الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الرأسمالية والصحة العقلية – دافيد ماتيو *

سعيد العليمى

2022 / 3 / 2
الصحة والسلامة الجسدية والنفسية


إن أزمة الصحة العقلية تجتاح العالم. وتشير التقديرات الأخيرة لمنظمة الصحة العالمية إلى أن أكثر من ثلاثمائة مليون شخص يعانون من الاكتئاب في جميع أنحاء العالم. علاوة على ذلك ، يُقال إن 23 مليونًا يعانون من أعراض الفصام ، بينما ينتحر ما يقرب من ثمانمائة ألف فرد كل عام. ( 1 ) إن إضطرابات الصحة العقلية داخل الأمم الرأسمالية الإحتكارية ، هى السبب الرئيسى لتدهور متوسط العمر بعد أمراض القلب والسرطان .( 2 ) يُقال أن في الاتحاد الأوروبي ، 27.0 في المائة من السكان البالغين الذين تتراوح أعمارهم بين ثمانية عشر وخمسة وستين عامًا قد عانوا من مضاعفات تتعلق بالصحة العقلية( 3 ) .أضف إلى ذلك ، تزايدت فى إنجلترا وحدها حدة إعتلال الصحة العقلية على مدى العقدين الأخيرين. ويوضح أحدث استطلاع للرأي عن الأمراض النفسية للبالغين في الخدمة الصحية القومية أنه في عام 2014 ، عانى 17.5 في المائة من السكان فوق سن السادسة عشرة من أشكال مختلفة من الاكتئاب أو القلق ، مقارنة بـ 14.1 في المائة في عام 1993. بالإضافة إلى ذلك ، فإن عدد الأفراد الذين كانت معاناتهم شديدة بما يكفي لتستدعى التدخل العلاجى ارتفعت من 6.9 في المائة إلى 9.3 في المائة. ( 4 )

تهيمن فى المجتمع الرأسمالى التفسيرات البيولوجية على مفاهيم الصحة العقلية ، وتتخلل الممارسة المهنية والوعي العام. وترمز إلى هذا نظرية الاختلالات الكيميائية في المخ - التي تركز على إشتغال الناقلات العصبية مثل السيروتونين والدوبامين - والتي استحوذت على الوعي الشعبي والأكاديمي على الرغم من عدم وجود مايعززها إلى حد كبير . (5 )علاوة على ذلك ، عند تأمل شعبية الاختزال الجيني في العلوم البيولوجية ، نرى هناك جهدا لتعيين التشوهات الجينية كسبب آخر لاضطرابات الصحة العقلية .( 6 ) ومع ذلك ، فشلت التفسيرات المستندة إلى علم الجينوم أيضًا في تقديم دليل قاطع .( 7 )بينما تقدم التفسيرات البيولوجية ضمنيا إستبصارات لامعة بشأن بعض حالات نوعية من ضعف الصحة العقلية إلا أنها بعيدة كل البعد عن أن تكون كافية في حد ذاتها. ما هو واضح تمامًا واقع وجود أنماط اجتماعية دالة توضح استحالة اختزال الصحة العقلية السيئة إلى الحتمية البيولوجية.( 8 )

لقد تم التعتيم إلى حد كبير على العلاقة الوثيقة بين الصحة العقلية والظروف الاجتماعية ، مع تفسير الأسباب المجتمعية في إطار الطب البيولوجي وتغطيتها بالمصطلحات العلمية. وغالبًا ما تبدأ التشخيصات وتنتهي عند الفرد ، ونتعرف فيها على نزعة جوهرانية حيوية على حساب دراسة العوامل الاجتماعية. ومع ذلك ، يجب الاعتراف بأن التنظيم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للمجتمع يعد عاملا مساهما دالا في الصحة العقلية للناس ، لذا يكون وجود بعض البنى الاجتماعية أكثر فائدة للناس فى توفير الصحة العقلية من غيرها. باعتبارها الأساس الذي يقوم عليه التكوين البنيوي الفوقي للمجتمع ، فالرأسمالية هي محدد رئيسي لسوء الصحة العقلية. وكما جادل الأستاذ الماركسي للعمل الاجتماعي والسياسة الاجتماعية لاين فيرجسون ، فإن "النظام الاقتصادي والسياسي الذي نعيش في ظله - الرأسمالية - هو المسؤول عن المستويات العالية الهائلة لمشاكل الصحة العقلية التي نراها في العالم اليوم. . " إن التخفيف من الإجهاد العقلى ممكن فقط " في مجتمع خالٍ من الاستغلال والاضطهاد". ( 9)

أرسم فيما يلي ، بإيجاز حالة الصحة العقلية في الرأسمالية المتقدمة ، مستخدماً بريطانيا كمثال موظفاإطار التحليل النفسي للماركسي إريك فروم ، الذي يؤكد أن جميع البشر لديهم احتياجات معينة يجب الوفاء بها من أجل ضمان الصحة العقلية المثلى. . ودعمًا لتأكيد فيرجسون ، أبرهن علي أن الرأسمالية حاسمة فى تحديد معاينة وشيوع الصحةالعقلية ، حيث أن عملياتها لا تتوافق مع الحاجة الإنسانية الحقيقية. سيتضمن هذا الرسم التخطيطي تصويراً للحركة الواعية سياسياً لمستخدمي خدمات الصحة العقلية التي ظهرت في بريطانيا في السنوات الأخيرة لتتحدي التفسيرات البيولوجية لإعتلال الصحة العقلية وتدعو إلى إعتبار عدم المساواة والرأسمالية في قلب المشكلة.

