الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التحولات في هيكل المظلومية وبناء المجتمع الجديد

جليل البصري

2006 / 9 / 5
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


سجل مصطلح المظلومية في العقود الأخيرة حضورا بين المصطلحات السياسية المتداولة في الأدب السياسي للمعارضة وبالأخص المعارضة الشيعية للنظام السابق وبين الكرد أيضا . وشكل هذا المصطلح انعكاسا لتحرك سياسي وأيديولوجي ينم عن مواصفات معينة توطر الأحداث في هذا البلد وتحدد ملامحه وتدفعه باتجاه معين سلبا وإيجابا .. ولكي نستوعب ما يعبر عنه هذا المصطلح في القاموس والواقع السياسي والاجتماعي يجب علينا تشريحه وإلقاء الضوء على خلفياته وجوانبه المتعددة .
- المظلومية تاريخيا :-
نشأت المظلومية كمفهوم سياسي يسود الآن ، خلال الربع الأخير تقريبا من القرن العشرين . فقد كانت التقاليد السياسية العراقية واسعة وشمولية وكانت الأحزاب العراقية أحزابا تتراوح بين القومية والتفاخر بدل المظلومية وهي نزعة اقرب في مضمونها للفكر القوي الألماني النازي . وقد تبلورت الحركة القومية الكردية في جانب مهم من منظورها الفكري على المظلومية التي يرزح الشعب الكردي تحتها منذ تأسيس الدولة العراقية ، هذه المظلومية التي ابتدأت من معاهدة سيفر وتقسيم كردستان الكبرى ولم تنته لاحقا بحملات الأنفال وحلبجة .. الخ فيما استخدم الأشوريون مذبحة سميل على يد بكر صدقي وما سبقها في تركيا كأساس لمظلومية أشورية وذلك في فترة التسعينيات عبر أدبيات الأحزاب الكلدوأشورية التي تشكلت أو ظهر عملها للعيان في إقليم كردستان العراق مع بعض الفروقات . واستخدم التركمان أحداث عام 1959 في كركوك كجانب مهم من مظلوميتهم .. والاهم إن الأحزاب الدينية الشيعية كحزب الدعوة والمجلس الأعلى والعمل الإسلامي وغيرها قد توسعت في موضوع المظلومية واضطهاد الدولة للشيعة في الحقوق المدنية والسياسية ولم يبق استشهاد الصدر الأول وأخته بنت الهدى رمزا لهذه المظلومية التي عادت تبحث في التاريخ عن رصيد لها ابتداء من حرمان الإمام علي (ع) من الخلافة ومنحها إلى الصحابي أبو بكر الصديق (رض) ومرورا باستشهاد الإمام الحسين (ع) وآل بيته في كربلاء ، وليس انتهاء بمقتل بعض الأئمة الكرام على يد الخلفاء العباسيين والأمويين ، بل وبدأت مرحلة جديدة تتصل بـالانتفاضة الشعبانية (كما يحلو لهم تسمية انتفاضة عام 1991) والمذابح والمقابر الجماعية التي تلتها ، وعمل منظرو المظلومية الشيعية ومروجوها على حشد القرائن والوقائع التاريخية بما يؤيد جانبين ، الأول تهميش الشيعة والثاني تقتيلها .. وبذلك فقد اتجهت المظلوميات هذه إلى استخدام المظالم التاريخية لتأكيد الحقوق حيث باتت تحت ضغط التوسع في هذا الاستخدام تنطلق من المظلومية إلى الحق أو عبرها إلى الحق ( بعبارة أدق ) ، وكأن الحق دون هذه المظلومية ليس له ما يبرره .
- المظلومية كبرنامج داعم سياسي :-
وقد استخدمت القوى السياسية العراقية المعارضة كافة ، المظلومية كبرنامج داعم سياسي لدعواتها لتغيير النظام الدكتاتوري في العراق وحشد تحالف إقليمي ودولي ضده يستند إلى مبررات أخلاقية ، معززة ذلك بالحشد لمظلوميات ساندة مثل الحرب العراقية الإيرانية ولاحقا احتلال الكويت لتوكيد النزعة العدوانية للنظام العراقي وتأكيد أصالتها واستحالة تغييرها دون اقتلاع النظام نفسه . وقد تزامن هذا التوجه مع توجه جديد في السياسة الدولية يستند إلى جعل مبادئ حقوق الإنسان أساسا لتقييم الدول والتعامل معها ، وكانت مسألة قصف حلبجة الشهيدة بالأسلحة الكيمياوية نقطة البداية في هذا التحول الدولي نحو الاهتمام وتسليط الأضواء على ما يجري في هذا البلد المقفل على مظالم الحكومة أو الحكومات . وقد خلقت مسالة احتلال الكويت من قبل صدام وما لحقها من توجه إلى حصاره وتغييره ، مناخا ممتازا لنمو الترويج للمظلوميات وبناء رأي عام مظلومي – إن صح التعبير – يعمل على التحشيد دوليا وداخليا ضد النظام من ناحية ويعمل ايضا على خلق سد منيع ايديولوجي وضمائري يحصن العمل ضد النظام من النشاط الأمني له لاختراق هذا العمل وتدميره ، وباتت هناك مصلحة مشتركة لدعم هذا البرنامج ، كما يعمل على خلخلة الدرع الأمني للنظام وخلق مبررات التخلي عنه .
- المظلومية والحرب والانتفاضة :-
وقد استخدمت المظلومية كوسيلة للتحريض والحماسة بشكل واضح وفعال في انتفاضة عام 1991 وتجلت بأنصح صورها في الانتفاضة داخل إقليم كردستان العراق حيث ساهمت الإذاعات الناطقة باسم الأحزاب التي تقود الانتفاضة بالتحشيد الإعلامي والتحريض استنادا إلى المظلوميات القومية والمظلوميات الأخرى التي مورست ضد المواطن الكردي لشحذ همم المقاتلين البيشمركه أولا ولدفع التنظيمات والمواطن العادي للمشاركة في الانتفاضة ولعزل الحكومة وأجهزتها ودفع معنوياتها إلى الحضيض وهو ما انعكس في النجاح الساحق والسريع للانتفاضة في كردستان العراق وانهيار الحكومة وتسليم القوات الحكومية للمقاتلين ، وربما كانت الصورة في بقية المحافظات العراقية الثائرة هي ذات الصورة إلا إنها كانت اقل تنظيما أو أكثر عشوائية . ولعل هذا الاستخدام المفرط للمظلومية في إثارة الحقد والحماسة له أثار سلبية انعكست في حالة الانهيار الأسرع للانتفاضة أمام الهجوم المضاد المفرط بالقسوة ، فالمظلومية في هذا الجانب من الاستخدام تحمل في داخلها الضعف والاستسلام والخوف ، فهي صورة لحالة استخدام القسوة المضادة التي أعاد إنتاجها النظام نفسه بسرعة وفعالية ليعيد المواطن الثائر إلى حالة الخضوع والرعب التي تلقى فيها المظالم السابقة التي جرت وتضمنت ذات الظروف التي حفرت داخل نفسية المواطن عوامل الخضوع والمسايرة .. لكن انهيار الانتفاضة زرع حالة جديدة مفرطة في الرعب التي انعكست في اتساع رقعة السلوك اللابالي للضحايا في التعامل مع المظلوميات . ولذلك أيضا فان استخدام المظلوميات لإسقاط النظام في عام 2003 كان استخداما خارجيا في الغالب يهدف إلى الحصول على الشرعية الدولية وحشد التأييد الدولي لإسقاط النظام بالقوة العسكرية ، بذلك كانت مشاهد الانهيار الأخيرة للنظام غير فعالة شعبيا ولم تحض بمشاركة جماهيرية مثلما حصل في انتفاضة عام 1991 ، بل يكاد يكون المواطن حياديا تماما أو في حالة ترقب وانتظار لما يجري باستثناء حالات هنا وهناك .
- المظلومية كأداة تنظيمية :-
إن المظلومية لكي تستمر في تأثيرها فهي بحاجة إلى الإبقاء على العوامل التي خلقتها أو اختلاق عوامل محتملة لإعادة إنتاجها كواقع ، عوامل افتراضية تجعل شبح المظلومية قائم كمبرر وليس كواقع ، وهذه المسالة أدركتها القوى السياسية التي حشدت لنفسها على أساس المظلوميات المتباينة والعدو الخالق الواحد .. وهو ما واجه معضلة انفراط عقد هذا الخالق بعد عام 2003 ليخلق مخاوف من تراجع المظلوميات الى موطنها الأصلي , وهو صفحات التاريخ وتفسح المجال لبناء نفسي واجتماعي جديد لا يسمح بإعادة إنتاج المظلوميات بل ويجعلها جزءا منسيا من التاريخ ، لا أن تبقى وعاءا يعيش الحاضر داخله ويتخندق على أساسه .. وعلى هذا الأساس جرت عملية اصطفاف أخرى داخل التركيبة السياسية الاجتماعية بدافع الخوف من إعادة أو عودة المظلوميات ، كرست لبقائها كثقافة وإيديولوجيا ومبرر للاصطفاف والتنظيم والعمل ، بحيث انك شاهدت شيعيا يصوت للقائمة (555) رغم انه مستاء من القوى التي تمثلها وكرديا يصوت لهذه القائمة على أساس مذهبي أو كرديا مستاء يصوت لقائمة التحالف الكردستاني وغيرها من هذه الحالات .. مما يعني إن المظلومية كرست كأداة تنظيمية وقاعدة صلدة لبناء الولاءات الحزبية والجهوية . وبذلك فقد شهد المجتمع حالة تحول عبر المظلومية ، وتحولها من كونها أداة لتوحيد الجهود للنضال ضد الدكتاتورية وإسقاطها إلى أداة لتكريس الانقسام والتغطية على المظالم الجديدة التي يشهدها المواطن في ظل ما يطلق عليه بعهد الديمقراطية والذي لا يمثل سوى عهد حكم المظلوميات . وبات نشوء هذه التركيبة عائق أمام نمو الحريات الشخصية ونمو دور الفرد في أحداث التغييرات الاجتماعية والسياسية والذي كان وجود الدكتاتورية عائقا أمامه .. عائق أخلى الطريق لعائق جديد هي جماعية المظلومية ومخاوف تجديدها .. وكلنا يعرف إن نمو دور الفرد هو الأساس الحقيقي للديمقراطية وليس الانتخابات ، وليس من دليل أوضح على ذلك أكثر من نظام القائمة الانتخابي الذي ضيع الفرد ودوره ووضع القائمة الصماء بدلا عنه .
- المظلومية السنية :-
وإزاء الواقع الجديد فقد عملت قوى مختلفة من سياسية ومتشددة ومسلحة تنتمي إلى الطائفة السنية بتلاوينها المختلفة من ناحية الانتماء السابق إلى النظام الدكتاتوري أو غيره ، عملت على بناء مظلومية سنية لم تكن موجودة سابقا هدفها الأساسي بناء اصطفافات جديدة ، لإعادة تنظيم موقع هذه الطائفة داخل التركيبة الاجتماعية والسياسية الجديدة وخلق مرجعيات مظلومية تقودها نحو المشاركة في التركيبة الجديدة وهي (حكم المظلوميات) ، وهي تخوض من اجل ذلك صراعا مريرا وتستخدم كل الوسائل المتاحة بما فيها العنف للحصول على موقع تعتقد إنها تستحقه أو يجب أن يكون لها . وبانتظار استقرار التوازنات على مستوى جديد يسلم به الجميع ويعتبروه أمرا واقعا قد خلقنا وضعا نموذجيا لبداية النهاية .
- نهاية المظلومية :-
إن استقرار التوازنات الأنفة الذكر يعني أمرا واحدا هو الوصول إلى حالة من الاطمئنان والتعايش مقبولة من الجميع ، مما يعني انتهاء المخاوف المظلومية من إعادة إنتاج المظلوميات .. وان انتهاء هذه المخاوف يدفع بالتركيبة الاجتماعية للبحث في المشكلات الحياتية المتفاقمة والتفكير جديا في إعادة البناء على كل الأصعدة مما يعني الخروج من شرنقة المظلومية إلى فضاء الفردية والحرية التي يحترمها القانون والدولة والتي تستطيع التأثير فيها وهذا يفسح المجال بشكل أوسع لإعادة صقل الشخصية المواطنينة على أساس جديد هو الانتماء الجماعي للهوية الوطنية وتقليص مساحة اثر المظلومية في تكوين البناء النفسي والاجتماعي للفرد هذا الأثر الذي يؤدي باستمرار إلى الانغلاق والعزلة والتشكيك بالأخر والنظر إليه بعين الانتهام وإلصاق كل التهم غير المبررة به .. إن البناء الصحيح للواقع الجديد يجب أن يستند إلى نظرية الحق التي تفسر المظلومية التاريخية باعتبارها ثمن دفعته الفئة أو القومية أو الحزب المعين نتيجة إصرارها عليه ، لا أن تتحول المظلومية إلى صنم مقدس نخشع عند ذكره ونحولها إلى قيود تعيق بناء الحياة الجديدة المشتركة وهي أمر يتطلب الكثير من المرونة والأخذ والعطاء والبراكماتية للوصول إلى أفضل هدف مشترك ممكن وهو ما لا تسمح به قدسية المظلومية المتقولبة . إن محاكمة الواقع بمظلومية التاريخ وهو ما يجري على مستويات مختلفة بين الإطراف المتباينة ، وهو خروج على المنطق وخروج على المظلومية نفسها التي يجب أن لا تتحول إلى ثارات بني هلال بلا نهاية . إن بناء مجتمع جديد يجب ان يعتمد مظلومة بناءة كخطوة أولى تثقف بأسبابها تدحض عوامل خلقها الكامنة في الفكر الدكتاتوري والشوفيني الذي يمكن أن تتقمصه الطائفة أو القومية .. وان يعتمد كخطوة ثانية ومتزامنة دفع المظلومية إلى الخلف ، إلى الذاكرة والاهتمام بثقافة دولة القانون والنظام وإحقاق الحقوق المدنية وتلاقح الثقافات وهي مهمة المثقفين قبل السياسيين وهي مهمة الجميع ، إذا ما كان هناك حرص حقيقي على بناء بلد متحضر خالي من الضغائن والعقد .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة الأمريكية تعتقل عشرات اليهود الداعمين لغزة في نيويورك


.. عقيل عباس: حماس والإخوان يريدون إنهاء اتفاقات السلام بين إسر




.. 90-Al-Baqarah


.. مئات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى وسلطات الاحتلال تغلق ا




.. المقاومة الإسلامية في لبنان تكثف من عملياتهاعلى جبهة الإسناد