الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإعاقة والاتحاد السوفياتي: التقدم والتراجع

كيث روزينثال

2022 / 2 / 14
حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة


نشرت الورقة في العدد 103 من مجلة الاشتراكيين الأممين (شتاء 2017)

وهي الجزء الثاني من ورقة الإعاقة والثورة الروسية التي نشرت في العدد 102 من مجلة الاشتراكيين الاممين (خريف 2016)

مع نهاية شهر تشرين الأول/أكتوبر عام 1917، نال الحزب البلشفي أغلبية واضحة بين العمال والفلاحين داخل شبكة السوفيتات الممتدة على مساحة البلد (المجالس الثورية) من أجل دعم برنامجه الرامي إلى إسقاط الحكومة الرأسمالية، أو المؤقتة، التي حلت مكان القيصر المخلوع. مباشرة بعد الثورة تقريباً، بدأ البلاشفة بإعادة تشكيل روسيا بأكملها. من الأكيد أن طموحاتهم في السنوات الأولى قد تجاوزت الوسائل المحدودة التي أمّنها الاقتصاد الروسي المتخلف لهم. ورغم ذلك، تماماً كما كانوا متفائلين بانتشار الثورة إلى الدول الرأسمالية المتقدمة في أوروبا- متأملين بذلك حصولهم على المساعدة الدولية المباشرة وإنهاء الحصار الاقتصادي الذي فرضته الدول الرأسمالية المذكورة- بدأ البلاشفة بإعادة تنظيم المجتمع باتجاه ثوري. وقد حققت الثورة تغييراً جذرياً في 3 مجالات أساسية ضمن مجال الإعاقة: القانون والسياسة؛ العمل والاقتصاد، الصحة والتربية. استعرضت في الجزء الأول من الورقة التغييرات على صعيدي القانون والسياسة. سأتناول في هذه الورقة المجالين الآخرين.

العمل والاقتصاد

على الرغم من الطبيعة الدرامية للعديد من القوانين، من المهم ملاحظة أن أجندة الحكومة السوفياتية القصوى في السنوات الأولى التي تلت الثورة ظلت شديدة الطموح. منذ بدايتها، كانت الثورة مقيدة بالظروف الاقتصادية المتخلفة الموروثة من الإقطاع القيصري والحرب العالمية الكارثية؛ وكذلك من الحرب الأهلية المناهضة للثورة المدعومة من دول الحلفاء الامبريالية في أوروبا والولايات المتحدة؛ والحصار الاقتصادي المفروض على روسيا من دول الحلفاء الامبريالية. وكنتيجة لذلك، بحلول عام 1919 تراجع الانتاج الصناعي إلى ما يوازي خمس أعلى مستوى بلغه قبل الحرب. (1)

في أحسن الأحوال، يمكن للحكومة الثورية أن تحدد لنفسها المهمة الأولية المتجسدة بتقسيم الثروة المحلية المتراكمة بين ملاك الأراضي والرأسماليين. يمكن لهذا الإجراء توفير إغاثة فورية للسكان، لكنه لا يمنع الجوع وتعميم الحاجة لأطول من مجرد فترة وجيزة. لذلك كان البلاشفة مدركين تماماً أن النجاح النهائي للاشتراكية في روسيا يتطلب انتشار الثورة إلى الدول الرأسمالية الأكثر غنى في العالم، وبذلك يمكن لروسيا الحصول على مساعدة اقتصادية كبيرة واتفاقات تجارية أكثر عدلاً. إذا تعذر تحقق ذلك، فالشعب الروسي محكوم عليه البقاء بفقر نسبي أو يجد نفسه مرغماً بشدة على العودة إلى الطريق التي دافع عنها منتقدو البلاشفة المحافظين: أي العمل تحت وطأة برجوازية مهتمة بمراكمات الثروات عبر استغلال القوى العاملة. كما كتب إنغلز قبل وقت طويل حول حرب الفلاحين بألمانيا:

“أسوأ ما يمكن أن يصيب زعيم حزب جذري هو إجباره على تولي حكومة في وقت لم تكن فيه الحركة ناضجة بعد للهيمنة على الطبقة التي يمثلها ولإدراك الإجراءات التي تفرضها تلك الهيمنة. وهذا من شأنه أن يعني أن ما يهم لا يعتمد على إرادته إنما على حدة صراع المصالح بين الطبقات المتعددة وعلى درجة تطور وسائل الوجود المادية… وبذلك يجد نفسه من دون شك بمأزق. ما يمكن فعله هو على النقيض من أفعاله وما كان يمارسه حتى الآن، ومع كل مبادئه وكل مصالح الحزب الآنية؛ ما ينبغي عليه فعله لا يمكن تحقيقه. باختصار هو مجبر على تمثيل ليس حزبه أو طبقته، إنما الطبقة التي باتت ظروفها جاهزة للهيمنة”.(2)

لكن في الوقت الحالي، كانت الطبقة العاملة في روسيا مصممة بكل بساطة على التمتع بالنتائج المباشرة لانتصارها. فقد أدت تجربة الثورة نفسها إلى تشبع المجتمع الروسي بمشاعر تبدو لا حدود لها من الأمل والتضامن والرفاقية. كان الشعار وقتها أن رفاهية الجميع تتفوق على كل الاهتمامات الأخرى.

وبطبيعة الحال، إن إعادة تنظيم الاقتصاد سارت على أسس مستقاة من هذا المزاج المهيمن. بداية، حصل ذلك بشكل عفوي بحيث تولى العمال والفلاحون الأمور زمام المبادرة. لم ينتظروا المراسيم السوفياتية، إنما بكل بساطة بدأوا بتنظيم شؤون حياتهم مدركين أن السوفيتات- سوفيتاتهم- ستقنن أفعالهم دائما بعد حصولها. وتحقيقاً لذلك، عمّت الثورة موجة ضخمة من عمليات السيطرة على المصانع وأماكن العمل. وكذلك انخرطت الشرائح الدنيا من الفلاحين بعمليات الاستيلاء الجماعية لأملاك وقصور طبقة الأرستقراطيين.

بعد أن سيطروا على وسائل الانتاج سيطرة جماعية، بدأ العمال فوراً بتكييف سيرورة العمل وفق قدراتهم واحتياجاتهم ورغباتهم. وقد اتخذ ذلك الأشكال التالية: إبطاء وتيرة العمل؛ تخفيض دوام العمل؛ إعطاء الأولوية لاتخاذ احتياطات وتدابير السلامة؛ خلق دوامات عمل مستدامة ومرنة بشكل كبير؛ ممارسة المزيد من التحكم المباشر في سيروة العمل؛ السماح بمستوى كبير من المرونة في تقسيم العمل ضمن سيروة الإنتاج.

كان الوعد بإعادة التنظيم الاشتراكي للاقتصاد، كما كتب لينين في كانون الأول/ديسمبر 1917 إنما هو جذب “غالبية العمال إلى مجال عمل يمكنهم فيه إظهار قدراتهم، وكشف مواهبهم، بشكل كبير بين الآلاف والملايين الناس الذين سحقتهم الرأسمالية وقمعتهم وخنقتهم”.

كل مصنع طرد منه صاحبه الرأسمالي، أو جرى تحجيمه على الأقل من خلال سيطرة عمالية حقيقية، كل قرية طرد منها مالك الأراضي الاستغلالي وصودرت أراضيه، وباتت حقلاً يمكن للرجال استكشاف مواهبهم فيها، والتخفيف عن الأثقال التي أنهكت ظهورهم، والشموخ نحو الأعلى، والشعور بأنه إنسان”. (3)

بعد التغييرات الملموسة التي حققتها الثورة في المصانع، كتبت نادية كروبسكايا: “لقد تخلصت الثورة من التشبيح والشتائم التي كان يقولها أصحاب المصانع ومساعدوهم، وكان العمال سعداء بحصول ذلك، سعداء بالجلوس والتدخين عندما يتعبون دون أن يقودهم أي أحد. في البداية، أتاحت منظمات المصانع للعمال أن يشاركوا في كل أنواع الاجتماعات”، وتكمل حديثها بسرد قصة تجسد ما حصل في بداية 1918:

“أتذكر عاملة جاءت إلي ذات مرة في مفوضية التعليم لأخذ الشهادات وسواها. خلال حديثنا سألتها عن دوام عملها. لأنني اعتقدت أنها تعمل في النوبة الليلية، وإلا لما تمكنت من المجيء إلى المفوضية خلال النهار. فأجابت: لا أحد يعمل عندنا اليوم. فقد عقدنا اجتماعاً مساء أمس، لأن الجميع كن متأخرات بأعمالهن المنزلية، فقررنا التصويت على التوقف عن العمل اليوم. نحن الرؤساء اليوم، كما تعلمين”. (4)

جانب آخر من جوانب الثورة التي عبرت عن نفسها فوراً على مستوى الاقتصاد كان الرغبة بتحقيق المساواة بين كل قطاعات الطبقة العاملة، مثلاً، في وقت كانت النسبة في شهر آب/أغسطس 1917 بين أجور العمال المهرة وغير المهرة 1:2،32 بحلول العام 1920 أصبحت النسبة 1:1،04. (5) لاحظ المؤرخ مارسيل ليبمان أنه بالنسبة إلى لينين والحزب البلشفي، هناك استحالة في تحقيق المساواة الكاملة في الواقع، كان ينظر إلى الأجور على أنها “إحدى القيود التي فرضتها الأزمة وتخلف البلاد الاقتصادي، واعتبر لينين إعطاء الاختصاصيين معدلات رواتب تفضيلية هو ليس أقل من نكسة للثورة. في مسودة البرنامج الذي طرحه أمام المؤتمر الثامن للحزب [آذار/مارس 1919] كرر كاتباً: “هدفنا النهائي تحقيق الأجر المتساوي لكل أنواع العمل”. (6)

إن روح المساواة التي سيطرت عملية دمقرطة عملية الانتاج انطبقت كذلك عند تقاطعات أماكن العمل والجندر. مثلاً، أقامت بعض أماكن العمل غرفاً مجانية مخصصة للعناية بالأطفال لصالح الأمهات العاملات، في حين نظم البعض الآخر جداول يسمح للأمهات العاملات بالتغيب عن العمل لمدة تصل إلى ساعتين من يوم عملهن من أجل إطعام أطفالهن. (7)

ربما كان أشهر الامتيازات الجديدة التي تمتع بها العمال الروس هو قدرتهم على أخذ عدد غير محدود من أيام الإجازات المرضية المدفوعة الأجر والراحة من العمل. ولأن نظام الرعاية الصحية الثوري الجديد كان يديره العمال والمرضى في السوفيتات المحلية- ولأن النظام الصحي كان مجانياً وعالمياً وبعيداً عن إملاءات ربحية السوق ورأس المال- فأصبح الأمر سهلاً للعامل الذي يعاني من إصابة أو مرض الحصول على إذن من أقرب مركز صحي يعفيه لفترة زمنية من العمل أو الإفادة بضرورة تغيير عبء العمل أو سيره. (8)

بالإضافة إلى الإجازات المرضية المدفوعة الأجر، أصبحت روسيا الثورية كذلك الدولة الأولى في العالم التي يتمتع فيها كل العمال، دون استثناء، بالحق بإجازة سنوية مدفوعة تمتد من أسبوعين إلى 4 أسابيع. (9) أكثر من ذلك، اتخذت الحكومة السوفياتية إجراءات إضافية تمثلت بتسهيل التمتع بهذا الحق على نطاق شامل من خلال سيطرتها على القصور الساحلية الجميلة العائدة للبرجوازية والارستقراطية السابقة وفتحها أمام الفلاحين والعمال لاستعمالها مجاناً كمنتجعات علاجية وكبيوت جماعية للعطل. (10)

خارج الإطار المباشر للعلاقات المرتبطة بأماكن العمل، حصل عدد من التغييرات الاجتماعية الأوسع الجديرة بالملاحظة والتي حسنت من إمكانية الوصول إلى الحياة الاقتصادية والمدنية للكل. مثلاً، توفرت خدمات مهمة مثل النقل العام، والكهرباء، والبريد مجاناً للشعب وعلى حساب الحكومة. (11)

ومن التطورات المهمة الأخرى كانت الحملة الوطنية لإنشاء مطابخ جماعية، ومغاسل وحضانات للأطفال المجتمعية والمجانية؛ الهدف الأول من الحملة كان رفع العديد من مهام إعادة الانتاج عن كاهل العائلة بشكل عام، والعاملات بشكل خاص. وعلى الرغم من أن حجم هذه التجارب المجتمعية كان محدوداً للأسف بسبب القيود الاقتصادية الشاملة، لكن كان واضحاً أن من استفاد من تلك التدابير هن الامهات المعوقات وأمهات الأطفال المعوقين. كذلك، إلى جانب التنشئة الاجتماعية الشاملة وتعميم العديد من المهام المرتبطة بالحياة اليومية للأفراد، تمكن كل المعوقين من الحصول بسهولة أكبر على كل أنواع المساعدة الشخصية (أي المجتمعية) اللازمة لتحقيق التنمية الذاتية.

في نهاية الأمر، لا يمكن أن يكتمل الكلام لوضع القوى العاملة والاقتصاد في روسيا الثورية دون الاعتراف بالمتطلبات التي أعاقت التقدم. في نهاية عام 1918، كان التخريب والحصار الاقتصادي والحرب الأهلية الشاملة التي شنتها الطبقة الرأسمالية وداعميها من القوى الامبريالية الدولية جارياً على قدم وساق. بين عامي 1918 و1921، كانت المنطقة التي تسيطر عليها السلطة السوفياتية محاصرة. فعمت المجاعة والبطالة وانهار نظام السكك الحديدية الرابط بين المدن والريف. سميت هذه الفترة بالحرب الشيوعية (وهي تسمية خاطئة تماماً)، حيث توجهت كل القوى والموارد لدعم الثورة والدفاع عنها. في كثير من النواحي، مثل ذلك تراجعاً كبيراً (أو على الأقل منعطفاً حاسماً) عن مسار التنمية الديمقراطية والتعاونية والاشتراكية. وكما كتب تروتسكي في وقت لاحق: “كانت شيوعية الحرب هي نظام الحصن المحاصر”. (12)

في نهاية الحرب، بدأ تحالف الفلاحين والعمال، الذي جعل من الإطاحة بالقيصر أمراً ممكناً، بالانهيار نتيجة الندرة، والتعب من الحرب، والانهيار الصناعي. دفع انهيار نظام النقل العام واندلاع أزمة الحرب الأهلية الحكومة الجديدة إلى إرسال فرق من العمال والفلاحين الفقراء إلى الريف لمصادرة الحبوب بالقوة من أجل دعم الجيش الأحمر ووقف هجرة السكان من المدن. عام 1921، مع فشل الثورة الاشتراكية (على الأقل حتى تلك اللحظة) في الانتشار دولياً، أطلق البلاشفة سياسة اقتصادية جديدة (النيب)، التي تقوم على الإدخال المحدود لأشكال الاقتصاد الرأسمالي. وإذا كانت سياسة الحرب الشيوعية هي سياسة تراجعية، فكانت السياسة الاقتصادية الجديدة تراجعاً إضافياً. رغم ذلك، صوّرت تلك السياسة كتنازل ضروري لمطالب الفلاحين وحتى لشرائح من الطبقة العاملة، إضافة إلى الظروف الاقتصادية التاريخية المهيمنة في مجتمع معزول ومدمر ومتخلف.

مع مرور الـ 1920ات، شهدت السياسة الاقتصادية الجديدة عودة تدريجية للانتاج المخصخص، والسوق السلعي، وتحديد الأجور بحسب سوق العمل، وانعدام المساواة الاجتماعية والاقتصادية، والبطالة. وغالباً ما شعر البلاشفة الذين أداروا الحكومة خلال تلك الفترة أنهم رهائن لظروف خارجة عن إرادتهم في تنفيذهم سياسة النيب. على سبيل المثال، قال لينين، في مؤتمر الحزب عام 1922: “كان الأمر كناية عن سيارة لا تسير في الاتجاه الذي يريده السائق، إنما في الاتجاه الذي يريده شخص آخر؛ كما لو أنها كانت مدفوعة بيد غامضة، الله يعلم من، ربما يكون أحد المستفيدين، أو الرأسمال الخاص، أو الاثنان معاً”.(13)

عند التكفير في حدود وخصائص روسيا السوفياتية خلال تلك السنوات، يتعين علينا العودة إلى كارل ماركس، الذي كتب في إحدى كتاباته الأفضل شرحاً للشيوعية:

“بعد إزالة خضوع الفرد لعبودية تقسيم العمل، وبالتالي اختفاء التناقض بين العمل الذهني والجسدي؛ بعد أن أصبح الهدف من العمل ليس فقط وسيلة للحياة إنما حاجة الحياة الأولى؛ وبعد أن زادت قوى الانتاج كذلك مع التطور الشامل للفرد، وتزايدت ينابيع الثروة التعاونية بوفرة أكبر- عندها فقط يمكن تجاوز الأفق الضيق لليمين البرجوازي بأكمله، ويكتب المجتمع على راياته: من كل على قدر استطاعته إلى كل حسب حاجته!” (14)

رغم ذلك، إلى أي مدى كانت روسيا الـ 1920ات بعيدة عن مجتمع تتوفر فيه هذه الظروف. وكما كتب ماركس، “لا يمكن أبداً للبنية الفوقية السياسية أن تكون أعلى من البنية الاقتصادية للمجتمع وأن يكون تطوره مشروطاً بها”. (15) عندئذ سنكون مرغمين على العودة إلى التأكيد البلشفي الأساسي بأن الدولة العمالية التي بقيت معزولة في ظل روسيا المتخلفة لن تكون قادرة على انتاج مجتمع شيوعي لا طبقي حقيقي.