الصحة العقلية والرأسمالية الاحتكارية

في الفصول الأخيرة من كتاب الرأسمالية الإحتكارية Monopoly Capital ، أوضح بول باران وبول سويزي عواقب احتكار الرأسمالية على الصحة النفسية ، مبرهنين على أن النظام أخفق في "توفير أسس مجتمع قادر على إشاعة التنمية الصحية والسعيدة لأعضائه. (10 )ولتجسيد اللاعقلانية واسعة النطاق للرأسمالية الاحتكارية ، فقد أوضحا طبيعتها المهينة. يمكن اعتبار العمل ممتعًا للأقلية المحظوظة فقط ، بينما يعتبر بالنسبة للأغلبية تجربة غير مرضية تمامًا. عند محاولة تجنب العمل بأي ثمن ، غالبًا ما يفشل الترفيه في تقديم أي عزاء ، لأنه يصبح أيضًا بلا معنى. جادل باران وسويزي بأن وقت الفراغ بدلاً من أن يكون فرصة لإشباع الشغف ، أصبح مرادفًا إلى حد كبير للكسل. وتنعكس الرغبة في عدم فعل أي شيء في الثقافة الشعبية ، حيث تثير الكتب والتلفزيون والأفلام حالة من المتعة السلبية بدلاً من حفزها الطاقات الذهنية (11).إن هدف كلا من العمل ووقت الفراغ كما زعما تدور إلى حد كبير حول زيادة الإستهلاك . ولم تعد السلع الاستهلاكية تُستهلك لاستخدامها ، فقد أصبحت علامات راسخة للمكانة الاجتماعية ، وإعتبار الاستهلاك وسيلة للتعبير عن الوضع الاجتماعي للفرد. ومع ذلك فإن النزعةالاستهلاكية ، في نهاية المطاف تولد عدم الرضا لأن الرغبة في استبدال المنتجات القديمة بأخرى جديدة تجعل الحفاظ على مكانة المرء في المجتمع بمثابة سعي متواصل حثيث لمستوى لا يمكن الحصول عليه. جادل باران وسويزي أنه "أثناء تلبية الاحتياجات الأساسية للبقاء" ، فإن كلا من العمل والاستهلاك "يفقدان بشكل متزايد محتواهما الداخلي ومعناهما" ( 12 ). والنتيجة هي مجتمع يتسم بالفراغ والتدهور. مع وجود احتمال ضئيل لتحريض الطبقة العاملة على العمل الثوري ، فإن الواقع المحتمل هو استمرار لـ "سيرورة الانحلال الحالية ، حيث تصبح التناقضات بين ضغوط النظام والاحتياجات الأولية للطبيعة البشرية أكثر صعوبة من أي وقت مضى" ، مما يؤدي إلى " انتشار الاضطرابات النفسية المتزايدة الخطورة. "( 13 ) يظل هذا التناقض بارزا على الدوام فى النطاق الحالى للرأسمالية الإحتكارية . لا يزال المجتمع الرأسمالي الاحتكاري الحديث يتسم بعدم التوافق بين سعي الرأسمالية الدؤوب للربح ، من ناحية ، والاحتياجات الأساسية للناس من ناحية أخرى. ونتيجة لذلك ، يتم تقويض الشروط المطلوبة للصحة العقلية المثلى بشكل عنيف ، حيث يعاني المجتمع الرأسمالي الاحتكاري من الاضطرابات العصابية ومشاكل الصحة العقلية الأكثر خطورة.

إريك فروم: الصحة العقلية والطبيعة البشرية

تأثر فهم باران وسويزي للعلاقة بين الرأسمالية الاحتكارية والفرد بشكل كبير بالتحليل النفسي. فقد أشارا على سبيل المثال ، إلى مركزية الطاقات الكامنة مثل القوة الحيوية الدافعة ( الليبيدو )والحاجة إلى إشباعها. علاوة على ذلك ، قبلا الفكرة الفرويدية القائلة بأن النظام الاجتماعي يتطلب قمع القوة الحيوية الدافعة وتساميها وتكييفها لأغراض مقبولة اجتماعيًا. (14) لقد كتب باران نفسه عن التحليل النفسي. حيث كان قد ارتبط بمعهد البحث الاجتماعي في فرانكفورت في أوائل ثلاثينيات القرن العشرين وتأثر بشكل مباشر بعمل إريك فروم وهربرت ماركوز. (15 ) يمكن التعرف فى هذا الإطار العريض على نظرية الصحة العقلية فى تحليل باران وسويزى . مع التناقضات بين الرأسمالية والحاجة البشرية التي تعبر عن نفسها بشكل رئيسي من خلال قمع الطاقات البشرية. كان فروم ، على وجه الخصوص ، هو من تعين عليه أن يطور موقفًا تحليليًا نفسيًا ماركسيًا فريدًا يبقى ذا صلة بفهم الصحة العقلية فى النطاق الراهن للرأسمالية الإحتكارية . ومن هذا المصدر إستلهم باران أفكاره . ( 16 )

بينما عبر عن أهمية فرويد بشكل واضح ،فقد أقر فروم بدينه الأعظم لكارل ماركس ، معتبرا إياه المثقف الأبرز . ( 17 )بعد أن قبل الفرضية الفرويدية عن اللاوعى والكبت وتعديل الدوافع غير الواعية ، مع ذلك إعترف فروم بإخفاق الفرويدية الأورثوذكسية فى أن تدمج فهما سوسيولوجيا أعمق للفرد في تحليلها. وبعد تحوله إلى الماركسية ، قام ببناء نظرية للفرد الذي يتشكل وعيه من خلال تنظيم الرأسمالية ، مع وجود دوافع غير واعية مكبوتة أو موجهة نحو سلوك اجتماعي مقبول. بينما لم ينتج ماركس أبدًا علم نفس رسمي ، اعتبر فروم أن أسسمثل هذا العلم تكمن في مفهوم الاغتراب ( 18 ). بالنسبة لماركس ، كان الاغتراب مثالًا على التأثير الجسدي والعقلي المميت للرأسمالية على البشر .( 19 ) في جوهره ، يُظهر الاغتراب الذي يشعر به الناس عن أنفسهم وعن العالم من حولهم ، بما في ذلك إخوانهم البشر. تكمن القيمة المحددة للاغتراب في فهم الصحة العقلية في توضيح التمييز الذي ينشأ في ظل الرأسمالية بين الوجود البشري والجوهر. بالنسبة لماركس ، تفصل الرأسمالية الأفراد عن جوهرهم كنتيجة لوجودهم. تغلغل هذا المبدأ في إطار التحليل النفسي لفروم ، الذي أكد أنه في ظل الرأسمالية ، أصبح البشر منفصلين عن طبيعتهم.

جادل ماركس بأن الطبيعة البشرية تتكون من صفات مزدوجة وعلينا "أولاً أن نتعامل مع الطبيعة البشرية بشكل عام ، ثم الطبيعة البشرية كما تم تعديلها في كل حقبة تاريخية".( 20 ) هناك احتياجات ثابتة ، مثل الجوع والرغبات الجنسية ، ومن ثم هناك رغبات نسبية تنشأ من التنظيم التاريخي والثقافي للمجتمع .( 21 ) جادل فروم مستلهما ماركس ، بأن الطبيعة البشرية متأصلة في جميع الأفراد ، لكن مظهرها المرئي يعتمد إلى حد كبير على السياق الاجتماعي . ومن غير المقبول افتراض أن "التكوين العقلي للإنسان هو قصاصة بيضاء من الورق ، يكتب عليها المجتمع والثقافة نصهما ، وليس له صفة جوهرية خاصة به. ... تكمن المشكلة الحقيقية في استنتاج الجوهر المشترك للجنس البشري بأكمله من مظاهر الطبيعة البشرية التي لا حصر لها. " ( 22 ) أدرك فروم أهمية الاحتياجات البيولوجية الأساسية ، مثل الجوع والنوم والرغبات الجنسية ، باعتبارها تشكل جوانب من الطبيعة البشرية يجب إشباعها قبل أي شيء آخر.( 23 ) مع ذلك ، ومع تطور البشر ، فقد وصلوا فى النهاية إلى نقطة التحول من الحيوان إلى الإنسان المتفرد . ( 24 ) عندما وجد البشر أنه من الأسهل بشكل متزايد تلبية احتياجاتهم البيولوجية الأساسية ، نتيجة لسيطرتهم على الطبيعة ، أصبحت الحاجة الملحة لإشباعها تدريجياً أقل أهمية ، مع عملية التطور التي أتاحت تطوير المزيد من القدرات الذهنية والعاطفية المعقدة .( 25 ) على هذا النحو ، لم تعد الدوافع الأكثر أهمية للفرد متجذرة في البيولوجيا ، ولكن في الوضع البشري. ( 26 )

بالنظر إلى أنه من الضروري تأسيس فهم للطبيعة البشرية يمكن على أساسه تقييم الصحة العقلية ، حدد فروم خمس خصائص مركزية للوضع البشري. الأول هو القرابة. فإدراكًا منهم لكونهم وحيدًين في العالم ، يسعى البشر جاهدًين إلى إقامة روابط إتحاد.( 27 ) بدون هذه ، لا يمكن تحمل الوجود كفرد. ثانيًا ، أتاحت هيمنة البشر على الطبيعة إشباعا أسهل للاحتياجات البيولوجية وظهور كفاءات بشرية ، مما ساهم في تنمية الإبداع . طور البشر القدرة على التعبير عن الذكاء الخلاق، وتحويل ذلك إلى خاصية بشرية أساسية تتطلب التحقق .( 28 ) ثالثًا ، يتطلب البشر ، من الناحية النفسية ، أن تكون لهم جذور وأن يشعروا بالانتماء. مع قطع روابط الانتماء الطبيعي عند الولادة ، يسعى الأفراد باستمرار إلى التجذر ليشعروا بالتوحد مع العالم. بالنسبة لفروم ، لا يمكن تحقيق الشعور الحقيقي بالانتماء إلا في مجتمع مبني على التضامن. (29) رابعاً ، يرغب البشر بشكل حاسم في ان يشعروا ويطوروا هويتهم . حيث يجب على جميع الأفراد أن يؤسسوا إحساسًا بالذات ووعيًا بأنهم شخصًا محددًا. (30 ) خامسًا ، من الضروري نفسيًا أن يطور البشر إطارًا يمكن من خلاله فهم العالم وتجاربهم الخاصة (31).

بعرض ما جادل به فروم على أنه طبيعة بشرية شاملة ، فإن إرضاء هذه الدوافع أمر ضروري لتحقيق الصحة العقلية المثلى. وكما أكد ، "تتحقق الصحة العقلية إذا تطور الإنسان نحو النضج الكامل وفقًا لخصائص وقوانين الطبيعة البشرية. وينشأ المرض العقلي بسبب الإخفاق فى تحقيق هذا التطور. " ( 32 ) إذ يرفض فهم التحليل النفسي الذي يؤكد على إشباع الرغبة الجنسية والدوافع البيولوجية الأخرى ، فقد ادعى أن الصحة العقلية ، ترتبط بطبيعتها بإشباع الاحتياجات التي تعتبر إنسانية متميزة. لكن في ظل الرأسمالية ، يجرى إحباط الإشباع الكامل للنفسية البشرية. بالنسبة لفروم ، تكمن جذور إعتلال الصحة العقلية فى نمط الإنتاج والهياكل السياسية والاجتماعية المقابلة ، التي يعيق تنظيمها الإشباع الكامل للرغبات البشرية الفطرية. ( 33 ) وكما يجادل فروم فإن آثار هذا على الصحة العقلية هى "إذا لم تجد إحدى الضروريات الأساسية إشباعًا ، يكون الجنون هو النتيجة ؛ إذا أشبعت ولكن بطريقة غير مرضية ... العصاب ... هو النتيجة. " ( 34 )

العمل وقمع الإبداع

أكد فروم ، مثله فى ذلك مثل ماركس ، أن الرغبة الغريزية في الإبداع تلقى أكبر فرصة للإشباع من خلال العمل. في المخطوطات الاقتصادية والفلسفية لعام 1844 ، جادل ماركس بشدة في أن العمل يجب أن يكون تجربة تحقق ، مما يسمح للأفراد بالتعبير عن ذواتهم بحرية ، جسديًا وفكريًا. كما يجب أن يكون العمال قادرين على الارتباط بمنتجات عملهم كتعبيرات ذات مغزى عن جوهرهم وإبداعهم الداخلي. ومع ذلك ، فإن العمل في ظل الرأسمالية هو تجربة إستلاب تغرب الأفراد عن عمليته. إدعى ماركس أن العمل المغترب يتحقق عندما "يكون العمل خارجًيا بالنسبة للعامل ، أي لا ينتمي إلى كيانه الجوهرى ... لذلك فهو لا يثبت نفسه وإنما ينفى نفسه ، ولا يشعر بالرضا بل بالتعاسة ، ولا يطور بحرية طاقتة الجسدية والعقلية لكنه يميت جسده ويدمر عقله. ( 35 ) تُبذل جهود كبيرة في ظل الرأسمالية ، لضمان توجيه الطاقة البشرية إلى العمل ، رغم أنها غالبًا ما تكون بائسة ومملة.( 36 ) بدلاً من تلبية الحاجة إلى التعبير عن الإبداع ، فإنه كثيرًا ما يقمعها من خلال الالتزام الرتيب والمرهق بالعمل المأجور (37).

هناك استياء واسع النطاق من العمل في بريطانيا. قدّر استطلاع حديث عن الموظفين أجري في أوائل عام 2018 أن 47 بالمائة سوف يفكرون في البحث عن وظيفة جديدة خلال العام المقبل. من بين الأسباب المطروحة ، كانت ندرة فرص التقدم الوظيفي بارزة ، إلى جانب عدم الاستمتاع بالعمل وشعور الموظفين بأنهم لا يحدثون فرقًا . ( 38 ) تبدأ هذه الأسباب في توضيح الاغتراب الراسخ من عملية العمل. والحال أن كثير من الناس يعاينون العمل بوصفه بلا معنى يذكر ويتيح فرصة ضئيلة لتحقيق الذات والتعبيرعنها.
إستنادا إلى هذا الدليل ، يمكن طرح ادعاء أنه في بريطانيا - كما هو الحال في العديد من الأمم الرأسمالية الاحتكارية - يشعر جزء كبير من القوى العاملة بالانفصال عن عملهم ولا يعتبرونه تجربة إبداعية. بالنسبة لفروم ، فإن تحقق الاحتياجات الإبداعية أمر ضروري للحفاظ على الصحة العقلية. بعد أن وهب البشر العقل والخيال ، لا يمكن للبشر أن يتواجدوا ككائنات سلبية ، وإنما يجب أن يتصرفوا كمبدعين .( 39 ) ومع ذلك ، من الواضح أن العمل في ظل الرأسمالية لا يحقق ذلك. تشير أدلة كثيرة إلى أن العمل بعيدًا عن كونه مفيدًا للصحة العقلية ، فهو في هذا الواقع ضار بها. على الرغم من أنه من المرجح أن تظل الأرقام الدقيقة غير معروفة بسبب عدم تعين مثل هذه الخبرات ، يمكن الاستدلال على أنه بالنسبة للعديد من أفراد القوى العاملة ، من الشائع أن يثير العمل التعاسة العامة وعدم الرضا واليأس . علاوة على ذلك ، فإن حالات الصحة العقلية الأكثر شدة ، مثل الإجهاد والاكتئاب والقلق ، تظهر بشكل متزايد نتيجة للاستياء من العمل. في الفترة من 2017 إلى 2018 ، مثلت هذه الظروف 44 في المائة من جميع حالات اعتلال الصحة المرتبطة بالعمل في بريطانيا ، و 57 في المائة من جميع أيام العمل المفقودة بسبب اعتلال الصحة.( 40 ) قدرت دراسة إضافية في عام 2017 أن 60 في المائة من الموظفين البريطانيين عانوا من ضعف الصحة العقلية التى سببها العمل في العام الماضي ، وكان الاكتئاب والقلق من أكثر المظاهر شيوعًا.( 41 )

فبدلاً من كونه مصدرًا للمتعة ، من الواضح أن طبيعة وتنظيم العمل في ظل الرأسمالية لا يوفر وسيلة مرضية لتحقيق إبداع الفرد. وكما جادل باران وسويزي ، " لا يمكن للعامل أن يشعر بالرضا فيما تنجزه جهوده." ( 42 ) بدلاً من ذلك ، يُسلب العمل الأفراد من جانب أساسي من طبيعتهم ، وبذلك ، يحفز ظهور حالات سلبية متباينة للصحة العقلية. من واقع أن ما يقرب من نصف القوى العاملة في بريطانيا قد عانت من مشاكل الصحة العقلية المتعلقة بالعمل ، ومن المرجح أن شعر الكثيرون بإحساس عام باليأس ، يوجد هناك ما أسماه فروم عيبً نمط اجتماعى (43 ). ليس من المبالغة الجدال بأن تدهور الصحة العقلية هو استجابة نموذجية للعمل المأجور في المجتمعات الرأسمالية الاحتكارية. أصبحت المشاعر السلبية شائعة ، وبدرجات متفاوتة ، يتم الاعتراف بها على أنها ردود فعل طبيعية على العمل. باستثناء اضطرابات الصحة العقلية الحادة ، فإن العديد من أشكال الإجهاد النفسي التي تتطور استجابة لذلك تعتبر أمرًا مفروغًا منه ولا تعتبر مشكلات مشروعة. على هذا النحو ، جعلوا تدهور الصحة العقلية أمرا طبيعيا.

الارتباط الهادف والوحدة

بالنسبة لفروم ، هناك صلة كامنة بين الصحة العقلية الإيجابية ، والعلاقات الشخصية الهادفة في شكل الحب والصداقة ، والتعبير عن التضامن. يدرك الأفراد "وحدتهم" في العالم تمامًا ، ويحاولون الهروب من سجن العزلة النفسي .( 44 ) ومع ذلك ، فإن إشتغال الرأسمالية يمنع في كثير من الأحيان االتحقق المشبع لهذه الحاجة. تعرف باران وسويزي على عدم ملائمة العلاقات الاجتماعية داخل المجتمعات الاحتكارية الرأسمالية. لقد جادلا بأن الرعونة قد خيمت على الكثير من التفاعلات الاجتماعية ، حيث أصبحت تتجسد في محادثات سطحية وتزييف السرور. أصبحت الالتزامات العاطفية المطلوبة للصداقة والجهود الفكرية اللازمة للمحادثة غائبة إلى حد كبير حيث يدور التفاعل الاجتماعي بشكل متزايد حول المعارف والأحاديث الصغيرة. (45) والرأسمالية الاحتكارية المعاصرة ليست استثناءً. في حين تكثر الصعوبات في قياس وجودها وطبيعتها ، يمكن القول إن أكثر أنواع العصاب انتشارًا التي ابتليت بها الرأسمالية الحالية هي الشعور بالوحدة. يُنظر إليها بشكل متزايد على أنها مصدر قلق رئيسي للصحة العامة ، وربما يتجلى ذلك رمزيا أكثر بعد تعيين الحكومة البريطانية لوزير مختص بالوحدة في عام 2018.

مثلها مثل العصاب ، فإن للوحدة عواقب منهكة. قد يلجأ الأفراد إلى تعاطي الكحول والمخدرات لتخدير بؤسهم ، في حين أن المعاناة المستمرة تزيد من ضغط الدم والإجهاد ، فضلاً عن التأثير السلبي على عمل القلب والأوعية الدموية والجهاز المناعي. ( 46 )إن حالة الصحة العقلية في حد ذاتها ، وتفاقم الوحدة تضيف لمشكلات الصحة العقلية وغالبًا ما تكون السبب الجذري للاكتئاب .( 47 ) في عام 2017 ، قدر أن 13٪ من الأفراد في بريطانيا ليس لديهم أصدقاء مقربين ، و 17٪ لديهم صداقات متوسطة إلى سيئة الجودة. علاوة على ذلك ، قال 45 في المائة إنهم شعروا بالوحدة مرة واحدة على الأقل في الأسبوعين الماضيين ، بينما شعر 18 في المائة بالوحدة في كثير من الأحيان. وعلى الرغم من أن علاقة وثيقة محبة تعمل كحاجز أمام الشعور بالوحدة ، إلا أن 47 في المائة من الأشخاص الذين يعيشون مع شريك لهم أفادوا بأنهم يشعرون بالوحدة على الأقل لبعض الوقت و 16 في المائة في كثير من الأحيان. عند تأمل الفرضيات العلمية السائدة للصحة العقلية ، نرى أنه قد بذلت جهود مؤخرًا لتحديد الأسباب الجينية للوحدة ، حيث يُقال إن الظروف البيئية تؤدي إلى تفاقم استعداد الفرد لها.( 49 ) على أى حال ، حتى أكثر التحليلات حتمية من الناحية البيولوجية تقر بأن الظروف الاجتماعية مهمة لتطورها. ومع ذلك ، فإن القليل من الدراسات تحاول أن توضح بجدية إلى أي مدى تعتبر الرأسمالية عاملاً مساهماً فى ذلك .

لطالما سادت الفردية كمبدأ أعلى يُبنى عليه المجتمع الرأسمالي المثالي. حيث تجرى المصادقة على الجهد الفردي والاعتماد على الذات والاستقلالية باعتبارها السمات المميزة للرأسمالية. كما هو مفهوم اليوم ، فإن فكرة الفرد ترجع أصولها إلى نمط الإنتاج الإقطاعي ، وتأكيدها الأكبر على أساليب العمل الجماعية - داخل الأسرة أو القرية مثلا - التي تخضع لإكراه الأفراد ، الذين يتعين أن يكونوا أحرارًا لبيع قوة عملهم في السوق. كانت الحياة تُدار قبل الرأسمالية ، بشكل أكبر كجزء من مجموعة اجتماعية أوسع ، بينما طور الانتقال إلى الرأسمالية وسمح بظهور الفرد المنعزل والخاص والأسرة النووية الخاصة بشكل متزايد .( 50 ) أكد فروم أن الترويج والاحتفال بـفضائل الفرد تعني أن أفراد المجتمع يشعرون بالوحدة في ظل الرأسمالية أكثر مما كانوا عليه في ظل أنماط الإنتاج السابقة. (51) ويتجلى تمجيد الرأسمالية للفرد بشكل أكبر من خلال معارضتها القوية للمُثُل الجماعية والتضامن ، وتفضيلها وحافزها للمنافسة. يقال إن الأفراد يجب أن يتنافسوا مع بعضهم البعض بصفة عامة لتعزيز تطورهم الشخصي. وبشكل أكثر تحديدًا ، تعد المنافسة ، اقتصاديًا ، أحد الأسس التي يعمل السوق على أساسها ، وتتوافق أيديولوجيًا مع الاعتقاد السائد بأنه ، لكي يكون المرء ناجحًا ، يجب أن يتنافس مع الآخرين على الموارد الشحيحة. ونتيجة المنافسة تؤدى إلى أنها تقسم الأفراد وتعزلهم. والحال أنه لا يُنظر إلى أعضاء المجتمع الآخرين على أنهم مصادر دعم ، بل يعتبرون عقبات أمام التقدم الشخصي. لذلك تضعف روابط الوحدة الاجتماعية إلى حد كبير. وبالتالي ، فإن الوحدة جزء لا يتجزأ من بنية أي مجتمع رأسمالي كنتيجة حتمية لنظامها القيمى .

