الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل ناقض مالك بن نبي الآيات القرآنية والطرح الخلدوني حول البداوة والحضارة؟

رابح لونيسي
أكاديمي

(Rabah Lounici)

2022 / 2 / 11
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


يصف الكثير المفكر الجزائري مالك بن نبي بأنه تلميذ لبن خلدون إلا لأنه أستلهم منه فكرة الدورة الحضارية التي تقول بأن ميلاد الحضارات هي نتيجة الإيمان بفكرة ثم تصعد، فتستقر بعد ما يبدأ يدب الضعف في تلك الفكرة التي كانت وراء ميلاد تلك الحضارة، لتنهار في الأخير مع إستحالة عودتها من جديد، لكن ما قام به بن نبي في حقيقة الأمر هي عملية إسقاط لفكرة بن خلدون حول الدورة التي تمر بها الدولة في البلاد المغاربية، فلم يتحدث بن خلدون في دورته عن الحضارة، بل عن الدولة التي تمر بأربع أجيال، والتي عادة ما تنهار، ويسقطها البدو أو الأعراب بعد ما تبدأ في التحضر، وتتكرر هذه الظاهرة في البلاد المغاربية.
ذكر القرآن الكريم البدو بمصطلح الآعراب ، ووصفهم بالأشد كفرا ونفاقا، كما أشار إلى حمد وشكر قبيلة سيدنا يوسف لله الذي نقلهم من البداوة إلى التحضر والتمدن بعد إنتقالهم إلى مصر التي كانت تسودها الحضارة، كما أشار القرآن الكريم أيضا إلى الخراب والدمار الذي يحدث بسبب التباعد بين القرى، فالقرى في القرآن الكريم معناه المدن، وهي دعوة إلى إلى الإكثار من بناء المدن والتقريب فيما بينها، وهو ما من شأنه القضاء على البداوة وذهنيتها، فنلاحظ في القرآن الكريم عدة آيات تدعوا إلى التمدن والتحضر، وتذم الذهنية البدوية أو ما سماهم ب"الأعراب". فلنوضح أن ما يقصد بالأعراب في القرآن الكريم ليس هم العرب، بل هم البدو وذهنيتهم، فأغلب شعوب الأرض والأمم لها بدوها وحضرها، فبن خلدون يحمل هؤلاء البدو أو الآعراب كل مآسي الحضارة الإسلامية، ونعتقد أنه يستلهم ذلك من فهمه للقرآن الكريم، وكذلك من خلال تجربته السياسية في البلاد المغاربية أين يستغل البدو الدين لإسقاط الدولة القائمة بمجرد ما تشرع في التحضر والتمدن، فيتهمونها بالكفر والإنحراف عن الشريعة، وهي الظاهرة التي تتكرر دائما في هذه البلاد المغاربية، مما جعل المنطقة غير مستقرة وعاجزة على إقامة تراكم تنموي كما قال فريدريك أنجلس في مقالته الشهيرة في المجلة الألمانية دي نيوزايت في 1894 أين يفسر تخلف العالم الإسلامي محاولا إحداث تعديلات وتطوير لنظرية ماركس حول ما أسماه "نمط الإنتاج الأسيوي".
مادام نتحدث عن بن خلدون وتحميله البدو الذين يستغلون الدين لزرع الفوضى والعودة إلى الوراء بعد كل عملية تمدن، فعلينا أن نوضح للقاريء الكريم مقولته الشهيرة "إذا عربت خربت" التي يستغلها بعض المعادين للغة العربية، ويقولون بأنه يقصدها بمقولته تلك، وهو تحريف واضح وتجني على هذه اللغة وعلى بن خلدون، فكل اللغات هي مجرد وسيلة إتصال بإمكانها أن تحمل ثقافة متنورة أو ثقافة متخلفة، فهذه المقولة الخلدونية في الحقيقة هي نفس المقولة المعاصرة حول البدونة والترييف التي يضعها الكثير من علماء الإجتماع كأحد أسباب التراجع والتخلف والإنحطاط.
فبعد هذا الإستطراد والتوضيح، فإن مالك بن نبي يناقض تماما بن خلدون كما أن له طرح معاكس تماما لما قاله القرآن الكريم حول الآعراب، بل حتى لحديث نبوي لايشار إليه بقوة يعتبر كل من تحضر وتمدن بأنه مرتد إذا عاد إلى ذهنية البداوة من جديد، وقد أشار إليه بقوة عالم الإجتماع البحريني محمد جابر الأنصاري الذي وضح أسباب تغييبه، ومعروف عن جابر الأنصاري أنه من أصحاب الطرح الخلدوني حول البداوة، والذي يفسر به كل الظواهر الإقتصادية والسياسية المعاصرة في العالم العربي محاولا التأسيس لعلم إجتماع خاص بالمنطقة إنطلاقا من بن خلدون، ولو أن بن خلدون في الحقيقة ركز على المنطقة المغاربية، وكل طروحاته مستلهمة من تجربته في هذه المنطقة، ونعتقد أنه لازال صالحا لفهم كل ما يحدث في هذه المنطقة إلا إذا تخلصنا نهائيا من ذهنية البداوة المنتجة لمختلف العصبيات الدينية والطائفية والقبلية والجهوية واللسانية وغيرها التي تعرقل أي حداثة وتقدم وتثير الفوضى والحروب الأهلية، و لايتأتى ذلك إلا بتوسيع عملية التمدين وإقامة ثورة ثقافية وعلمية وصناعية تغير قوى الإنتاج التي بدورها ستغير الذهنيات والثقافات وغيرها، وقد وضحنا ذلك في العديد من المقالات السابقة، ومنها مقالتنا الأخيرة "توسيع التمدين لإضعاف العصبيات الخلدونية".
أن وصف القرآن الكريم للأعراب، وكذلك إعتبار كل عودة للبداوة بعد التحضر أنها ردة هو دلالة على أن الإسلام جاء من اجل إقامة الحضارة المبنية على التمدن والتخلص من ذهنية البداوة، لأن هذا الأخير هو الذي سيقضي على مختلف العصبيات الطائفية والدينية والقبلية والجهوية واللسانية التي يذمها القرآن الكريم وكل النصوص الدينية الإسلامية، فأعتبرها جاهلية لأنها تشعل الفتن وعدم الإستقرار والفوضى، مما يعرقل مهمة الإنسان الذي خلقه الله من أجلها، وهي خلافة الله في الأرض أي بمعنى تعميرها، وهي المهمة التي سيحاسب عليها يوم القيامة، لكن هذا التصور مغيب للأسف في الخطاب الديني السائد اليوم الذي يحتاج إلى عملية تجديد.
لكن بن نبي الذي يدعي أنه يستلهم من القرآن الكريم ومتأثر ببن خلدون يناقض كل هذا في كتبه، فهو يسلط كل نقده على سكان المدينة لأنهم تلوثوا في فكرهم وسلوكهم -حسب رأيه-، وأنهم عاجزون على بناء حضارة لأن ذلك يتطلب في نظره القضاء على كل ما تلوثوا به من أفكار وسلوك، ويضع بن نبي كل آماله في بناء الحضارة على البدو لأن ذهنهم فارغ وغير ملوث كما يقول، ومن السهل عليهم تبني فكرة قوية يضحون من أجلها، وتكون نقطة بداية الحضارة لأن بن نبي هيغيلي الطرح، ويعتقد أن الفكرة لوحدها كفيلة بتغيير الإنسان مهملا كل التفاعلات الجدلية والدياليكيتيكية بين الأفكار والظروف الإقتصادية وقوى الإنتاج.
لا يختلف كثيرا بن نبي عن فرانز فانون في إحتقار المدينيين لدرجة أنه يفسر فشل الحركة الإصلاحية الدينية في الجزائر على يد جمعية العلماء بإعتمادها على المدينيين الذين يحملون "روح الهزيمة"، ويرى أنها اعتمدت على رجل المدينة بدل البادية، فقد مسخ رجل المدينة فكرة الإصلاح لأنه " لم يكن مستعدا إلا لنصف جهد ونصف إجتهاد ونصف طريق" (شروط النهضة ص ص 114-115)، لكن نعتقد أن بن نبي توفي في 1973، ولم ير بأم عينيه ما أنتجته الحركة الوهابية من دمار وخراب وإرهاب وبدونة للممارسات الإسلامية، والتي ما هي إلا فكرة إصلاحية كما يدعي أصحابها تم نشرها عند بدو نجد في شبه الجزيرة العربية، وقد أعجب بها بن نبي في شبابه، وسعى للهجرة إلى المملكة العربية السعودية لدعمها حسب مايرويه في الجزء الثاني من مذكراته المعنونة ب"الطالب"، لكن نعتقد أنه تخلى عن فكرة الوهابية فيما بعد لأنه لم يكن يعرف حقيقتها في شبابه، ومن المستبعد جدا أن تستهويه لو عرف حقيقتها التكفيرية وإنتاجها للإرهاب لأن بن نبي إنسان جد مسالم ومتأثر جدا بالماهاتما غاندي وفكرته "اللآعنف" التي أشاد بها كثيرا في كتاباته، فبشان الفكرة الإصلاحية فلنسأل بن نبي ومناصري فكرته حول الدور الإيجابي للبادية والبدو: هل أنتجت الحركة الإصلاحية بقيادة محمد عبده والأفغاني وبن باديس وغيرهم التي اعتمدت على المدينيين سواء في الجزائر أو مصر أو غيرها إرهابا وكراهية وتكفير كما أنتجته الوهابية أم أن هذه الحركة الإصلاحية التي ينتقدها بن نبي كانت ثورة تقدمية في تاريخ الإسلام بحكم تفتحها وسماحتها لدرجة تشبيه البعض لبن باديس مثلا بمارتن لوثر في أوروبا وحركته الإصلاحية الدينية التي كانت أحد العوامل، وليس الوحيد طبعا وراء نهضة اوروبا وتقدمها؟.
عادة ما يعود بن نبي إلى ميلاد الحضارة الإسلامية التي يعتقد أن العرب الأوائل الذين أعتنقوا الإسلام، ووضعوا الأسس الأولى للحضارة الإسلامية هم بدو، وهذا ليس صحيح على الإطلاق، فمعتنقو الإسلام الأوائل هم مدينيين، ومن سكان مدينتي مكة ويثرب، وليسوا من البدو الذي سماهم القرآن الكريم بالأعراب، بل عرقل هؤلاء الإسلام مباشرة بعد وفاة سيدنا محمد (ص)، فأرتدوا عنه لأنهم لم يدخلوا فيه عن قناعة، بل خوفا بعد إنتصار المسلمين ثم سيطرتهم على شبه الجزيرة العربية.
كما أن الحضارة الإسلامية تطورت، وأعطت كل هذا الإنتاج الفكري والحضاري وغيره على يد حضر، وليس البدو، فإنتشار الإسلام وإحتكاك العرب بحضارات أخرى كالفارسية والمصرية والهندية والأمازيغية وغيرها هي التي أعطت ذلك الزخم الحضاري الناتج عن هذا الإحتكاك، فهناك اليوم قاعدة معروفة أن الشعوب المتفتحة أين يتم التثاقف والتمازج والإجتكاك بين عدة ثقافات وحضارات تؤدي إلى التقدم حتما مثل أمريكا، وحتى أوروبا وغيرها، أما الشعوب المنغلقة الرافضة للآخر ولكل تثاقف تبقى متخلفة وجامدة.
