبات أن موراكامي وضع يديه في مقالة برايسون ، أو ربما كان برايسون يقرأ اليابانية ليضع يديه في مقالة موراكامي ، ومهما حدث بالضبط ، فلا بد لنا أن نتساءل أيضاً : هل هنالك شيوع لصور نمطية عن استراليا ؟! .
بالنسبة لمقالات موراكامي عن استراليا ، فعلى العكس من اليونان وإيطاليا والولايات المتحدة ، يتم تقديم استراليا على أنها غير مألوفة وغريبة ، ويقدم المؤلف بشكل متكرّر معلومات أساسية عن الأحداث التاريخية ، والشخصيات المعاصرة ، والممارسات الثقافية ، والمنتجات التي يفترض أنها غير معروفة القارئ .
وفي الكثير من الإشارات ، في روح دعابة ، ولكن مستنيرة الأوصاف ، تبرز الحيوانات المميتة في استراليا بشكل متميّز . أما بالنسبة للناس ، فيتم تصويرهم على أنهم مشابهون لسكان جنوب أوربا ، غير منظمين ، وغير كفوئين ، ومرتاحين ؛ وبالتالي ، يبدو أن يوميات سيدني تعيد إنتاج النظرة العالمية ، وتقديم الراوي باعتباره مسافراً عالمياً ، يقدم لجمهور قرّائه ملاحظات مضحكة وغير مثيرة للجدل . ومع ذلك فإن النص يقدّم أيضاً سياسة أكثر إثارة للمشاعر في تحليل جوانب المجتمع الاسترالي ، ولا سيّما تراثه الاستعماري . يذكر موراكامي الاستعمار لأول مرّة في مقالته الثانية عن استراليا ، عندما زار ضاحية باراماتا ( من ضواحي مدينة سيدني التجارية ) ، حيث أقيم حفل إيقاد الشعلة الأولمبية . ينتهز الكاتب الفرصة ليروي بإيجاز أساس المدينة . فيتطرّق في القول على أن الأرض خصبة ومناسبة للزراعة ، ولا سيّما زراعة الألبان . بالطبع كان السكان الأصليون هم أصحاب الأرض ، لكن الناس لم يهتموا لذلك . عندما استوطن الأوربيون في الأراضي ، طردوا السكان الأصليين إلى أماكن بعيدة . في هذه المذكرات ينتقد موراكامي الاستعمار الإنجليزي بصورة مثيرة للدهشة . هناك إشارات مماثلة للإمبريالية والتمييز ضد السكان الأصليين .
* * *
في عام ٢٠٠٩ ، حصل موراكامي على جائزة القدس لحرية الفرد في المجتمع ، وتمّت دعوته للسفر إلى ” إسرائيل ” ، لحضور حفل توزيع الجوائز الأدبية . الدعوة ، في وقتها ، أثارت الكثير من الجدل ، سيّما وأنها تزامنت مع تجدّد أعمال العنف بين الكيان الإسرائيلي والمقاومة الفلسطينية في غزة .في النهاية اختار موراكامي استلام الجائزة . وفي خطاب القبول ذكر بأنه بينما لم يؤيد سياسات إسرائيل التي اختارت إطلاق العنان لقوتها العسكرية الساحقة ، قرّر مع ذلك حضور الحفل من أجل إيصال رسالة شخصية للغاية ، الرسالة بسيطة بقدر ما هي غامضة ” بين جدار صلب وبيضة تنكسر ضده ، سأقف دائماً بجانب البيضة ” .
إن كان للاستعارة معنى سياسي فوري ، فقد أوضح موراكامي : ” قاذفات ودبابات وصواريخ وقذائف الفسفور الأبيض هي ذلك الجدار الصلب العالي . البيض أعزل ، هم المدنيون الذين تم سحقهم وحرقهم وإطلاق النار عليهم . خطابه في القدس هادئ وقوي . الحديث عن الجدار والبيض ، وليس إسرائيل وفلسطين مباشرة . عبّر المؤلف عن موقفه من دون أن ينحاز ظاهرياً في سياسته .
في سيدني لم يطلق بياناً جريئاً مماثلاً لبيان الجدار والبيضة . في مذكرات سيدني ، قام المؤلف بالترويج الذاتي وكشف سياسته الثقافية بشكل متضافر ، مّما يجعل صورة المؤلف رائعة .
وفي إثر الأحداث الخطيرة لعام ١٩٩٥ ، عاد موراكامي إلى طوكيو ليشارك اليابانيين محنتهم . وعن حادث مترو الأنفاق ، وزلزال ( هانشين ـ أواجي ) المدمر ، كتب الكثير من المقالات ، التي جمعها في عدة كتب ، وصادفت استحساناً واضحاً عند عموم جمهور القرّاء اليابانيين .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ للإطلاع على مقالات حول هاروكي موراكامي ، ونخبة من الأدباء اليابانيين ، راجع مدونتنا
( مدونة القاص محمود يعقوب ) .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني


.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء




.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في


.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/




.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي