الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إيريس فضاء حي لتشكيل النخب

عزيز باكوش
إعلامي من المغرب

(Bakouch Azziz)

2022 / 2 / 26
الصحافة والاعلام


عندما أصدر الصحفي والإعلامي الحاج محمد بوهلال روايته -في الضفة الأخرى- لم يكن يتغيا بكل تأكيد سوى تعميق السؤال حول طبيعة العلاقة بين المثقف والإعلامي، في أفق الارتقاء بالأدوار الطلائيعية لكليهما ، في ترسيخ الوعي المجتمعي ،وإرساء ثقافة الواجب والامتياز ، وإذكاء مفاهيم الحقوق المواطنة والقيم الإنسانية النبيلة في الأوساط الثقافية العامة ، لاسيما النخبة . وهو ما تحقق بنجاح ملحوظ. وجاءت الرواية التي شكلت باكورة الإنتاج الأدبي للكاتب في 190 صفحة من القطع المتوسط ،مزدانة بغلاف للفنان المغربي حسن جميل ،بفهرس يضم 28 عنوانا هي على التوالي : في الضفة الأخرى - في الدوار - الشاوي - الحاجة غيثة - مدرسة الشعب - السهرات اليومية - تجارب مع نعيمة - الشيخ العربي - تجارب في الضفة الأخرى - بداية الوعي - عودة إلى الوراء - الفيضان الدستور- الاستنطاق – العمل النقابي –الحب والثورة-طنجة المدينة الرائعة –حامة مولاي يعقوب- قسوة القوادات-الجنرال المخيف –روني الفاتنة –الانتقال الى فاس –الاستاذ الأمير –الإضراب –وتستمر الحياة-"

والحقيقة ،أن ما أدهشني فعلا في هذه الرواية، بعد قراءتها ،ليس هو أسلوب الحكي ، ولا الحبكة الفنية والجمالية أوالبناء السردي، فهناك تكامل وانسجام واضحين يحسد عليهما قيدوم الصحفيين والإعلاميين بفاس . بل أن مصدر ذهولي ،كان تجاهل ،أو ربما إخفاء متعمد لجزء محوري من سيرة الروائي الكاتب بوهلال وتساءلت : هل هي حلقة مفقودة ،أم أراد لها المؤلف أن تكون كذلك ؟ بل تقديري كقارئ عاشق كان يميل لاعتبار الجزء المفقود هو الأكثر أهمية على الإطلاق في حياة الكاتب . لذلك ،كنت وما أزال أعتقد كقارئ متحمس ،إن إغفال حقبة مهمة جد مؤثرة وفاعلة في مسار مبدع سارد من حجم بوهلال ،لا يمكن تجرعها بالهواء دون ماء. كما أن إغفالها سهوا أو قصدا ، يعتبر من أقوى المبررات للتشجيع على الاعتقاد بنسيان حقول أخرى أكثر اتساعا من الفقدان في التجربة وهو ما أراه يفسد بنية الواقعية والموضوعية للرواية كسرد سيري ذاتي معاصر. وحاولت إقناع نفسي مرات عديدة ، بفرضية الدهاء . لأن محطة بالغة الأهمية في السياق العام لبناء التجربة الحياتية للمؤلف مثل الشمس في واضحة النهار لا يمكن للعين أن تخطئ إبصارها . لذلك ، قمت بنشر في حينه ،ورقة حول هذا الإصدار القيم ، عبرت ، وشرحت وتساءلت فيها وجهة نظري بكل صراحة وموضوعية . وسرعان ما تأكدت نبوءة العراف . وجاء الرد ،الذي آثر الحاج محمد بوهلال أن يكون عملا روائيا ممتدا إلى ما لا نهاية ، في شكل جزء ثاني من الرواية وربما ثالث ورابع ....
مرت سنوات على توقف جريدة صدى فاس ورقيا . وماتزال حاضرة رقميا على منصة اليوتوب في شكل وصلات إخبارية وإطلالات ثقافية وسياسية . وما تزال تحتل الصدارة على صعيدين الجهوي والوطني في الذاكرة الإعلامية .وربما أفضل جريدة ورقية مبادرة محاربة ومستميتة في الدفاع عن انتظارات ساكنة جهة فاس مكناس من حيث الحفر والنبش في انتكاسات المعيش اليومي ،واقتفاء الأثر المجتمعي لساكنة مليونية بخط تحريري لا منبطح وغير مهادن .
قرأت كافة أعداد الجريدة ، وساهمت في معظم أعدادها ككاتب منذ صدورها بداية الثمانينيات ، كانت محطة للتألق ، برزت بها وفيها ،نبغت أسماء وتجارب ، وكتب فيها الكثيرون بأطياف قوس قزح، وصدرت الجريدة بالنظامين المألوفين في عالم النشر ،الوقوف والتوقف القهري .

