الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إحفيظ ومملكة الاساطير والخوف/ الجزء الاول

سعد محمد موسى

2022 / 2 / 12
الادب والفن


إحفيظ ومملكة الاساطير والخوف

الجزء الاول
كان المشحوف يشق عباب هور (أم النعاج) في (مملكة ميسان) وهو يقلُّ أحفاد (أنكي) إله الماء لدى السومريين حاملاً الأب الذي كان منهمكاً بدفع مجدافيّ القارب، بينما الأم كانت غارقة في صلواتها وتسبيحاتها متربعة وسط القارب أما الأبن (مشعل) ذو الثماني أعوام، كان يرسم مبتهجاً فوق سطح الماء الناعس بأنامله الصغيرة أكواخ القصب، والقمر، والجواميس، والأسماك وكل ما يتذكره أو يشاهده من مفردات الهور وهو جالس بحضن أمه منتشياً بصباحٍ مشمس ودافىء يتناغم مع سحر الماء.
وأثناء تلك الرحلة الوديعة والهادئة وعلى حين غرّة أخترقت السماء (مروحية الهليكوبتر) التي أرعبت بازيزها الطيور وأجفلت الجواميس الطافية والمسترخية في الماء ، فاشرأب الطفل بعنقه نحو الطائر الخرافي الذي يتحرك في رحم (أنو - إله السماء)،
وفغر فمه مذهولاً وهو يحدق بالمروحية وبقمرة القيادة التي لمح في جوفها الطيار بملامح ضبابية بعيدة، ثم سرعان ما أفلت الطائرة وتلاشت في السماء.
تناول مشعل كراسة الرسم التي عادة ما تلازمه وشرع يرسم بقلم الرصاص على الورقة البيضاء شكل الطائرة في الفضاء ورسم الطيار برأسه البارز معتمراً اليشماغ والعقال كما تخيله بفطرته الاهوارية البريئة من سقف قمرة القيادة وهو يمسك بمجدافين يظهران من فتحتين على جانبي المروحية يحركهما في السماء بقوة دافعاً بالطائرة بين الغيوم الى الامام، تماماً كما يفعل أبيه وهو يجدف بالبلم نحو الافاق المترامية في الاهوار.
لم يتخيل مشعل أي شيء يمكنه أن يتحرك ويجول دون مجاديف أو يتنقل دون قوارب وأن العالم في إعتقاده عبارة عن أهوار وجزر من القصب الطافية، فجمعت مخيلته ما بين الطائرة والقارب !!
رسى المشحوف عند حافات إحدى (چبشات) هور (العظيم) وترجلت العائلة نحو صريفة الجدة وهم يحملون أمتعتهم وهداياهم من "الاسماك، والشلب، والقيمر، وحلوى الخريط" أما مشعل فبعد أن رحبت به جدته واحتضنته أفلت منها وقصد راكضاً العوم مع الجواميس الغاطسة بالماء والتي لم يظهر منها سوى رؤوسها وقرونها الكبيرة.
تسلق ظهورهم الآمنة وضحكاته كانت تعلو مع رغاء الجاموس، بينما طيور "البجع الابيض والوز والخضيري" تعوم حولها وتغطس الى أسفل الماء ثم تنط باحثةً عن فرائسها من الاسماك.
رجع مشعل الى صريفة جدته (إرداعة) لدى غروب الشمس وجلس بمحاذاتها، بعد أن لاذت الجواميس نحو مضاجعها داخل (السترة) المشيدة من القصب والبواري، وذكّرها بما وعدته في المرة السابقة بان تسرد له حكاية (إيشان تل الذهب ومملكة إحفيظ) وعن (مرواح - مجنون ليلوة) أحتضنته ومسدت على خصلات شعره الاسود، ثم أخبرته بان سرد الحكاية سيكون بعد تناول العشاء.
وعندما عاد مشعل الى صريفة الجدة مساءً أجلسته أمامها ثم إستهلت بكلامها عن قصة الإيشانات وهي تشير للطفل بكفها المزدان بنقوش الوشم صوب إيشان إحفيظ بأتجاه (ناحية الخير) الواقعة على تخوم قضاء (المجر الكبير) واستطردت ببوحها قرب فانوسها العتيق الذي يعكس ضوءه الخافت من ذبالته على ملامح وجه الطفل الخائف وهو يستمع بفضول شديد.
"عادة ما تحتفي مملكة إحفيظ المرعبة برقصات على إيقاعات الدنابك والدفوف حول ألسنة النيران في ليالي الخميس وبعد أن يخيم الظلام تتسلل "الاشباح والمسوخ من المقابر وتتبعها السعالي والطناطل والجن والمردة والاغوال"، بينما الخفافيش الكبيرة والشرسة تبقى تحوم فوق الإيشان وقد سمع أهالي الاهوار عن حكايات مخيفة حول هجوم الخفافيش على الحيوانات والاطفال وعلى سكان البطائح وهي تقوم بامتصاص الدماء وفقأ عيونهم أثناء النوم.
أما السلاحف الضخمة (الرفوش)، وثعابين الماء، والكواسج فتعوم حول جزيرة الخوف، وقد باءت بالفشل أغلب المغامرات التي أقدم عليها رجال الهور حين حاولوا التسلل الى إيشان إحفيظ بعضهم أصيب بالجنون والهلع والبعض الاخر قتل بطرق مختلفة، أما الذين حاولوا سرقة الذهب والمجوهرات من خزائن الإيشان فحالما وضعوا غنائمهم في جوف المشاحيف حتى تسمرت قواربهم ولم يستطيع الرجال أن يجدفوا بالماء أو يهربوا عن طريق السباحة.

