الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ديوان (نعيم العالم السفلى)، للشاعر المصري يونان سعد، ملحمة شعرية تؤسس لأساطير جديدة.

أمل سالم

2022 / 2 / 26
الادب والفن


. يطلق على القصة الشعرية الطويلة المليئة بالأحداث مصطلح "الملحمة"، التي غالبًا ما تقص حكايات تاريخ شعب من الشعوب، أو تتناول تحركات جماعة بشرية بعينها، وكيفية تحولها لبنية الأمة والمجتمع، وعلى ذلك فهي تقدم أنموذجًا إنساني يُحتذى به.

ويوجد في الأدب الإنساني نوعين من الملاحم الشعرية؛ أولهما: الملحمة الشعرية القديمة؛ ومن أشهرها ملحمة جلجامش السومرية، وملحمة الإلياذة لهوميروس الإغريقي. أما النوع الآخر- وهو الأحدث- كملحمة الإنيادة لفرجيل اليوناني، وملحمة الفردوس المفقود لجون ملتون، وفيها حاول مبدعوها محاكاة الملاحم القديمة.

في الأدب العربي القديم لا يوجد ما يمكن تصنيفه بالملحمة، أو يشبه الملحمة، بالمعنى الذي وصلنا من التعريف المنطقي السابق، هذا ما حذا ابن الأثير، في كتابه "المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر"، في القرن السادس الهجري، بالمفاخرة بالقصائد الطويلة/ الألفية التي يذخر بها الأدب الفارسي، كالشاهنامة للفردوسي، وهي أعظم ملحمة فارسية.

أما في "السير الشعبية"، وهي تشبه إلى حد بعيد فن الملحمة، أو يمكن القول بأنها الوجه العامي للملحمة، وهي مبدع نثري طويل يتخلله الشعر، أذكر منها السيرة الهلالية، وسيرة عنترة، وسيرة سيف بن ذي يزن.

ويبدأ ديوان "نعيم العالم السفلي" للشاعر يونان سعد، الصادر عن هيئة قصور الثقافة، بالإهداء، الذي يعلي فيه الشاعر من قيمة السقوط، وهو أول مناطق الدهشة في الديوان، حيث يقول: (إليها/ من علمتني أن السقوط هو أعظم فضائل الإنسان)، وبذلك تكون هذه الحالة هي الدهشة الأولى عند مطالعة الديوان. وإذا كان الأمر، عند مطالعة الشعر ومحاولة الدخول إلى عوالمه المختلفة، يستوجب المرور عبر ثلاث مستويات: أولها: الإنطباع: وهو أول ما نستشعر عند مطالعة النص، ثانيها: تكوين الرأي: وهو ما نفكر به تجاه النص، ثالثها: النقد: وهو عملية مركبة يتم فيها تحليل النص على المستوي الفني، ومحاولة استخراج جمالياته والوقوف على سلبياته.

ويحتاج الإلمام بالحاله الشعرية في هذا الديوان إلى إعمال التأويل كحل انطباعي للتلقي قبل تكوين الرأي، ولذا فإننا يمكننا أن نقول : إن الشاعر اختار لشعره نمط الملحمة عبر عالم من الأساطير، والتي أطلق عليها الأساطير الجديدة، نافيًا بذلك شبهة ارتباطها بالأساطير القديمة، كون أنه عندما يذكر مصطلح "العالم السفلي" سيتبادر إلى ذائقة المتلقي على الفور أساطير الجنة والعالم السفلي السومرية مثلًا، سيتبادر إلى الذهن على الفور الجحيم السومري والعالم السفلي حيث نهر "هابور"، حيث يستقبل الميت ملاح النهر "هامو طابال"، وكذلك أسطورة جلجامش، وأنكيدو، والعالم السفلي. لكن الشاعر يؤسس لأسطورته الخاصة؛ فجحيم العالم السفلي هنا هو نعيم، والجحيم الذي سيصحو هو عالمنا هذا، وهو المتسبب في حصولنا على نعيم العالم السفلي. وهو يضع المتلقي منذ الوهلة الأولي في زاوية القراءة التأملية، وإعمال العقل حين يهدي ديوانه إليها/ هي الأنثى، التي كتب اسمها بحروف مفككة؛ كأنها اللبنة الأولي في بناء لغة الديوان وعالمه، وهي التي سوف تستدعي فيما بعد- وعبر الديوان- فكرة الألهة الأم، فيقول: (لساه لم يبرد دم الأرض/ البحر ف حضن عشيقته/ لم بطل دمع/ في مقدور الخليقة تنوح زمنين/ على موت الإلهة الأم)، ويقول أيضًا: (يجسِّك يلاقيكي نَفَس خلصان/ يلمح جحود الخلايق لمَّا ان تفوت ذكراكِ فينسوا الإلهة الأم) وأيضًا: (الفلاحين متشوقين/ رجوع الإلهة الأم) وأخيرًا: (ياهل تري الأرض العدول الأم/ تشبه بقية الآلهة/ الشرقانين/ العطشانين/ للدم ؟؟؟؟)

والذي فيما يبدو أنه انتقاد للألهة في الميثولوجيا القديمة، والتي كانت تتصارع وتتقاتل وتعشق الدم، بل وينتقل ذلك إلى النص التوراتي أيضًا.