رغم ذلك، ينبغي الإشارة إلى أنه في بعض الجوانب الأساسية، بقيت التطلعات الاشتراكية الحقيقية للحكومة البلشفية والقطاعات الأكثر تقدماً من الطبقة العاملة واضحة حتى في سنوات التراجع والتفكك تلك. مثلاً، شهدت الـ1920ات، من بين عدة أمور، ظهور 3 منظمات مهمة للدفاع عن الإعاقة بتوجه عمالي والتي حظيت دعماً كبيراً من المعوقين والحكومة البلشفية.

فقد تأسست التعاونية الروسية للمعوقين، والاتحاد الروسي للمكفوفين، والاتحاد الروسي للصم خلال أعوام 1921 و1923 و1926 على التوالي. وبقدر ما كانت تلك المنظمات خاضعة لإدارة أعضائها وتحظى في الوقت عينه بدعم الحكومة، فقد كانت غير مسبوقة. في الواقع، اعتبرت التعاونية الروسية للمعوقين أول منظمة وطنية للدفاع عن المعوقين في التاريخ الحديث. (16) تأسست التعاونية مباشرة في كانون الأول/ديسمبر عام 1921 بتصويت من مجلس مفوضي الشعب.

كانت بنية التعاونية كناية عن منظمة شاملة للمعوقين. كانت القرارات تتخذ فيها بشكل ديمقراطي (في بداية الـ 1920ات كان ذلك ما زال مسموحاً به)، وانحصر التصويت فيها للمعوقين… ركزت التعاونية جهودها على توفير فرص عمل للمعوقين من خلال إنشاء خطوط انتاج خاصة بهم، وحضانات، ومنتجعات وعطل نقاهة، ومدارس مهنية ومراكز رياضية. (17)

إلى جانب الاتحادين الآخرين (اللذين عملا تحت إشراف مفوضية الخدمات الاجتماعية)، حددت هذه المنظمات أهدافاً لها لدمج المعوقين في المجتمع عبر مساعدتهم في العثور على “عمل مفيد اجتماعياً؛ ومساعدتهم على إكمال تعليمهم الثانوي والعالي والعثور على عمل ملائم وجذبهم إلى صفوف البناة الناشطين في المجتمع الشيوعي”. (18) واصفاً نشاطات الاتحاد الروسي للمكفوفين خلال أواسط الـ 1920ات كتب المؤرخ برنيس ماديسون: “بدأت الجهود بالتخلص من الأمية بين المكفوفين… مع ثورة ثقافية إلى حد ما. فتضاعفت النوادي ودور الثقافة والمكتبات. وطورت المدارس الليلية؛ وأصبحت المحفوظات متاحة”. (19) عن العمل مع الصم، كتبت الباحثة في دراسات الإعاقة سارة فيليبس: “بفضل الاتحاد الروسي للصم، والذي حظي بدعم موظفي الحزب، تمكن الاتحاد من رعاية تثقيف الصم وتحسين الوضع الاجتماعي للمعوقين”. (20)

الصحة والتربية

بالإضافة إلى (ونتيجة له) التدخل الامبريالي، وعنف الثورة المضادة، والتفكك الاقتصادي، فإن الحالة السيئة للصحة العامة لمجمل السكان ورفاههم قد وضع الحكومة السوفياتية الجديدة أمام أزمة ذات أولوية قصوى تتطلب اهتماماً مباشراً وكبيراً. خلال الحرب العالمية الأولى، أدت أوبئة مثل الكوليرا والتيفوس والإنفلونزا إلى وفاة الملايين من البشر، مع انتشار واسع للأمراض في كل روسيا. مع بدء الحرب الأهلية الروسية التي تلت الثورة، انتشرت موجات الأمراض من جديد بين صفوف الشعب الروسي. بالإضافة إلى ذلك، ازداد انتشار الأوباء بسبب الحصار الاقتصادي بين عامي 1917-1920 المفروض من قبل الدول الامبريالية على روسيا. لم يقتصر الأمر على الحصار الذي كان الأثر الكارثي المتمثل بمنع روسيا من استيراد المواد الغذائية اللازمة لوقف المجاعة المنتشرة في البلاد (السبب الأساسي للأوبئة)، إنما عنى ذلك أن روسيا كانت كذلك غير قادرة على استيراد الأدوية التي كانت بأمس الحاجة إليها والتي تساعدها على مكافحة هذه الأوبئة. (21)

بالنظر إلى الحمل الكبير للعقبات التي واجهها الثوار، فمن المثير للإعجاب حقاً أن الحكومة البلشفية كانت قادرة، قولاً وفعلاً، على جعل الأزمة الصحية أولوية مبكرة. كما ذكرنا سابقاً، الكثير من الطبقة المهنية بين الأطباء في روسيا- ما عدا الأطباء النفسيين- كانوا في البداية بعيدين عن دعم الثورة. لكن بعد الثورة، تغيّر ذلك بشكل كلي، ويعود ذلك بشكل كبير منه إلى اتخاذ البلاشفة سلسلة من الإجراءات الجريئة على المستويين الوطني والإقليمي. فقد بدأت الحكومة فوراً مركزة وتنسيق إنشاء نظام صحي عام ومجاني وشامل على نطاق واسع. بالفعل، أصبحت روسيا الثورية أول دولة في العالم تقيم مفوضية على المستوى الوطني للصحة العامة (أي إدارة عامة أو وزارة) في تموز/يوليو عام 1918.(22)

والجدير ذكره، أن مفوضية الصحة العامة تضمنت كذلك قسماً فرعياً للأمراض العصبية-نفسية كُلِّف بمركزة تقديم خدمات الطب النفسي للسكان؛ أعلنت البيانات الرسمية أن توفير مثل هذه الخدمات يمثل “أولوية عاجلة” للحكومة السوفياتية. كما جرى الاهتمام بشكل كبير من خلال هذا القسم الفرعي “بضحايا الحرب والثورة” (الجنود المصابين بما يسمى “الصدمة من القنابل” أو “المصابين بعصاب الحرب”) الذين تجاهلت أوضاعهم الحكومة السابقة، ولكن الحكومة الحالية تحملت كامل المسؤولية عن دعمهم وعلاجهم. (23)

لناحية علم الأوبئة، كانت إحدى الأعمال الهامة المبكرة لمفوضية الصحة العامة هو المساعدة على إنشاء لجان عمالية محلية لمكافحة الأوبئة في كل المناطق الرئيسية بروسيا، وتألفت من ممثلين منتخبين يعملون إلى جانب الهيئات السوفياتية المحلية. هنا ما كتبه مفوض الصحة العامة [نيكولاي سيماشكو] عام 1920، بعد وقف أسوأ موجة وبائية بنجاح:

“لا نبالغ إذا قلنا أن أوبئة مثل التيفوس والكوليرا قد أوقفت بشكل أساسي بمساعدة لجان العمال والفلاحين. ولكن لم يكن هذا كل شيء. لم تحل أي مشكلة مهمة دون مساعدة من العمال. كما نوقشت مسألة التدابير المنهجية لمكافحة الأمراض الاجتماعية، مثل السل والأمراض المتناقلة جنسياً، مع ممثلي النقابات العمالية، والمنظمات النسائية، ونقابات الشباب، وسواها. جرى تنظيم الحماية الصحية للعمال من قبل مفتشين خاصين جرى انتخابهم من بين العمال أنفسهم: كما جرى تنظيم مفتشي المنازل بنفس الطريقة”. (24)

يقدم المؤرخ ألكسندر روبينوفيتش صورة مفصلة ومثيرة في كتابه الموثوق البلاشفة في السلطة:

“[خلال] معركة السيطرة على وباء الكوليرا في بتروغراد عام 1918… تكثفت الجهود المحلية لتثقيف الجمهور لتجنب العدوى من قبل الأقسام الطبية في سوفيتات المقاطعات أو “ترويكات” تشكلت على عجل لمكافحة الكوليرا، بدعم من الاختصاصيين في علوم الأوبئة، وطواقم المستشفيات المحلية والصيادلة. كما أقامت الأقسام الطبية العديد من مراكز الإسعافات الأولية للكوليرا في الأحياء ومراكز التلقيح، والتي كانت تعمل على مدار الساعة، ساعية بكل جهد للقضاء على مصادر العدوى. شكلت مفوضية الصحة العامة لجنة طوارئ لمكافحة الكوليرا والتي أصبحت مركز تنسيق على نطاق المدينة لجهود مكافحة الكوليرا.

في ذروة الأزمة، اتخذت [لجنة الطوارئ] خطوات لوقف بيع الفاكهة في الشوارع من الباعة المتجولين، وتسهيل تبني سريع لإجراءات صحية وقائية طارئة من العمال، وتعبئة العمال لدفن عدد كبير من الجثث في المدافن. كان الصراع الطبقي المرتبط بالوباء بحده الأدنى ومفهوماً. طالب حفارو القبور المتعبون جداً في مقبرة أوسبينسكي بزيادة حصتهم من الخبز السيء النوعية. الأمر نفسه انطبق على عمال محطات المياه، وخاصة عمال المداخن الذين باتوا أنفسهم ضحايا الوباء بنسب عالية للغاية، فأصروا على إعطائهم حصة إضافية مساوية لتلك الممنوحة للعاملين في المجال الطبي والمواجهين لمخاطر كبيرة. وقد أحيلت المطالب إلى لجنة الطوارئ، ومن المفترض أنها لبّتها”. (25)

إلى جانب الإجراءات الطبية، أثبتت إحدى الإجراءات على وجه التحديد أنها كانت نعمة مهمة في مواجهة الأوبئة: التحسن المضطرد لظروف الإسكان للطبقة العاملة الروسية في السنوات التي تلت الثورة. أصبح ذلك ممكناً من خلال عمليات الاستيلاء الجماعية ومصادرة الممتلكات حيث جرى الاستيلاء على قصور وعقارات الطبقة الثرية- من بينها المباني والأديرة الفخمة التي كانت تملكها المؤسسات الدينية- وذلك بهدف توفير مساكن للمشردين، وبالأخص الأطفال والمراهقين المشردين والأيتام. (26)

جذبت هذه الفئة من السكان اهتماماً خاصاً ومستمراً من الحكومة السوفياتية الجديدة. سببت الحرب العالمية الأولى، والحرب الأهلية، والمجاعة والأوبئة بوفاة أعداد كبيرة من الأهالي حيث تركوا خلفهم أعداداً أكبر من الأيتام من دون وجود من يرعاهم. تشير التقديرات إلى أنه بحلول عامي 1921-1922 بات ما يقارب 7 مليون طفل في عداد جيش المشردين والأيتام والمهملين. (27) قبل الثورة، كان مثل هؤلاء الأطفال يرغمون على اللجوء إلى المؤسسات الرعائية الخاصة والدينية. لكن بعد الثورة، بات الأطفال برعاية رسمية من الحكومة السوفياتية نفسها. كانت تلك النقلة الجماعية للأيتام إلى رعاية الدولة مثلاً غير مسبوق في تاريخ العالم؛ ومن وقتها، باتت مسألة تلبية احتياجاتهم إلتزاماً عاماً بدلاً من أن تكون إحساناً خاصاً.

عانى عدد كبير من هؤلاء الأطفال من مجموعة واسعة من الإعاقات العقلية والجسدية، والتي لفتت انتباه عدد كبير من الإدارات السوفياتية. (28) مع بداية الـ 1920ات، أقامت الحكومة السوفياتية مرافق صحية وتعليمية خاصة بالأطفال المعوقين في كل عاصمة إقليمية في روسيا. (29) دراسة ظاهرة الإعاقة نفسها- وخاصة إعاقة الأطفال- لناحية علاقتها بالتعليم وعلم النفس وعلم الاجتماع، كان لها اهتماماً على أعلى المستويات داخل الأكاديميات والمجتمع المدني بشكل عام وذلك بمساعدة وتشجيع من الحكومة. كتبت المؤرختان جاين كنوكس وكارول ستيفنز:

“أدى الاهتمام بالأطفال المتروكين إلى افتتاح قسم خاص داخل مفوضية التربية سمي (الحماية الاجتماعية والقانونية للقاصرين). مع بداية عام 1923 (أي بعد أن وصلت المجاعة إلى ذروتها عامي 1921-1922)، عملت مؤسسات بتوجيه من وحدة الحماية الاجتماعية والقانونية للقاصرين إلى تحديد وإسكان وتعليم الأطفال الذين كانوا معوقين جسدياً أو “من الصعب تعليمهم”. كانت النتيجة للتركيز العام على التربية وإيلاء اهتمام خاص بالأطفال المتروكين زيادة لافتة في مرافق دراسة وتعليم المعوقين وتدريب المعلمين لهم”. (30)

اتخذت هذه الزيادة الملحوظة في الاهتمام الرسمي المخصص لطرق تدريس المعوقين أبعاداً غير مسبوقة داخل روسيا الثورية. أصبحت الحكومة السوفياتية أول الحكومات في العالم التي جعلت من التعليم الشامل للأطفال المعوقين- المعروف كذلك باسم “التعليم المتخصص”- مسألة سياسة عامة تديرها الدولة.(31)

قبل البدء بمناقشة كاملة للتربية المتخصصة بروسيا الثورية، من المفيد تحديد طبيعة ونطاق التحول الذي حصل في مجال التعليم العام. لطالما كان هدف محو أمية وتعليم أبناء الطبقة العاملة والفلاحية ركناً أساسياً في مقاربة البلاشفة للتحرر الذاتي للمضطهدين. بعد الثورة، تزايد هذا الطموح بشكل كبير، وبالفعل، ربما أكثر من المجالات التي جرى إصلاحها، لقي نظام التعليم تحوّلاً كبيراً في روسيا الثورية. كان لهذه التغييرات تأثير كبير على كل السكان، ولكن كانت ذات تأثير أكبر على الأشخاص الذين كان لديهم قدرات تعليمية أو معرفية متباينة.

كما ورد في ديباجة قانون التعليم الذي أصدرته الحكومة السوفياتية عام 1918:

“يجب أن تبقى الشخصية أعلى قيمة في الثقافة الاشتراكية. مع ذلك، يمكن لهذه الشخصية أن تطوّر ميولها بكل رفاهية ممكنة في مجتمع متناغم بمواطنيه المتساوين. نحن لا ننسى حق الفرد بتطوير ذاته. ليس من الضروري قطع شخصيته، أو خداعه، أو صبّه في قوالب حديدية، لأن استقرار المجتمع الاشتراكي لا يقوم على الثكنات، ولا على التدريبات المصطنعة، ولا على الخداع الديني والجمالي، إنما على أساس تضامن حقيقي للمصالح”.(32)

على المستوى الابتدائي، أقامت الحكومة السوفياتية تعليماً عاماً مجانياً ومختلطاً لكل الأولاد، فألغيت الواجبات المنزلية والدرجات والامتحانات العالية المخاطر. كلفت مجالس مدرسية منتخبة مؤلفة من المعلمين والطلاب والعاملين في المدارس (المستشارين…) بوضع المناهج وطرق التعليم. على مستوى التعليم العالي، ألغيت امتحانات القبول وباتت الجامعات مفتوحة أمام الجميع. على كل المستويات، كان يتم تشجيع الطلاب على التعلم وإنجاز المهام بالتعاون مع زملائهم، بدلاً من المنافسة التي كانت [وما زالت] السمة التي تميز التعليم الرأسمالي.(33)

كان هذا هو السياق الحيوي الذي تطور فيه نظام تعليم متخصص بروسيا. جرى التنظيم بمسعى مباشر من مفوضية التربية، بقيادة وتأثير كبيرين من الماركسي والمربي والمتخصص بعلم النفس، ليف فيغوتسكي. من المهم ملاحظة أن فيغوتسكي كان مؤهلاً للعب دور بارز في تعليم الأطفال المعوقين في روسيا، لأنه نفسه كان يعاني من الإعاقة. طوال شبابه، عانى من نوبات مزمنة من السل- المرض الذي أودى بحياته وهو ما زال بسن الـ 37. في الواقع، طوال سنوات الـ 1920ات التي كان فيها أكثر غزارة وتأثيراً في تشكيل سياسات الإعاقة السوفياتية، أدخل مراراً وتكراراً إلى المستشفيات حيث أمضى فترات متقطعة من الوقت غير قادر على العمل متقاضياً إعانات العجز الحكومية. (34)

قبل المضي قدماً في هذا القسم، ينبغي الكلام عن المصطلحات. كما تطورت في روسيا، كان الاسم الرسمي في مجال دراسات الإعاقة “علم العيوب” (أي كما هو الحال مع عبارة “عيب خلقي”…). للأسف نقلت هذه التسمية من معجم ماقبل الثورة، وقد جرت دراسات الإعاقة تحت هذا العنوان حتى حين كان مضمونها جذرياً. (35) بالنسبة لأي قارئ حديث، سيظهر استعمال فيغوتسكي لمصطلحات تعود لبداية القرن العشرين المتضمنة لمصطلحات شائعة مثل “متخلف” أو “معاق”. مع ذلك، ما يهم في أعمال فيغوتسكي ليست مصطلحاته، إنما أفكاره الجذرية التي سعى إلى تحققها.

مساهمة ليف فيغوتسكي

في صلب مقاربة فيغوتسكي للتربية المتخصصة كان هناك مبدآن عامان، مشتقان من اندماج التربية المجتمعية والفهم الماركسي للتطور المادي التاريخي للسلوك البشري الواعي. بداية، أكّد فيغوتسكي على أنه “في أي لحظة، يكون الطفل مليئاً بالإمكانيات غير المحققة، بحيث توفر ثروة من الموارد الإبداعية التي تمكن الطفل المعوق، أو أي طفل، من البناء عليها ويجب البناء عليها”. (36) ثانية، فقط من خلال التعاون مع الآخرين يمكن للطفل، سواء كان معوقاً أم لا، تطوير شخصية إنسانية وإمكانيات فريدة بشكل كامل: “ما هو مستحيل لشخص، ممكن لشخصين… ما هو مستحيل على نطاق التنمية الفردية يصبح ممكناً على نطاق التنمية الاجتماعية”. (37)

في خطاب ألقاه عام 1925 باسم مفوضية التربية في المؤتمر الدولي لتعليم الصم والمكفوفين، أوضح فيغوتسكي: “عندما يكون أمامنا طفل أعمى كهدف للتعليم، يجب علينا ألا نتعامل كثيراً مع العمى نفسه كما الصعوبات التي تظهر أمام الطفل عندما ينخرط بالحياة… بالنسبة للطفل الكفيف أو الأصم يمثل العمى أو الصمم الحياة الطبيعية وليس حالة المرض. إنه يشعر بالعجز فقط بشكل غير مباشر أو بشكل ثانوي، وكنتيجة لتجاربه الاجتماعية. إذاً ما الذي يعنيه فقدان السمع؟ يجب قبول أن العمى والصمم لا يدلان إلا على مجرد غياب وسيلة واحدة لتكوين روابط مع البيئة المحيطة”. (38)

بما خص الوضع بروسيا، يتابع فيغوتسكي:

“ربما لأول مرة في العالم تقريباً، تطور مدارسنا تجربة في التنظيم الذاتي للأطفال الصم. يؤلف الطلاب حكومة طلابية، تتألف من لجان صحية واقتصادية وثقافية، وسوى ذلك، التي كانت تهتم بكافة شؤون حياة الأطفال. المهارات المعيشية والسلوك الاجتماعي والمبادرات والصفات القيادية والمسؤولية الجماعية تنمو وتزداد قوتها في ظل هذا النظام. أخيراً، توج هذا النظام التربوي الاجتماعي بحركة شيوعية للأطفال، والتي يتعلم من خلالها الأطفال أن يروا أنفسهم مشاركين في الحياة على نطاق عالمي… [وبذلك] يعيش الأطفال الصم-البكم ويتنفسون مع بلد بأكمله. نبضه وجهوده وأفكاره تنبض بانسجام مع الجماهير”.(39)

إن أهمية إعادة صياغة مفهوم فيغوتسكي لـ”مشكلة” الإعاقة باعتبارها مسألة اجتماعية بالدرجة الأولى عميقة جداً. إذاً ما يسمى “مأساة” الإعاقة كان مصدرها ليس في أي عيب بيولوجي متأصل أو دونية من ناحية الفرد، إنما نشأت بسبب الظروف الاجتماعية، فيكمن التعالي كذلك في هذه الأخيرة. حيث أن ظاهرة الضعف الجسدي والعقلي هي سمة جوهرية للوجود البشري، فإن الظروف التاريخية والاجتماعية التي يضطر المعوقون على العيش في ظلها، هي بحكم التعريف، غير جوهرية. من وجهة النظر النظرية هذه، شعر فيغوتسكي بالثقة في توقع مستقبل غير بعيد حيث سيخجل “علم التربية من فكرة الطفل المعوق، ما يدل وجود خلل لا يمكن تغييره في طبيعة الطفل”.

تقع مسؤوليتنا التأكد من أن الشخص الأصم أو الكفيف أو المعوق عقلياً ليس معاقاً. عندها ستختفي هذه الفكرة، التي هي بحد ذاتها دليل على انعدام كفاءتنا. جسدياً، سيبقى العمى والصمم موجودين على الكرة الأرضية لوقت أطول، سيبقى الكفيف أعمى، والأصم أصماً، لكن سيتوقف عن أن يكون معاقاً لأن إعاقته ما هي سوى مفهوم اجتماعي، الحالة المعيبة هي امتداد غير طبيعي للعمى أو الصمم أو البكم. العمى في حد ذاته لا يجعل الطفل معاقاً. ليست حالة معيبة، أو عدم كفاية، أو شذوذاً، أو مرضاً، يصبح العمى ما سبق فقط في ظل ظروف اجتماعية أوجدت وجود الكفيف. (40)

كانت مقاربة فيغوتسكي من تعليم أولئك الذين يعانون من إعاقات فكرية أو معرفية أو غيرها من الصعوبات التعلمية بنفس الطريقة بالضبط. وانتقد المدرسين الذين أكدوا أن “هدف المدرسة [المختصة] لا يمكن أن يكون نفسه في [المدارس العامة] لأن المتخلفين عقلياً… لا يمكن لهم أن يكون بناة ومخترعي الحياة الجديدة”، وأن أكثر ما يمكن طلبه من هؤلاء الأطفال هو ألا “يمنعوا الآخرين من البناء”(41)، فردّ فيغوتسكي عليهم:

“في البداية، عندما واجهت المدرسة البرجوازية مسألة وواقع التخلف العقلي… حددت لنفسها أسباباً سلبية تتجسد بمنع الأطفال العاديين من الدخول إلى المدرسة، وبمساعدة هذا الحاجز، عملت على التخلص من هؤلاء الأطفال غير القادرين على التعلم هناك أو غير الراغبين بذلك. سيفهم أي شخص اليأس من إجراء الاختيار تبعاً للمؤشرات السلبية. إذا أجرينا هذا الاستبعاد، فإننا بذلك نجازف بعزل الأطفال ضمن مجموعة واحدة لا تشترك صفاتهم الإيجابية بأي شيء… [في الواقع] يتبين أنه من المستحيل تفسير التخلف العقلي وفقاً لتعريف سلبي. من المستحيل الاسترشاد إلى ما يفتقره طفل ما، وما لا يفتقره. إنما على العكس من ذلك، من الضروري أن يكون لديك بعض التصورات، حتى لو كان الفهم الأكثر إبهاماً، حول ما هي قدراته وما تمثله. في هذا السياق، ما أنجزته المدرسة البرجوازية كان قليلاً للغاية”. (42)

في المقابل، أشار فيغوتسكي إلى النتائج الإيجابية لنماذج التعليم التجريبية التي حصلت في روسيا. وقد استندت إلى “الطبيعة الاجتماعية للتعليم ودور الجماعة في تدريس الأولاد المتخلفين كثيراً”:

أظهر بحث جديد أن المجموعات الحرة للأطفال المتخلفين للغاية تتشكل بحسب مبدأ مثير للاهتمام. بالتالي… يميل الأولاد إلى تأسيس والدخول في مجموعات تتشكل من أفراد من مستويات فكرية متعددة… من الواضح أن عاملاً تربوياً كبيراً يتمثل بوجود أطفال من مختلف المستويات الفكرية داخل هذه المجموعات، وكذلك عبر تعاون الأطفال الذين يؤلفون المجموعة. في المجموعات الحرة… حيث لا يرى المشاركون أنفسهم كمجرد مجموعة بسيطة لها خصائص مميزة التي تميز الأطفال الفرديين، وحيث يكتسب كل عضو خصائص ومهارات جديدة، حيث كانوا يعيدون خلق أنفسهم بالكامل- في مثل هذه المجموعات الحرة، تظهر شخصية الأطفال الشديدي التخلف بصورة جديدة تماماً”.(43)

بكلمات أخرى، من خلال التعليم الاجتماعي على وجه التحديد، وفي نهاية الأمر الوجود الاجتماعي بشكل عام، لا يصبح المجموع فقط إنما كل فرد يكوّنه أكبر من نقاط الضعف والقوة الخاصة بذلك الشخص عندما ينظر إليه كفرد منعزل.

نفي الثورة

مع الأخذ بعين الاعتبار الموضوع الذي ناقشه فيغوتسكي بكل تفاؤل والتحول الذي أحدثته الثورة في ظروف وسياسات الإعاقة في روسيا. رغم ذلك، ينبغي الإشارة إلى أن القسم الأكبر من هذه المادة أخذناه من فترة زمنية قصيرة نسبياً، لا تقل عن 4 سنوات ولا تزيد عن 12 سنة. في الحقيقة، كما جرى توثيقه في أماكن أخرى على نطاق واسع، بحلول نهاية الـ 1920ات وبداية الـ 1930ات، أصبح النظام الاقتصادي والسياسي في روسيا تقريباً نفياً شاملاً لما جرى الحصول عليه في بداية سنوات ما بعد الثورة. (44) استبدلت سلطة العمال على المجتمع بسلطة الطبقة الحاكمة البيروقراطية التي مارست السلطة على العمال. هذا الشكل الستاليني من “الاشتراكية” يشترك في الواقع مع الكثير من السمات الكلاسيكية للتراكم الرأسمالي والاستغلال أكثر مما يشترك مع الملكية الجماعية الديمقراطية لوسائل الانتاج بحسب تصوّر ماركس.

ونظراً إلى أن التقدم المبكر في تحرير المعوقين قد سار على قدم وساق مع تقدم الثورة الروسية في تجاوزها الكلي للعلاقات الرأسمالية، لا ينبغي أن يكون مفاجئاً أن التراجع والهزيمة النهائية للثورة تسبب كذلك في التراجع والقمع الجماعي لكل ما يتعلق بالإعاقة. وقد بدأت المعالم الأولى السبية لهذا الديالكتيك بالظهور مع بداية الـ 1920ات، بغض النظر عن العوائق الاقتصادية البحتة التي جرت مناقشتها فيما سبق، أدى المناخ التشددي للسياسة الاقتصادية الجديدة إلى فرض قيود جديدة داخل المجتمع المدني بشكل عام.

فأدخلت ضوابط الهجرة الأولى خلال هذه السنوات، حيث سمح فقط لأولئك القادرين على تأمين وظيفة قبل هجرتهم. (45) كما استبدل نظام الصحة العامة المجانية بنظام آخر كان على المواطنين من جديد الدفع لقاء الحصول على الخدمات الصحية. (46) عام 1926، وهي الفترة التي بدأ بها ستالين (والطبقة البيرقراطية الحاكمة المزدهرة التي يمثلها) بممارسة الهيمنة السياسية على المجتمع من خلال عقيدة الدولة الرسمية لبناء “الاشتراكية في بلد واحد”، وكما بدأت باتخاذ إجراءات لتحسين النسل. مثلا، نصّ القانون المدني المعدل في تلك السنة على تدابير لمنع زواج بين الأقارب وكذلك الأشخاص الذين يصنفون رسمياً بأنهم غير مؤهلين عقلياً. (47)

في نهاية الأمر، تظهر تجربة انهيار الثورة الروسية أنه حتى الدولة العمالية الديمقراطية لا يمكنها الانخراط طويلاً بمهمة تنظيم وحتى تشجيع تطوير العلاقات الاجتماعية الرأسمالية (على العكس من إلغائها)، قبل أن تنعكس الأدوار؛ فالعلاقات الرأسمالية تحدد طبيعة الدولة وليس العكس. بالفعل، لهذا السبب، والعوامل المتصلة به، تمكنت الطبقة الحاكمة الجديدة من الظهور في نهاية الـ 1920ات تحت قيادة جوزف ستالين، واستبدلت بعنف الرأسمالية التي تنظمها الدولة العمالية بمجرد رأسمالية الدولة.

وبذلك، مع حلول عام 1928 وما تلاها، بدأت الحكومة الستالينية بأولى “الخطط الخمسية” المتعددة لتقوية الأمة، والقضاء تماماً على كل مظاهر الاشتراكية الديمقراطية وسلطة العمال. أصبح الهدف الصريح للحكومة التي يقودها الحزب الشيوعي التصنيع السريع وتطوير الاقتصاد الروسي بأي ثمن بهدف التنافس مع الدول الرأسمالية القوية في الغرب. تحملت الطبقة العاملة والفلاحية بشكل عام، والمعوقين بشكل خاص، العبء الكامل للمنافسة الشديدة والخطيرة الناجمة عن ذلك والتي سببتها الخطط الخمسية وتراكم رأس المال. وفي وقت كان اضطهاد المعوقين في المجتمعات الرأسمالية مرتبطاً بتقييم الناس تبعاً لربحية عملهم المنتج للسلع، نجد أن الضرورة المماثلة التي فرضت نفسها كانت لافتة للنظر في روسيا في ذات الفترة.

من ناحية أخرى، أصبح الدفع بالقطعة بحيث يتم التعويض على العمال وفق ناتج عملهم منتشراً في كل الصناعة الروسية مع العمال ذوي الأداء الضعيف الذين واجهوا مخاطر الصرف من العمل بموجب إجراءات مختصرة. (48) أدى ذلك إلى نشوء فجوة في الأجور بين الشرائح العمالية وصلت إلى نسب غير مسبوقة. عام 1928، كانت النسبة بين الأجور الأعلى والأدنى 3:1، ولكن مع حلول عام 1940، زادت النسبة لتصبح 30:1. (49) أكثر من ذلك، من الممكن تقدير الخسائر بين العمال من خلال تزايد سريع في معدلات الاستغلال، بسبب عدم وجود أرقام دقيقة. في حين قبل عام 1928، جرى توثيق كل ما يتعلق بمعدلات الحوادث المهنية والإصابات في كل روسيا (من بينها أعداد المعوقين)، عام 1933، توقفت الحكومة بكل بساطة عن نشر الأرقام الإجمالية للحوادث الصناعية أو الإعاقات المهنية، إضافة إلى أرقام المعوقين. (50)

من ناحية أخرى، تعرض من تواجد على أطراف أو خارج القوى العاملة لسبب أو لآخر إلى إجراءات استبدادية مماثلة. أصبح الآن التغيب عن العمل لمدة ثلاثة أيام في أي شهر عرضة للطرد الفوري دون سابق إنذار؛ وجرى تحديد تقديمات الضمان الاجتماعي حسب نوع وطول العمل؛ كما حددت مخصصات العجز المؤقت وفق تاريخ العامل (أي بحسب انتاجيته وانضباطه السابق على الإصابة)؛ كما ألغيت مخصصات الإعانة للعاطلين عن العمل إلا في حالات غير واضحة من العجز “الخطير”؛ كما قلصت إجازة الأمومة المسموح بها. (51)

إذا كان التضامن والوعي الطبقي التعاوني كانا شعار الفترة الثورية، فتميزت فترة الثورة المضادة بالأنانية والفردية والكراهية. مثلاً، بهدف زيادة الانتاجية اتخذت إجراءات عقابية ضد المتغيبين و”الكسالى”، زاد المديرون الستالينيون بنشاط العداء التنافسي بين العمال من خلال تثبيت “ألواح حمراء” وأخرى “سوداء” في مراكز العمل. تضمنت الأولى أسماء العمال الأكثر انتاجية؛ والثانية تضمنت الآخرين. أكثر من ذلك، جرى تشجيع العمال على تقديم اتهامات علنية ضد زملائهم من خلال الألواح السوداء. وقد لاحظ كاتب أميركي جال في المصانع الروسية عام 1933 محتويات الألواح السوداء. في أحد المتاجر، جرى رسم صورة كاريكاتورية لعاملة إلى جانبها لائحة اتهامية: “لماذا تتغيب الرفيقة أرانوفا وفق إجازات مرضية ولا تعمل كبقيتنا؟” في متاجر أخرى، جرى عرض صور ساخرة على طاولات العمل لأولئك المعاقبين من جانب إدارة المصنع لأنهم من المدمنين على الكحول. في الواقع، أشار المؤلف إلى أنه في كل مصنع زاره وجد على جدرانه ألواحاً تضمنت أسماء وصور العمال الذين عولجوا مؤخراً من الإدمان على الكحول. (52)

إلى جانب الانتاج الاقتصادي، عانى قطاعا التربية والصحة كذلك بشكل كبير في الثورة الستالينية المضادة. عام 1930 صدر مرسوم ألغى كل ما تبقى من نظام الرعاية الصحية الشاملة الذي كان يضمن للروس المساواة في الوصول إلى الموارد الطبية. بدلاً من ذلك، جرى تقنين الخدمات الطبية وفقاً لفئات محددة مسبقاً، فتمتع العمال في القطاعات الأكثر انتاجية بأولوية عالية، في حين حظي الفلاحون ومن كان خارج القوى العاملة بأولوية أدنى. (53) في السنة التالية، صدر مرسوم بإلغاء التعليم المتخصص. (54) أقصى النظام الستاليني مفوضَي التعليم والصحة- البلشفيين والصديقين المقربين من لينين- كشرط مسبق لإجراء التغييرات الجارية.(55) أخيراً، صدر مرسوم عام 1936، أدان على وجه التحديد ومنع بشكل أساسي فلسفة وأساليب وأعمال ليف فيغوتسكي وزملائه.(56)

باختصار، كل التقدم الذي حققته الطبقة العاملة خلال الثورة من خلال البدء بإزالة الطبيعة الاغترابية والقمعية والاستغلالية للعلاقات الاقتصادية الرأسمالية قد تلاشت حتى تتمكن الطبقة الحاكمة الستالينية من تحقيق تراكم رأس المال والتطور الصناعي. في هذا الصدد كانت ناجحة من دون شك. ارتفع الناتج الصناعي لروسيا من 6،9 بالمئة من إجمالي الناتج الصناعي في الولايات المتحدة عام 1928 إلى ما نسبته 45،1 بالمئة عام 1938. (57) مع ذلك، كما جرى توثيقه على نحو واسع، كانت التكلفة البشرية هائلة بسبب الثورة الصناعية إذ بلغت الملايين من الضحايا. أكثر من ذلك، تطلبت الثورة الصناعية المضادة للطبقة الحاكمة الستالينية ثورة مضادة سياسية متوحشة إرهابية. مع نهاية الـ 1930ات، أشرف ستالين على قتل أو سجن أو نفي غالبية قادة وأعضاء الحزب البلشفي الأصليين. (58)

الخلاصة

ما زالت ثورة عام 1917 الروسية- على الرغم من الأحداث اللاحقة التي نسفتها- معلماً تاريخياً لا يقدر بثمن على حيوية الثورة الاشتراكية. خاصة، فقد مثلت تقدماً نوعياً في تحرير المعوقين مقارنة مع ما شهدته دول العالم الحديث قبل الثورة أو حتى بعدها. وبقدر ما ارتبط تحرير المعوقين ارتباطاً وثيقاً بتحرير مجمل المضطهدين والمستغلين من قيود الرأسمالية، كانت الثورة الروسية لا مثيل لها في الحالتين. وسط أكثر الظروف صعوبة وتراجع الوسائل، قبضت الطبقة العاملة والمضطهدة في روسيا على مصيرها الجماعي- وإن لفترة وجيزة- وأثبتت للعالم أن شكلاً آخر للوجود الإنساني ممكن. جرى خنق هذا الاحتمال بشكل مأساوي بسبب فشل الثورة الأوروبية.

كتب الصحافي والكاتب البريطاني آرثر رانسوم، خلال قيامه بجولة في روسيا عام 1918: “من المحتمل فشل الثورة. إذا كان الأمر كذلك، لن يعني فشلها أنها تفقد أهميتها… دع الثورة تفشل. لا همّ. فقط لو علم الناس في أميركا، وبريطانيا وفرنسا وألمانيا سبب فشل الثورة ومن خانها ومن قضى عليها. لا يعيش الإنسان بأفعاله بقدر ما يحيا الهدف من أفعاله. لقد رأينا تحليق النسور الشابة. لا شيء يمكن أن يدمر هذه الحقيقة، حتى لو تساقطت، في وقت لاحق من اليوم، النسور الواحدة تلو الأخرى، بأجنحة مكسورة”. (59)

بعد مرور 100 سنة، أصبح المجتمع الرأسمالي الحديث حاملاً أكثر من أي وقت مضى لإمكانية تحقق الاشتراكية- ومعها تحرير حقيقي للمعوقين. إن الحجم الهائل للثروة والتكنولوجيا والاتصالات العالمية التي تحققت طوال قرنين من التطور الرأسمالي العالمي يكفل ذلك. بدلاً من زيادة ثروات القلة واستغلال الكثيرين، يمكن استعمال المنتجات الكبيرة للعمل البشري المتراكم لضمان التطور الحر للإنسان. يمكن تغيير دوام العمل، وتقصيره وقسمته بشكل أكثر عدلاً، وتكييفه مع الحاجات وقدرات العمال الحقيقية. يمكن استعمال التكنولوجيا في كل مرحلة من مراحل الانتاج وفي كل أنحاء المجتمع لتحقيق منفعة الجميع، وليس مجرد تسريع التصنيع الشامل للسلع وتحقيق التمتع الشخصي لمن يتمكن من دفع التكاليف. مع إزالة دوافع التنافس لتحقيق الربح من المعادلة، يمكن للبشر إعادة ترتيب شؤونهم الاجتماعية وفق مبادئ التضامن والتعاون والرفاهية للجميع. يمكن الجمع بين نقاط قوتنا وضعفنا الفردية بحيث يكمل الأول الثاني، بدلاً من تعارضهما بشكل هدام.

ونتيجة التقدم الباهظ الكلفة للتطور الرأسمالي، تمكن البشر من الطيران، على الرغم من عدم وجود أجنحة لدينا؛ وتمكن من الغوص إلى أعماق البحار، على الرغم من عدم وجود خياشيم لدينا؛ ونقل الجبال، على الرغم أحجامنا الهشة؛ وتمكن من احتساب كميات هائلة من المعلومات بسرعة البرق، على الرغم من بطء أدمغتنا مقارنة بالحواسيب. باختصار، من الواضح أنه لدينا القدرة على التقدم أكبر بكثير من مستوى إمكاناتنا العضوية. ومع ذلك، وفي الوقت عينه، حددت العلاقات الرأسمالية أن البشر من بين الأغلبية المضطهدة المفتقرين قدرات جسدية أو عقلية محكوم عليهم البقاء غارقين في مستوى شخصي أقل بكثير من مستوى إمكاناتهم الاجتماعية. إن هذا التناقض، هذا الخنق غير اللازم للناس، يشكل مأساة حقيقية للإعاقة. أي إن مشكلة الإعاقة هي مشكلة تاريخية بنيوية، وليس سوء تكيّف فردي أو سوء حظهم. وبالتالي، فإن مصير المعوقين في العالم الحديث يعتمد على قدراتنا الجماعية على التغلب على الرأسمالية أكثر بكثير مما يعتمد على قدرة المعوقين على التغلب على أنفسهم.

الهوامش:

Marcel Liebman, Leninism Under Lenin (London: Merlin Press, 1980), 347. For a brief summary of the devastating impact of the civil war and blockade on Russia’s economy, the peasantry, and its working class, see E. H. Carr, The Bolshevik Revolution, 1917–1923, vol. 2, 194–99 and Tony Cliff, “War communism,” in Lenin: Revolution Besieged (Chicago, Haymarket Books, 2014), also available at Marxist Internet Archive https://www.marxists.org, hereafter cited as MIA.
Frederick Engels, “The Peasant War in Germany,” in Marx-Engels Collected Works,
vol. 10 (Moscow: Progress Publishers, 1978), 469–470.
V. I. Lenin, “How to Organize Competition,” December 24–27, 1917, Collected Works, vol. 26 (Moscow: Progress Publishers, 1975), 404–415 also available at MIA.
Nadezhda Krupskaya, Reminiscences of Lenin (New York: International Publishers, 1970), 460–461.
Liebman, Leninism Under Lenin, 352–353.
Ibid.
Kevin Murphy, Revolution and Counterrevolution: Class Struggle in a Moscow Metal Factory (Chicago: Haymarket Books, 2007), 124.
Sally Ewing, “The Science and Politics of Soviet Insurance Medicine,” in Susan Gross Solomon and John F. Hutchinson, eds., Health and Society in Revolutionary Russia (Bloomington, IN: Indiana University Press, 1990), 69–96.
Arthur Ransome, Six Weeks in Russia in 1919 (London: George Allen & Unwin, 1919), 117.
Nikolai Semashko, “The Work of the People’s Commissariat of Health,” Soviet Russia, vol. 3, no. 2 (September 18, 1920), 278 Arthur Newsholme and John Adams Kingsbury, Red Medicine: Socialized Health in Soviet Russia (New York: Doubleday, 1933), 253–259.
Liebman, 352.
Leon Trotsky, First Five Years of the Communist International, vol. 2 (London: New Park Publications, 1953), 266.
Lenin, “Speech in the Opening of the Congress, March 27,” Collected Works, vol. 33 (Moscow: Progress Publishers, 1965), 238.
Karl Marx, “Critique of the Gotha Program,” Marx-Engels Collected Works, vol. 24 (Moscow: Progress Publishers, 1989), 87.
Ibid.
Roddy Slorach, A Very Capitalist Condition: A History and Politics of Disability (London: Bookmarks, 2015), 127.
L. N. Indolev, “A Brief Historical Account of the Disability Movement in Russia,” Disability World 3 (June–July 2000).
Bernice Madison, “Programs for the Disabled in the USSR,” in William McCagg and Lewis Siegelbaum, eds., The Disabled in the Soviet -union-: Past and Present, Theory and Practice (Pittsburgh: University of Pittsburgh Press, 1989), 176–177.
Ibid., 177–178.
Sarah D. Phillips, “‘There Are No Invalids in the USSR!’ A Missing Soviet Chapter in the New Disability History,” Disability Studies Quarterly 29, no. 3 (2009).
Semashko, “The Work of the People’s Commissariat of Health,” 276-277.
Semashko Neil B. Weissman, “Origins of Soviet Health Administration: Narkomzdrav 1918–1928” in Solomon and Hutchinson, eds., Health and Society in Revolutionary Russia.
Irina Sirotkina, “The Politics of Etiology: Shell Shock in the Russian Army, 1914–1918,” in Angela Brintlinger and Ilya Vinitsky, eds., Madness and the Mad in Russian Culture (Toronto: University of Toronto Press, 2007), 128.
Semashko, 277.
Alexander Rabinovitch, The Bolsheviks in Power (Indianapolis: Indiana University Press, 2007), 257–258.
Weissman, “Origins of Soviet Health Administration,” 106–107 Liebman, 346 Lenin, “To A. V. Lunacharsky,” March 1920, Collected Works vol. 44, 366a, MIA.
Jennie A. Stevens, “Children of the Revolution: Soviet Russia’s Homeless Children (Besprizorniki) in the 1920s,” Russian History/Histoire Russe, vol. 9, pts. 2–3 (1982), 246.
Jane Knox and Carol B. Stevens, “Vygotsky and Soviet Russian Defectology: An Introduction,” in Robert W. Rieber and Aaron S. Carton, eds., The Collected Works of L. S. Vygotsky, vol. 2: The Fundamentals of Defectology (New York: Springer Science + Business Media, 1993), 3.
Semashko, 278 Lenin, “The Prosecution of Minors: Notes and Amendments to the Draft Decree,” March 4, 1920, MIA William McCagg, “The Origins of Defectology,” in The Disabled in the Soviet -union-, 28–30.
Knox and Stevens, “Vygotsky and Soviet Russian Defectology: An Introduction,” 3.
Knox and Stevens, 2–3 Vygotsky, “Principles of Social Education for the Deaf-Mute Child,” 1925,Collected Works of Vygotsky (hereafter cited as CWV), 120–121 McCagg, “The Origins of Defectology,” 28–29 John Parrington, “All in the Mind,” Socialist Review 176 (June 1994).
Cited in Chanie Rosenberg, Education and Revolution: A Great Experiment in Socialist Education (London, 1972), MIA.
Megan Behrent, “Literacy and Revolution,” in Jeff Bale and Sarah Knopp, eds., Education and Capitalism: Struggles for Learning and Liberation (Chicago: Haymarket Books, 2012), 233–241 Liebman, 330–331 Rosenberg, Education and Revolution.
Ibid., 3 Commentary on Vygotsky’s notebook from the Zakharino Hospital (1926) in E. Zavershneva, “The Key to Human Psychology,” Journal of Russian and East European Psychology 50, no. 4 (July–August 2012).
McCagg, 28–29.
This is not a -dir-ect quote from Vygotsky, but rather an eloquent summation of Vygotsky’s thought proffered in Knox and Stevens, 13.
Vygotsky, “Introduction to E. K. Gracheva’s book, The Education and Instruction of Severely Retarded Children,” 1932, in CWV, 219.
Vygotsky, “Principles of Social Education for the Deaf-Mute Child,” in CWV, 111.
Ibid., 120.
Vygotsky, “The Psychology and Pedagogy of Children’s Handicaps,” 1924, in CWV, 83–84.
A.S. Griboedov, “Pedological Work and the Auxiliary School,” The New School no. 2 (1926), 99, cited in CWV, 49.
Vygotsky, “Compensatory Processes in the Development of the Retarded Child,” 1931, in CWV, 122–123.
Emphasis added. Vygotsky, “Introduction to E. K. Gracheva’s book,” 217.
Tony Cliff, State Capitalism in Russia (London: Bookmarks, 1988) Anthony Arnove, ed., Russia: From Workers’ State to State Capitalism (Chicago: Haymarket Books, 2003) Leon Trotsky, The Revolution Betrayed (1937), MIA.
Yuri Felshtinsky, “The Legal Foundations of the Immigration and Emigration Policy of the USSR, 1917–27,” Soviet Studies 34, no. 3 (July, 1982): 332.
Samuel C. Ramer, “Feldshers and Rural Health Care in the Early Soviet Period,” in Solomon and Hutchinson, eds., Health and Society in Revolutionary Russia, 132.
Nikolai Krementsov, “Eugenics in Russia and the Soviet -union-,” in Alison Bashford and Philippa Levine, eds., The Oxford Handbook of the History of Eugenics (New York: Oxford University Press, 2010), 413–429.
N. I. Sinev and I. F. Engel, “Promyshlennyi travmatizm v SSSR,” Gigiena, bezopasnost i patologiia truda no. 3 (1929), 65, cited in Lewis H. Siegelbaum, “Okhrana Truda: Industrial Hygiene, Psychotechnics, and Industrialization in the USSR,” in Health and Society in Revolutionary Russia (hereafter cited as HSRR), 229–230.
Cited in Boris Meissner, “Social Change in Bolshevik Russia,” in Boris Meissner, ed., Social Change in the Soviet -union- (Notre Dame, Ind.: Notre Dame Press, 1972), 44.
McCagg and Siegelbaum, eds., The Disabled in the Soviet -union-, 89–90, 283.
Vicente Navarro, Social Security and Medicine in the USSR: A Marxist Critique (Lexington, MA: D.C. Heath and Company, 1977), 42–43
Newsholme and Kingsbury, Red Medicine, 44, 49–50, 104–107, 135.
Christopher Davis, “Economics of Soviet Public Health, 1928-1932,” HSRR, 154–157, 160.
Knox and Stevens, 6–7.
Susan Gross Solomon, “Social Hygiene and Soviet Public Health, 1921–1930,” HSRR, 189.
Knox and Stevens, 7–8.
Alexander Gerschenkron, “The Rate of Growth in Russia,” Journal of Economic History no. 7, supplement (1947), 161, 166, cited in Navarro, 37.
Roy Medvedev, Let History Judge: The Origins and Consequences of Stalinism (London: Macmillan, 1972), 234–239.
Arthur Ransome, “A Letter to America (May 1918),” in Radek and Ransome on Russia (New York: Socialist Publication Society, 1919), MIA.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اعتقال موظفين بشركة غوغل في أمريكا بسبب احتجاجهم على التعاون


.. الأمم المتحدة تحذر من إبادة قطاع التعليم في غزة




.. كيف يعيش اللاجئون السودانيون في تونس؟


.. اعتقالات في حرم جامعة كولومبيا خلال احتجاج طلابي مؤيد للفلسط




.. ردود فعل غاضبة للفلسطينيين تجاه الفيتو الأمريكي ضد العضوية ا