الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفلسفة الماركسية تسعى إلى فهم العالم من أجل تغييره

خليل اندراوس

2022 / 2 / 25
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية



الجدلية هي ذلك المنهج الوحيد الذي يوافق النظرة العلمية إلى العالم. فالجدلية تنظر إلى الاشياء والمعاني في ترابطها بعضها بالبعض وما يقوم بينها من علاقة متبادلة، وتأثير كل منها في الآخر وما ينتج عن ذلك من تغيير كما تنظر اليها عند ولادتها ونموها وانحطاطها (انجلز ضد دوهرنج ص 392).
وهنا لا بد من أن يؤكد بأن هذا لا يعني بأن الجدلية لا تقبل أي سكون أو فصل بين مختلف جوانب الواقع، بل هي، أي الجدلية، ترى في السكون جانبا نسبيا من الواقع، بينما الحركة مطلقة.
والجدلية تهتم بالحركة في كل أشكالها وليس فقط بالتغيير المكاني، بل بتغييرات الحالات كتحول الماء السائل إلى بخار فإنها تفسر الحركة عن طريق نضال الأضداد، وذلك أهم قانون في الجدلية.
وعندما يدور الكلام عن الديالكتيك، فإنما يتم ذلك غالبا بغموض، ويقدم كشيء معقد، فعن جهل يتم الكلام عليه كيفما اتفق. وهذا مما يؤسف له، ومما يدعو لارتكاب أخطاء يجب تجنبها.
وهنا نريد أن نوضح بأننا كلمة "منهج" تعني الطريق الذي يؤدي بنا إلى الهدف. ولقد درس كبار الفلاسفة أمثال ديكارت وسبينوزا وهيجل قضايا المنهج لاهتمامهم باكتشاف أكثر الوسائل عقلانية لبلوغ الحقيقة. ومهم جدًا لكل من يعتبر نفسه ماركسيا أن ينظر إلى الواقع وجهًا لوجه حتى يتخطوا المظاهر المباشرة. ولهذا يجب أن يكون للمنهج أهمية كبرى عندما نطرح هذه القضية الاجتماعية أو الثقافية أو السياسية لكي نصل إلى الهدف، من خلال نهج علمي جدلي لكونه الوحيد الذي يتيح لنا تكوين هذه النظرة العلمية إلى العالم والتي هي ضرورية، أي النهج العلمي الجدلي لإتمام عملية التغيير الثورية.
لقد أعجب الفيلسوف الألماني هيغل بالثورة البرجوازية التي انتصرت في فرنسا وقضت على المجتمع الاقطاعي الذي خيل إليه أنّه أبدي لا يزول، فاذا بهيغل يقوم بثورة مماثلة في الأفكار فينزل الميتافيزيقا (الفلسفة التي تجهل الحركة وتقول بالسكون والتماثل وشعارها "لا جديد تحت الشمس")، وحقائقها الخالدة عن عرشها السامي، وإذا بالحقيقة عنده أي عند هيغل ليست مجموعة من المبادئ الجاهزة، بل هي عملية تاريخية تبدأ بالمعرفة البدئية لتنتهي بالمعرفة السامية. وهي أي المعرفة تتبع في ذلك حركة العلم نفسه الذي لا يتطوّر إلا إذا عمد إلى نقد نتائجه باستمرار وتجاوز هذه النتائج.