ان إعتقاد مالك بن نبي أن البدو وراء ميلاد الحضارة الإسلامية كرره أيضا في كتابه "شروط النهضة" حول ميلاد الحضارة الأوروبية المبنية في نظره على الفكرة المسيحية التي لم تستطع ان تؤتي ثمارها في المجتمع الروماني المتمدن، ويقول أنه "لم يكتب لها أن تعمل عملها إلا عندما بلغت وسط البداوة الجرمانية في شمال أوروبا حيث وجدت النفوس الشاغرة، فتمكنت منها، وبعثت فيها الروح الفعالة التي اندفعت بها، لتكون خلقتها في سلسلة التاريخ" (شروط النهضة ص82)، ففي نظر بن نبي فإن البرابرة في أوروبا كالجرمان والفرانك والفيكينغ وغيرهم هم وراء ميلاد هذه الحضارة الأوروبية، خاصة في عهد شارلمان، لكن غاب عن بن نبي أن الحضارة الأوروبية قد أقيمت عي يد مدينيين أو ما يسمى بسكان المدن كالبندقية ولامبارديا وغيرها أو ما يعرف بالبورغ (Les bourgues)، ومعناه أشباه المدن، ولعل البعض لايعلم أن كلمة برجوازي في بدايات النهضة يقصد بها سكان المدن أو أشباه المدن، ثم أخذت مفهوما آخر فيما بعد مع بدايات الثورة الصناعية في أوروبا.
أما بشأن هؤلاء البرابرة الذين هم آعراب أوروبا الذي يثني عليهم بن نبي، فهم في الحقيقة دمروا روما في 476 ميلادي كما دمر المغول الحضارة الإسلامية بعد دخولهم بغداد في1258، فالمغول وهؤلاء البرابرة في أوروبا هم أعراب آسيا وأوروبا، ولعل البعض لايعلم أن اليوم أنتشرت فكرة في مخابر أوروبا مفادها أن المهاجرين إلى أوروبا أو أمريكا كالمسلمين والمكسيكيين والأفارقة وغيرهم هم يشبهون المغول والبرابرة، وأنه سيحطمون الحضارة الغربية بشكل أو بآخر، وهي أفكار منشرة بقوة لدى اليمين المتطرف المعادي للمهاجرينن وكذلك لدى البعض من علماء الإستراتيجية في الغرب، ويستلهمون فكرتهم من تجربة سقوط روما على يد البرابرة (الجرمان والفرانك والفيكينغ وغيرهم) الذين هم أعراب اوروبا أو سقوط بغداد وإحراق الكتب وكل معالم الحضارة ألإسلامية على يد المغول الذين هم أعراب آسيا.
وفي الأخيرعلينا أن نوضح بأن الحكم على الأعراب أو البدو بالتخلف ومعاداة الحضارة ليس حكما ثابتا فيهم، فهم يتطورون ويتمدنون عبر جيل أو بضعة أجيال، فمثلا في البلاد المغاربية يبدأون في إقامة الحضارة بمجرد وصولهم إلى السلطة وإقامتهم لدولتهم، لكن المشكل أنه يتم إسقاطها قبل ما تنمو وتنهي تحضرها على يد بدو وأعراب آخرين يكفرون أصحاب الدولة الذين تحضروا، ويستغلون الدين للقضاء على دولتهم تلك، وعادة ما تتكرر الظاهرة من جديد، كما أن برابرة أوروبا تحضروا اليوم، فلنأخذ مثلا الفيكينغ المتوحشين هم أجداد السويديين والدانماركيين الذين وصلوا أعلى درجات التمدن والتحضر، وينطبق نفس الأمر على الجرمان والفرانك والأنجليز وغيرهم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حزب الله ينفذ هجوما جويا -بمسيّرات انقضاضية- على شمال إسرائي


.. متظاهرون مؤيدون للفلسطينيين يغلقون جسرا في سان فرانسيسكو




.. الرئيس الانتقالي في تشاد محمد إدريس ديبي: -لن أتولى أكثر من


.. رصدته كاميرا بث مباشر.. مراهق يهاجم أسقفًا وكاهنًا ويطعنهما




.. ارتفاع ضحايا السيول في سلطنة عمان إلى 18 شخصا