لا تعتبر الوحدة جزءًا لا يتجزأ من الأيديولوجية الرأسمالية فحسب ، بل إنها تتفاقم أيضًا بسبب عمل الرأسمالية كنظام. كنتيجة للدافع الحتمي للرأسمالية للتوسع الذاتي ، فإن نمو الإنتاج هو أحد خصائصها الأساسية. بعد أن أصبحت فكرة بديهية ، نادرًا ما يتم تحدي فكرة التوسع في الإنتاج. بينماالتكلفة البشرية لهذا معيقة لأن العمل له الأسبقية على الاستثمار في العلاقات الاجتماعية. علاوة على ذلك ، تركت الإصلاحات النيوليبرالية للعديد من العمال وظائف غير مستقرة وقللت بشكل متلاحق الحماية والمزايا المضمونة وزادت ساعات العمل - وكلها لم تؤد إلا إلى تفاقم الشعور بالوحدة. زيادة إضفاء طابع بروليتارى على القوى العاملة ، مع وجود عدد متزايد من العمال في حالة من انعدام الأمن ومعاناة زيادة الاستغلال ، أصبحت مركزية العمل أكبر حيث يلوح التهديد بعدم الحصول على وظيفة ، أو عدم القدرة على تأمين مستوى معيشي لائق ، قدأصبح حقيقة واقعة بالنسبة للكثيرين في سوق عمل "مرن".(52 ) لم يعد أمام الأفراد خيار سوى تكريس مزيد من الوقت للعمل على حساب إقامة علاقات ذات مغزى.

يمكن توضيح الاهتمام المتزايد بالعمل فى علاقته بممارسات العمل. على الرغم من حقيقة أن متوسط طول أسبوع العمل قد ازداد في بريطانيا في أعقاب الأزمة المالية في 2007-2009 ، إلا أن الصورة الأوسع خلال العقدين الماضيين كانت رسمياً صورة تدهور. ومع ذلك ، شهد العمال بدوام جزئي زيادة في عدد ساعات عملهم ، إلى جانب زيادةعدد الوظائف بدوام جزئي. بالإضافة إلى ذلك ، كان هناك بين عامي 2010 و 2015 ، ارتفاع بنسبة 15 في المائة في عدد الأفراد بدوام كامل من القوى العاملة الذين يعملون أكثر من ثمان وأربعين ساعة في الأسبوع (الحد القانوني ؛ يجب الاتفاق على الساعات الإضافية من قبل صاحب العمل والموظف) .(53 ) علاوة على ذلك ، في عام 2016 ، أوضح استطلاع للموظفين أن 27 بالمائة عملوا لفترة أطول مما يرغبون ، مما أثر سلبًا على صحتهم الجسدية والعقلية ، وشعر 31 بالمائة أن عملهم يتداخل مع حياتهم الشخصية.( 54 )ومماله مغزى أن الوحدة ليست سمة من سمات الحياة خارج العمل فحسب ، لكنها خبرة شائعة أثناء العمل. في عام 2014 ، قدر أن 42 في المائة من الموظفين البريطانيين لا يعتبرون أي زميل في العمل صديقًا مقربًا ، وشعر الكثير منهم بالعزلة في مكان العمل.

تم وصف الانخراط الأكبر في الأنشطة الإنتاجية على حساب العلاقات الشخصية بـ "عبادة الانشغال" من قبل الأطباء النفسيين جاكلين أولدز وريتشارد شوارتز .)(55 ) وبينما يحددان هذا الاتجاه بدقة ، إلا أنهما مع ذلك يقيمانه كما لو أن اختيار العمال قد جرى بحرية لمثل هذه الحياة. هذا يتجاهل أي انتقادات جادة للرأسمالية وحقيقة أن عبادة الانشغال كانت إلى حد كبير نتيجة للحاجة المتأصلة للنظام الاقتصادي إلى التوسع الذاتي . علاوة على ذلك ، "يخفق أولدز وشوارتز في تناول الاتجاه باعتباره انعكاسًا للتنظيم الهيكلي لسوق العمل ، مما يجعل المزيد من العمل ضرورة أكثر منه اختيار. إن تجنب الشعور بالوحدة والبحث عن علاقات ذات مغزى هي رغبات إنسانية أساسية ، لكن الرأسمالية تقمع إشباعها المرضي ، وأيضا فرص تكوين روابط مشتركة من الحب والصداقة ، والعمل والعيش في تضامن. رداً على ذلك ، كما جادل باران وسويزي ، فإن الخوف من أن يكونوا وحدهم يدفع الناس إلى البحث عن بعض العلاقات الاجتماعية الأقل إرضاءً ، الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى شعور أكبر بعدم الرضا.(56 )

المادية والبحث عن الهوية والإبداع

بالنسبة للرأسمالية الاحتكارية ، يعتبر الاستهلاك وسيلة حيوية لامتصاص الفائض . في عصر الرأسمالية التنافسية ، لم يستطع ماركس أن يتنبأ بكيفية تطور جهود المبيعات من الناحيتين الكمية والنوعية فى صيرورتها المهمة للنمو الاقتصادي كما تحقق بالفعل . ( 57 )وكذلك الإعلان ، وتمايز المنتجات ، وإنتهاء الصلاحية المخطط له ، وائتمان المستهلك ، كلها وسائل أساسية لتحفيز طلب المستهلك. في الوقت نفسه ، لا يوجد نقص في الأفراد الراغبين في الاستهلاك. إلى جانب قبول العمل ، حدد فروم الرغبة في الاستهلاك كخاصية متكاملة للحياة في ظل الرأسمالية ، بحجة أنها كانت مثالًا مهمًا للتوظيفات التي توجه إليها الطاقات البشرية لدعم الاقتصاد.( 58 )

مع تقدير قيمة السلع الاستهلاكية لمظهرها بدلاً من وظيفتها المقصودة ، انتقل الناس من استهلاك القيم الاستعمالية إلى القيم الرمزية. غالبًا ما يعتمد قرار الانخراط في الثقافة الشعبية وشراء نوع من السيارات أو علامة تجارية للملابس أو المعدات التكنولوجية ، من بين سلع أخرى ، على ما يفترض أن يشى به المنتج عن المستهلك. تشكل النزعة الاستهلاكية في كثير من الأحيان ، الطريقة الرئيسية التي يمكن للأفراد من خلالها بناء هوية شخصية. يستثمر الناس عاطفيًا في المعاني المرتبطة بالسلع الاستهلاكية ، على أمل أن تنتقل إليهم أيًا من الصفات غير الملموسة التي يُقال إنها تمتلكها. في ظل الرأسمالية الاحتكارية ، تدور النزعة الاستهلاكية حول استهلاك الأفكار وليس تلبية الاحتياجات البيولوجية والنفسية الأصيلة. أكد فروم أن "الاستهلاك يجب أن يكون فعلًا إنسانيًا ملموسًا تشارك فيه حواسنا واحتياجاتنا الجسدية وذوقنا الجمالي ...: فعل الاستهلاك يجب أن يكون… تجربة ذات مغزى. في ثقافتنا ، هناك القليل من ذلك. الاستهلاك هو في الأساس إرضاء الخيالات المستثارة صناعياً ". ( 59 )

