الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لعبة الشياطين والملائكة

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

2022 / 3 / 6
مواضيع وابحاث سياسية


خشية من تحول حرباً باردة إلى جحيم نووي حارق قد لا ينجو منه حتى الكوكب ذاته، تفتحت أمخاخ بعض النجباء عن فكرة عبقرية قادرة على نزع الفتيل، أو هكذا تصوروا حينها. مجرد صمام تنفيس- كما في أنظمة الباور (القوة) الميكانيكية- يبرد السخونة ويريح الضغط المتجمع حتى لا ينفجر ويشعل المنظومة كلها. على هذا الأساس قامت نظرية "الاحتواء"، بهدف فتح بعض صمامات التنفيس مع الكتلة المعادية (روسيا والصين) لتخفيف حدة الضغوط المتبادلة وفتح قنوات اتصال تلطف من سوء الظن والفهم المتبادل حتى لا تنفجر التوترات في وجه العالم أجمع. فتحت بالفعل قنوات الاتصال والتعامل- في حدود ضيقة- فيما بين التكتلين العدوين، وأفلح "الاحتواء" في تخفيف حدة التوتر وإدارة الصراع والوقاية من انفجار عالمي.

بدأ التعاون محدوداً، وسلبياً- مقابل كل صاروخ تدمره، سأمر لك عشرة، ومقابل كل عشرة، مائة؛ سأدفع لك مقابل كل دولار تخسره، عشرة، وكل عشرة، مائة. هكذا نشأ ما سمى "سباق نزع التسلح"، الذي كان في جميع الأحوال أفضل للعالم من "سباق التسلح" الذي هدد بتفجير المتسلحين النوويين ومعهم العالم كله. بعض الماء على النيران المتقدة، لتهدأ الأمور وترجع إلى نطاق السيطرة من الطرفين.

سرعان ما انكشفت ورقة التوت وبانت العورات واضحة جلية للعيان. بان للعالم كم كان المعسكر الشيوعي مفلساً في كل شيء، ربما باستثناء قوة النيران الحارقة والمشاعر الوطنية المتأججة. انهارت الفكرة التي بني فوقها النظام كله، ليسقط الاتحاد السوفيتي وتستقل معظم دوله المكونة السابقة. بقيت الصين- العمود الآخر في النظام- لم تسقط ولم تتفكك، وهي أصلاً لم تكن اتحاد من دول سابقة لكي تتفكك. الصين دولة وطنية موحدة لم تضم لإقليمها بالقوة دولاً سابقة أخرى مثلما فعل الاتحاد السوفيتي. لذلك نجت من ويلات التفكك ولم تتكبد سوى عناء وخزي خلع عباءتها الشيوعية- لم تفرط بالكامل في شرفها الشيوعي واكتفت فقط بتعرية اقتصادها أمام الرأسمالية الغربية.
عند هذه اللحظة الفارقة في التاريخ، أضيف تحديث جوهري لنظرية "الاحتواء" نظراً لما حققته من نجاح لافت في اتقاء شر حرب عالمية ثالثة، لتتحول صمامات التنفيس في نظرية الاحتواء إلى ما يمكن تشبيهه بقنوات للتغذية والإنعاش في نظرية العولمة الجديدة. ورغم قيامها فوق نفس أسس الاحتواء، لكن التعامل والتعاون تحت مظلة العولمة إيجابي وبناء (مكسب/مكسب) عكس سلبية الاحتواء (خسارة/خسارة). أصبح المصطلح "احتواء" غير مناسب أو قادر على استيعاب الوضع الجديد والعلاقة المستجدة بين الطرفين، ليرتقي إلى "عولمة". لكن، رغم اعتمادها التعامل والتعاون الإيجابي وليس السلبي، تجدر الإشارة إلى أن العولمة المستحدثة أيضاً قامت على ذات الأسس وسعت إلى تحقيق ذات الأهداف التي نشأ وسعى من أجلها الاحتواء.

