الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أوكرانيا، العلة ليست في بوتين وحده

راتب شعبو

2022 / 3 / 1
مواضيع وابحاث سياسية


يحتاج النظر في الغزو الروسي لأوكرانيا إلى الفصل بين مستويين، الأول هو مستوى الإدانة الأكيدة للاعتداء الروسي على سيادة وحقوق دولة وعلى أمان وسلامة وحياة شعب، والتضامن الأكيد مع هذا الشعب، ولا يوجد في العالم أحد يستطيع أن يفهم ويشعر بحال الشعب الأوكراني اليوم، أكثر من الشعب السوري الذي ينتمي له كاتب هذه السطور. والثاني هو فهم تكون شروط انفجار الحرب وسياقها، دون الاستسلام إلى إغراء الاختزال بثنائية فقيرة وإن تكن مريحة، فيبدو أن طرفي الصراع المندلع هما الديموقراطية من جهة، وأعداؤها من جهة أخرى، وأن السبب الأساسي لاندفاع العدوانية الروسية هو اقتراب الديموقراطية (وليس اقتراب حلف الناتو) من حدودها، كما يقول البعض مدللين على قولهم بأن الناتو موجود سلفاً على حدود روسيا في جمهوريات البلطيق، دون أن ينتبه هؤلاء إلى أن الديموقراطية أيضاً موجودة سلفاً على حدود روسيا، ممثلة في هذه الجمهوريات نفسها. وإذا كانت الحجة أن أثر الديموقراطية في أوكرانيا على روسيا أكبر، يمكن القول، بأن وجود أوكرانيا في حلف الناتو له أثر أكبر على روسيا أيضاً. وهناك من يختزل الأمر في القول إن دافع التحرك العسكري ضد أوكرانيا هو النزعة التوسعية الروسية، دون إي إضافة، كما لو أن النزعة التوسعية أمر مستجد أو خاص بقوة عظمى دون غيرها.
لا يصح اعتبار أن طبيعة النظام الروسي البعيد عن المعايير الديموقراطية، أو أن الطبيعة الشخصية التسلطية لفلاديمير بواتين ونزوعه إلى إعادة إحياء الإمبراطورية الروسية، هو ما يفسر الاعتداء الروسي على أوكرانيا. فالديموقراطية في أميركا لم تمنع الرئيس جون كينيدي من التهديد بإشعال حرب عالمية ثالثة ما لم يسحب الاتحاد السوفييتي الصواريخ التي نصبها في كوبا عام 1962، ولم تمنع الديموقراطية أميركا من اعتبار أميركا الجنوبية حديقة خلفية لها، بكل ما يعني هذا الاعتبار من تحكم ومن نشوء أنظمة حكم عجيبة، صارت مادة لأدب امريكي لاتيني عالمي. كما أن الديموقراطية في بريطانيا لم تمنعها، مثلاً، من غزو جزر الفوكلاند أو المالفيناس في عام 1982، لتأكيد سيطرتها على الجزر. في الأمر مصالح أمنية استراتيجية لقوى كبرى، وهذه مستقلة إلى حد كبير عن نوعية النظام الحاكم أو شخصية الرئيس فيه.
في عالم اليوم توجد أنظمة ديموقراطية تستقر على علاقات قوى داخلية فيها قدر جيد من تقييد السلطات لصالح حضور مؤثر للرأي العام والمجتمع المدني والقيم الديموقراطية، ما يخلق توازن معقول في العلاقة بين السلطة السياسية والمجتمع. وتشكل الولايات المتحدة وأوروبا الغربية المجال الأهم لحضور هذه الأنظمة. كما توجد أنظمة تسلطية يكون المجتمع فيها مكبلاً، بحدود متفاوتة، تجاه السلطة التي تستولي على المجال العام وتميل إلى تأبيد ذاتها، وتشكل روسيا والصين المجال الأبرز لهذه الأنظمة. فقد عدل بوتين الدستور بحيث يمكنه الاستمرار في الحكم حتى 2036، كما عدل الرئيس الصيني شي جين بينع الدستور وصار يمكنه الاستمرار في الرئاسة مدى الحياة. غير أن العلاقات الخارجية لهذه الدول الكبرى تحكمها أساساً المصالح الاستراتيجية الاقتصادية والسياسية، أكثر مما يحكمها شكل النظام السياسي فيها. لا يحتاج الأمر إلى التذكير بأنه كثيراً، أو غالباً، ما وقفت الديموقراطيات الغربية داعمة لأنظمة ديكتاتورية في غير مكان من العالم، وشنت حروب لإسقاط سلطات منتخبة.
