الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مقتطف من كتابي رحلة في الذاكرة

الحبيب حميدي
استاذ

(Hmidi Hbib)

2022 / 2 / 26
الادب والفن


حاول أن يصيب قليلا من الرّاحة في غفوة تذهب عنه بعض الجهد وتبدّل أفكاره ليستعيد انسجامه. يتكئ يسارا ويتكئ يمينا ويتمدّد ولو في العناء لكنهّ لم يقدر لا باليمين ولا باليسار فما وجد راحة وما أمكنت له فكرة غير ما نقب رأسه من التفّكير في الحرب.
ما كان ليروم النوّم في سفركما يرومه بعض الناّس وما اعتاد عليه إلاّ وهو في مأمن ومطمأنّ بل لعلهّ لا يحبّ النوّم قطّ فهولا ينام الليّل إلاّ أقلهّ. كان يرى النوّم زمنا مهدورا والليّل نصفا من العمر لذيذ اجتناء. على أنهّ لا يخيبّ نهاره حين يفرغ جدّه.
فقد اعتاد منذ زمن بعيد ألاّ يقبل على مراجعة الدّروس وعلى إعداد المقرّرات منذ أن أصبح أستاذا في الواحدة والعشرين من عمره إلاّ حيث مجتمع الناّس. يحبّ الصّخب ويهفو إلى الضّجيج ويجلبه الحشد طلوعا سميعا بصيرا أو هكذا شاء أن يكون. تدفئه المناكب وتشوقه السّوق. كان حربا على الوحدة كأنمّا به رغبة للانتشار والتمدّد وملء الحياة. يطلع على الأياّم كشعاع الشّمس ويكل نفسه دوما لهمّ ناصب. ينشط في غمرة المواجهة العنيدة وتلفحه ريح الشّرق والغرب نارا وبردا فإذا جنهّ الليّل سكن وما أحبّ سكون الليّل إليه.
لكنّ هذه الحرب وهؤلاء المفسدين في الأرض وهم يسفكون الدّماء أفسدوا عليه نهاره الجادّ وليله المطمئنّ السّاكن لقد تحوّلت هذه الأياّم كلهّا إلى شرّ منشور مستفز ّيجدل من عروق جسده فتائل للغضب والعنف ويبدّد جهده.
كان حبهّ لليّل حباّ عجبا يرى فيه قدسيةّ جليلة وحالة روحيةّ وجدانية خاصّة يستيقظ فيه معنى وجوده وتتفتحّ فيه ورود الحياة الصّامتة بعد أن أغضت أوراقها شبكات النهار.
كان يقول: الليّل لخاصّة النفّس وهدوئها فيه يتبدّد ضغطها وشغبها وتوترّ أسباب معاشها.
الليّل صمت الفكر الرّصين ينسكب هادئا من عين الصّفاء له هيبة العالم الجليل يعلم الجلوس بين يديه ويمنح للفكر المرهف معنى الحرّية وسكينة المعرفة ومن أراد بنفسه شرّا أفسد عليها سكينتها وحرّيتها.
يحبّ الليّل حباّ كبيرا ويعرف فعل الليّل في نفسه ولكنهّ لا يجد لهذا الحبّ ولا لنفسه ما يجمع شتاته ويردع تشتتّه إلاّ استغراقه في السّهر وبين الكتب. وإنّ حياته لتنقلب أيمّا انقلاب. فعند الليّل ينشأ فيه كلّ شيء إنشاءً فكرا ونشاطا وروحا وشعورا.
لم يكن يبالي أين يقضّي ليله فمنذ أن يغادر التلّاميذ والقسم والمعهد
ومنذ أن يلقي بمحفظة الأستاذ على مكتبه المفرد يستعدّ للسّهر يستبدل زياّ بزيّ تأنقّا وبهرجا وحيثما حلّ تجدّد ومشى. اختال وتمطّى لا تمنعه لغة ولا يحبسه وقار. لعينيه الجسّاسة حاسّة منقطعة النظير لا تخطئ النفّيس.
ما أروع أن يمضي الليّل في فندق الأهرام أو الرّياض وكلاهما لا يبعد عن منزله إلاّ مسافة قليلة أمّا إذا اقتضى شيطان السّهر وانبساط الشّبيبة فإلى عمر الخيام أو فينيسيا أو مكسيكو وما بينها برزخ ومسافة من دراهم وهّاجة وعلى قلةّ ذات اليد كان ينفق هو وصحبه ما شاء لهم أن ينفقوا. يعودون الليّل خفافا ويغدون عنه ثقالا وقد أصاب رؤوسهم وبطونهم ما أصابها من شراب ودون شراب يغشون النهّار بالدّرس والليل بالعرس إلاّ هو فقد ظلّ كعهده بنفسه على محلىّ القازوز لا يأبه لخمر أو قهوة ف ل ه في وجدانه خمرة أخرى كما لو كان بها على أقدام الصّوفية يتخلىّ فيها عمّن هو أو يتسترّ فيها على قلق كونيّ يغيب عنه مأتاه بينما الليّل في الفندق أعراس فمن البهو إلى المسابح إلى الشّاطئ الذّهبي المترامي وجوه وقدود من الحياة الغربيةّ باسمة حرّة مستمتعة مستلقية. تستطيب شمس الصّيف وتستدرج الوهج وسمرة أهل البلد.
يراها ويتأمّل تنعمّها بالبحر والشّمس غير عابئة إلاّ بانشراحها في جمال الطّبيعة وسعادتها في استمتاعها بحرّيتها فلا تقرأ
حسابا لعيون زائغة وعقول واهنة هنا أو هناك.
تأتي أسرابها في الحافلات مع خطاطيف الرّبيع تمرح على الحبال وأسلاك الكهرباء وتنام بأعشاش الحيطان ثم تغدو للشّمس تداعب البحر والرّمل وتستلقي قطعا وسبائك ذهبيةّ على الشّاطئ.
وفي الليّل بين الأشباح السّائبة وعلى بتلات من نور وعزف من قوارير وموسيقى على الكؤوس القارعة، كان يستطيع أن يستأذن ويجلس ويسمر ثمّ ينقضي ليل وليال وبين ثمالى وثقالى يستمرّ حديث وصمت. وفي الصّمت حديث. وفي الصّمت صخب ويتجدّد السّهر ويتغيرّ المكان وويل الفتى الشاعر:
اتتني الشمس زائرة ولم تك تبرح الفلكا
تقول إذا خلوت بها تحدث واكفني يدكا
كجارية غربيةّ يلينّها بغزل الشّرق وعطور الشّرق وحكايات ألف ليلة وليلة وكلّ طريف فتهشّ نفسها لكيل لا يؤجره الله عليه. وهو مع ذلك قلق على قلق أو حال أخرى بين حالين كحال من تنزّل بين منزلتين.
لم يكن يعرف له مستقرّا. الكراسي ضيقّة والمدينة ضيقّة وأرض الله ضيقّة. يسهر حتىّ يظنّ أن لا يفيق ويقرأ حتىّ يظنّ أن لن يكفّ فلا الشّراب ولا الكتاب ولا العباد بشيء ممّا يغنيه.
فإذا استوفى السّهر ثم آوى إلى فراشه واستلقى أصبح على الكتب والمجلاتّ مزروعة هنا أو هناك. كان يعدّ لمطالعاته متكّأ أو مستندا على الحائط يستدير إليه يقلبّ الصّفحات ولا يلتفت ولا يتزحزح عن فراشه وهو في دفء عميم.
يستند ويقبلّ قبلة الحائط ويعدّل موضعه ثم يسرّب أصابعه إلى الأوراق يتملىّ الكتاب. يفعل ذلك كلّ ليلة كما لو كان يتطهّر إلى عبادة.
لقد اعتاد على القراءة ولو بعد طول سهر، فكثيرا ما كان يسهر وكثيرا ما كان يقرأ حتىّ إذا أصابه استرخاء استسلم ونام.
وكم ظلّ يدفعه القول إلى القول والرّأي إلى الرّأي حتىّ يصبح فإذا أصبح نام نوم المتفضّل وقد يعنّ له أن يتأخّر عن العمل وقد يعنّ له ألاّ يذهب الى العمل مطلقا فلذّة ما كان يصيبه من المطالعة وما يدفئ جوانحه من البهجة والأمان والسّكينة في رحاب الفكر أبهج له وأزهر من هرج السّواد وغبار الشّارع ولا يهمّه إن لم يكسب أجرة اليوم من وظيفته التي لا تسمن ولا تغني.
لقد ظلّ أياّما يأسف على ما فرّط لأنهّ غادر السّويد وأكل الندّم أصابعه لأنهّ لم يحصل من عمله وجهده وغربته وشهادته الجامعية وهو من هو الآن بمحفظته الكبيرة في بلده إلاّ على أقلّ من ثلث أجره حين كان طالبا عاملا بمطعم في ستوكهولم








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا