الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حينما يأخُذ الفيلسوف دور المؤرخ

داود السلمان

2022 / 2 / 20
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


لا يصبح الفيلسوف فيلسوفًا قبل أن يطلع على تاريخ الفلسفة، ويبحُر في أعماقها، ويقترب من مدارسها، ويدرس أهم الشخصيات الفلسفية وما تركته من إرث إنساني وحضاري وثقافي، وما امتازت به تلك الشخصيات والفلسفات، من ميزات قد شكلت حضورًا لافتاً، منذ أن انبثقت منها تلك الأفكار والأطر الفلسفية؛ وما كان لها من تأثير مباشر على الفلاسفة الذين تأثروا بتلك الفلسفات، التي سبقت عصر المتأخرين من الذين اشتغلوا بهذه العلوم، وبالتالي اضافوا، هُم أيضًا، قضايا كثيرة إلى تلك المدارس الفلسفية. وخير دليل على ما ندعيه هي الغصون الأخيرة التي اينعت متأخرًا لشجرة الفلسفة، ثُم اثمرت، بل واضافت ثمار كثيرة إلى شجرة الفلسفة، واعني بها على سبيل المثال، لا الحصر: الوجودية، والتفكيكيّة، والبراغماتيّة، والفلسفة الوضعيّة، وغيرها.
نعم، من الضرورة أنّ الفلاسفة المحدثين قد اطلعوا على تاريخ الفلسفة ودرسوا في مدارسها، وتتلمذوا على يدّ اساطينها، وأخذوا عنهم أولويات الفلسفة الأولى قبل أن يستقلون، وبالتالي يكوّنون مدارس وفلسفات الأخرى، تضاف، كعلوم ومعارف، إلى تلك المدارس.
وإذا كان هذا، هكذا، هل بإمكان الفيلسوف أنْ يأخذ دور المؤرخ، فيكتب تاريخ الفلسفة وفق رؤياه؟ وما مدى نجاحه في هذا الماراثون الفكري؟.
هذا السؤال المطروح سنجيب عليه في هذا المقال.
الدكتور زكريا أبراهيم، يرفض هذا الرأي، ويعتبر أنّ الفيلسوف إذا قام بهذا الدور فهو ليس أفضل من الكاتب المختص أو الباحث الذي له باع طويل في تاريخ الفلسفة ومعرفة مدارسها، وابرز رجالها. فالرجل يريد، بمعنى آخر، أن يُقلل من شأن الفيلسوف في هذا الاطار، فيرى في مقالته التمهيدية، التي كتبها في كتاب "حكمة الغرب" للفيلسوف برتراند رسل، إذ يقول:
"ليس الفيلسوف أفضلَ مَن يكتب عن تاريخ الفلسفة، مثلما أن الفنان ليس خيرَ من يحكم على فنِّ الآخرين؛ فللفيلسوف موقفه الخاص الذي تتلوَّن به أحكامه على الفلسفات الأخرى، وهو في أغلب الأحيان لا ينظر إلى التاريخ السابق للفلسفة إلا على أنّه مجموعة من علامات الطريق التي تُشير إلى فِكره هو، أو التي تتلاقى كلُّها في نقطةٍ واحدة؛ هي ما يدور في رأسه من أفكار".
ونحن لا نتفق مع ما يقوله زكريا أبراهيم، وفيما أبداه من وجهة نظر محترمة، للأسباب التالية:
(1)إنّ من حق الفيلسوف أن يكتب حول تاريخ الفلسفة وعلى وفق رؤياه، إذ كما بينا في مقدمة هذا المقال من أنّ الفيلسوف قد اطلع على الفلسفات قبل أن يتفلسف، واتضحت له قضايا كثيرة بخصوص الفلسفة، وقاسها هو بحسب ما يمتلك من ادوات، كان قد حذقها وتفهمها.
(2) من حق الفيلسوف، أيضًا، أن ينتقد بعض الأطر والأفكار الفلسفية، من التي اطلع عليها ودرسها دراسة وافية، وشاهد أنّها ما عادت تجدي نفعًا، أو يشوبها الشك والريبة، بد أن تطورت الفلسفة كتطورها اليوم، وقطعت شوطًا طويلاً في التقدم واكتشاف العديد من النظريات الحديثة.
(3) إنّ الخبرة التي حصل عليها الفيلسوف من الدراسات السابقة لتاريخ الفلسفة، كذلك اطلاعه المتواصل، زائداً تخصصه واشتغاله في هذا المنحى، وخبرته الطويلة، والصفة التي حصل عليها، وهي صفة فيلسوف، أضف إلى ذلك أن نظرة الفيلسوف مختلفة جدًا عن نظرة المؤرخ، فالمؤرخ يجمع الأخبار، بينما الفيلسوف هو في تواصل مستمر. كلّ هذا وغيره يجعل من الفيلسوف أن يكون مؤرخًا حذقًا، عرف كيف يدخل من أي باب من أبواب الفلسفة، وكيف يخرج من الباب الذي يجب عليه أن يخرج منه؟.
ثُم بعد ذلك يتراجع زكريا أبراهيم على (استحياءً) عمّا أبداه من رأيه السابق، إذ قال:
"ومع ذلك فإن كتابة الفيلسوف – يقصد راسل - عن تاريخ الفلسفة تَجرِبة فكريّة شيقة، تحتشد باللمحات الذكيّة والملاحظات المتعمقة، والقدرة على كشف الروابط والعلاقات التي يعجز عن إدراكها الذهنُ العادي. وعلى هذا النحو يبدو لنا بالفعل هذا الكتاب الذي نُقدِّمه ها هنا مترجمًا إلى العربية، والذي ألَّفه شيخ الفلاسفة المعاصرين، برتراند رَسل؛ فهو رؤيّة شاملة للفلسفة الغربيّة منذ بداياتها الأولى في العصر اليوناني حتى النصف الثاني من القرن العشرين".
ونقول: إنّ كتاب "حكمة الغرب" بجزأيه هو ليس الكتاب الوحيد، الذي ألفه راسل كتاريخ للفلسفة، بل لديه كتاب آخر هو (تاريخ الفلسفة الغربية) والذي يقع في ثلاثة أجزاء، وقاما بترجمته زكي نجيب محمود و أحمد أمين. والكتاب يُعد تحفة فنية لا يستغني عنها أي مؤرخ للفلسفة، فضلا عن المثقفين والكتّاب والمتذوقين للمعرفة، وخصوصًا في حقل الفلسفة. وهذا الكتاب فيه سرد شيّق للفلسفة، وأكثر توسعًا من "حكمة الغرب" من ناحية غزارة المعلومة، والطرق التي سلكها المؤلف في الاسترسال، وكذلك تبسيط العبارات وخلوّها من الغموض.
وبعد أن يستعرض زكريا حياة راسل، ويسلط الضوء على مواقفه الإنسانية والسياسية، لاسيما الحرب العالمية الثانية، وما خلفته هذه الحرب من دمار، ومن مخلفات أضرت بالعالم ما عكست حالة استياء وتذمر لكثير من المفكرين والسياسيين والفلاسفة، ومنهم برتراند رسل نفسه. قال زكريا:
"بقيَت لنا كلمةٌ عن الكتاب الذي نُقدِّم ها هنا ترجمته؛ ففي الطبعة الإنجليزية لهذا الكتاب بُذِلَت محاولة لتقديم عدد كبير من الصور والأشكال التي اختارها أحد زملاء رَسل من أجل تقديم إيضاح ملموس لأفكاره الفلسفية. ولم يكن رَسل ذاته على ثقة من أن هذه المحاولة ستنجح، ولذا أشار إليها في المقدمة على أنها تجربة أولى فحسب، وفي رأيي الخاص، الذي يَرتكز على سنوات طويلة من الخبرة في تعليم الفلسفة، أن هذه المحاولة لا تستحق الجهد الذي بُذِل من أجلها، وأن الكتاب قادر على توصيل أفكاره دون الاستعانة بمثل هذه الرسوم الملموسة، ومن هنا فقد آثرت الاستغناء عن الجانب الأكبر منها، وحذف السطور التي أشارت إليها في مقدمة المؤلف".
والخلاصة، أنّ راسل قد ابدع في وضع تاريخ، وفق رؤياه، لحقبة طويلة ومهمة من تاريخ الفلسفة، واجاد فيما أرخ، ونجح في هذا الدور (تقمص شخصية مؤرخ للفلسفة) ونجاحه الباهر بشهادة المترجم لهذا الكتاب، أعني زكريا ابراهيم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل بدأ العد العكسي لعملية رفح؟ | #التاسعة


.. إيران وإسرائيل .. روسيا تدخل على خط التهدئة | #غرفة_الأخبار




.. فيتو أميركي .. وتنديد وخيبة أمل فلسطينية | #غرفة_الأخبار


.. بعد غلقه بسبب الحرب الإسرائيلية.. مخبز العجور إلى العمل في غ




.. تعرف على أصفهان الإيرانية وأهم مواقعها النووية والعسكرية