الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العبرة بالكيف أم بالكم؟

هاني عبد الفتاح

2022 / 3 / 6
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


طالعتُ منذ سنوات مقالًا لأديبنا المفكر "أحمد أمين" تحت عنوان "بالكيف لا بالكلم"، يقول فيه ما مفاده أن تقدير الأشياء ينبغي أن يكون بالكيف لا بالكم، وأن ذلك التقدير منزلة لا يصل إليها العقل إلا بعد نضجه، وأن آفة المجتمع أنه يقدر الأشياء بالكم لا بالكيف، فالناس تحكم على علم المرء بحجم العمامة فيقول: "نرى ذا العمامة الكبيرة واللحية الطويلة، فنعتقد فيه العلم والدين، مع أنه لا علاقة بين كبر العمامة وطول اللحية وبين العلم والدين؛ والصحافة كثيرًا ما خدعت القراء بالكم، فكان مما اصطنعته زيادة عدد الصفحات في الجرائد والمجلات، مع أن الصفحات وحدها كمّ، ولا قيمة لها ما لم يصحبها الكيف."

وقد ظللت طوال سنوات أعتقد هذا الاعتقاد الذي يعتقده أديبنا، أن العبرة بالكيف لا بالكم، لكن لأمر ما ؛ توقفت عند تلكم العبارة أتساءل، هل حقا العبرة بـ"الكيف" لا بـ"الكم"؟ وهل مقولة "الكم" بدرجة من اللاجدوى إلى حد يجعلنا لا نعول عليه؟ وفي والواقع وجدت أن أديبنا محق في جانب، لكن ربما غاب عنه بعض الجوانب التي لا يمكن إدراكها إلا بعد طول تأمل.

العبرة بالكيف لا بالكم؛ هي جملة متداولة بين المثقفين، لاسيما أصحاب الدرس الفلسفي، بحكم أن "الكم" و "الكيف" مقولتان أرسطيتان ضمن مقولاته العشر المعروفة. فمقولة "الكم" يقصد بها جميع المعاني التي يتناولها الحساب؛ كالعدد والمقدار والكتلة وغيرها.. ومقولة "الكيف" معناها الهيئة التي يكون عليها الشيء، كالاستقامة والانحناء، والطول والعرض، والحرارة والبرودة، والحلاوة والمرارة ..إلخ.

ولو أننا وقفنا مع الأشياء وقفة تأملية لوجدنا أن "الكم" هو الذي يصنع "الكيف" ويصوغه وليس العكس، وأنه لولا "الكم" لما كان "للكيف" هوية. فكل كيف مكوّن في الأصل من كميات، هي التي تشكله وتبنيه. ففي الرياضيات نجد أن الواحد هويته أنه عدد "واحد"، والاثنين هويته واحد مضاف إليه واحد، وهكذا باقي الأعداد. وفي الهندسة نجد أن زوايا المثلث هي التي تكوّن هويته، فإذا كانت إحدى زواياه 90 درجة سمى مثلث "قائم الزاوية"، وإن كانت زاويته فوق الـ90 سمى "منفرج الزاوية"، وإن كانت أقل سمى "حاد الزاوية". فهل لاحظت كيف أن درجة واحدة هي التي أعطت للمثلث هويته واسمه.

ومن الرياضيات إلى الشأن الرياضي، وبالأخص لعبة كرة القدم، فهناك عدد اللاعبين، وعدد دقائق المباراة، وعدد الحكام، وعدد المباريات، وعدد الإنذارات، وعدد التمريرات، وعدد الأخطاء، وعدد الركنيات، ونسبة الاستحواذ، وفي النهاية عدد الأهداف هو الذي يعطي لفريق دون غيره بطاقة التأهل ثم الحصول على الكأس.