على تخوم إيشان إحفيظ كان مشحوف (مرواح) متخفياً ومرابضاً بين أجمات البردي، وهو يترصد تحركات الاشباح البعيدة بين الاطلال، وبقايا المعابد، والقصور، والمقابر ويحاول الاصغاء لحل الالغاز اللفظية لرطين الطناطل بين الاحراش، ويحدق برقصات السعالي ذوات القوام النحيفة والطويلة على ألسنة النيران، بينما القمر الذي يتهاوى قرصه بمستوى ارتفاع الإيشان يسكب بضوءه الساطع فوق تضاريس مملكة الخوف.
حاول مرواح التقرب أكثر وبحذر شديد وهو يتمعن بالاشباح وراء ألسنة النيران والدخان فعسى أن يلمح زوجته المختطفة (ليلوة) هناك وسط سبايا النساء.
يذكر عن حادثة إختفاء الزوجة التي وقعت في الهزيع الاخير من الليل حين شاهد أحد الصيادين قارب حفيظ الذهبي المزدان بهودج يتلالأ بالاحجار الكريمة والفضة والنفائس يقوده عشرة رجال أشداء يجدفون، ثم دنى القارب من مشحوف المرأة التي كانت تسحب بشباك صيدها من الماء، وقفز رجلان الى مشحوفها واختطفوها بعد أن أوثقوها بالحبال والقوا بها في قارب إحفيظ الاسطوري!!
بينما زوجها كان غائباً في أطراف (هور السودة) في موسم حش البردي والجولان، وحين عاد مع حزم البردي والجولان وباگات القصب، لم يجد زوجته في استقباله، فجع بفقدانها، وكذلك ساوره الخوف من ظنون الاخرين بان زوجته ربما هربت مع رجل آخر لولا شهادة الصياد الذي كان شاهداً على عملية اختطاف الزوجة، وقطع دابر شكوك الاخرين بقضية إختفائها.
بقى الزوج المفجوع عدة ليالي يحوم حول الإيشان ويسأل الصيادين الأخرين فعسى أن يقتفى أثرها !!
عزم مرواح على تكرار زياراته للمراقد وجمع النذور من حلوى الخريط ،والاسماك، المجففة (المسموطة) والقيمر، واللبن ،الخاثر، والدهن الحر وهو لا يتوانى من إرسالها الى سدان وزوار المقامات ومراقد السادة والاولياء الصالحين في تخوم الاهوار فعسى أن تسمع توسلاته وأدعيته كي ينال شفاعة الأولياء الصالحين بايجاد زوجته، وفك أسرها.
بعد أن يأس من الوصول الى الايشان راودته نيَّة الذهاب الى إيشانات (عكر وشذر) وهما اخوتا إحفيظ وأيضا يتمتعان بجاه وسلطة ولكن أقل من هيمنة أخاهم الاكبر المستبد، آملاً أن ينال عطفهم ويترحموا على حاله وسعياً لتوسطهم لدى إحفيظ واطلاق سراح زوجته ولكن كل المحاولات باءت بالفشل لم يستطع الوصول الى أخوة إحفيظ عن طريق الصيادين المقربين من إيشاناتهم.
لكن مرواح توصل الى أحد الصيادين الذي قام بايصاله الى كوخ الحكيم والساحر (دهمان بن قمقم) الواقع فوق إحدى المسنايات في أطراف الايشان.
كان شيخاً طويل القامة حاسر الرأس يتمتع بهيبة وحضور ومازال قادرا على تجديف مشحوفه رغم أن عمره تجاوز المائة ببضعة سنوات، وحين سمع صوت الصياد منادياً أسمه، برح كوخه ورحب بالضيوف ودعاهم للجلوس داخل صومعته، ثم أشار لهم أن يباشروا بالحديث التفت حينها الصياد نحو مرواح الذي تحسر متوجعا وأباح للساحر محنته بفقدان زوجته وبعد تحققه أدرك بان حراس إحفيظ هم الذين إختطفوها من قارب الصيد، ثم لطم على رأسه وانفجر بنوبة بكاء تقرب دهمان من مرواح ووضع يده فوق رأسه محاولاً مواساته" .
...
توقفت الجدة عن الاستطراد باكمال الحكاية حين التفتت نحو مشعل الذي بات يدركه النعاس ويثقل جفنيه، بينما مخيلته كانت مكتظه بصور ومشاهد اليوم من حيوان السماء الخرافي الهليكوبتر والجزء الاول من قصة إيشان إحفيط ومكابدات مرواح.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال


.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81




.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد


.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه




.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما