الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عبد الحميد أشهبار، المعلم الأول

عبد المجيد السخيري

2022 / 2 / 19
سيرة ذاتية


لا تذهبوا بعيدا. فليس عن أرسطو، الحكيم اليوناني الذي تباهى به الفلاسفة المسلمون الأوائل وخلعوا عليه لقب المعلم الأول، سيجري الكلام، بل عن معلمي الأول الذي لا يقل شأنا عنه ولا عن المربين والمعلمين الكبار الذين نُدين لهم بالكثير ممّا بلغنا من العلم والمعرفة والنباهة والتفطّن، من حيث الفضل والأهلية التربوية، ما جعل مكانته عندي كمربي ومعلم تترسّخ أكثر مع مرور الزمن، حتى دون المقارنة مع الجيل الجديد من المربين والمعلمين في المدارس العمومية. وقد لا يفيد بعضكم في شيء قراءة سطور أخُطّها للذكرى عرفانا لمعلمي الأول الذي رحل عن هذه الدنيا دون أن أتمكن من إلقاء نظرة الوداع الأخيرة، وقد بلغني الخبر متأخرا فهزّتني وفاته هزّا بعد سنين طويلة ظللتُ أحمل صورته في داخلي وأردّدُ اسمه كلما سنحت لي المناسبة، أو اقتضى المقام، أو طال الحديث مع الأصدقاء إلى أيام الطفولة الأولى ذكريات المدرسة والقرية، دون أن أفلح أبدا في التخفّف من عبئ الصور المتراكمة في ذاكرتي عن ذلك الشاب الريفي الوسيم (أو هكذا ارتسمت صورته في ذاكرة الطفل الذي كُنتُه) الذي خطا بي أولى الخطوات على درب مسيرة طويلة من التحصيل الدراسي والشغف المعرفي الذي لم يتوقف إلى اليوم، وهو أول من أُدين له باندفاعي إلى معترك الحياة الدراسية بحماس كبير وأحلام عريضة. فقد كان الأستاذ الذي فتح أمامي من حيث لا أدري الباب الأولى لولوج عالم المدرسة دون خوف ولا تردّد، بينما كانت المدرسة المغربية حينها تعجُّ بغير قليل من مظاهر التنفير والتكريه بسبب الأساليب العتيقة في التدريس ومناهج التلقين التقليدية التي كانت سائدة آنذاك، والإفراط في الضبط واستعمال غير مُعقلن للحزم، بل وتجاوزه في أحيان كثيرة إلى العنف الصريح والضرب المبرح، مع أنها، ويالمفارقة، أنجبت جيلا من المتعلمين لا يُعوض، مقابل ما نشهده ونعيشه اليوم من تدنّي وانحدار غير مسبوق، برغم مساحيق التجديد التربوي واستيراد المناهج الحديثة، وتجريب مفرط ومتكرر لأساليب التدريس المبتكرة من أحدث الجامعات وكليات التربية في الغرب الأوروبي أو الأمريكي. من حسن حظي أنّي حظيتُ بأول سنة دراسية تحت رعاية مربي ومُدرس من نوع مختلف تماما عن مُدرسي ومُربيي جيله، بشوش ومعطاء ومرن في طريقه تعليمه، وعلى ما أذكر أنه كان متقدما على زمنه بتجاوز المنهاج الدراسي القائم على التلقين، بحيث لم يكن يلجأ إلى التأديب إلا في حالات نادرة لا أكاد أذكر واحدة منها اليوم، وهو ما جعلني أُقبل على المدرسة بحب ولهفة لم تكن معهودة لدى أبناء وبنات جيلي، خاصة في المرحلة الابتدائية. ورغم أني في الواقع لم أتعرّض طيلة مساري الدراسي للتعنيف، إلا مرة واحدة ظُلما على يد مُدرس "تطواني" لا زلت أذكر اسمه وملامحه جيدا، فقط لأني توقّفت لأخذ نفس في السطر الأخير من سورة قرآنية("سبّح")، وهي ثالث سورة كنا نستظهرها وقوفا أمام السبورة بسرعة البرق، وكنت على يقين مسبق بأنه كان يتصيّد الفرصة لضربي لأسباب كنت أدركها رغم حداثة سني، وأتحفّظ عن ذكرها لأنها لم تعد مهمة(وقد أتفهّم اليوم سلوكه الغريب بلا ضغينة)، رغم أني كنت الأول على الصف، وذلك لأنّي صرتُ على دراية تامة بصعوبة عقلنة السلوك التعليمي في ظل نظام تعليمي غير منصف، تقليدي ومنخور من الداخل، يضغط على المدرسين ويضعهم في موقف انفعالي دائم، وقليلون فقط هم من استطاعوا تحمّله وتجاوز مثبطاته. أمضى الفقيد عبد الحميد أشهبار سنة واحدة في مجموعة مدارسنا ثم انتقل بعدها إلى العمل بمنطقة أخرى لم يتسنّ لي معرفتها بحكم السن، ولا نجحتُ في تعقُّب أثره سنوات بعد ذلك رغم سؤالي الدائم عنه عند من أصادف ممن يحمل اسمه العائلي، وكان قد أُسند له المستوى الأول("القسم التحضيري" كما كان يُعرف في النظام القديم) بقسم منفصل عن المركب المدرسي (دوار "اعماير")، وهو القسم الوحيد الذي كان آنذاك موجودا خارج مركب المجموعة المدرسية على كامل تراب الجماعة، علاوة على قسم آخر بمدخل السوق الأسبوعي، حيث جميع تلاميذ "القبيلة" يتابعون دراستهم بأقسام المدرسة المتواجدة بمركز الجماعة، وهي بناية اسبانية كانت في عهد الاستعمار الاسباني مدرسة لتكوين الضباط العسكريين بحسب المعلومات الرائجة، وقد تعرّضت منذ سنوات عديدة للإهمال وطالها التخريب والتشويه بسبب عبث ولامبالاة المنتخبين المتعاقبين على تسيير الجماعة الترابية، مثلما طال التدمير في النهاية البناية التي احتضنت القسم الأول الذي درستُ فيه، وكذلك البرج العسكري المحاذي للسكنية الملتصقة بالقسم، إثر قرار أهوج للسلطات الإقليمية، وهو نفس ما طال آثار اسبانية أخرى بمحيط المركز الجماعي و موقع السوق الأسبوعي.
عندما أُتيحت لي أخيرا فرصة التعرّف إلى وجه معلمي الأول وقد تقدّم به العمر، كان ذلك بمناسبة حفل زفاف الصديق "خالد"، الذي لم يكن سوى أحد إخوته الذين تعرّفت عليهم عندما عُدت للعمل بالحسيمة أواخر التسعينيات، بينما جمعتني صداقة قديمة بالأخ الأصغر "عبد اللطيف" من أيام الجامعة، وكنت أجهل تماما علاقتهما بمعلمي الأول. كان الفقيد عبد الحميد يستقبل الضيوف ويسهر على تلبية طلباتهم، ولم أتنبّه لهوية معلمي الأول إلا حين سمعت أحدا يناديه باسمه الشخصي، فخطرت ببالي أخيرا أن يكون "عبد الحميد " هو ذلك المعلم الذي ظل اسمه منقوشا في ذاكرتي وصورته المبجّلة حيّة تداعب مخيلتي وتستثير ذكريات الطفولة البعيدة، إذ سأكتشف بعد غفلة طويلة، ومنذ سنوات التعليم الثانوي التي كنت دائم عن السؤال عنه، كلما التقيت بشخص يحمل نفس الاسم العائلي لعلني أصل إليه أخيرا، أن "عبد الحميد أشهبار" هو أخ صديقي عبد اللطيف، الشاب الشغوف الذي تقاسمت معه كثيرا من حب الفلسفة وقليلا من شغف السياسة، وأخ "خالد" العريس، فشعرت بارتباك غير مفهوم، وتساءلت كيف لم يخطر على بالي أن يكون عبد الحميد هو أخ الصديقين منذ زمن بعيد. هل لأنّي انغمست في السياسة أيام الجامعة فنسيت طفولتي وفقدت الصلة بماضي، أم أنها أحكام الزمن وسُنن الحياة التي تجري بما لا تشتهيه النفس وتعتاده؟ حقيقة لا أملك جوابا واضحا لهذا الأمر. كل ما أعرفه اليوم أني ما نسيت أبدا لا اسم معلمي الأول ولا انزاحت صورته من ذاكرتي ولا الأثر العميق الذي تركه في نفسي وتشكيل شخصيتي من نواح أساسية، خاصة أن تصادف تعيينه بالمدرسة التي التحقت بها في سنتي الأولى كان ضربة حظ بالنسبة لي لأن ما فعله معلمي الأول كان خارقا للعادة في حينه، سواء بأسلوبه المتميز في التدريس والتفاعل، حتى وإن لم أتبيّن هذا الأمر إلا بعد سنوات بالطبع، أو بخرقه للمنهاج الدراسي المعمول به والمقتصر على تعليم الحروف والخط والقراءة، بأن قام بتدريسنا مواد عديدة بطريقة جميلة جعلتنا نستوعب بسرعة مذهلة معلومات ومعارف كانت في ذاك الوقت تدرس للسنة الخامسة(الشهادة الابتدائية وما أدراك ما الشهادة الابتدائية !).
ها قد أصبح تلميذه المدلّل ناضجا دون أن يتجرأ على دعوته لجلسة بوح بما تكنّه له نفسه من اعتزاز وافتخار، وتحمله ذاكرته من صور وذكريات جميلة لذلك المعلم الاستثنائي الذي كان هبة من السماء احتضنتها نفسه إلى الأبد، وكانت المناسبة سانحة لكنه فوّتها دون سبب مقنع، سوى رغبة منه أن يكون اللقاء طويلا وبعيدا عن صخب الحضور لكي يتسنى له التملّي بصورة المعلم الأول، وهو ما لم يحدث أبدا، وهذه المرة بسبب الانتقال للعمل في جنوب المغرب. لذلك اعتبر رحيل المعلم الأول دون تحقق أمنيته مجالسته واستعادة الذكريات معه ضربة موجعة للذاكرة، كأن الموت جاء يخطف كل معاني الانتشاء بالصورة البهية للمعلم الأول المترسخة التي لم ينل منها الزمن وتقلباته، وذكريات الفصل وصور الزملاء الصغار وبراءة أحلام الطفولة وشغبها...
أذكر جيدا أن الفقيد تمرّد على الطريقة السائدة في تدريس مواد السنة الأولى حين أضاف موادا مختلفة إلى البرنامج المعتمد، بحيث لم يقتصر على تعليم المبادئ الأولى للقراءة والحساب، بل قام بإدراج مواد عديدة كالتربية الاسلامية والأخلاق، كما كانت تُعرف حينها، والاجتماعيات، وخصّص لنا حصة في الأسبوع لأنشطة التربية البدنية، وهو أمر لم يكن مطروحا في ذلك الزمن، خصوصا بالنسبة للسنة الأولى. ولا أزال إلى اليوم لا أكاد أستوعب كيف نجح في تمرير كل هذه المواد، وكيف جعلنا نساير الإيقاع التعليمي بكل يُسر، على الأقل بالنسبة للنجباء منّا، والخارق للعادة أنه نجح في تعليمنا مهارات وقدرات في اللغة العربية لا أكاد اليوم أصدق أننا بالفعل تمكنّنا منها في ذلك السن المبكر. ولعل الواقعة التي سأسرد هنا هي ما يؤكد لي بما لا يدع مجالا للشك أننا بالفعل حصلنا على ما حصلنا عليه من معارف أساسية في مواد لها علاقة بنحو اللغة، كالصرف والتراكيب والاعراب. فأذكر في هذا السياق أن معلمنا أحضر إلى القسم ذات مرة مجموعة مختارة من تلاميذ "المدرسة المركزية" يتابعون دراستهم في السنة الخامسة (قسم الشهادة الابتدائية) للمشاركة في مسابقة مع نخبة مختارة من قسمنا، وذلك، كما علمنا فيما بعد، كاختبار للتحدي الذي رفعه في وجه زميل له في المدرسة بقدرتنا على التفوق على تلاميذ السنة الخامسة في اللغة العربية، خاصة في الاعراب. ولن أنسى ما حييتُ لحظة حسم النتيجة لصالحنا في المسابقة التي جرت أطوارها في قسمنا، في جو حماسي أشبه بأجواء مُنازلة قتالية في حلبة مغلقة، وذلك بعدما سارت المسابقة على إيقاع متكافئ من البداية. ولن أبالغ إذا قلت أنّي مع مرور الزمن فقدت الكثير من رصيدي في نحو اللغة العربية، أعني المحفوظ من القواعد، إلا ما تعلّق بإعراب "الظروف" أو المفعول فيه، وذلك لأن حسم النتيجة في المسابقة كان بالضبط بإعراب ظرف المكان "فوق" التي فشل الفريق الخصم في إعرابها في جملة طويلة، وكنت من فعل ذلك مُتوجا فريقي بالفوز الموعود، فطار أستاذي من الفرح وخطفني من وسط الزحمة ورفعني إلى الأعلى مُهلّلا ومبتهجا بالفوز وكسب الرهان، وظل ممسكا بيدي بينما كان يلاطف تلاميذ الفريق المنافس ويُخفّف عنهم الشعور القاسي بالهزيمة بطريقته الخاصة، ولا تفارقني إلى اليوم كلما تذكرته تلك الابتسامة الرائعة التي كان يرسمها على ملامحه الوسيمة، بحيث كانت كافية لتزرع فيها حب المدرسة الذي لم تنل الأيام أبدا، وتُرسخ في قلوبنا حب المعلم وتبجيله وتكريمه.
لن أنسى أبدا ذلك العطف الأبوي الذي كان يدثرني به كلما اقتربت منه سائلا أو طالبا لأمر، والبهجة التي كانت تُشرق على وجهه وهو يرى مجهوداته العظيمة تتحقق وتُتوج فيما نُحرزه من نتائج مبهرة في جميع المواد التي درّسنا في وقت كان فيه تلاميذ السنة الأولى بالكاد يفكّون طلاسم الحروف والأرقام تعلم النطق السليم.
كما لا أنسى أبدا مقلب "علي البطل والكلب" الذي "نصبه" الفقيد لتلاميذ السنة الأولى بقسم ملحق بالمدرسة المركزية، في مشهد مسرحي كلما تذكرته إلى اليوم لا أتمالك نفسي من الضحك حتى أستعيد اللحظة بكل تفاصيلها، ووجوه أغلب تلاميذ ذلك القسم، فتغمرني مشاعر قوية من الحنين الجارف إلى الطفولة البعيدة، وتتدفّق الذكريات المشرقة فتصيب نفسي بانفعالات هي مزيج من بهجة الشوق والنوستالجيا، ومن الأسى على ما تصير إليه أحوال الانسان مع تقدّم العمر والغرق في وحل العالم، ومشقّة المسؤوليات المتزايدة. أتذكّر أنه ذات يوم رافقنا الفقيد إلى بناية قديمة تقع على المدخل الشمالي ل"سوق الأربعاء"، وكانت تحمل اسم "المدرسة الإسلامية"، وهي من المعالم الأثرية التي طالها التخريب الغبي بسبب قرارات سلطة بلهاء لا ترى في البنيان، مهما سمت قيمته التاريخية والمعمارية، سوى كومة حجر وتراب لا تغني من تاريخ ولا من عمران، وذلك لينوب عن معلم تلاميذ ذلك القسم (يوم واحد فقط تغيّب فيه المدرّس فوجب تعويضه) ويجمعنا معا في حصة واحدة. وما هي إلا دقائق معدودة على بدء الحصة حتى وصل إلى علم معلمنا أن مجموعة من تلاميذ القسم المستضيف قاموا بقتل ورمي كلب في بئر تابع لدوار "الزاوية" حيث يقطن نصفهم، وأظُن أن أحدا من سكان الدوار من أبلغه بالخبر (في الواقع يتعلق الأمر بشكاية لأن مكانة المعلم و"سلطته" المعنوية في ذاك الوقت كانت تتجاوز الفصل، لذلك كلما ارتبطت واقعة ما بالتلاميذ حتى خارج الفصل الدراسي فإن أول من يصله الخبر والشكاية هو المعلم ويفصل فيها في الغالب دونما حاجة لتدخل جهات أخرى)، فلم يكن أمامه سوى أن يتدبّر مقلبا بحيلة ذكية لاستدراج الفاعلين للاعتراف بفعلهم دون وعيد ولا تهديد. أذكر أنه مهّد للمقلب بمقدمة سردية لا أتذكر كل تفاصيلها، قبل أن ينوّه بالعمل "البطولي" الذي قام به أولئك الذين رموا بالكلب في البئر طالبا منهم أن يتقدّموا إلى السبورة ليتم الاحتفاء بهم. وبينما كان الجميع(كان القسم ممتلئا عن آخره) يتطلع إلى معرفة أولئك الأبطال والفضول يعلو وجوههم البريئة، تقدّم التلميذ "علي" ليعلن أنه الفاعل، وقد بدا من نظرات البعض منهم المتوجسة أنهم تفطّنوا للمقلب، وكانوا في الواقع أكبر منا في السن حتى ثلاث سنوات، بينما كنا نتابع المشهد في صمت رهيب، وما هي إلا ثواني معدودة حتى تقدّم الثاني، وكان اسمه "يوسف"، قصير القامة ومكتنز الجسم، ليعلن هو الآخر أنه شارك في العمل البطولي ليلتحق ب"علي" إلى السبورة، فيما "بطلنا" الأول يبتسم ويرمق بنظراته الطفولية المشاغبة أصدقائه في آخر الصفوف ويغمز بانتشاء، ولما اقترب منه شريكه أخذه من يده وبدأ يوشوش في أذنه ويلاطفه بطريقته الخاصة فرحا بالتتويج ! لا يمكنني أن أزعم أنني فطنت للمقلب، وكذلك أغلب التلاميذ الذين كانوا يتابعون المشهد بفضول كبير، ولعل ما جعلنا نستسلم ليقيننا بأن المشهد الذي كنا نتابع حقيقة، وأن لنا أبطال سيتمّ تتويجهم، وربما يمنحهم المعلم جائزة نظير ما فعلوا، هو أن الفقيد طلب منا أن نصفق للبطلين ونهتف باسم كل واحد منهما، واستمرت الهتافات لوقت معقول حتى صدّق الجميع في الأخير بأن التتويج حقيقي، وانطلت الحيلة على المسكين "علي" وشريكه "يوسف"، قبل أن ينقلب المشهد إلى دراما كانت أقرب إلى الكوميديا، حينما أخبرهم الفقيد بحقيقة أنهم ليسوا بأبطال في الواقع بل "أشرار" قاموا بفعل مُخزي جزاءُه "الفلقة"، فعلت الدهشة وجوه الجميع، قبل أن يتحول الموقف إلى مشهد مضحك من فرط الإحباط الذي ظهر على وجوه "البطلين" المغرّر بهما، خاصة موقف "يوسف" المضحك إلى حد البكاء، بجسمه المكتنز المتكوّر ونظراته الشاردة التي هي مزيج من البراءة والسذاجة، وهو ينتظر دوره لينال نصيبه من فلقة البطولة ! لكن الحقيقة تُقال، إن الطبع الطيّب والسموح لمعلمنا غلبه فلم يجد بُدّا من الاكتفاء بتوبيخهما شفهيا وضربتين خفيفتين بالمسطرة، وتحذيرهما بعدم تكرار مثل ذلك الفعل، وبذلك انتهى المشهد بعودة "البطلين" إلى مكان جلوسهما مع قهقهات زملائهم وقفشاتهم القروية الفريدة من نوعها، فيما كان يردان بطريقتهما الطفولية الخاصة التي جعلتنا ننفجر ضحكا.
وبعد.
لستُ من الذين يهيمون في سرد مناقب الموتى، أو ينتظرون وفاتهم لكي يمدحوهم ("يريدونني أن أموت لكي يمدحوني"/ محمود درويش)، وما أذكر أني كتبت يوما عن أصدقاء أو أحبة رحلوا إلا بما أشهد وشهدتُ لهم في حياتهم وقبل رحيلهم دون مبالغة ولا زيادة؛ وكذلك أفعل هنا مع معلمي الأول العزيز الفقيد عيد الحميد أشهبار. فإنّي ما أشهد إلا بما رسخ في ذاكرتي من صور رائعة للأستاذ العظيم، وبما أُدين له من نجاح في مساري الدراسي، وما أحسبه صار إلى غير الصورة التي أحتفظ له بها كمُعلم ومُربي مبدع وناجح، طيب وودود، نزيه كما عرفت إخوته وأغلب بني جلدته، لا تُغريه المصالح الصغيرة ولا المناوشات التافهة من أجل منصب بارد وغرض عابر.
لترقد روحك بسلام أيها المعلم العظيم، ولتنعم بالراحة والسكينة الأبدية هناك مع الرفيق الأعلى.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل ينهي الرد المنسوب لإسرائيل في إيران خطر المواجهة الشاملة؟


.. ما الرسائل التي أرادت إسرائيل توجيهها من خلال هجومها على إير




.. بين -الصبر الإستراتيجي- و-الردع المباشر-.. هل ترد إيران على


.. دائرة التصعيد تتسع.. ضربة إسرائيلية داخل إيران -رداً على الر




.. مراسل الجزيرة: الشرطة الفرنسية تفرض طوقا أمنيا في محيط القنص