الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الاستبداد وتبديد الثروة المجتمعية

عادل العمري
كاتب وباحث غير متخصص

(Adil Elemary)

2022 / 3 / 10
مواضيع وابحاث سياسية


الحرية والديموقراطية مهمة ليس لأسباب أخلاقية وإنسانية فقط، بل هي ‏أيضًا مهمة جدًا لتحقيق التنمية والتطور بأقل تكلفة ممكنة، ولتحقيق الرفاهية ‏للجمهور العام. فالأنظمة الاستبدادية ليست مجرد أنظمة غير إنسانية، بل هي ‏تقوم بدور مخرب للثروة البشرية والمادية.‏
فالإصرار على قمع وتهميش المثقفين والمعارضة عمومًا، والتي تشمل في ‏الغالب عناصر مثقفة وعالية التعليم وتتميز بالذكاء والقدرة على الإبداع، ‏تحرم المجتمع من ثروة بشرية مهمة. فبدلًا من ترك المبدعين ينتجون العلم ‏والأدب والفن يتم سجنهم أو قتلهم، وفي حالات كثيرة يهدف تعذيب الناس ‏إلى كسر شخصياتهم وتدميرهم نفسيا، وهذا يتم بوعي وتخطيط من جانب ‏أجهزة الأمن. هذه الثروة البشرية تحرم المجتمع من إمكانيات مهمة.‏
وفي تلك الأنظمة عادة ما يتم تبجيل أهل الثقة وكثيرًا ما يكون هؤلاء قليلي ‏أو عديمي الكفاءة، فيؤدي نفوذهم إلى تخريب مقدرات المجتمع.‏
ومن المضاعفات الخطيرة للاستبداد تغييب الرقابة والقضاء المهني ‏وسيادة القانون، وقمع الإعلام ومنع النقد، مما يترك الساحة مفتوحة أمام ‏الفساد وتمكن "أهل الثقة" والمحاسيب في مواقع السلطة.‏
ورغم أن هناك أنظمة استبدادية حققت نموًا اقتصاديًا ملموسًا (مثل الأنظمة ‏الاشتراكية) إلا أن الثمن كان باهظًا للغاية، لأن ذلك النمو قد ترافق مع إهدار ‏ثروات البلاد المادية والبشرية.‏
ولدينا الكثير من الأمثلة: منها: ‏
‏1- في ظل الستالينية: تم تمكين "أهل الثقة" على حساب أهل الخبرة ‏‏(وهذا لا ينفي وجود علم خبرة لدى بعض أهل الثقة). ورغم المجهود الهائل ‏الذي بذله النظام وإرهاق العمال بالعمل الشاق تم في النهاية إنشاء نظام ‏اقتصادي يوصف بالاقتصاد "غير الكفء". هذا النظام كان يحقق أرقامًا ‏مرتفعة من النمو في معظم القطاعات لكن لم ينعكس هذا النمو على مستوى ‏معيشة الناس ولا كفاءة الأداء (كمثال أنشئت ولأسباب أمنية مشاريع بعيدة ‏عن مصادر الخامات وعن مواطن الاستهلاك، مما يعني تكاليف عالية للنقل، ‏ترجم في طول خطوط السكك الحديدة أو عدد سيارات النقل، وبالتالي في ‏إنتاج ضخم من الحديد وغيره من المواد اللازمة لقطاع النقل، وكل هذه تعطي ‏أرقامًا عالية لا قيمة لها في الواقع). وقد أدت الإدارة الشمولية في النهاية ‏إلى إنشاء اقتصاد حرب، والاهتمام بتصنيع السلاح مع عجز الاقتصاد عن ‏إنتاج سلع استهلاكية جيدة.‏
ومن ضمن الأمثلة الفاضحة على إهدار الثروات والتخريب أنه قد تم تعيين ‏جنرال من أهل ثقة ستالين هو جريجوري كوليك، قائدًا عامًا للمدفعية ‏السوفيتية والمسؤول الأول عن تصنيع الدبابات والمدافع حتى بداية الحرب ‏العالمية الثانية‎ ‎كما تبوأ مناصب كبرى في الدولة. وقد رفض ذلك الجنرال ‏الابتكارات مثل الدبابات (لكن أمر ستالين بإنتاجها)، ثم عرقل إنتاج الذخيرة ‏المناسبة لها مما كان عاملا في اقتحام الألمان للبلاد في بداية الحرب الثانية. ‏كما كان ضد إنتاج المدافع المضادة للدبابات، و قاذفة صواريخ كاتيوشا. وقد ‏كان سببًا في طرد جنرالات عظام مما أثر على كفاءة الجيش. فقط صداقته ‏الشخصية مع ستالين أثناء الخدمة معًا في الحرب الأهلية الروسية حمته من ‏النقد. وأخيرًا ، وبعد كثير من هزائم الجيش أمام النازية تم فصله من ‏مناصبه عام 1946، واعتقل عام 1947، وأعدم بتهمة الخيانة عام 1950.‏
ومن الأمثلة الكارثية تلك المجاعة التي حدثت عام 1932 -1933 نتيجة ‏الإجراءات التي قامت بها الدولة السوفيتية بما في ذلك الزراعة القسرية ‏والتخطيط الاقتصادي السيء والقمع السياسي في الريف. وكانت السلطات ‏السوفيتية قد حددت كميات من القمح أجبرت الفلاحين على تسليمها للدولة. ‏كما تمت معاقبة الفلاحين الذين فشلوا في جمع الكميات المحددة عن طريق ‏منعهم من التنقل والتجارة. وبسبب ذلك، تفشت المجاعة بمناطق عدة وخاصة ‏بأوكرانيا الحالية وأودت بحياة ملايين الأوكرانيين ما بين عامي 1932 ‏و1933. كان من ضمن مقررات البرنامج الزراعي هو قيام الفلاحين بتسليم ‏ممتلكاتهم ومواشيهم للمزارع الحكومية بثمن زهيد تحدده الدولة، وهو ما ‏أدى إلى تذمر الفلاحين. فلا يوجد انسان عاقل يسلم ممتلكاته التي حصل ‏عليها بشق الأنفس من أجل ما يسمى "الغد الشيوعي المشرق" فقام ‏الفلاحون برفض البرنامج الزراعي. حاول ستالين ثنيهم باستخدام القوة لكنة ‏لم يفلح، اذ قاموا بنحر مواشيهم ودفن محاصيلهم بدل تسليمها لصالح ‏البرنامج الزراعي، مما أغضب ستالين بشدة فأعطى أوامره للشرطة السرية ‏بتجريد الفلاحيين من كل ممتلكاتهم وعدم ترك شيء ونقلهم بالقوة إلى ‏المزارع الجماعية، واتخذ تدابير انتقامية ضد الفلاحيين وفرض عليهم – ‏انتقامًا - حصص حصاد يستحيل بلوغها. وكان ممنوعًا على الفلاح الاحتفاظ ‏بثمرة واحدة قبل أن يكمل الحصاد المفروض عليه، مما أدى إلى موت ‏الملايين جوعاً. قدر البعص عدد الوفيات نتيجة للمجاعة بـ 5.5 إلى 6.5، 7-‏‏8 مليون حالة وفاة.‏
ومن مهازل الاستبداد الستاليني ذلك العالم المزيف تروفيم ليسينكو، وهو ‏مهندس زراعي وعالم أحياء (يذكرنا بعبد العاطي كفتة في مصر السيسي). ‏وقد كان مؤيدًا قويًا لنظرية لا مارك في الوراثة (الصفات المكتسبة تورث)، ‏ورفض علم الوراثة المندلية لصالح أفكار علمية الزائفة التي سميت ‏الليسينكووية‎.‎‏ وفي عام 1940 أصبح ليسينكو مديرًا لمعهد علم الوراثة في ‏أكاديمية العلوم السوفيتية، واستخدم نفوذه السياسي وسلطته لقمع الآراء ‏المعارضة وتشويه سمعة منتقديه وتهميشهم وسجنهم، ورفع نظرياته ‏المناهضة للمندلية إلى مفهوم أقرته الدولة‎.‎‏ وقد تم فصل العلماء الذين ‏رفضوا التخلي عن علم الوراثة المندلية من مناصبهم وتُرِكوا معدمين. كما ‏سُجن المئات منهم، بل وحُكم على العديد منهم بالإعدام كأعداء للدولة، ومنهم ‏عالم النبات نيقولاي فافيلوف. وقد حُظِرت المعارضة العلمية من نظريات ‏ليسينكو عن الوراثة المكتسبة بيئيًا رسميًا في الاتحاد السوفيتي في عام ‏‏1948. كما زعم ليسينكو أن الرياضيات ليس لها مكان في علم الأحياء، كما ‏زعم اكتشاف طريقة لتخصيب الحقول دون استخدام الأسمدة. ونتيجة ‏للليسينكووية والتنظيم الجماعي القسري في الريف، مات 15-30 مليون ‏مواطن سوفييتي وصيني جوعًا. يضاف حرمان البلاد من الملايين الذين قتلوا ‏في الحرب ضد الفلاحين لشيء واحد هو تجميع الأرض تحت سيادة الدولة. ‏
ونرى الآن الأداء المزري للجيش الروسي في أوكرانيا رغم كمية السلاح ‏وعدد الجنود والضباط؛ الخسائر الضخمة والتقدم البطيء والقتل بغشم. وهذا ‏يذكرنا بخسائر الجيش السوفيتي في الحرب العالمية مقارنة بخسائر الألمان ‏حتى في المعارك التي انتصر فيها.‏
‏2- أما في ظل النظام الشمولي الصيني فقد حدثت كوارث عدة نتيجة ‏سيطرة أهل الثقة. ومن أبرزها المجاعة الصينية الكبرى من 1959 إلى ‏‏1962، والتي نتجت عن قرار ماوتسي تونج بتحقيق "القفزة الكبرى إلى ‏الأمام" لتحقيق الشيوعية دفعة واحدة وما تصمنته من سياسة قهرية تجاه ‏الفلاحين. يضاف قرار ماو الجاهل بقتل كل العصافير وطيور أخرى بحجة ‏أنها تأكل القمح، دون أن يسأل الخبراء لكي يعرف أنها تأكل الطفيليات التي ‏تأكل القمح أيضًا. ولتأكيد نجاح أفكار ماو أعلنت السلطات عن وجود وفرة ‏في إنتاج المحاصيل عام 1957. وقد دفع هذا الإعلان المخططين إلى تغيير ‏خطة الزراعة من الحبوب إلى محاصيل أخرى مثل القطن والقصب، كما تم ‏دفع أعداد كبيرة من الفلاحين إلى العمل في الصناعة بالمدن، مما زاد الطلب ‏من قبل المدن على الحبوب المشتراة من الريف. كما دفع قادة الدولة إلى ‏تصدير الحبوب. أدى هذا إلى أزمة حبوب خطيرة أدت إلى المجاعة الرهيبة. ‏وتلا ذلك ما يعرف بالثورة الثقافية التي زادت من الخراب في الصين بقتل ‏وسجن كثير من المثقفين والتكنوقراط. ولم يتحقق نمو الصين الحالي إلا ‏باتباع سياسة أقل استبدادًا إلى حد ما ومنح حرية العمل لرأس المال الخاص ‏وتحرير الفلاحين من سطوة الدولة واتباع نظام اقتصاد السوق وتمكين ‏التكنوقراط المهرة من أجهزة الدولة وفتح الباب على مصراعيه لرأس المال ‏الأجنبي. لكن استمرار الاستبداد السياسي يتسبب في انتشار الفساد والشللية ‏على نطاق واسع.‏
‏3- يمثل النظام النازي في ألمانيا وغيرها في القرن الماضي نموذجًا ‏خالصًا للاستبداد. وضمن مضاعفات هذا النظام: نزفت البلاد من هجرة ‏وسجن وقتل كثير من العلماء والمفكرين – تم إنفاق ثروة البلاد على عسكرة ‏الاقتصاد والحرب العالمية الثانية على حساب الإنتاج المدني والابتكارات ‏‏(وكان يمكن تفاديها بشيء من التعقل والحسابات الصحيحة) – أدى السعي ‏إلى تحقيق المجد الشخصي للزعماء واستمرار سطوتهم إلى التضحية ‏بملايين القتلى من أبناء الشعوب لمجرد استمرار الحرب حتى بعد أن اتضح ‏أنها خاسرة.. والبقية معروفة. ‏
‏4- تكلفة بقاء النظام الناصري بطبعاته المختلفة في مصر وهو النموذج ‏المثالي للأنظمة العربية الشمولية: مغامرات خارجية مكلفة انتهت بحرب ‏‏1967 – إنشاء مشاريع مكلفة جدًا وضعيفة الإنتاجية – تدمير ثروة بشرية ‏من المثقفين والمفكرين وتحويلهم إلى أبواق للسلطة وكتبة تقارير – انتشار ‏الفساد على نطاق واسع كآلية لشراء الأتباع والمصفقين – والآن يلجأ الحاكم ‏إلى شراء السلاح بالمليارات لشراء شرعيته الخارجية، كما تنازل عن ‏جزيرتين في موقع استراتيجي، ودمر القوة الناعمة المصرية بالكامل، كما ‏أهدر ثروة البلاد في مشاريع لا لزوم لها وفي رشوة الجيش والأمن والقضاء ‏والإعلام، مما فاقم الأزمة الاقتصادية – أدت سياسة الأجور وإهمال البحث ‏العلمي لحساب شراء الأتباع وتعيين الفاسدين في مناصب حكومية كوسيلة ‏للسيطرة عليهم إلى هجرة العقول وبالتالي حرمان البلاد إنتاجهم العلمي ‏وابتكاراتهم وكفاءتهم... والكثير والكثير من آليات التخريب وتدمير الحضارة ‏على أرض مصر. ‏
‏5- قدم نظام البعث في سوريا والعراق، ونظام حكم الملالي في إيران ‏نماذج أخرى للاستبداد الذي كلف البلاد الكثير من إمكانياتها التي تنفق في ‏دعم أجهزة الأمن وعسكرة البلد عمومًا. أما القطاع الاقتصادي المملوك ‏للدولة فيشمل معظم المؤسسات الكبرى حيث يسود الفساد والشللية ‏والمحسوبية. يضاف بالنسبة للعراق وإيران المغامرات الخارجية غير ‏المحسوبة والمكلفة والتي أنهت مقدرات البلدين.. والكلام يطول بالنسبة ‏لأشكال أخرى لتبديد الفائض والنمو المكلف.‏
‏6- وبالنسبة لأنظمة الاستبداد الشرقي القديمة (مثل مصر وبيرو وشرق ‏المتوسط) وجدنا تبديد الفائض الاجتماعي على إنشاء المباني الفاخرة من ‏قصور ومعابد ومقابر للحكام، وتبديد الذهب والفضة لتحقيق متعة الحكام، ‏وشبكة طرق متقدمة ونظام بريدي يخدمان تحركات الجيش وجامعي ‏الضرائب.. وغير ذلك من مظاهر التبديد والإسراف والترف، على حساب ‏معدل استغلال شديد الارتفاع للفلاحين والعمال.‏








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ضربة إيران لإسرائيل: كيف غيرت قواعد اللعبة؟| بتوقيت برلين


.. أسو تخسر التحدي وجلال عمارة يعاقبها ????




.. إسرائيل تستهدف أرجاء قطاع غزة بعشرات الغارات الجوية والقصف ا


.. إيران قد تراجع -عقيدتها النووية- في ظل التهديدات الإسرائيلية




.. هل ستفتح مصر أبوابها للفلسطينيين إذا اجتاحت إسرائيل رفح؟ سام