أذكر أن النهار كان يقترب من نهايته ، ذات سبت بارد ،وهب نسيم رطب على الزاوية الركينة من مقهى إيريس، المطل على شارع الجيش الملكي .فأحسست بارتعاشة ديسمبرية تملؤني ، فمن عادة الزميل محمد بوهلال مالك المقهى ،أن يحضر قبل حلول الظلام ، ويصافح ثلة من الأصدقاء الذين يعرفهم ، يعرفون بعضهم البعض حديثا، منهم من أتى به السياق العام للبحث عن مكان هادئ بفاس العالمة. ، ولما كان أغلب زبناء إيريس ينتمون للجسم الصحفي والإعلامي ،فإن كتاباتهم في مختلف المجالات الحية على صفحات جريدة صدى فاس كانت توحدهم ،و الدردشة في راهن المغرب الاجتماعي ،ومستقبله السياسي، كانت تمتد إلى ما لا نهاية ، أما الجدل المعرفي في الشعر الثقافة والأدب والفن ، كان لابد فيه من الذكاء ، وحضور البديهة ، واللغة الشائكة، والناعمة في الحوار. لكن السؤال هو ظل دائما :هل العمل الصحفي والفعل الثقافي عموما ، أمر سهل وبسيط،وبإمكان الجميع امتطاء صهوته ؟
لا إجابة سريعة ، ثمة نقاش مفتوح ، وآذان صاغية حتى النهاية ، وجوه تكتفي بالسمع والاستمتاع ، وأخرى تدلي بدلوها غير عابئة ، فمرحلة النضج آتية لا محالة . كانت "إيريس" أشبه بعش طير تم بناؤه عاليا ، يتوارى خلف البنايات والأبراج السكنية، له سقف بفكر يساري ،وتربة خصبة بلا رقابة. كانت تشكل تجمعا مهيبا لتجارب بخبرات ورصيد معرفي متمكن وضليع في مختلف ضروب المعرفة .أسماء بارزة في النقد والأدب باللغتين العربية والفرنسية ، أدباء نقاد صحفيون ، إذاعيون ، وكوادر قانون ، ورجال أعمال ، أطباء ومهندسون ، أطر تربية وتكوين وطلبة الجامعة، لا يكتمل يومها ، إلا بالتحليق حول موائد ، مرصعة بالفناجين وكؤوس الشاي، وبالسلام على بوهلال ، الذي يحضر يوميا بعد السادسة لكنه تأخر اليوم ، لأسباب تتعلق باستيلام نسخ من العدد الجديد لجريدة صدى فاس الذي سيتم توزيعه للقراءة مجانا على زبناء إيريس .

يمكنني اليوم، أن أتذكر سماعه وهو يخاطب زبناء المقهى، ويرحب بالجديد الوافد بمودة ولطف فائقة للغاية . مطمئنا على أحوالهم الصحية والحياتية وابتسامته لاتفارق محياه . لم تكن إيريس مقاولة استثمارية بالمعنى المتعارف عليه ،ولم يكن مشروعا ربحيا على الإطلاق . فالكثير من الزبناء كانوا طلبة وشبابا جامعيا ، حتى أن بوهلال في الكثير من الأحيان ،كان يضم ما يستهلكه أغلبهم لحسابه الشخصي . وكان هذا الاحتفاء يشمل أحيانا الضيوف الجدد الوافدين عنوانا بارزا للترحيب والضيافة . ارتشفت من فنجاني رشفة ،وسرعان ما استوى العالم أمامي دائريا ، وتحررت، وبات بالإمكان الإمساك به على نحو غريب ، ثم تابعت تصفح العدد الجديد من الاتحاد الاشتراكي ورديفها صدى فاس الذي توفره إيريس خدمة مجانية لزبنائها . حدث هذا ذات خريف ، وتكرر المشهد ذاته أصيافا ، ثم توقف كل شيء بعد ذلك.