ولذلك نرى بأن مكان الفلسفة الكلاسيكية الألمانية في التاريخ، ولا سيما منها مذهب هيغل بوصفه ذروتها حدده برأي انجلز، دورها البارز في تطور العلم الفلسفي العالمي، وكذلك تأثيرها البالغ في الأحداث اللاحقة في حياة المجتمع الأوروبي السياسية والفكرية.
وكما أحدث الماديون والمنورون الفرنسيون في القرن الثامن عشر بمؤلفاتهم ونشاطهم السياسي، انقلابا في وعي شعبهم وكوَّنوا بالتالي المقدمات الروحية للثورة البرجوازية، كذلك أدى انتشار نظرات الفلاسفة الألمان العظام إلى الثورة الفلسفية الحقيقية وأعد الوعي الاجتماعي لإدراك الأفكار الثورية السياسية. وفي فرنسا والمانيا على السواء نشبت الثورات بادئ ذي بدء في ميدان النظرية ثم بعد ذلك في ميدان السياسة. ولكن الثورات الفلسفية في هذين البلدين المجاورين، كما لاحظ انجلز فقد اختلفت اختلافا تاما من حيث طابعها.
ولكن علينا ان نؤكد بأن فلسفة هيغل الجدلية كانت مثالية حيث نظرت إلى طبيعة التاريخ الانساني كتجلٍّ للفكرة الازلية (للفكرة المطلقة) وهكذا تظل جدلية هيغل جدلية روحية صرفة. لذلك نرى انجلز يركز على ان نظرية هيغل الجدلية المثالية صارت من جراء تناقضاتها الداخلية، عاملا ثوريا في تطور الفلسفة ومقدمة روحية للثورة السياسية، وكيف صارت في الوقت نفسه دعامة فكرية لنشاط الاوساط الحاكمة، وكيف أنها حتى رفعت إلى حد ما "إلى مصاف الفلسفة الرسمية الملكية البروسية" (ماركس انجلز– منتخبات في ثلاثة مجلدات. المجلد 3 الجزء 2 ص 187).
ولقد كان ماركس وانجلز يريان ديالكتيك هيغل، باعتباره اكثر مذاهب التطور مشمولا واوفرها مضمونا واشدها عمقا، اثمن اكتساب حققته الفلسفة الكلاسيكية الالمانية. وكانا يعتبران كل صيغة اخرى لمبدأ التطور وحيدة الجانب، فقيرة المضمون تشوه وتفسد السير الواقعي للتطور في الطبيعة والمجتمع.
وكتب انجلز يقول: "ان الطبيعة هي التأكيد على صحة الديالكتيك، وان العلوم الطبيعية الحديثة بالضبط تبين ان هذا التأكيد غني للغاية.. وانه يكرس كل يوم معطيات لا تحصى ويبرهن على أن الأمور في الطبيعة تسير في آخر التحليل على النحو الديالكتيكي، ولا على النحو الميتافيزيائي".
