الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هنري كورييل تاجر الثورة ومرابيها

سعيد العليمى

2022 / 2 / 13
القضية الفلسطينية


لقد ترك لنا المفكر الماركسي إبراهيم فتحي أثرًا هامًا لندرة موضوعه فما كتب عن هنري كورييل من حلقته ومريديه وضعه في موضع "رجل من طراز فريد" و"نسيج وحده" كما كتب الفرنسي جيل بيرو، وكادت حقيقته أن تطمس تحت ركام الأساطير التي يروجها شيعته ويجري ترديدها دون تمحيص أو مراجعة ، ويتم تزييف الوقائع التاريخية ولا تجد من ينقضها ، ولكن الأخطر هي الأفكار التي سرت في جسم الحركة الشيوعية المصرية ، ومازالت تجد لها موطئًا في بقايا حدتو التي تعضنت في موقعين حزبيين رسميين في حياتنا السياسية الراهنة ، وفي أدمغة الفاقدين للفكر النقدي . فضلًا عن الأثر الذي تركه فى إيطاليا (وخاصة علاقته بـ الحزب الشيوعي الإيطالي راعي أحد مؤتمراته الداعية للسلام الإسرائيلي) وفرنسا وبعض البلدان العربية من خلال حلقة روما الشهيرة.
لقد ترك لنا إبراهيم فتحي جملة من المقالات تمثل ثروة فكرية صدرت في مجلة طريق الانتصار لسان حال الحزب الشيوعي الفلسطيني تحت عنوان حلقة هنري كورييل ومستقبل الحركة الشيوعية في مصر(35) وقد تناول فيها فكر الحلقة النظري والسياسي والتنظيمي والجماهيري ، ورغم أنه تناول فيها موقفها من القضية الفلسطينية إلا أنه عاد للموضوع باستفاضة في كتاب خصصه لذلك وهو كتاب هنري كورييل ضد الحركة الشيوعية العربية في القضية الفلسطينية (36).
وما يعنيني في هذا السياق هو ما يتعلق بالقضايا التي طرحها د. جينارو جيرفازيو صراحة أو ضمنًا وكشف الصلة التي تربط بينها وبين تصورات هنري كورييل التي تأثر بها .
وأعيد هنا الخلاصة التي انتهى إليها د. جيرفازيو :
" وهكذا إذا كانت بداية العقد الجديد قد شهدت وجودًا ماركسيًا نشيطًا في مصر رغم أن الاعتقال والنفي كانا يحدان منه بقوة (المقصود اعتقال كورييل ونفيه – س.ع.)، فإنه يبدو أن الحركة فقدت قدرتها على أن تضع نفسها في طليعة المجتمع المدني المصري كأداة نقل الحداثة والتحرير الاجتماعي كما كانت في منتصف الأربعينات، ومن المحتمل جدًا أن "الانعطاف القومي" ، وإن كانت الظروف التاريخية والمحلية قد دفعت إليه ، كان مبنيًا على هذا التراجع الذي يمكن قراءته بشكل معين باعتباره "فقدان الهوية" للماركسيين المصريين من أجل الانضمام للمحيط الواسع للفكر القومي. وهكذا، كما كانت الحركة في سنوات الأربعينيات تمثل للعديد من المناضلين قمة النشاط الشيوعي في مصر فقد مثل تراجعها سواء الأيديولوجي أو التنظيمي عبئًا على أجيال المستقبل من المناضلين حتى اليوم" (37).
عرضت آراء هنري كورييل ودوره في مصادر عديدة أبرزها ما أورده بالطبع تلميذه رفعت السعيد في تأريخه للحركة الشيوعية المصرية ، وكتاب صديقه جيل بيرو رجل من طراز فريد وقد صدرت للكتاب الأخير عدة ترجمات مصرية وعربية، كما تضمن كتاب وثائق الحركة الشيوعية المصرية 1944 – 1952 والأجزاء التالية عليه، الصادر عن مركز البحوث العربية والأفريقية وثائق كتبها كورييل أو كتبت عنه في الفترة المعنية ، كما أشرف د. رءوف عباس على نشر كتاب أوراق هنري كورييل ، وقد نشر الراحل محمد يوسف الجندي، وهو من أتباع هنري كورييل المخلصين، آراءه وأفكاره بالنسبة للقضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي في كتاب من أجل سلام عادل في الشرق الأوسط (38) بوصفها ذات وزن وكان لها دور هام في تطور هذا الصراع وفي البحث عن تسوية سلمية حسب تعبيره في مقدمة الكتاب المذكور.
وبالطبع ليس من شأن المقال الراهن أن يتناول تأريخ حياة كورييل أو تصوراته السياسية الكلية أو دوره ونوعية ارتباطه التاريخي بالحركة الشيوعية المصرية ، وأسبابها ، إلا بالقدر الذي يرتبط بموضوعنا وخاصة بمقولات د. جينارو جيرفازيو بوصفها مؤثرًا أساسيًا في تشكيل تصوراته .
ويكفي في البداية أن أشير لباحث من المتعاطفين مع كورييل ومع خطه في الصراع العربي الإسرائيلي ويوافقه على أن إسرائيل هي تعبير مشروع عن"حق الشعب اليهودي في تقرير مصيره" وهو جويل بينين الذي يصفه بأنه كان يهوديًا كوزموبوليتانيًا مثله مثل كثيرين في تنظيمه الحزبي، وفي بلد يسيطر عليه الأوروبيون اقتصاديًا ، ويعاني من الاحتلال ويعتبر من غير المألوف أن تصبح أقلية تعليمها فرنسي كوزموبوليتانية بورجوازية منفصلة عن نسيج الحياة الشعبية، بارزة على هذا النحو في حركة تدعي تمثيل الجماهير الشعبية. فضلًا عن طرح المسألة اليهودية على الشعب المصرى بوصفها مشكلة في التاريخ الأوروبي . ونقد بينين ينصب على نفس الشئ الذى إمتدحه من أجله د. جيرفازيو بشغف شديد .
ويتداعى إلى ذهني بهذا الصدد موقف إنجلز من الاشتراكيين الديموقراطيين الألمان الذين هاجروا إلى الولايات المتحدة الأمريكية ، ففي رسالة وجهها إنجلز إلى فريدريش أدولف زورجه بتاريخ 2 ديسمبر 1893يقول أن الأوضاع رهيبة، والشباب الذين يأتونك من ألمانيا ليسوا هم الأفضل ، وليسوا بأي حال عينة نموذجية للحزب الاشتراكي فهم مثلما يحدث في كل مكان يريدون أن يدمروا ما هو موجود بالفعل ويعيدوا إنشاء كل شيء من جديد حتى يبدو وكأن عهدًا جديدًا قد بدأ معهم . ونظرًا لفيض المهاجرين الجدد الذين يتحدثون لغتهم فهم لا يشعرون بضرورة تعلم لغة البلاد ، أو اكتساب معرفة بأوضاعها. وكل هذا يسبب قدرًا كبيرًا من الضرر بلا شك، ولكن من ناحية أخرى لا يمكن إنكار أنه في أمريكا في الوقت الراهن هناك كثير من الصعوبات بشأن النمو المتسق لحزب عمالي، وأنه حين تنضج الشروط لوجوده فلن يعوقه عن ذلك حفنة من العقائديين الاشتراكيين الألمان . وفي رسالة أخرى لذات الشخص بتاريخ 12 مايو 1894، ينتقد الاشتراكيين الألمان الأمريكيين لأنهم اختزلوا نظرية ماركس عن التطور إلى أرثوذكسية فظة حيث لا يتوقعون أن يبلغها العامل بوعيه الطبقي وإنما وبدون إعداد يريدون أن يدفعونها فورًا في حلقه وكأنها مادة إيمان ، وفي رسائل أخرى ينتقد طابعهم الحلقي وانعزالهم. وكانت أول نصيحة لهم هي تعلموا الإنجليزية. (الأعمال الكاملة، المجلد 50، بالإنجليزية، ص 299 - 328، 329، طبعة الناشرون العالميون، نيويورك 2004).