الحاجة إلى الهوية والتحقق الإبداعي تشجع الشهية النهمة على الاستهلاك. ومع ذلك ، فإن كل عملية شراء تفشل بانتظام في الوفاء بوعدها. نادرًا ما يتحقق الإشباع حقًا من خلال الاستهلاك ، لأن ما يتم استهلاكه هو فكرة مصطنعة وليس منتجًا يضفي معنى على وجودنا. تصبح النزعة الاستهلاكية في هذه العملية ، شكلا واضحا من أشكال الاغتراب . بدلاً من استهلاك منتج مصمم لتلبية الاحتياجات الأصيلة ، تجسد السلع الاستهلاكية طبيعتها التركيبية من خلال معانيها ورموزها المصنعة ، التي صممت لتحفيز وإشباع الاستجابة والحاجة المخططة مسبقًا.( 60 )إن أى هوية قد يرغبها شخص أو يشعروا أنهم حازوها، من استهلاك منتج ، وكذلك أي شكل من أشكال الإبداع الذي تستثيره سلعة استهلاكية أو عنصر من عناصر الثقافة الشعبية ، هو شئ زائف.

بدلاً من بث الفرح ، ولّد ثراء الأمم الرأسماليةالاحتكارية استياءً عامًا واسع النطاق حيث يتم إيلاء قيمة عالية لتكديس الممتلكات . في حين أن النزعة الاستهلاكية كقيمة موجودة في جميع المجتمعات الرأسمالية ، في تلك المجتمعات التي بها قدر أكبر من عدم المساواة - تظهر بريطانيا تفاوتات فى الثروة أوسع من معظم المجتمعات - تساهم الرغبة في الاستهلاك والتملك بشكل كبير في ظهور العصاب ، لأن الجهود المبذولة للحفاظ على الوضع الاجتماعي ومحاكاة هؤلاء الذين على رأس المجتمع يصبح ضغطا هائلا. وقد ظهر تأثير ذلك داخل العائلات البريطانية في السنوات الأخيرة. في عام 2007 ، حددت اليونيسف بريطانيا بأنها تتمتع بأدنى مستوى من رفاهية الطفل من بين واحد وعشرين دولة من الدول الأكثر ثراءً بمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. رداً على ذلك ، تم إجراء تحليل للعائلات البريطانية في عام 2011 ومقارنتها مع تلك الموجودة في إسبانيا والسويد ، الدول التي احتلت المرتبة الخمس الأولى من حيث رفاه الطفل .( 61 )

من بين الدول الثلاث ، كانت ثقافة الاستهلاك هي الأكبر في بريطانيا ، حيث كانت سائدة بين جميع العائلات بغض النظر عن الثراء. كان الآباء البريطانيون يعتبرون أكثر مادية من نظرائهم الأسبان والسويديون ويتصرفون وفقًا لذلك تجاه أطفالهم. لقد قاموا بشراء أحدث السلع الاستهلاكية ذات العلامات التجارية ، لأنهم اعتقدوا أنها ستعزز وضع أطفالهم إلى حد كبير بين أقرانهم. كانت هذه قيمة مشتركة بين الأطفال أنفسهم ، حيث قبل الكثيرون أن المكانة الاجتماعية كانت قائمة على ملكية السلع الاستهلاكية ذات العلامات التجارية ، والتي تشير الأدلة إلى أنها ساهمت في إثارة الجزع والقلق ، خاصة بالنسبة للأطفال من الأسر الفقيرة الذين أدركوا حرمانهم. بينما تم التعرف على الإكراه على شراء سلع جديدة باستمرار لأنفسهم وأطفالهم بين الآباء البريطانيين ، ومع ذلك فقد شعر الكثيرون أيضًا بالضغط النفسي الذى تسببه محاولة الحفاظ على نمط حياة مادي وخضعوا لمثل هذه الضغوط. حدد الأطفال احتياجات رفاهيتهم في جميع البلدان الثلاثة ، على أنها تتمثل فى قضاء وقت ممتع مع الوالدين والأصدقاء ، وإتاحة فرص لينغمسوا في إبداعهم ، لا سيما من خلال الأنشطة الخارجية. على الرغم من ذلك ، أظهر البحث أن الكثيرين في بريطانيا لم يكن لديهم إشباع لمثل هذه الاحتياجات. كافح الآباء لقضاء وقت كافٍ مع أطفالهم بسبب التزامات العمل وغالباً ما منعوهم من المشاركة في الأنشطة الخارجية بسبب مخاوف تتعلق بسلامتهم. بعد ذلك ، عوض الآباء عن ذلك بالسلع الاستهلاكية ، التي عجزت إلى حد كبير عن تلبية احتياجات أطفالهم. على هذا النحو ، تم قمع احتياجات الأطفال البريطانيين لتكوين علاقات هادفة والمشاركة فيها والتصرف بشكل خلاق ، وفشلت الجهود المبذولة لتلبية هذه الاحتياجات من خلال النزعة الاستهلاكية في تحقيق السعادة لهم.

المقاومة كصراع طبقي

مع أننا لاننكر وجود أسباب بيولوجية ، إلا أنه يجب الاعتراف بأن التنظيم الهيكلي للمجتمع له تداعيات خطيرة على صحة الناس العقلية. تشتغل الرأسمالية الاحتكارية بحيث تمنع الكثيرين من التنعم بالصحة العقلية. لذا، على الرغم من ذلك ، يستمر النموذج الطبي في الهيمنة ، معززا مفهوما فرديا للصحة العقلية ويخفي الآثار الضارة لنمط الإنتاج الحالي. هذا يضطهد مستخدمي خدمات الصحة العقلية بإخضاعهم لتقدير المهنيين الطبيين. يشجع النموذج الطبي أيضًا على تعليق وتقليص الحقوق المدنية للأفراد في حالة تعرضهم للإجهاد العقلى ، بما في ذلك إضفاء الشرعية على انتهاك عملهم التطوعي واستبعادهم من عملية صنع القرار. بالنسبة لأولئك الذين يعانون من الإجهاد العقلي ، غالبًا ما تتميز الحياة عندهم في ظل الرأسمالية بالقمع والتمييز.

وإدراكًا منهم لوضعهم كمضطهدين ، فإن مستخدمي خدمات الصحة العقلية والناجين منها يتحدون الآن الهيمنة الأيديولوجية للنموذج الطبي والتعتيم على التأثير النفسي للرأسمالية. علاوة على ذلك ، فهم يتكتلون بشكل متزايد ويطرحون كبديل الحاجة إلى قبول النموذج الاجتماعي المستوحى من الماركسية للصحة العقلية. يعرّف النموذج الاجتماعي للإعاقة الرأسمالية بوصفها مسببا أساسيا في وجود فئة المعاقين ، حيث تعرف الإعاقة بأنها عاهات تستبعد الأشخاص من سوق العمل . من خلال تبني منظور مادي واسع النطاق ، فإن النموذج الاجتماعي للصحة العقلية يعالج الحرمان المادي والقمع والإقصاء السياسي كأسباب مهمة للمرض النفسي.

في عام 2017 في بريطانيا ، رفض مستخدموا شبكةالناجين الوطنيين التي تعمل في مجال الصحة العقلية بشكل قاطع النموذج الطبي وغرسوا العدالة الاجتماعية في قلب حملتها، كجزء من دعوتها لمقاربة اجتماعية للصحة العقلية ، وتندد المجموعة صراحةً بالنيوليبرالية ، بحجة أن التقشف وتقليل الضمان الاجتماعي قد ساهما في زيادة شيوع الأفراد الذين يعانون من إعتلال الصحة العقلية فضلا عن تفاقم مشاكل الصحة العقلية القائمة بين السكان. وإذ يدركون أن عدم المساواة الاجتماعية يساهم في ظهور إعتلال الصحة العقلية ، يقترح مستخدموا شبكةالناجين الوطنية بأن التحدي الذي يمثله مستخدمو خدمات الصحة العقلية يجب أن يكون جزءًا من لائحة اتهام أوسع تشمل عدم المساواة العامة في المجتمع ، بحجة أن "تدابير التقشف ، ضارة" حيث تتسبب السياسات الاقتصادية والتمييز الاجتماعي والتفاوتات الهيكلية في إلحاق الضرر بالناس. نحن بحاجة إلى تحدي هذا كجزء من أجندة العدالة الاجتماعية الأوسع.( 62 ) علاوة على ذلك ، تضع مجموعة العمل من أجل الشفاء نفسهاكإمتداد ومعها حركة الصحة العقلية الأوسع داخل الصراع الطبقي ، عاملة من أجل نموذج اجتماعي يعترف بالرأسمالية كمحدد مهم لإعتلال الصحة العقلية . علاوة على ذلك ، تمثل الأقليات العرقية ، وحملة Kindred Minds بقوة الإدراك بأن الاضطراب العقلي ليس نتيجة للخصائص البيولوجية وإنما نتيجة للمشاكل الاجتماعية مثل العنصرية والتمييز على أساس الجنس وعدم المساواة الاقتصادية "التي تعتبر مرضًا عقليًا". ( 63 )بالنسبة ل Kindred Minds إن العامل المحفز لتدهور الصحة العقية هو الاضطهاد والتمييز ، حيث يتعين على الأقليات العرقية أن تعاني من مستويات أعلى من عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية والتحيز.

لا يمكن للرأسمالية أبدًا أن توفر الظروف الأكثر ملاءمة لتحقيق الصحة العقلية. يقمع الإضطهاد والاستغلال وعدم المساواة إلى حد كبير التحقق الفعلى لما يعنيه أن تكون إنسانًا. يجب أن تكون معارضة وحشية تأثير الرأسمالية على الصحة العقلية مركزية في الصراع الطبقي لأن النضال من أجل الاشتراكية ليس مجرد كفاح من أجل زيادة المساواة المادية ، ولكن أيضًا من أجل الإنسانية والمجتمع الذي تكون فيه جميع الاحتياجات الإنسانية ، بما في ذلك الاحتياجات النفسية مشبعة . يتأثر جميع أفراد المجتمع بالطبيعة اللاإنسانية للرأسمالية ، ولكن ، ببطء وحزم ، يقود المعركة بشكل واضح أكثر من يتعرض للقمع والاستغلال. يجب النظر إلى التحدي المطروح على أنه جزء من الصراع الطبقي الأوسع ، باعتباره جبهة من عدة جبهات في الكفاح من أجل العدالة الاجتماعية ، والمساواة الاقتصادية ، والكرامة ، والاحترام.

ديفيد ماتيو محاضر في علم الاجتماع والسياسة الاجتماعية في Coleg Llandrillo ، ويلز ، ومسؤول برنامج الحصول على درجتها في الرعاية الصحية والاجتماعية.

مصدر المقال :

• Capitalism and mental health,by David mattews, montyhly review .org. 1january, 2019 .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيران وروسيا والصين.. ما حجم التقارب؟ ولماذا يزعجون الغرب؟


.. مخلفا شهداء ومفقودين.. الاحتلال يدمر منزلا غربي النصيرات على




.. شهداء جراء قصف إسرائيلي استهدف منزل عائلة الجزار في مدينة غز


.. قوات الاحتلال تقتحم طولكرم ومخيم نور شمس بالضفة الغربية




.. إسرائيل تنشر أسلحة إضافية تحسبا للهجوم على رفح الفلسطينية