ولقد رأى ماركس في الجدلية المنهج العلمي الوحيد، غير أنّه عرف أيضًا كمادي أن يعيد الجدلية إلى مكانها الحقيقي فرفض القول بالنظرة المثالية للعالم التي ترى في الكون المادي ثمرة للفكرة، وأدرك أن قوانين الجدلية هي قوانين العالم المادي وانه إذا كان الفكر جدليا فلأن الناس ليسوا غرباء في هذا العالم بل هم جزء منه. وكذلك كتب انجلز، وهو صديق ماركس ومساعده يقول: "ليست الجدلية عند هيغل التي تتجلى في الطبيعة والتاريخ في صورة ترابط التقدم السببي الذي نجده منذ البداية حتى النهاية خلال جميع الحركات المتعرجة الالتواءات المؤقتة – ليست هذه الجدلية سوى صورة لحركات الفكرة الذاتية التي تستمر منذ الأزل حتى لا ندري، مستقلة عن كل ذهن انساني مفكر. فكان لا بد من تجنب هذا الانقلاب الفكري فنظرنا إلى افكار الذهن نظرة مادية على انها انعكاس للأشياء بدلا من ان ننظر إلى الأشياء على انها انعكاس لدرجة معينة من درجات الفكرة المطلقة. وهكذا اصبحت الجدلية معرفة قوانين الحركة العامة، في العالم الخارجي ام في التفكير الانساني وهما طائفتان من القوانين المتماثلة في الاصل المختلفة في الشكل، بمعنى ان الذهن الانساني يمكن ان يطبقها عن وعي وإدراك. بينما هي لا تطبق في الطبيعة او التاريخ الانساني الا بصورة غير واعية في شكل الضرورة الخارجية وسط العديد من الصدف الظاهرة. فاذا بجدلية الفكر ليست سوى انعكاس بسيط واع لحركة العالم الحقيقي الجدلية. واذا بجدلية هيغل ترفع رأسها فتقف على رجليها بعد ان كانت تقف على رأسها (انجلز لودفيغ فورباخ 33- 34).
لذلك نستطيع ان نقول بأن ماركس رفض القشور في فلسفة هيغل، واحتفظ "باللباب العقلي" أي احتفظ بالجدلية. ويقول ماركس بنفسه بوضوح في المقدمة الثانية "رأس المال" كانون الثاني 1873.
"لا يختلف منهجي الجدلي في الأساس عن منهج هيغل فقط، بل هو نقيضه تماما، اذ يعتقد هيغل أن حركة الفكر التي يجسدها باسم الفكرة هي مبدعة الواقع الذي ليس هو سوى الصورة الظاهرية للفكرة. أما أنا فأعتقد على العكس، ان حركة الفكر ليست سوى انعكاس حركة الواقع وقد انتقلت إلى ذهن الانسان". (ماركس: رأس المال الكتاب الاول).
ويطرح السؤال كيف وصل ماركس وانجلز إلى هذا الانقلاب في الفلسفة، نجد الجواب على ذلك في مؤلفاتهما. اذ أنّ ازدهار علوم الطبيعة في القرن الثامن عشر وفي السنوات الأولى من القرن التاسع عشر هو الذي أدى بهما إلى القول بأن للجدلية أساسًا موضوعيًا. وكان للاكتشافات الثلاثة التالية أثر كبير في ذلك:


1- اكتشاف الخلية الحية التي تتطور عنها الأجسام المعقدة.
2- اكتشاف تحول الطاقة من حرارة وكهرباء ومغناطيس وطاقة كيميائية الخ، فهي صور مختلفة نوعيًا لحقيقة مادية واحدة.
3- نظرية التطور عند داروين فلقد اظهرت هذه النظرية اعتمادًا على علم الحفريات وعلم تربية الحيوان ان جميع الكائنات الحية (ومنها الانسان) هي ثمرات التطور الطبيعي (داروين اصل الانواع 1859).
لقد انتهى ماركس وانجلز إلى القول بأنه يجب الاستغناء عن المنهج الميتافيزيقي من اجل فهم الحقيقة الجدلية والتي تقول بأن للطبيعة طابعا جدليا وعلى انها وحدة لكل شاسع في صيرورة دائمة، وتطور حسب قوانين ضرورية ولا يكف عن توليد المظاهر الجديدة، وما النوع الانساني والمجتمع سوى لحظة من هذه الصيرورة الشاملة.


لذلك لم يأت ماركس وانجلز بالمنهج الجدلي من الخارج بصورة اعتباطية بل استقياه من العلوم نفسها التي تتخذ الطبيعة موضوعا لها والطبيعة جدلية في ذاتها. ولهذا ظل كل من ماركس وانجلز طيلة حياتهما على اتصال دائم بتقدم العلوم وقد ازداد المنهج الجدلي في دقته كلما ازدادت معرفة العالم اتساعا وعمقا. كرس انجلز بالاتفاق مع ماركس (الذي ألف كتاب رأس المال) سنوات طويلة لدراسة الفلسفة وعلوم الطبيعة دراسة دقيقة كما كتب في عامي 1877- 1878 كتابه "ضد دوهرنج" وبدأ بكتابة مؤلف ضخم عن "جدلية الطبيعة" الذي خلف لنا منه عددا من الفصول.
برهن المنهج الجدلي على خصبة عند ماركس وانجلز نفسيهما، وكان ثائرين ومفكرين في نفس الوقت، لأنهما كانا جدليين، المشكلة التي لم ينجح سابقوهما في وضعها. فلقد طبقا الجدلية المادية على التاريخ الانساني فأسسا علم المجتمعات الذي يقوم على الفلسفة المادية التاريخية، ولهذا اعلنت البرجوازية وطبقة رأس المال، خدمة لمصلحتها الطبقية الحرب على الجدلية لأن الجدلية فضيحة بالنسبة للطبقات المسيطرة ومفكريها. ولأن النظرة الموضوعية للأشياء الموجودة تتضمن أيضًا إدراك زوال هذه الطبقات وفناءها الضروري الموضوعي. لأن هذه الجدلية تدرك الحركة ولا يمكن لأي شيء أن يفرض عليها هذه الحركة اذ هي جدلية نقدية موضوعية ثورية.
فالفكر والفلسفة الماركسية ونهجها الجدلي الديالكتيكي هو انقلاب ثوري حقيقي في تطور الفكر البشري.
لقد حول ماركس وانجلز النهج الجدلي الديالكتيكي إلى علم من أعم قوانين حركة الطبيعة والمجتمع والتفكير.
لقد أبدع ماركس وانجلز النهج الجدلي الديالكتيكي المادي الذي يصبح في ايدي من يتعمق به ويدرسه ويعرفه ويمارسه اداة موثوقة للبحث العلمي وسلاحا حادًا جدا في الكفاح الطبقي الثوري.
قال لينين في رثائه لانجلز: "يمكننا ان نعبر في بضع كلمات عن الخدمات التي أداها ماركس وانجلز للطبقة العاملة على الوجه التالي: لقد علما الطبقة العاملة ان تعرف نفسها وان تعي ذاتها، وأحلى العلم محل الاحلام". لقد وضع ماركس وانجلز النظرية الثورية لنضال الطبقة العاملة النظرية التي تضيء الطريق الذي يمكّن الطبقة العاملة من الإطاحة بالاستغلال الرأسمالي، وان تتولى قياده كل جماهير الشعب، وبذلك تحرر المجتمع بأسره مرة واحدة وإلى الأبد من كل قهر ومن كل استغلال للإنسان بواسطة الانسان.
وعلمنا ماركس وانجلز ان الطبقة العاملة دون حزبها – المستقل عن كل الأحزاب البرجوازية- لا تستطيع بالتأكيد أن تنتصر على الرأسمالية، ولا تستطيع أن تقود المجتمع كله نحو الغاء الرأسمالية. ولكن في نفس الوقت على الحزب ان يعمل كطليعة لطبقته، كأكثر أقسام طبقته وعيًا، وانه هو سلاح كسب السلطة السياسية وتدعيمها.
وفي النهاية النهج الجدلي – الديالكتيكي الماركسي فلسفة تسعى إلى فهم العالم من أجل تغييره. يقول ماركس: "كان كل ما قام به الفلاسفة هو تفسير العالم بطرق مختلفة بيد ان القضية هي تغييره". (ماركس قضايا عن فيورباخ رم 11).






* المراجع:
- لينين – بعض خصائص تطور الماركسية التاريخي.
- جورج بوليتزر – أصول الفكر الماركسي.
- موريس كورنفورت – مدخل إلى المادية الجدلية.
- افاناسييف – أسس المعارف الفلسفية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. يرني ساندرز يدعو مناصريه لإعادة انتخاب الرئيس الأميركي لولاي


.. تصريح الأمين العام عقب الاجتماع السابع للجنة المركزية لحزب ا




.. يونس سراج ضيف برنامج -شباب في الواجهة- - حلقة 16 أبريل 2024


.. Support For Zionism - To Your Left: Palestine | الدعم غير ال




.. كلام ستات | أسس نجاح العلاقات بين الزوجين | الثلاثاء 16 أبري