وإرتباطا بشئ مماثل رفض ليون تروتسكى منصب وزير الداخلية بعد نجاح ثورة أكتوبر لقمع الثورة المضادة رغم إصرار لينين على ذلك بسبب "يهوديته " التى قدر أنها قد تسئ إلى الثورة البلشفية، وإعتبر ذلك تنازلا صغيرا لصالح البلاهة .
ونعود إلى كورييل (اليساري بسبب صعود النازية في ألمانيا) الذي تتقوم تصوراته في أن هناك "حق لليهود في وطن قومي في فلسطين" وهو حق مقدس وغير قابل للتقادم للجماعات القومية ، لذا لهم مثل أي أمة " الحق في تقرير المصير" وأن الإمبريالية البريطانية ومعها الرجعية العربية - وقتها - توظف النزاعات بين اليهود والعرب لحرف الحركة الوطنية لكل شعوب المنطقة عن المهمة الأساسية وهي إنجاز الاستقلال الوطني، وجلاء القوات الأجنبية. وأنه كان على اليهود والعرب أن يتحدوا في جبهة معادية للإمبريالية وينشئوا معًا دولة واحدة ديموقراطية. ومثل توني كليف فقد اعتبر مظاهرات 2 نوفمبر 1945 في مصر في ذكرى وعد بلفور بمثابة مؤامرة إنجليزية وحكومية لحرف الأنظار عن مطالب الحركة الوطنية المصرية، رغم أنها عبرت من الناحية الأساسية عن احتضان الشعب المصري للقضية الفلسطينية ، وإفشاله محاولات الإخوان المسلمين ومصر الفتاة للسيطرة عليها وتحويلها لمظاهرة معادية لليهود. وفي عام 1947 ركزت الحركة الديموقراطية للتحرر الوطني وحلقة كورييل بقيادته على المطالب الوطنية المصرية حصرًا ، وأيدت بعد ذلك قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة بشأن فلسطين بذريعة أنه كان حلًا عمليًا رغم أنه لم يكن مثاليًا ، بينما عارضته الأحزاب الشيوعية العربية والقوى السياسية المصرية . وفى أول مايو 1948 صدر بيان المكتب السياسي لـحدتو يندد بالحرب الرجعية التي كان يعد لها. ويلقى اللوم على سياسة موالاة الاستعمار التي تنتهجها البلدان العربية ، بينما الضمان الوحيد لوحدة فلسطين هو العمل على إيجاد جو من الألفة والثقة المتبادلة بين الجماهير الكادحة العربية واليهودية. وفي أحد بيانات حدتو المنشورة تعقيبا على أحد قرارات الجامعة العربية ينص على أن :
"أمام هذه الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية يرى الاستعمار والرجعية ألا مخرج لهما سوى إشعال حرب العنصرية في الشرق العربي ، تلهي الشعوب عن أهدافها الوطنية ومطالبها الاقتصادية والاجتماعية وتحول أنظارها عن العهود الحاضرة المعادية للديموقراطية، وقد وجدوا في فلسطين نقطة البدء لتحقيق هذه السياسة الإجرامية" (39).