ونجد في علم الاقتصاد أن "قيمة السلعة" تمنح من خلال "الكمية" مضروبة في سعرها، فانظر كيف أن عدد الكمية المباعة إذا ضربناه في سعرها أعطى قيمة السلعة. ومن الاقتصاد للسياسة، نجد "الكم" هو الذي يعطي مرشحا دون غيره أحقية الفوز والقيادة، وربما يكون الفارق بين مرشح ومرشح صوتًا واحدًا.

وفي اللغة يقول فقهاؤها: إن الزيادة في المبنى تدل على زيادة في المعنى، فكلمة "كسر" ليست تساوي في المعنى كلمة "كسّر" بتشديد السين، لأن التشديد معناه مضاعفة الحرف، ومضاعفة الحرف يعني مضاعفة المعنى، مما يدل على أن الكلمة الثانية، تكثير الفعل، أي لم يقم الفاعل بفعل الكسر مرة واحدة، بل مرات متعددة، ألا تلاحظ أن زيادة عدد الحروف قد صاغ للفظة معنى وكيفية وهيئة أخرى، أليس الكم هو الذي يشكّل الكيف؟!

لقد أدرك جماعة "الفيثاغوريون" قديمًا أهمية "الكم" في فلسفتهم فجعلوا العالَم مكوّن من أعداد، تلك الأعداد هي التي يتشكل منها الوجود على نحو يختلف باختلاف أعداده، بعبارة أخرى لا يمتاز شيء ما عن آخر إلا بالعدد، فالعدد جوهر الكون وحقيقته، فلا تمتاز الأشياء بعضها عن بعض إلا بالعدد، فإذا رأيت ثمرة تفاح أكبر من أخرى فهذا لا يعني إلا أن وحدات الحجم في الأولى أكثر عددا من الثانية، وإذا رأيت شيئا أكثر تنظيما من آخر فهذا لا يعني إلا أن أبعاد الأول متساوية عن الآخر، فكل ما تقع عليه عينك مكوّن من أعداد، فالأعداد عندهم أصل الكون ومادته.

وفي العلوم الطبيعية نجد أن لغة الكم والإحصاء والأرقام هي اللغة الرسمية، وهي التي تعطي النظرية العلمية مشروعية وقبولا في الأوساط العلمية. وإن كانت العلوم الطبيعية تمتاز عن العلوم الإنسانية بالدقة والموضوعية والصرامة والاطراد في قوانينها، نظرا لتبنيها مقولة "الكم" في كثير استعمالاتها فلقد أصبحت العلوم الإنسانية تنحو هذا النحو مؤخرا، ولربما استعمال مقولة "الكم" في العلوم الإنسانية تحد من الجدل حول موضوعيتها.

إن النظر إلى "الكيف" وحده دون "الكم" قصور شديد وإغفال عن أبعاد شديدة الأهمية في الحكم على الأشياء والأحداث، لأن الكيف بطبيعة الحال متضمن كميات، وأي اختلاف في تلك الكميات يؤثر بالضرورة على وضع الكيف وهيئته إيجابا وسلبا.

في النهاية فإن مجمل القول لا يعني التقليل من أهمية مقولة الكيف، إنما فقط القول بأن العبرة دائما تكون بالكيف وحده دون الكم أمر فيه خطل في الحكم وقصور في الرؤية، لأن الحكم بالكيف وحده حكم لعموم الشيء دون النظر إلى جزئياته التي كوّنته، الكم يبني الكيف ويشكله ويصنع هيئته، فالكم سببٌ للكيف، والكيف نتيجة لمجموعة كميات.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماكرون يستعرض رؤية فرنسا لأوروبا -القوة- قبيل الانتخابات الأ


.. تصعيد غير مسبوق على الحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية مع تزايد




.. ذا غارديان.. حشد القوات الإسرائيلية ونصب خيام الإيواء يشير إ


.. الأردن.. حقوقيون يطالبون بالإفراج عن موقوفين شاركوا في احتجا




.. القناة 12 الإسرائيلية: الاتفاق على صفقة جديدة مع حماس قد يؤد