السعي الأمريكي لإغراق روسيا "في المستنقعات" مستمر، وما يجري في أوكرانيا يشبه ما جرى ويجري في سوريا، فهو يندرج في السياق نفسه، وإن كانت الحلقة الأوكرانية أكثر خطورة، بسبب موقعها الجغرافي الأوروبي. السياسة الأمريكية تقوم على خلق شروط الحرب في بقعة ما، مستفيدة من عناصر محلية محقة وعادلة، ثم الاستثمار في الصراع المشتعل، والعمل على ضبطه ومنع انتشاره. وميزة هذا النوع من الصراعات التي تجتهد وتساهم أميركا في خلق شروط اندلاعها، أنها تعود بمكاسب لأميركا في كل حال، وكيفما مالت النتائج، على أن أميركا تحرص، كما نشهد في سورية وفي العراق واليمن وليبيا، على إبقاء الصراع مستمراً تحت عتبة الحسم. ومن المرجح أن تدخل الحرب في أوكرانيا هذه الحال أيضاً، كما "تنبأ" الرئيس الفرنسي بالقول: "الحرب في أوكرانيا ستطول". ومن المفهوم أن في ذلك عزل وإرهاق عسكري واقتصادي لروسيا، وفيه شد لعصب الناتو، حتى أن بلدان حيادية تاريخياً مثل السويد وفنلندا بدأت تفكر، على وقع العدوانية الروسية، بالانضمام إليه. هذا في حين كان ترامب قد قال في بداية ولايته الرئاسية إن "الناتو مؤسسة عفا عليها الزمن"، وتردد إنه يريد الانسحاب من الناتو.
لا نتجاوز على المنطق إذا قلنا إن السياسة الأميركية حيال روسيا (عدم احترام المجال الحيوي لقوة عظمى) ساهمت في تهيئة التربة المناسبة لبروز أمثال بوتين الذي خاطب الشعب الروسي قبيل غزوه أوكرانيا باللغة التي لها مستقبلات خاصة عند الروس عبر التاريخ: "من أين تأتي هذه الطريقة الوقحة في التحدث من موقف الهيمنة والفوقية؟ من أين يأتي الموقف المستهتر والازدرائي تجاه مصالحنا والمطالب المشروعة المطلقة"؟ وقد كان يمكن إحراج بوتين لو تعهدت أميركا أو أوكرانيا بعدم انضمام هذه الأخيرة إلى الناتو. ولا شك أن حماية أوكرانيا من غزو روسي لا يحتاج إلى دخول حلف الناتو، فلم تكن الكويت في حلف الناتو حين دخلت اميركا حرباً واسعة لاستعادتها من العراق، كما أن الناتو تنكر لتركيا، وهي عضو في حلف الناتو، ووجدت نفسها وحيدة إزاء روسيا في أزمة إسقاط الطائرة الروسية في 2015. غير أن الإصرار الأميركي ودفع أوكرانيا إلى رفض التعهد، هو سياسة خلق شروط الحرب، وقد لاحظ العالم التخلي الأميركي والخذلان الاوكراني مع اندلاع الحرب.
ولا نتجاوز على المنطق إذا قلنا إن السياسة الأمريكية حيال الثورة السورية (تساهل مع بروز التيارات الجهادية ثم مع التدخل الروسي) ساهمت في وصول الحال السوري إلى هذا الحضيض. وليس في كل هذا خطأ سياسي في الحسابات، بل هو بالأحرى سياسة محددة، غايتها إبقاء العالم في حالة إنهاك وحاجة مستمرة إلى السلاح. الحروب المحصورة هي حاجة مستمرة للنظام العالمي المختل الذي نعيش فيه، فالدول الخمس الدائمة العضوية في "مجلس الأمن" هي الدول الأكثر إنتاجاً للأسلحة، ويمكننا إذن أن ندرك ما هو "الأمن" في منظورها.
صحيح إن النظام الروسي نظام تسلطي يساند الطغم المستبدة، وإن الشعب السوري من بين أكثر الشعوب التي ذاقت الويلات على يد هذا النظام، الحليف للنظام الكيماوي السوري، مع ذلك لا مهرب من رؤية علاقات القوى الدولية وصراعاتها المستقلة بصورة شبه تامة عن مصالح الشعوب، لا بل المعادية لمصالح الشعوب. النظام العالمي بقطبيه (الديموقراطي والمستبد) يجعل من المطالب العادلة والمحقة للشعوب عناصر للاستهلاك، ومن الشعوب مادة للقتل وللتشرد والبؤس، في ماكينة الصراع فيما بينهما. ومن العبث التعويل الجدي على أي منهما، في الصراع لترسيخ شروط حياة أفضل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. منها متحف اللوفر..نظرة على المشهد الفني والثقافي المزدهر في


.. ماذا تضم منظومات الدفاع الجوي الإيرانية؟




.. صواريخ إسرائيلية تضرب موقعًا في إيران.. هل بدأ الرد الإسرائي


.. ضربات إسرائيلية استهدفت موقعاً عسكرياً في جنوب سوريا




.. هل يستمر التعتيم دون تبني الضربات من الجانب الإسرائيلي؟