ويفخر هنري كورييل بأن حدتو كانت في هذا الوقت "بطلة الأممية البروليتارية" التي ساندت الاتحاد السوفييتي وناضلت داخلها "ضد الانحرافات القومية "، وخارجها " ضد الشوفينية " لدى الأحزاب الأخرى بلا استثناء ، صدورًا عن ثقتها في الشعبين العربي واليهودي ، ونتاجًا لرفضها التبعية تجاه الطبقات الحاكمة وإصرارها على اتخاذ موقف بروليتاري مستقل وغير ذيلي . وإذا كانت إسرائيل التي طالب لها بحق الاعتراف بالوجود كدولة مستقلة قد لعبت دور الشرطي للإمبريالية والتفت حول القيادة الصهيونية ، فذلك فيما يبدو نتاج خطيئة الشعوب العربية " ولكن إذا اقتنع الشعب الإسرائيلي أن الشعوب العربية لا تهدد وجوده وأن الحركة الوطنية والديموقراطية تتخذ موقفًا وتناضل من أجل حل عادل للنزاع ، فإن المشاريع الإمبريالية ستفشل مرة أخرى" (40). وإذا كانت هناك سياسة استفزازية للحكومة الإسرائيلية فهي لا تختلف في شيء عن السياسة الاستفزازية للحكومات العربية وإذا كانت أكثر عدوانية من الأخيرة فأحد الأسباب "غياب مواقف وأعمال من جانب القوى الديموقراطية العربية " ويدعو للتشديد الفعال على النضال ضد شوفينيتنا الخاصة (41)حيث لاحظ فيما بعد " أن الشيوعيين في مصر تركوا أنفسهم ينجذبون في هذا المجال إلى التيارات القومية البورجوازية"(42) بل وبلغ الأمر داخل حزبه حد الكشف عن "انحراف قومي" (43). ويعلق في موضع آخر على برنامج الحزب الشيوعي المصري الموحد حيث يقرر أن تحقيق السلام مع إسرائيل يساوي دخول حلف بغداد الاستعماري ويصف ذلك تهكمًا بأنه " الماركسية الخلاقة ".
وفي كتاباته ومذكراته ورسائله يشدد كورييل على أهمية السلام وما يتضمنه من تنازلات حتمية ويتصور الأمور بعقلية المرابي والسمسار بين الطرفين مع الانحياز للغاصبين " ففي إسرائيل يمثل السلام التوطيد النهائي للدولة الناشئة" (44) ويعتبر أنه لا يمكن أن يفرض أي شيء على دولة إسرائيل لا تقبله ، وأن الشعب هناك قد عاش وسواس الإبادة ومن ثم فلابد من سلام حقيقي وأمن حقيقي . وأنه من غير المعقول مطالبة إسرائيل بالعودة إلى خطوط ما قبل يونيو 1967.
وحسب تعابيره ( وهو أمر ينتقده . س ع ) يجرى تصوير السلام للبلاد العربية باعتباره تكريسًا للهزيمة ، وخيانة لفلسطين كبلد عربي موجود في قلب الشرق الأوسط العربي ، وقبولا لبلد يفصل البلدان العربية الموجودة في الغرب عن تلك الموجودة في الشرق ، بلد خلق بنهب السكان العرب الأصليين ، مرتبط بالإمبرياليين الغربيين ، ويعتبر الكفاح ضد إسرائيل هو كفاح ضد الإمبريالية ، ويعقب كورييل على هذا العرض الذى قام به لوجهة نظر مغايرة بالقول "نحن لا نشترك بالطبع في فهم الأمور بهذه الطريقة" (45).
ويكتب بشكل غاية في التحدد: "يجب أن نقول أولًا بوضوح أننا ننطلق ... من الحقيقة الإسرائيلية باعتبارها شرعية "، ويعتبر شيئًا مسلمًا به " أن اليهود في إسرائيل يكونون كيانًا قوميًا له مثل كل المجموعات القومية الحق في تقرير مصيره وتكوين دولة قومية. "يبقى ذلك صحيحًا حتى إذا أعلننا أن إسرائيل هي واقع استعماري لأن كثيرًا من الدول القومية أصلها وقائع استعمارية ، وقد تأكد ذلك بشكل خاص سواء في أفريقيا أو الشرق الأوسط). ونعتبر أيضًا أن الجماهير اليهودية الإسرائيلية لها مثل كل شعوب العالم الحق في الأمن من ناحية وأن تتطلع إلى ذلك من ناحية أخرى"(46).
ه - إبراهيم فتحي ونقد أسطورة كورييل
يبدد المفكر الماركسي إبراهيم فتحي أسطورة الصحافة الرجعية في العهد الملكي عن هنري كورييل بوصفه مؤسسًا للشيوعية المصرية في حلقتها الثانية. وهو مليونير يهودي لا يجيد العربية وينتمي ثقافة وفكرًا وطريقة حياة للرأسمالية الفرنسية التي يحمى امتيازاتها الاحتلال البريطاني، ويرتبط ثقافيًا وعاطفيًا بفرنسا التي تستعمر بلدانًا في المشرق والمغرب العربي . ويبين عدم التطابق بين أفكار كورييل وتنظيمه حدتو الذي كان تنظيمًا فئويًا تعددت فيه المراكز والتيارات الفكرية التي منحت بعض المناضلين إمكان الاستقلال عن الخط الرسمي المعلن ، وأساليب العمل المعتمدة . ويشيد بمناضلي حدتو ذوي الاستقلال الفكري ، والابتكارات الثورية في المجالات العمالية والطلابية والفلاحية فهم الذين خلقوا خطًا جماهيريًا داخل الحركة العمالية ، وأسهموا في بلورة مطالب محددة للحركة وتأسيس أشكال للتنظيم مستقلة عن توجيهات كورييل بل وعلى النقيض منها في كثير من الأحيان مثلما هو الحال بصدد القضية الفلسطينية. ومنهم أسماء لامعة مثل محمد على عامر، وأحمد طه ، وعطية الصيرفي، وعيسى مصطفى واستلهمت هذه الكوكبة العمالية نضالاتها من خبرتها الواقعية ولم تستمد الوحي من "دافيد ناحوم" رجل الأعمال الذي عينه كورييل ممثلًا للطبقة العاملة المصرية ، وبعث به إلى المؤتمر التأسيسي للاتحاد العالمي للنقابات بفرنسا عام 1945 وأشاد به باحثنا د. جيرفازيو.
ويشدد إبراهيم فتحي على أن المثقفين الماركسيين المصريين عمومًا وباستقلال عن كورييل قد خلقوا تيارًا أيديولوجيًا يناوئ فكر البورجوازية في مجالات مختلفة وحاولوا ربط الماركسية بالواقع المصري في المسألة الوطنية والزراعية والتركيب الاجتماعي بل وفي قضايا الفلسفة والتاريخ وعلم النفس والأدب والدين . وبرز مناضلون ضاربي الجذور في الأرض المصرية أمثال يوسف المدرك ، طه سعد عثمان، محمود العسكري، وشعبان حافظ الرباط من الطبقة العاملة، ومن المثقفين عصام الدين حفني ناصف، د. عبد الفتاح القاضي، د. حسونة حسين إسماعيل (من مناضلي حزب 1922) وشهدي عطية، أسعد حليم ، أنور كامل ، عبد الرحمن ناصر، وفوزي جرجس، وعبد العظيم أنيس وغيرهم.
وبعكس ما يتوهمه د. جينارو جيرفازيو عن ذات الفترة ناسبًا انجازاتها إلى كورييل وأمثاله يؤكد إبراهيم فتحي:
"إن الماركسيين المصريين في أواخر الثلاثينات وأوائل الأربعينات كانوا يناضلون على المستوى الاقتصادي والسياسي والفكري نضالًا شديد القسوة والصعوبة ، وقدحفروا الأرض الصخرية بأظافرهم حينما كان كورييل" كما يقول أخلص مؤرخ له "جيل بيرو" في الفترة الماخورية." وبطبيعة الحال لا يعرف جيل بيرو شيئًا عن نضال الماركسيين المصريين في ذلك الوقت وهو يتوهم أن كورييل حينما كان يناضل في ملهى الكيت كات لم يكن هناك نضالا يخوضه اليسار المصري ، وأن مصر كانت تنتظر الخواجة المخلص المؤسس مرتديًا بنطلونه القصير. هل يمكن الحديث عن اشتراكية طفيلية مثل الحديث عن رأسمالية طفيلية؟ "(47).