وتعاظم سؤالي وتفاقمت حيرتي " ألم تكن إيريس بحق قطارا يسير نحو وجهة المستقبل بسرعة فائقة ، يمتطيه برحابة رجال حالمون بحمولة ثقافية الأكثر جرأة ونضوجا على الإطلاق؟ . ألم يكن ذلك المبنى المتواضع قلب المدينة الجديدة صرحا اجتماعيا ، وبوثقة تتلاقح فيها الأفكار ، في تنام مضطرد لتبني بإصرار تكامل الحاجات، وتلبية انتظارات العلاقات الإنسانية في تدبيرها اليومي المكيد . في ناظم أخلاقي يعززها ويرسخها سبيلا نحو الخلاص ؟. ألم تكن إيريس في جوهرها مدرسة مكتملة الأركان ،لإرساء معالم ثقافة محددة المعالم ونموذج تنموي طموح ، ركيزته المعرفة والوعي بالذات والمجتمع ؟ وهناك تعرفنا على شيخ الشعراء ،وكبار الأطباء، وتواضع النبلاء، وإخوان الصفاء ، وروائع الجلسات والسهرات الفنية والأدبية بخيلاء.
لذلك ،بدا لي الأمر مريعا كقارئ متحمس، وتساءلت : كيف يجرؤ بوهلال على النبش في ليالي مغامراته الشبابية مع عشيقاته الفاسيات والعبريات ،ولم يكلف نفسه عناء المرور على طيف"مقهى إيريس" ؟ تلك المحطة الملهمة التي أثثت بشكل بارز تقاطع شارعي الجيش الملكي والمركب الثقافي الحرية وسط العاصمة العلمية؟ مقهى "إيريس" الأدبي التي شكلت على مدى عقود ملاذا للمثقفين والإعلاميين ،ومنبرا حرا لرجال الفكر والسياسة والأدب ، وتجمع صحي للأطباء يقدم خدمات علاجية بلبوس إنساني. كانت إيريس رقم أساسي ومعادلة محورية معادلة فيها ومن خلالها وبواسطتها تم نسج مآت العلاقات الإنسانية ، وتسييج حقول معارف، بل وبناء آلاف العلاقات الإنسانية العميقة المفعمة بالحماس والحس الوطني والوعي القومي ،بإذكاء نظريات التعايش بين الناس من مختلف الديانات والأعراق.

"إيريس" المقهى الأدبي ، هذا الجبل الوجودي ، هذا المشروع المادي الذي كان في ملكية محمد بوهلال لعقود ،لم يكن محلا تجاريا ناجحا بالمعنى التجاري للكلمة . بل كان ملتقى حقيقيا للأفكار الحالمة. ونقطة تجمع للنضال على كل الواجهات من أجل حياة أفضل، هناك نشأت مواهب شبابية ، وتأسست علاقات اجتماعية وثقافية من عيارات ثقيلة ووازنة، جمعت الأطباء والمهندسين الدكاترة المحامين الشعراء والأدباء،الطلبة، الباحثون من مختلف المسالك والشعب الجامعية، الذين وجدوا في جريدة "صدى فاس" التي كان يرأس تحريرها محمد بوهلال رفقة طاقم إعلامي مناضل مستنير ، هامشا حقيقيا للحرية والإبداع الفكري والأدبي. تلك الجريدة الورقية التي رغم الصعوبات المادية التي كانت تعترضها ظلت صامدة دون دعم حقيقي من السلطات المحلية والمركزية حتى اليوم ، فاسحة المجال واسعا دون رقابة لنشر الأفكار وإبراز المواقف لكل الأطياف والفئات المجتمعية .


صحيح ،من حق الكاتب أن يخفي ما يريد من الوقائع والأحداث ، ويجهر بما يشتهي منها متى وكيفما أراد في بنائه السردي والحكائي ، لاسيما إذا توجه للقارئ البعيد المفترض الذي يمتلك حق التأويل والفهم بمزاج .أما أن يقوم بذلك، ويتوجه به نحو أجيال عايشت المرحلة نابضة بتقلباتها الظرفية ،كما جايلت انتظارات الحقبة وانكساراتها ورافقت منحنيات حياتها بتفاصيلها الدقيقة، بل كانت فاعلة ومتفاعلة، لاشك أنها ستصاب بالصدمة ،وهي تنقب وتقتفي آثارها كما تقتفي الضواري أقدام فرائسها، ولم تعثر على إيحاءاتها في السيرة، فتلك من الفلتات التي وجب الانتباه إليها في نسيج السرد الذاتي في هذا العمل الروائي الباذخ.


والحقيقة أن لا القارئ ولا مقهى"ايريس" غفرا للروائي محمد بوهلال زلته. لكن، ما يشفع لحيرتهما وذهولهما ،تلك القناعة الراسخة في نفوس الجميع بكون"ايريس"المقهى الأدبي ، شكل بكل المقاييس محطة ملهمة من أهم المحطات الرائعة في مسيرة الكاتب محمد بوهلال الثقافية الإعلامية والسياسية، ومن المرجح جدا ، أن يكون هذا الإغفال مقصودا ، إذ سيشكل موضوعا لعمل إبداعي قادم،لا سيما وأن الحديث عن الموضوع قد تكرر مرات عابرة مع المؤلف ذاته. وهو ما حصل بالفعل .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. القناة 12 الإسرائيلية: اجتماع أمني تشهده وزارة الدفاع حاليا


.. القسام تعلن تفجير فتحتي نفقين في قوات الهندسة الإسرائيلية




.. وكالة إيرانية: الدفاع الجوي أسقط ثلاث مسيرات صغيرة في أجواء


.. لقطات درون تظهر أدخنة متصادة من غابات موريلوس بعد اشتعال الن




.. موقع Flightradar24 يظهر تحويل الطائرات لمسارها بعيداً عن إير