تطورت المعادلة من (اخسر/دمر أنت (1)، أخسر/أدمر أنا (10)) أو (خسارة/خسارة، تدمير/تدمير)، إلى (ساهم/تعاون أكثر، تكسب أكثر) أو (بقدر تعاونك الإيجابي والبناء، تكون مكاسبك). بقدر مساهماتك وتعاونك لصالح "المنظومة" الدولية، ستجني من المكاسب والمصالح لدولتك الوطنية. لكن، من جهة أخرى، ما هي تلك "المنظومة الدولية"، ما هي مبادئها وقواعدها ومن أنشأها ويحفظها، أو من هم أصحابها وسدنتها الأصليون، أو على الأقل حملة الأسهم الأغلبية فيها، ومن ثم أصحاب الصوت الترجيحي؟

بعد إفلاسه المخزي، ما كان أمام المعسكر الشيوعي من خيار آخر. دخل المنظومة وتعامل وكسب. وبقدر ما تعاون أكثر مع المنظومة، كسب أكثر، ليذوب التكتلان العدوان في السابق داخل بوتقة واحدة، أتون العولمة، وينكمش العالم إلى قرية صغيرة بالفعل. أصبحت التعاملات المالية والتجارية والصناعية، وسفر الأشخاص وحركة الأموال سريعة سرعة البرق، لا تعرف حدود، ولا تحمل جنسية، تمتثل لقواعد واحدة وتتحدث لغة واحدة- الربح، أينما كان فولي وجهتك!

لكن يجب التنويه إلى أن "الاحتواء" كان في الأصل نظرية وضعت في أثناء حرب "باردة"، ومن ثم هدفت بالأساس لإيقاع الهزيمة بالعدو، ولو بطريقة مبتكرة وغير تقليدية، من دون سفك للدماء. وقد نجحت. وبالنظر إلى نشأة "العولمة" من أنقاض وأسس "الاحتواء"، كان بديهياً أن ترث من الأخير أيضاً طبيعته الأصلية- العولمة هي أيضاً عبارة عن معمار فكري ومؤسساتي هدفه الأساسي احتواء الخصم المنافس والتفوق عليه، إن لم يكن التخلص منه، في نهاية المطاف. بعد نجاح الاحتواء في هزيمة وتفكيك الاتحاد السوفيتي من دون طلقة رصاص واحدة، وتحويل دفة الاقتصاد الصيني إلى آليات السوق الحر، أتت العولمة لاستكمال العملية حتى خاتمتها الطبيعية- تحويلهم "هم" بالكامل ليصبحوا مثلنا "نحن" بالكامل، أو تحقيق النصر الكامل لـ"نحن" ضد "هم"، ومن ثم يختفي "هم" ونظرياتهم ونظراتهم للآخرين وأسلوب حياتهم البغيض من المشهد ولا يتبقى سوى "نحن".

الاقتصاد الحر، أساس الرأسمالية، سيؤدي حتماً بمرور الوقت إلى تراكم الثروات الشخصية بيد الأفراد، الذين بتكاثرهم وزيادة أعدادهم ستقوى بهم وبفضلهم الشعوب، التي بدورها حين تزدهر وتقوى وتعرف بهجة الحياة ولذتها، ستتطلع حتماً لما هو أبعد وستسعى في طلب حريتها واستقلاليتها وكرامتها. ساعتها ستتولى تلك الشعوب المقموعة والبائسة والمغلوبة على أمرها في السابق بيدها إطلاق رصاصة الرحمة في رأس أنظمة تسلطية واستبدادية كانت ولا تزال هي أس البلاء، أو هكذا على الأقل تصور المنظرون في التكتل الظافر بحرب باردة من دون قطرة دماء واحدة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. موريتانيا - مالي: علاقات على صفيح ساخن؟ • فرانس 24 / FRANCE


.. المغرب - إسبانيا: لماذا أعيد فتح التحقيق في قضية بيغاسوس للت




.. قطر تؤكد بقاء حماس في الدوحة | #غرفة_الأخبار


.. إسرائيل تكثف القصف بعد 200 يوم من الحرب | #غرفة_الأخبار




.. العرب الأميركيون مستاؤون من إقرار مجلس النواب حزمة مساعدات ج