ويواصل إبراهيم فتحي بيان الطبيعة الاجتماعية لكورييل وحلقته وهو يميز تمييزًا قاطعًا بينها وبين حدتو ومناضليها؛ فهذه الحلقة احتوت على رجال أعمال (وقتها وفيما بعد) ينتمون فكريًا للثقافة البورجوازية الفرنسية العقلانية. ويساريتهم نشأت على أرض أخرى غير أرض الصراع الطبقي والوطني في مصر والعالم العربي الذي كان موجهًا ضد الاستعمار العالمي والصهيونية وركائزهما الداخلية . لقد وجدت جذورها في معاداة الفاشية والاشتراكية الديموقراطية الفرنسية في خضم العدوان النازي على فرنسا ومعاداة السامية ( هناك تطابق سياسى بين تأملات سارتر فى المسألة اليهودية ورؤى كورييل بعد نزع غلاف الأولى الوجودى عنها ) . وهم لا ينتمون إلى الحركة الشيوعية العالمية ولا للتراث النضالي للشعب المصري . ونقطة الانطلاق عندهم ليست حركة التحرر القومي العربية ذات الأفق الاشتراكي بقيادة الطبقة العاملة حيث القضية الفلسطينية والدولة الفلسطينية جزءً لا يتجزأ من هذا المحيط الثوري بل جزيرة مجردة معزولة يتنازعها حقان قوميان مقدسان .
وقد رأى الحزب الشيوعي الفرنسي في كورييل شخصًا مشبوهًا لا ينبغي التعامل معه ، واعتبره السوفييت عميلًا للموساد. وقد أدين بصراحة من قبل الشيوعيين الكوبيين(48). ويكشف إبراهيم فتحي الترجمات العربية التي أخفت أو زورت مقاطع من كتاب جيل بيرو وتدين هنري كورييل، معتمدًا على النص الفرنسي الأصلي، وخاصة دعوته الشيوعيين المصريين للقفز في طائرة السادات الذاهبة في الزيارة المشئومة إلى القدس في نوفمبر 1977. وهى الزيارة التى حياه عليها سارتر أيضا .
ويندد إبراهيم فتحي بفهم كورييل وبطانته للمسألة الوطنية في مصر " فقضية الاستقلال والجلاء عندهم قضية مجردة معزولة عن أي فهم شامل للمعركة العربية ضد الإمبريالية العالمية باعتبارها كلاً مترابطًا،بالإضافة إلى أن ما يسمى بخط القوات الوطنية والديموقراطية عندهم كان يعجز عجزًا شائنًا عن رؤية خصوصية المعركة ضد الصهيونية وعن فهم الدور الجديد الذي أصبح على الصهيونية بعد الحرب العالمية الثانية أن تلعبه.
لقد انفردت حلقة كورييل بالنظر إلى القضية الفلسطينية باعتبارها قضية تضامن ثانوية بين الشعبين المصري والفلسطيني ضد الاستعمار البريطاني ، كما انفردت باعتبار الصهيونية جزءً ثانويًا يتبع المسألة الرئيسية مسألة وجود قوات احتلال إنجليزية ، حتى أن كورييل لم يستشعر الحاجة إلى إهدار أي جهد لإثبات عدائه للصهيونية ، فهي مسألة بديهية تتعلق بتسجيل موقف وليست مسألة نضال طويل الأمد . وليت الأمر وقف هنا، بل أن هنري كورييل ذهب إلى حد"تحريم" إبداء العداء للصهيونية، واتخذ موقفاً مناهضًا لجميع الأحزاب الشيوعية العربية حينئذ على نحو سافر"(49).
وقد عرض إبراهيم فتحي - وهو المفكر النظري الأبرز لـحزب العمال الشيوعي المصري - في مقدمة كتابه لبعض الأسس النظرية للمسألة القومية لدى رواد الماركسية، وتناول مسألة الشعوب الرجعية (بعد افتراضه جدلًا أنه كانت هناك قومية يهودية ) ، وكون المسألة القومية لأي شعب من الشعوب لا ينبغي النظر إليها بشكل مجرد بمعزل عن احتياجات العملية الثورية وآفاقها. من ناحية أخرى أشار إلى الموقف المبدئي الماركسي الأممي الذي ينبغي اتخاذه من الماركسيين المصريين إزاء يهود فلسطين مما يتناقض مع أي نزعة قومية بورجوازية أو " قومية يسارية" على حد وصف د. جيرفازيو، فيقول :
"ولن نصل من ذلك إلى أن مسألة الحقوق القومية لبعض يهود فلسطين يمكن تجاهلها بالنفي ، أو تحويلها إلى مسألة أقلية دينية استنادًا إلى رعب خرافي وتبجيل مبالغ فيه لكلمة قومية. وهذا الموقف الخاطئ امتداد للفكر البورجوازي في مسألة القومية العربية نفسها والذي يتعامل مع"القومية" كما لو كنا في القرن السابع عشر وقيادة البورجوازية للحركات القومية ، و"الحقوق الطبيعية" لقومية مجردة من أي مضمون طبقي أو علاقة بالحركات الثورية العالمية ، إيجابًا أو سلبًا.
والحديث لا يدور عن كل سكان إسرائيل، أي عن عشرات الآلاف من المرشحين المحتملين للهجرة المضادة ، إذا ساءت الأحوال في إسرائيل ، والذين يحتفظون بوشائج غير مقطوعة مع بلاد أصلية أو مختارة، ولا يتكلمون اللغة العبرية أو يتكلمونها كلغة ثانية. ولكن ما من سبيل لإنكار حقائق واقعية منها أن نصف قرن أو يزيد من أوسع هجرة يهودية أو "غزوة صهيونية" قد نجم عنها ميلاد جيل أو أكثر من اليهود لا يعرفون لهم وطنًا آخر، ولا لغة غير اللغة العبرية ويحيون حياة اقتصادية فيها بعض السمات المشتركة ، وبدأت تتكون لديهم على نحو تدريجي وبطريقة متعثرة حافلة بالتناقضات والاتجاهات العكسية بعض الملامح الثقافية المشتركة ، إن بذور قومية يهودية فلسطينية في طريقها إلى التكوين بين جيل أو أجيال ما بعد الصهيونية هي بذور تواصل النمو، ولابد من ملاحظة أن هذه الملامح القومية التي ماتزال في طريق التكوين تحمل طابعًا رجعيًا ويغلب عليها النفوذ الصهيوني طالما ظلت دولة إسرائيل تحقق انتصارها، وظل "المواطن" الإسرائيلي يجتني أرباحًا من الدور الاستعماري التوسعي لدولته. وقد تعلمنا من لينين أن حق تقرير المصير ليس أمرًا مطلقًا بل هو جزء من الحركة الاشتراكية العامة، وفي حالات مفردة بعينها قد يتناقض هذا الجزء مع الكل ، فإذا كان الأمر كذلك يجب رفض الجزء. إن حق تقرير المصير لا يتم تقييمه من وجهة النظر الشكلية والحقوق المجردة بل من زاوية مصالح الحركة الثورية .
ويوضح الماركسيون أن الصهيونية تؤسس مجتمعًا على تضامن مصطنع وتواصل موقف الصدام مع العرب وتبرير الحرب بإدعاء التهديد وخطر الإبادة لجذب يهود الشتات ، كما أن ضرورة السلام أقل إلحاحًا بالنسبة للمواطن الإسرائيلي . ويجعل الطابع النوعي الشاذ للتطور الاقتصادي والسياسي في إسرائيل من المحتم أن يظل العدوان المستمر مكونًا أساسيًا للدولة الصهيونية، " فالمواطنون" الإسرائيليون يعيشون داخل دوائر متشابكة للمؤسسة الصهيونية في حلقة مفرغة.
ولا يقول أحد بأن إسرائيل بلا تناقضات ، أو أن جميع اليهود صهاينة وأعداء للسلام.
ولكن إسرائيل ليست إطارًا يضمن الوجود المستقل والنمو المستمر للعناصر والسمات القومية اليهودية الديموقراطية، بل أن هياكل الدولة الصهيونية عائق حاسم أمام نمو هذه العناصر والسمات القومية الديموقراطية وتؤكد الدولة الصهيونية عزلة أي قومية يهودية في طور التكوين وتخليد ارتباطها العضوي بالإمبريالية.
ولن تزدهر الحقوق القومية لليهود، إلا بالصراع ضد هياكل الدولة الصهيونية، وليس بتدعيم هذه الهياكل والزعم بتطابق دولة إسرائيل مع الحقوق القومية الديموقراطية لليهود كما تزعم حلقة كورييل .
ويتعلق ذلك بالموقف النظري المبدئي وبالأهداف الثورية. وليس معنى ذلك أن تتحول الخطوات العملية في الساحة الدولية،ومحاولات استغلال التناقضات والاستفادة منها لصالح الأهداف الثورية إلى مجرد تكرار نقي للأسس النظرية والأهداف النهائية . فالأسس النظرية ليست قيودًا تعوق انطلاق الحركة الثورية ، وهي تفترض المنعرجات والتنازلات المرتكزة على المبادئ بشرط أن يكون ذلك كله لصالح تحقيق الأهداف"(50).

*مقتطف من مقال ماركسيون لايسايريون قوميون - ردا على جينارو جيرفازيو








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مقاله بفكر قومي شوفيني معادي للاخوه اليهودية الفلس
الدكتور صادق الكحلاوي ( 2022 / 2 / 15 - 04:14 )
الفلسطينية وهو بكر عثن بائد يجب التبرؤ منه تنظيفا لمجتمعاتنا من البقاء في عبودية الاسلام والقومية الفاشيتين


2 - تعليق بفكر صهيوني فاشي معادي للأخوة البشرية
حسين علوان حسين ( 2022 / 2 / 15 - 13:37 )
حسين علوان حسين
كل انسان هو أخو الانسان ، و من الواضح من نص صاحب التعليق (1) أنه صهيوني فاشي مؤمن بالتمييز العنصري وبقتل و تشريد الفلسطينيين ومصادرة حقوقهم الثابتة في القانون الدولي كبشر مثلما أثبته أخيراً تقرير منظمة العفو الدولية ، و هو ما يجب التبرؤ منه تحريراً للمجتمع البشري من عبودية الفاشية الصهيونية الإرهابية التي تحتقر العرب ، بضمنهم أمثال صاحب التعليق ( 1 ) فتسميهم عربوش.

اخر الافلام

.. حزب الله اللبناني يوسع عملياته داخل إسرائيل ويستهدف قواعد عس


.. حزب الله يعلن استهداف -مقر قيادة لواء غولاني- الإسرائيلي شما




.. تونس.. شبان ضحايا لوعود وهمية للعمل في السوق الأوروبية


.. مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين في الجامعات الأمريكية.. وطلاب معهد




.. #الأوروبيون يستفزون #بوتين.. فكيف سيرد وأين قد يدور النزال ا