الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أزمة اوكرانيا امتحان جديد للقطبية الروسية

منذر خدام

2022 / 3 / 7
مواضيع وابحاث سياسية


أزمة أوكرانيا: امتحان جديد للقطبية الروسية
قبل ثمان سنوات وبمناسبة احتلال روسيا لشبه جزيرة القرم، وضمها إليها كنت قد كتبت مقالة تحت ذات العنوان، وها انا استعيره من جديد لكتابة مقالة مطولة حول الحدث الأوكراني المستجد مستفيدا من بعض ما جاء في المقالة السابقة الذكر.
أوكرانيا البلد "الأطراف" تمثل قصة تاريخ طويل من الوحدة الهشة، والصراع الخفي، الذي ما يلبث عند المنعطفات التاريخية الكبرى أن يعبّر عن نفسه بصورة متفجرة بعض الشيء، لتعود من جديد سيرتها الأولى تستعد لتفجّر جديد.
ففي عاصمتها كييف وُلدت أول دولة روسية (980 ـ 1015) قبل أن يدمرها المغول في العام 1340، ليحكمها بعد ذلك البولونيون والليتوانيون لمدة ثلاثة قرون تقريباً، لتعود بعد ذلك الأجزاء الواقعة شرق نهر الدنيبر إلى حكم الروس بعد أن هزموا البولونيين في العام 1685، الذين احتفظوا بالأجزاء الواقعة غرب الدنيبر تحت سلطتهم، لتتكرر هذه القسمة لاحقاً بين روسيا والنمسا في عام 1772، وبين روسيا وبولونيا من جديد في عام 1920، قبل أن يحسم المسألة ستالين فيضم أغلب الأجزاء الغربية منها إلى أوكرانيا الأم تحت سلطة الحكم السوفياتي.
خلال تاريخها المنفتح على التغيرات المستمرة بسبب صراع الكيانات السياسية المجاورة لها على جغرافيتها تغير اسمها اكثر من مرة، فدعيت تارة بروسيا الصغرى عندما ضمها الروس إلى اراضيهم بعد هزيمتهم لبولونيا، وصارت جزءا من الإمبراطورية الروسية إلى جانب بيلاروسيا لتصبح جزءا من تعريف القياصرة الروس بأنفسهم " أنا بطرس الأكبر إمبراطور روسيا الكبرى وروسيا الصغرى وبلاروسيا..." لكن اللتوانيين خلال فترة حكمهم لأوكرانيا كانوا يستخدمون مصطلح "الهاتمان" على ممالكهم بنسبتها إلى القائد العسكري لكل منها( الهاتمان). بدورهم البولونيون كانوا يسمونها تارة بلد السواد نظرا لسواد تربتها، وتارة اخرى أطلقوا عليها " اوكرايينا " نظرا لوقوعها عند أطراف الأراضي البولونية إلى الجنوب. فيما يخص "أوكرانيا" الحالية فقد تم تركيبها حديثا من أربعة أجزاء، أكرانيا الأم وهي مساحة صغيرة في قلب أوكرانيا الحالية، ضم إليها لينين مساحات كبيرة من الأراضي الروسية الى الشرق من نهر الدنيبر، ومن ثم في عهد ستالين تم ضم الأجزاء الغربية التي كانت تحت السيطرة البولونية، وفي عهد خروتشوف ألحق بها أيضا جزيرة القرم التي كانت جزءا من الأراضي الروسية، لتصير بذلك مساحتها الأكبر في أوربا بعد روسيا.
ينطبق على أوكرانيا ما يسمى بلعنة الجغرافيا وهي من هذه الناحية تشبه سورية كثيرا، فهي بالنسبة للدول الغربية "المجال الصحي" الذي يحميها من روسيا، لكنها بالنسبة للروس فهي عداك عن التاريخ المشترك الطويل، والأصل العرقي الواحد، والثقافة المشتركة، فهي جزء من مجالهم الأمني.
لقد شاركت أوكرانيا روسيا تاريخاً طويلاً نسبياً، امتد لنحو ثلاثة قرون، في إطار نوع من الاتحاد، وبرغم الأصل السلافي المشترك للأوكرانيين والروس وما نجم عنه من تشارك ثقافي واسع وعميق، بما في ذلك تحدث نحو نصف سكان البلاد باللغة الروسية، لكن الدولة الأوكرانية والشعب الأوكراني ظلا على الدوام محط تنازع داخلي وخارجي محكوم بتوجه ثنائي القطب: واحد نحو الشرق، نحو روسيا، وواحد نحو الغرب، نحو أوروبا وتحديداً أوروبا الكاثوليكية.
اللافت أنه عندما بدأ الاتحاد السوفياتي يتفكك في سياق مسار نهج البيروسترويكا الذي اعتمده غورباتشوف، آخر رئيس للاتحاد السوفياتي في العام 1985، لم يكن الأوكرانيون متحمسين للخروج منه، لكن بعد أن وجّه بوريس يلتسين رئيس روسيا الفدرالية ضربة قاصمة له، لم يكن من خيار أمام الأوكرانيين سوى إعلان الاستقلال وقيام دولة أوكرانيا المستقلة وعاصمتها كييف.
لقد واجهت الدولة المستقلة منذ يومها الأول مشكلات عديدة، بعضها يعود إلى طبيعة بنيتها السكانية والدينية، وما تنطوي عليه من احتمالات لتشغيل قوى التنافر الداخلي من أتباع الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة الأرثوذكسية، وبين الناطقين باللغة الروسية واللغة الأوكرانية، وبعضها الآخر يعود لقوى الجذب الخارجي بين روسيا من جهة والدول الغربية من جهة ثانية بسبب تعارض المصالح.
لقد كان من المفترض أن تدير اللعبة الديموقراطية قوى التنافر الداخلي، وقوى الجذب الخارجي وتتحكّم بها، بما يحافظ على وحدة أوكرانيا واستقلالها، لكن التدخلات الخارجية في شؤونها لم تسمح لها بذلك، وها هي اليوم تقف من جديد على مفترق طرق سوف يتقرر عنده ليس فقط مصير أوكرانيا كدولة موحدة ومستقلة، بل وكثير من العلاقات بين روسيا من جهة، والدول الغربية من جهة ثانية.
لقد اعطى الروس للدبلوماسية زمنا كافيا قبل أن يقرروا اجتياح اوكرانيا عسكريا، فقد كانوا يرغبون بتطبيق اتفاقيات مينسك مع اوكرانيا التي تم التوصل لها في عامي 2014 و2015 برعاية أوربية( ألمانيا وفرنسا) والتي من ضمن ما جاء فيها اقرار أوكرانيا بوضعية الحياد الدائم لها مثلها في ذلك مثل فلندا والسويد، لكن الحكومات الأوكرانية المتعاقبة طالبت بالانضمام إلى الاتحاد الاوربي وإلى حلف شمال الأطلسي، وهذا أمر ما كان لروسيا الموافقة عليه مما شكل من جملة أسباب وذرائع عديدة الدافع لعملية الاجتياح العسكري الروسي الجارية اليوم لأوكرانيا.
لقد تعرضت روسيا منذ تفكك الاتحاد السوفياتي لمزيد من التهميش في عهد بوريس يلتسين، وركزت السياسات الغربية عموماً في حينه على دفع روسيا لتبقى متخلفة تلعب دور الحديقة الخلفية لأوروبا، ومصدرا للمواد الخام، وخصوصاً النفط والغاز. لقد تجاهلت هذه السياسات، وخصوصاً الأميركية منها قوة الوطنية الروسية الكامنة فتعاملت مع روسيا ليس بصفتها دولة عظمى بل دولة من العالم الثالث، واستفزتها في أكثر من مكان، وخصوصاً في تلك المناطق التي كانت حتى حين تدور في الفلك الروسي، كما هو الحال بالنسبة لجمهوريات آسيا الوسطى السوفياتية السابقة، وفي البلقان وأخيراً في جورجيا وفي ليبيا. لطالما حذر الرئيس الفرنسي ميتران الولايات المتحدة الأميركية من استفزاز "الدب الروسي" وإهانته وتجاهل دوره في السياسات الدولية. لذلك ما إن استلم بوتين زمام السلطة في روسيا وهو الجنرال السابق في المخابرات الروسية، والمفعم بالوطنية، حتى بادر إلى الرد، وإعادة الاعتبار إلى روسيا بصفتها دولة عظمى لا يمكن لأحد تجاهلها. ومما ساعده في نجاح سياساته التفاف طاقم من الوطنيين الروس حوله، إضافة إلى حسن استغلاله للأزمة المالية الخانقة التي تفجرت في أميركا وفي دول المنظومة الأوروبية عموماً، وجعلتها تنشغل في أمورها الداخلية أكثر.
لقد ركز بوتين جلّ اهتمامه على تمتين الوضع الداخلي في روسيا، في إطار قواعد الديموقراطية الروسية، متجاهلاً حقوق مواطنيه عليه بمزيد من الانفتاح والحرية، ومن ثم ركز على إنعاش الاقتصاد، وتجنيب بلده آثار الأزمة المالية العالمية التي عصفت بالدول الغربية، وقد حقق نجاحات ملحوظة على هذا الصعيد. لقد أخذ الاقتصاد الروسي في عهده ينمو بوتائر عالية قاربت السبعة في المائة، وصارت روسيا تملك ثاني أكبر احتياطي للعملات الصعبة في العالم بعد الصين.
وبالتوازي مع تمتين الوحدة الداخلية لروسيا، ومع إنعاش الاقتصاد الروسي، لجأ بوتين إلى تحديث القوات المسلحة ليكتمل بذلك ثالوث القوة الروسية، الأساس المتين لعودة روسيا كقطب في السياسة الدولية،ولم يبق سوى انتهاز الفرصة المواتية للتعبير عن ذلك فكانت الأزمة السورية.
لم تنشغل روسيا كثيراً بثورات "الربيع العربي" طالما كانت لا تزال تجري في بلدان عربية محسوبة بالأساس على الدول الغربية، وبرغم معارضتها للتدخل العسكري في ليبيا، لكنها مع ذلك وافقت على قرار مجلس الأمن الذي أجاز ذلك. لكن ما إن تحرك الشعب السوري ضد نظامه مطالباً بالحرية والديموقراطية حتى وقفت روسيا بقوة إلى جانب النظام، وقدمت له الدعم السياسي والعسكري، وأمّنت له الحماية ضد تدخلات الدول الغربية لإسقاطه عسكرياً. إن خصوصية الأزمة السورية الناجمة من حيث الأساس عن موقع سوريا الجيواستراتيجي، وما ينجم عنه من تأثير على دول الجوار الأخرى، وكذلك العلاقة التاريخية بين روسيا وسوريا، وبين إيران وسوريا حليفتي روسيا، سمحت لروسيا أن تلعب دوراً قطبياً في السياسة الدولية من جديد، بمساعدة كل من الصين ومجموعة دول البريكس الأخرى.
اليوم لا أحد يستطيع تجاهل دور روسيا في السياسة الدولية، وإذا كان تفجر الأحداث في أوكرانيا سوف يشكل ضغطاً جديداً على روسيا، إلا أنه من جانب آخر سوف يشكل امتحاناً جديداً لقطبية روسيا، وسوف تنجح فيه لكن الثمن سوف يكون باهظا خصوصا من اقتصادها. أوكرانيا بالنسبة لروسيا أهم بكثير من سوريا، فهي تعدها جزءاً من بيتها الداخلي، ومن مجالها الحيوي الاستراتيجي، لما لها من تأثير على أمنها وعلى مصالحها، لذلك لن تتخلى عنها أبداً، وهي تمتلك فيها عناصر قوة لا تمتلكها في سوريا. لا شك بأن الأزمة الأوكرانية سوف تزيح مؤقتاً الأزمة السورية من واجهة المشهد السياسي الدولي، لكنها مع ذلك لن تضعف من التشدد الروسي تجاه الحلول المطروحة لها في مؤتمر جنيف 2. فسوريا التي شكلت بداية عودة القطبية الروسية إلى المسرح الدولي لن تتخلى عنها ببساطة تحت ضغط الأحداث المرتبطة بتفجير الأزمة الأوكرانية، بل على الأرجح سوف تزيدها تشدداً.
يمكن تصور ان اتخاذ القرار الروسي باجتياح أوكرانيا عسكريا لم يكن سهلا، وهو بلا شك قد خضع لحسابات كثيرة ومعمقة، فالدول الغربية لن تبقى غير مبالية، وها هي تحاصر روسيا اقتصاديا وسياسيا وحتى ثقافيا، بإجراءات تقارب العنصرية إلى حد كبير( اتخذت اجراءات لمقاطعة الرياضيين الروس، وطال المنع المحاضرات عن أدب ديستويفسكي في احدى الجامعات الأوربية، ولم ينجوا الروس المقيمون في بلدان اوربا من الاجراءات العقابية ..).وعلى الأرجح سوف تعمل الدول الغربية جاهدة على تحويل اوكرانيا لأفغانستان جديدة تغرق روسيا فيها. ورغم كل شيء فإن روسيا لن تتوقف وتكتفي بـ "إعادة المكانة التي تستحقها روسيا في القارة الأوروبية والمشهد العالمي" بحسب ما صرح به بوتين، التي يجري اختبار جديتها وعزمها بصدد تحقيقه من جديد، بل على الأرجح سوف تحسم المسألة نهائيا بتمكين الموالين لها في اوكرانيا من السلطة في البلد لإنشاء نظام موالي لها في كييف كمقدمة لقيام نوع من الاتحاد يضمها إلى روسيا وبيلاروسا، إنه اتحاد سلافي لطالما حلمت روسيا به.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -بيتزا المنسف-.. صيحة أردنية جديدة


.. تفاصيل حزمة المساعدات العسكرية الأميركية لإسرائيل وأوكرانيا




.. سيلين ديون عن مرضها -لم أنتصر عليه بعد


.. معلومات عن الأسلحة التي ستقدمها واشنطن لكييف




.. غزة- إسرائيل: هل بات اجتياح رفح قريباً؟ • فرانس 24 / FRANCE