أذن، ما هي الألهة الأم؟

الألهة الأم(Mother goddess) : الإلهة التي تمثل الأمومة أو الخصوبة أو الإبداع، وهي الإلهة التي تجسد فضل الأرض. عندما تكون تلك الآلهة على قدم المساواة مع الأرض أو الطبيعة، يُشار إليهن أحيانًا باسم أم الأرض أو الأرض الأم.

قامت الكثير من الآلهات المختلفة بتجسيد الأمومة بطريقة أو بأخرى، وارتبط البعض منهن بميلاد الإنسانية أو بخصوبة الأرض، وعمومًا فإن عبادة الألهة الأم هي من أقدم العبادات على سطح الأرض،

وأسطورة الشاعر الخاصة في ديوانه تبدأ من الصفر/ اللاشئ، كأنه يقول أن أسطورة العالم السفلي لديه تختلف عن أساطير العالم السفلي السابقة في تاريخ الإنسانية، فيقول الشاعر: (الصفر هذا الرقم خالد/ شايل ما بين شطيه/ كل أرقام الوجود/ الصفر هذا الرقم موجود/ رغم اللي شايله من عدم/ لو تبتغوا دربه/ تبتغوا الملكوت)

ثم يدخلنا الشاعر إلى أسطورته بربطها بالنبؤة، وتلك التي تشمل ثلاث معطيات فيما يبدو تماس مع عالم الميثولوجيا ودلالات بعض الأرقام، كالثلاثة، والسبعة، والتسعة عشر، فيقول: (النبؤة: تصحو سراديب الجحيم/ يخرج النجم المنير من العالم السفلي/ فترجع مملكة الأرض للأرض/ العام الأول: يموت الزهر/ العام التاني: ميلاد الفتي/ العام التالت: النعيم مش جاي بعد ألف عام/ النعيم حاضر في التراب م الأزل، لكين الخلق سهيانة.)

ثم يقسم الشاعر ديوانه إلى فصلين:

الفصل الأول: بعنوان "الزهر مات"، ويحتوي على أربع مقاطع شعرية.
الفصل الثاني: بعنوان "نعيم العالم السفلي" ويحتوي على أربعة عشر مقطعًا شعريًا.

. وفي الفصل الأول: يؤطر الشاعر لرحلة بطل الملحمة، فهو يرسم شخصيته بعناية وحذر، كأنه يعد بطل الملحمة لاصطحاب القارئ في رحلته على شاكلة اصطحاب فرجيل لدانتي في رحلة الكوميديا الإلهية عبر أطوارها الثلاث: الجحيم، والمطهر، والفردوس، يقول الشاعر: (كإنك رايح لطريق الناي/ واللعبة المرسومة ف كفك / اليوم علي جسمك بتدور/ يا المالك كل احتمالات البين والصدفة/ يا الضارب كل دروب الأرض بعزفك/ اليوم على حافة آخر دربك تصعد/ ويدب ف مطرح روحك موت)

لقد أحيا الشاعر في عالمه: الموت، بل وجعل له قدرة على "الدب"، ذلك العالم المكون من الزهر، ومن احتمالات الزهر المتعددة، التي يحملها الزهر في أوجهه المتعددة، فيقول الشاعر: (الزهر اليوم مشدود للزهر/ ... الصُدفة مرسومة ف عنين الخلق/ الضحكة/ الخوف/ الرزق/ العشق/ الموت/ الزهر اليوم بيطير/ يخبَط جسمه الضخم ف جسم الأرض/ فيموت.)

ثم تبدأ أسطورته الخاصة والتي أطلق عليها أسطورة "القطط الغزاة"، التي تفتح الباب لأن ينقسم التاريخ على نفسه إلى مرحلتين، الأرض: هي المحور الرئيس في هذه الملحمة، فيقول الشاعر: (كانت في حضن البحر والبحر لما عِشِق/ سمَّاها بفطرته أرض)

إن فكرة الأم، وارتباط الإنسان في بداياته بفكرة الألهة الأم، متمركزة بشدة عبر الملحمة، كأن يقول الشاعر: (والأرض إله عبيط جدًا/ بلياتشو قادر يرسم الضحكة على جلود الخلايق/ معشوقة في دور الأنثى تلعب رب/ ولا تعرف عن معنى الألوهة شيء)

والشاعر عبر ملحمته يتماس مع ظاهرة تحول عبادة الآلهة الأنثى إلى عبادة الأله في بلاد ما بين النهرين مثلًا، ومن المعروف أنه في بلاد ما بين النهرين تراجعت عبادة الآلهة الأم في الدين الرسمي للدولة، إلا أن الدين الشعبي ظل متمسكًا بها. يقول البعض أن دين بلاد ما بين النهرين كان خاضعًا للأوضاع الاجتماعية السائدة في تلك الفترة الزمنية من القرن الرابع قبل الميلاد فصاعدًا، وأن التجارب والشخصيات التاريخية ألقت بظلها على الدين، وإنه بالإمكان تتبع عدة تغييرات في المعتقدات الدينية تزامنت مع حدوث تغييرات اجتماعية وسياسية معينة، منها تغيرات في مكانة المرأة في المجتمع.

في كتابها "نشأة النظام الأبوي" فإن "جيردا ليرنر" تفترض: «بما أن تطور الزراعة تزامن مع نزعة عسكرية متزايدة، وأحدث تغيرات رئيسية في المعتقدات والرموز الدينية، فإن النموذج القابل للملاحظة هو خفض مرتبة الإلهة الأم وصعود وهيمنة شريكها/ ابنها الذكر فيما بعد، ثم اندماجه مع إله العاصفة مثلا، وتحولهما إلى إله خالق ذكر، يرأس مجمع الآلهة والإلهات. وأينما حصلت تغييرات كهذه، كانت قوة الخلق والخصب تُنقل من الإلهة إلى الإله". يقول الشاعر: (لساه لم يبرد دم الأرض/ البحر ف حضن عشيقته/ لم بطل دمع/ في مقدور الخليقة تنوح زمنين/ على موت الإلهة الأم)

القطط التي وردت في هذا الجزء يمكن تأويلها أيضًا بدلالة مثيولوجية أيضًا؛ ففي مصر القديمة عبدت الآلهة "باستيت" على هيئة القطة الوديعة، ثم أدمجت مع المعبودة "سخمت" في الدولة الحديثة، حيث تمثل سخمت في هيئة اللبؤة المفترسة. فعندما تغضب "باستيت" تتحول إلى "سخمت"، وتنتقم من الأعداء ومن كل ما هو سيء. كانت مدينة بوباستيس (تل بسطة) مركز عبادتها. وترمز القطة إلى المعبودة باستت، ابنة معبود الشمس رع، التي كانت تصورها الرسومات على شكل امرأة لها رأس قطة. لذا تُعتبر "باستيت" معبودة الحنان والوداعة، فقد ارتبطت بالمرأة ارتباطاً وثيقًا، قام المصري القديم بتربيتها في البيوت، وعند موتها كان يحنطها مثلما يحنط موتاه. والقطط لها باع كبير في ملحمة الشاعر، حيث يقول: (المخلوقات ما كانتش تتصور يعني إيه إله، طب آلهة ممكن يكونوا بهذا الضعف بهذا الحجم، لكنهم القطط وحدهم كانوا قادرين على امتلاك الخلا ، الخرابات، الشوارع، أعتاب البيوت وجدرانها، وحدهم طمعوا تجاوزوا خطفوا حق الخلايق في امتلاكهم للقدر).

. الفصل الثاني من الملحمة يبدأ من نهاية الفصل الأول؛ بمعني أن الشاعر يؤسس لظهور الفتي الذي أسماه "نيس"، فيقول في نهاية الفصل الأول: (كان يهون عليه لو يبيد القطط والزهر لولاش إنه يشك إنهم نسلك، احتمال يكونوا من صلب البحر، البحر وان كان عشيقك فلِسَّاه غبي لا يمتلك حدسك، الموت مايلزملوش عشيق، انتِ لازم لك رجوع، واحنا لازمنا فتى فلتان).

إذن، من هو نيس هذا الذي سيحاول الشاعر تأسيس ملحمته مستخدمًا إياه؟

نجد أنه في بداية الفصل الثاني يلجأ الشاعر إلى تعريف بطل ملحمته، "نيس" الذي هو أقرب للأرض وللشجر وللطبيعة: ( "نيس" اسمه والجد فلاحك والفلاحين أوفي عبيد الأرض/ "نيس" مش نبي/ ولا أبوه نبي/ ولا نحافة جسمه توحي بإنه بطل/ طفل...).

ويظل الشاعر يؤسس عبر مقاطعه لشخصية "نيس"، وعلاقته بالزهر، والزهرة، والأنثي، والطاولة، والرقص، وبالرصيف، إلى أن ينتهي لمساواته تماما بالآلهة، وقدرته على التعامل معها بقدر من المساواة، فيقول الشاعر: ( "نيس" هذا المخادع/هذا الفتي الأُلعبان/ قد أثبت المعني/ في رقصة/ ودمر المعني/ في رقصة/ وشد الآلهة جمعًا/ للسقوط ويَّاه/ في عتمة السرداب).

إذن، فثورة الديوان الحقيقية، الإنسان، الآلهة، ما بينهما من علاقات تبادلية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية


.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر




.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة


.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي




.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة