الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المثقف العصامي والثقافة العصامية

ثامر عباس

2022 / 3 / 14
المجتمع المدني



نتحدث اليوم عن نمط آخر من أنماط (المثقفين) قليل التداول في الأوساط الثقافية ، ونمط مختلف عن أنماط (الثقافات) قليلة الشيوع في الدراسات السوسيولوجية والانثروبولوجية . لذلك نادرا"ما يصادفنا في المصادر الثقافية والإعلامية ، لاسيما وسائل التواصل الميديائي العديدة والمتنوعة ، الإشارة إلى مصطلح (المثقف العصامي) وأكثر منه ندرة نظيره الآخر مصطلح (الثقافة العصامية) . ولعل ذلك متأت من اعتقاد البعض ممن يتعاطى الشأن الثقافي أو الإعلامي ؛ أن كلا المصطلحين يتشابهان في المعنى ويتماثلان في الدلالة - وهو محض اعتقاد خاطئ – بل ويكاد الأمر يصل لدى بعضهم حدّ (المماهاة) بين الاثنين . وهو ما يحمل المعنيين على النفور بشدة من اللجوء إلى تلك المصطلحات وتحاشي استخدامها أو التعاطي معها ، من منطلق كونها تغامر بإضافة صفة (العصمة) المنبوذة إلى شخصية الموصوف (المثقف) و(الثقافة) . بيد أننا لو دققنا جيدا"في المضامين سنكتشف إن موقفنا المبني على (الرفض) المسبق لا يقوم على أسس واقعية أو حجج عقلانية ، بقدر ما يتأسس على افتراضات خاطئة وتصورات قاصرة تستدعي منا التريث والتروي قبل إصدار الأحكام القاطعة وإطلاق التعميمات الباتة .
صحيح إن صفة (العصمة) تحيل في المتخيل الجمعي إلى مساوئ توظيف (المقدس) الديني في مجالات (المدنس) السياسي والإيديولوجي ، لاسيما وان تجربة (المثقف) العراقي في هذا المضمار غنية بالوقائع إلى حدّ التخمة . إلا إن فرقا"هائلا"يتموضع ما بين صفة (العصمة) في الحالة الأولى (المثقف) من جهة ، وبين معناها ودلالتها في الحالة الثانية (الثقافة) من جهة أخرى . ف(عصامية) المثقف – كما نفهمها – هي التعبير النوعي لمجهود الفاعل الاجتماعي في المجالات الفكرية والمعرفية بناء على قدراته الذاتية وطاقاته الشخصية وخبراته الاجتماعية ، دون أن يكون – بالضرورة – قد استعان بمؤسسات علمية (مراكز بحوث) أو جهات أكاديمية (جامعات وكليات) تؤطر وعيه وتبلور تفكيره ، استنادا"إلى نظريات متفق عليها ومنهجيات متعارف عليها سلفا". بحيث يستطيع من خلال هامش (الحرية) الشخصية الذي يتمتع به وفرشة (الخيارات) المتنوعة التي يمتلكها ، أن يبدع في مجالات معرفية عديدة وفكرية متنوعة ، ربما لا تتاح دائما"لدى نظيره (المثقف المسلكي) سليل المؤسسات الأكاديمية الذي غالبا"يكون مقيدا"بمناهج وبرامج حكومية صارمة . هذا بالإضافة إلى كون تلك المؤسسات قد لا تبيح الخروج عن السياقات التقليدية لتاريخ الدولة (القومي) ، ولا تسمح بالتجاوز على ثوابت معتقد السلطة (الإيديولوجي) ، ولا تتسامح بالانحراف عن نسق الوعي الاجتماعي (التقليدي) . وكما هو ملاحظ ، فان صفة (العصامية) هنا تحمل دلالات عالية (الايجابية) من حيث كونها ليست فقط خصائص مرغوبة ومطلوبة من قبل الجميع ، كتعبير عن الاستقلالية الفكرية والنأي عن الاستقطابات الإيديولوجية فحسب ، بل وتكاد ترقى إلى مصاف الضرورة المعرفية في بعض الأحيان .
وهنا نسارع للقول ؛ إن إشارتنا إلى (المثقف المسلكي) لا يقصد منها التعميم بقدر ما يراد منها التخصيص ، أي بمعنى ليس كل من حمل شهادة جامعية أو تمتع بمؤهلا"أكاديميا"عاليا"، وفقا" للضوابط والمعايير العلمية التي تجيز له الحصول على تلك الاستحقاقات المادية والاعتبارية المشروعة ، يمكن إدراجه ضمن هذا الصنف من مثقفي (المكاتب) المتسكعين . وإنما المقصود أولئك الذين تحصلوا على شهاداتهم الجامعية ونالوا مؤهلاتهم الأكاديمية بأساليب مريبة وطرق ملتوية ، ليس لأغراض تنوير عقولهم وتطوير وعيهم وعقلنة تفكيرهم وتجديد معارفهم وبناء شخصيتهم ، وإنما لاستخدامها بمثابة سلم للحصول على ؛ إما مكاسب شخصية (مردود مالي ، أو درجة وظيفية ، أو وجاهة اجتماعية) ، أو مصالح فئوية (نعرة عنصرية ، أو فزعة قبلية ، أو عصبية طائفية) ليس إلاّ . وهنا الشواهد أكثر مما يحصى في هذا المجال ! .
أما فيما يخص معنى (الثقافة العصامية) وما يرشح عنها من دلالات وإيحاءات ، فلربما لا نجانب الصواب حين نقول ؛ إن ادعاء (العصمة) لثقافة ما لا يمنحها امتيازا"حضاريا"وإنسانيا"، بقدر يقلل من شأنها ويحط من قيمتها ويضعف من تأثرها . فالثقافة وان حملت بين ثنايا تكوينها خصائص المجتمع النوعية التي تجسّد فرادة شخصيته ، وتعكس نمط عقليته ، وتمثل خصوصية هويته . بيد أنها لا تتمكن من تحقيق ذلك إلاّ عبر الاحتكاك بثقافات أخرى ؛ بالتفاعل والانفعال ، بالتأثير والتأثر . ليس فقط لإثبات جدارتها وشرعنة استحقاقاتها بين تلك الثقافات فحسب ، وإنما لاغناء مضمونها وتوسيع آفاقها وتطوير منظورها . ومتى أصرّت ثقافة ما على رهان (العصمة) سواء بدعاوى الأقدمية التاريخية ، أو مزاعم الأسبقية الحضارية ، فان ذلك يعني إن تلك الثقافة شرعت – تحت مزاعم الحفاظ على الأصالة والمنافحة عن التراث - بولوج أطور الاحتضار المحقق والتحجر الأكيد . إذ ليس من طبيعة الثقافة – أية ثقافة – أن تغلق المنافذ بينها وبين باقي الثقافات المختلفة ، أو تلغي قنوات التنافذ بين الفكريات المغايرة ، أو تمنع جسور التواصل بين العلاقات ، إن في مجال الأخذ / التأثر ، أو في مضمار العطاء / التأثير .
وهكذا نكون قد أدركنا الفرق بين دلالات (العصمة) حين نصف بها شخص ما (مثقف) من جهة ، وبين دلالاتها المختلفة نوعيا"حينما تدعي لنفسها (ثقافة) ما هذه الصفة أو الخاصية من جهة أخرى . اذ ليس ما يعيب الإنسان – الأحرى أن يجعله فخورا"- فيما لو أغنى حصيلته المعرفية وأثرى مخزونه الثقافي ، بناء على مجهوده الشخصي وخبرته الذاتية ، حتى ولو لم تسعفه الظروف الموضوعية في بناء تلك المعارف والثقافات على أسس أكاديمية ومنهجية كما يحصل للبعض . ولكن الأمر لا يبدو على هذه الشاكلة بالنسبة للثقافة التي سيعيبها الادعاء بان معمارها الفكري ومدماكها القيمي ، أقيم على أرضية قومية / وطنية (نقيّة) خالية من امتدادات وتأثيرات الثقافات الأخرى ، حيث أنها ستحكم على ذاتها بعقم الإبداع وجمود التطور .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عائلة فلسطينية تقطن في حمام مدرسة تؤوي النازحين


.. الفايننشال تايمز: الأمم المتحدة رفضت أي تنسيق مع إسرائيل لإج




.. رئيس مجلس النواب الأمريكي: هناك تنام لمشاعر معاداة السامية ب


.. الوضع الإنساني في غزة.. تحذيرات من قرب الكارثة وسط استمرار ا




.. الأمم المتحدة تدعو لتحقيق بشأن المقابر الجماعية في غزة وإسرا