الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القرآن محاولة لقراءة مغايرة 30

ضياء الشكرجي

2022 / 3 / 3
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


وَإِذ قالَ رَبُّكَ لِلمَلائِكَةِ إِنّي جاعِلٌ فِي الأَرضِ خَليفَةً قالوا أَتَجعَلُ فيها مَن يُّفسِدُ فيها وَيَسفِكُ الدِّماءَ وَنَحنُ نُسَبِّحُ بِحَمدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنّي أَعلَمُ ما لا تَعلَمونَ (2/30)
هنا تبدأ قصة خلق الإنسان، التي لو اعتبرناها قصة رمزية، لوجدنا فيها الكثير من الدلالات الجميلة. فلنتعامل ابتداءً مع هذه القصة على أنها رمزية، ونحاول أن نفسرها تفسيرا تأويليا استيحائيا، ونكتشف تألقاتها، ونشير في ذات الوقت إلى ما عليها من ملاحظات. تقص لنا هذه الآيات قصة اتخاذ الله قرارا بخلق الإنسان، بعدما خلق الكون المعبر عنه بالسماوات والأرض. أما الملائكة فهي مخلوقات ممكنة الوجود من ناحية الإمكان العقلي المحض. ولكن بما اننا لم نعلم عن وجود الملائكة إلا عبر ما يسمى بالكتب المقدسة، وبما أن هذه الكتب من تأليف البشر، ففيها الكثير من خيالات مؤلفيها أو خيالات مدعي النبوة والرسالة، ولذا في الوقت الذي لا ننفي فيه وجود كائنات من هذا النوع، من حقنا أن نشك في ذلك، لعدم موثوقية المصدر الذي انفرد بإنبائنا عنها. ولكن لنسلم بوجود الملائكة على نحو الافتراض، نجد إن الله ينبئ الملائكة بقراره بخلق الإنسان الذي يصفه بأنه خليفته في الأرض. ولخليفة الله معنى جميل من جهة، ولكن يمكن أن يسجل إشكال على عدم الدقة في اختيار المصطلح، لأن الخليفة أو الخلف أو الخالف، هو الذي يخلف مستخلفه عند موت السلف أو المستخِلف أو المستخلَف، أو عند غيابه. والله الأزلي الأبدي واجب الوجود ناهيك عن كونه لا يموت، فهو لا يغيب بقدرته ورعايته عن مكان أو زمان ما، لكونه متجاوزا في وجوده للمكان والزمان لاستحالة تحيُّزه وتأيُّنه لأن التحيُّز والتأيُّن من لوازم الحادث ممكن الوجود المعلول، لا الأزلي واجب الوجود الغني عن العلة. وهنا لنتسامح قليلا مع المصطلح، ونقول إنه استخدم بمعنى الوكيل المخول، وأيضا لكون الله قد غيَّب نفسه عن الأرض، بجعل حضوره غير محسوس وغير مباشر، فأوكل للإنسان أمور إدارة شؤون الأرض وساكنيها والطبيعة والكون المحيط بها ممكن البلوغ منها وممكن التسخير لمنافع ساكنيها، ولو ليس بالمطلق، بل في الكثير مما للإنسان من إمكانات متطورة ومتنامية ومتكاملة باطراد في رعاية شؤون الأرض، وما يبلغ من الكون. وقد يقال أيضا إن الخليفة لا بد أن يكون من طبيعة المستخلِف، والإنسان وجود من طبيعة مغايرة لوجود الله، فيجاب أن ليس من الضروري أن يكون الخليفة من نفس طبيعة المستخلِف، لكنه يجب أن يشتمل على تلك الصفات من صفات المستخلِف ذات العلاقة بموضوع الاستخلاف.
والصفات التي نعنيها هي العلم والقدرة والحكمة والحياة والإرادة والعقل والعدل والرحمة والخالقية والإبداع والإتقان، ولو مع فارق ما للمستخلِف منها على نحو الإطلاق، وما للمستخلَف منها على نحو النسبية. إذن المقصود بكون الإنسان خليفة، هو ليس كون كل فرد من أفراد النوع الإنساني هو خليفة لله بالضرورة، بل هو خليفته بالقوة (حسب مصطلح المناطقة) أي القابلية والاستعداد للتحول إلى خليفة بالفعل، عبر توفره على شروط الاستخلاف، أي تحليه بالصفات التي لا يتحقق الاستخلاف إلا بها. ولكن حتى لو توفر الإنسان الخليفة على تلك الصفات، فهي نسبية ومحدودة، وليست مطلقة كما هو الحال معها كصفات إلهية. وهنا نستطيع أن نقول بأن المطلوب توفره من تلك الصفات من قبل الخليفة هو هذا القدر الذي يؤهله للاضطلاع بدور الاستخلاف، وأن يكون قادرا على وساعيا إلى تنمية تلك الصفات بشكل مطرد في حركة تكاملية باتجاه المطلق دون إمكان بلوغ المطلق لاستحالة بلوغ اللانهاية من قبل الممكن الحادث المعلول الفاني. وفي عصرنا نستطيع أن نقول من غير تردد إن المتوفر على صفات وشروط الخليفة هو إنسان المجتمع المدني المتحضر الديمقراطي في الغرب، أكثر بكثير مما يمكن انطباقه على إنسان المجتمع الشرقي المسلم، لأننا نجد هناك الكثير من العقلانية والعلم والعدل والحرية ومراعاة حقوق الإنسان والإبداع والإتقان. ويبقى مفهوم الخلافة مفهوما نسبيا، لأنه يتحرك في عالم الإنسان. والذي يحول دون تحقق شروط الاستخلاف هو عندما يكون الإنسان مفسدا في الأرض سافكا للدماء، وللارتباط الوثيق بين مفهوم الخلافة ومفهوم حمل الأمانة، فسنجد في آية عرض الأمانة أن الإنسان وحده المؤهل لذلك، ما لم يكن ظلوما أو جهولا، مما يعني أن الخليفة لا يكون خليفة لله، ما لم يتحلَّ بشكل أساسي بالعدل كي لا يكون ظلوما، وبالعقل والعلم كي لا يكون جهولا، وهذا الذي يجعله دائما أمام مسؤولية تنمية بعده العقلي بالتعليم فكرا وعلما وعقلانية، وبعده النفسي والأخلاقي بالتهذيب والتزكية عدلا ورحمة وحبا وسلاما. أما ما يطرحه النص من تساؤل يجري من قبل الملائكة تعبيرا منهم عن عدم فهمهم لكامل الحكمة من ذلك وعن استغرابهم، ولا نقول اعتراضهم واستنكارهم، لأن الكائن الملائكي حسب الفهم القرآني كائن عارف لله، ولذا يستبعد أن يكون المقصود بالسؤال المطروح هو الاعتراض والاستنكار، هذا إذا أحسنا الظن بالفهم الفلسفي أو المعرفي لمؤلف القرآن، والذي من جهة لا نستطيع إنكاره، لكننا في نفس الوقت نجد الكثير من اللامعقول ومن التعارض والازدواجية وأحيانا عدم التمحيص فيما اقتبسه من الكتب السابقة، ولو إنه كما يبدو قام بعملية تنقيح كما ونوعا للكثير مما اقتبسه منها، لكنه لم يستطع تنقيتها من جميع الشوائب، بل أضاف شوائب جديدة. لكن دعونا نسمي تساؤل الملائكة تسامحا بالاعتراض.
اعتراض الملائكة على استخلاف من كون الكثير من أفراده مفسدا في الأرض وظالما ومفشيا للعداوة والبغضاء وممارسا للعنف وسفك الدماء، هو اعتراض قد يكون في محله. ولكن قولهم (ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) فهو إن قصد به أن الله خلق الإنسان الخليفة بهدف أن يسبح بحمد الله ويقدسه، ففيه انتقاص من كمال الله وحكمته، فكأنه محتاج إلى من يسبح بحمده ويقدس ذكره ويصلي له ويعبده، ولذا من حق الملائكة أن يعترضوا أو قل أن يستغربوا لأنهم متكفلون بهذا الأمر، فما هي الجدوى من خلق إنسان رغم توفره على العناصر الجيدة إلا أنه مبتلى بالكثير من نزعات الشر غير الموجودة عند الملائكة، وحتى تسامحنا في قبول أن من مهام الملائكة الأساسية أن تسبح لله وتقدس له، هو تسامح مع التسامح في التسامح إذ أن الفكرة لا تخلو من انتقاص من الكمال الإلهي، وكأنه لا يحس بالراحة والرضا إلا عندما يجد مخلوقات له، سواء من الملائكة أو البشر أو الجن، تواصل تسبيحه وتقديسه وعبادته والصلاة له. ولكن يمكن أن نفهم الاعتراض أو الاستغراب باعتبار أن مهمة استخلاف الله في الأرض تستوجب التوفر على قدر كبير من النزاهة التي تتحقق بمقدار ما يكون الكائن المستخلَف عارفا بالله، أي متعلقا بالمطلق، مُيمِّما وجهه إليه، متحركا اتجاهه في سير كدحي تكاملي، ذهنيا ونفسيا وسلوكيا. هنا نجد حسب هذه الآية الجواب الأولي والإجمالي لله على تساؤل الملائكة، كون الله يعلم ما لا تعلمه الملائكة.
يبقى هناك سؤال اختلف فيه المفسرون كذلك، كمعظم ما في القرآن، ألا هو من أين علمت الملائكة أن الإنسان سيفسد في الأرض ويسفك الدماء. كشأنه في الكثير من القضايا، يطرح القرآن قضية ما، ويترك الأسئلة التي تنبعث حولها بلا جواب. ولذا ترك الأمر لتخمين وتحليل المفسرين. فهنا يمكن أن نتصور عدة احتمالات تجيب على سؤال كيف عرفت الملائكة بما سيحدثه الإنسان. الاحتمال الأول أن الله كان قد أنبأهم بهذه التفاصيل، واستغنى القرآن عن سردها. الاحتمال الثاني أنه كانت هناك تجربة سابقة مع إنسان ما قبل آدم وحواء وسلالتهما، أو مع مخلوق شبيه بالإنسان، على الأرض أيضا، أو على كوكب آخر شبيه بظروف الأرض. الاحتمال الثالث أن الله كان قد عرّف الملائكة بطبيعة الإنسان، وأنه منح الملائكة عقلا تحليليا استنتاجيا، مكنها من توقع ما سيحدثه الإنسان من إفساد في الأرض وسفك للدماء.
وسؤال مشروع يطرح نفسه، كون الله القدير العليم الرحيم، أما كان بإمكانه أن يخفف من نزعة الشر في الإنسان؟ شخصيا كمؤمن بالله ومنزه له من كل نقص لا جواب مقنع عندي، ولم أجد جوابا مقنعا من غيري.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ضحايا الاعتداءات الجنسية في الكنائس يأملون بلقاء البابا فرنس


.. قوات الاحتلال تمنع الشبان من الدخول إلى المسجد الأقصى لأداء




.. صرخة آشور بانيبال ..هل هي نبؤة؟


.. الانتخابات الرئاسية الأمريكية: أي دور للقوميين المسيحيين؟




.. 71-Al-Aanaam