الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


روح التمرد ( كروبتكين

محمد رضوان

2022 / 3 / 16
مواضيع وابحاث سياسية


روح التمرد .
تأليف / بيتر كروبوتكين .

ترجمة / محمد رضوان

ظهرت هذه المقالة لأول مرة في "الثورة" في عام 1880، وظهرت الترجمات الإنجليزية في عام 1892 وكتابات كروبوتكين الثورية 1927.
كانت هناك فترات في حياة المجتمع البشري عندما أصبحت الثورة ضرورة حتمية، عندما أعلنت عن نفسها كحتمية وأصبح هناك أفكار جديدة تنبت في كل مكان، ساعية إلى شق طريقها نحو النور لإيجاد تطبيق لها في الحياة وفي كل مكان، يعارضهم جمود أولئك الذين تتمثل مصالحهم في الحفاظ على النظام القديم فهي تختنق في أجواء من التحيز والتقاليد.
إن الأفكار المقبولة حول دستور الدولة وقوانين التوازن الاجتماعي والعلاقات السياسية والاقتصادية بين المواطنين، لا يمكن أن تصمد بعد الآن أمام النقد اللاذع الذي يُضعِفها يوميًّا كلما ظهرت مناسبة - في غرفة الرسم كما في الملاهي وفي كتابات الفلاسفة أو في الحديث اليومي - تنهار المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية فورا، فالهيكل الاجتماعي بعد أن أصبح غير صالح للسكن، ويعيق بل ويمنع نمو البذور التي تُزرع داخل جدرانه المتضررة وتُزرع من حوله ، تصبح الحاجة لحياة جديدة أكثر تجليا وضرورة، فقوانين الأخلاق الراسخة قهرا والتي تحكم العدد الأكبر من الناس في حياتهم اليومية، لم تعد تبدو كافية، وما كان يبدو في السابق مجرد شعور، الآن يعلموا أنه ظلم صارخ.
إن أخلاق الأمس معترف بها اليوم على أنها فجور مقزز، فالصراع بين الأفكار الجديدة والتقاليد القديمة يتأجج في كل طبقة من طبقات المجتمع وفي كل بيئة ممكنة وفي ضمير العائلة ذاته، حتى أن الابن يصارع اباه ويعتقد أن ما اعتقده أبوه طوال حياته "طبيعيا" فإن الابنة تتمرد على المبادئ التي سلمتها لها أمها نتيجة لتجربتها الطويلة، ويوما بعد يوم ينتفض الضمير الشعبي ضد الفضائح التي تترعرع بين أصحاب الامتيازات وأصحاب الترهات والجرائم المرتكبة باسم شريعة الأقوى أو للحفاظ على هذه الامتيازات الموروثة .
إن الذين يتوقون إلى انتصار العدالة، والذين يضعون أفكارا جديدة موضع التطبيق سرعان ما يضطرون إلى الاعتراف بأن تحقيق أفكارهم السخية والإنسانية والمتجددة لا يمكن أن يتحقق في مجتمع ينشأ على هذا النحو، فهم يدركون ضرورة زوبعة ثورية تجرف كل هذا التعفن، وتنعش القلوب البطيئة بأنفاسها، وتجلب للبشرية روح التفاني وإنكار الذات والبطولة التي بدونها يغرق المجتمع في الانحطاط والخبث إلى تفكك كامل.
في فترات التسابق المحموم نحو الثروة، والمضاربة والأزمات والانهيار المفاجئ للصناعات الكبيرة والتوسع السريع لفئات الإنتاج الأخرى، والثروات المخزية التي تجمّعت في بضع سنوات وتبددت بسرعة، يتضح أن المؤسسات الاقتصادية التي تسيطر على الإنتاج والتبادل هذه، لا تعطي المجتمع الرخاء المفترض أن تضمنه له، فهي تنتج بالضبط النتيجة المعاكسة، و بدلا من النظام جلبوا الفوضى، بدلا من الإزدهار جلبوا الفقر وانعدام الأمن، بدلا من التوفيق بين المصالح جلبوا الحرب، حرب دائمة بين المُستَغِلين ضد العامل والمُستغلين والعمال فيما بينهم ويُنظر إلى المجتمع البشري على أنه ينقسم أكثر فأكثر إلى معسكرين معادين، وفي الوقت نفسه ينقسم إلى آلاف المجموعات الصغيرة التي تشن حرباً لا هوادة فيها ضد بعضها البعض. وإذ سئمت هذه الحروب، وسئمت المآسي التي تسببها، يندفع المجتمع للبحث عن منظمة جديدة، فهو يطالب بصوت عال بإعادة تشكيل نظام الملكية والإنتاج والتبادل وكل العلاقات الاقتصادية النابعة منه، ولا تزال آلية الحكومة المكلفة بحفظ النظام القائم تعمل، ولكنها تنزلق وتتوقف عند كل منعطف من منعطفاتها المتدهورة . فعمله يزداد صعوبة، والاستياء الناجم عن عيوبه يزداد باستمرار، و كل يوم يُفتح الباب لمُطالِب جديد "اصلحوا هذا"، "اصلحوا ذلك" وتسمع من جميع الاطراف : الحرب، التمويل، الضرائب، المحاكم.
يجب إعادة تشكيل كل شيء وإعادة تنظيمه وتأسيسه على أساس جديد والجميع يعرف أنه من المستحيل جعل الأشياء أكثر جمود وثبات لإعادة تشكيل أي شيء على الإطلاق لأن كل شيء مترابط، كل شيء يجب أن يُعاد صنعه في وقت واحد، لكن كيف يمكن إعادة تشكيل المجتمع عندما ينقسم إلى معسكرين معاديين بشكل علني؟ وإرضاء الساخطين لن يؤدي إلا إلى خلق ساخطين جدد.
عجز الهيئات الحاكمة عن القيام بإصلاحات يعني تمهيد الطريق أمام الثورة، وعجزها في الوقت نفسه عن أن تكون رجعية بصراحة، فإنها تفرض نفسها على أنصاف حلولا لا ترضي أحدا، ولا تؤدي إلا إلى استياء جديد.
إن الضعفاء الذين يتعهدون، في هذه الفترات الانتقالية، بتوجيه سفينة الدولة، لا يفكرون إلا في شيء واحد: الثراء! ، وفي مواجهة الكارثة القادمة عندها يُهاجِمون من جميع الاطراف و يدافعون عن انفسهم بشكل محرج، يهربون، يرتكبون الاخطاء الفادحة، وسرعان ما ينجحون فى قطع حبل الخلاص الاخير، إنهم يُغرِقون هيبة الحكومة في سخرية بسبب عجزهم.
في مثل هذه الفترات يتطلب الثورة، وتصبح ضرورة اجتماعية، فالوضع نفسه هنا ثوري.
عندما ندرس اعمال أعظم مؤرخينا العباقرة عن نشأة وتطور الاضطرابات الثورية الواسعة، نجدها عموما تحت عنوان « سبب الثورة »، صورة قاتمة للوضع عشية الاحداث من بؤس الشعب، وانعدام الأمن العام، والتدابير التعسفية التي اتخذتها الحكومة، والفضائح البغيضة التي تكشف الرذائل الهائلة للمجتمع، والأفكار الجديدة التي تكافح من أجل الظهور والتي يبغضها عجز أنصار النظام السابق لا يمكن إغفالها، وبتفحصنا لهذه الصورة يتبين لنا أن الثورة كانت حتمية حقا، وأنه لم يكن هناك أي سبيل آخر سوى الخروج للطريق المؤدي إلى العصيان .
خذ على سبيل المثال، الوضع قبل عام 1789 كما يتصوره المؤرخون، تكاد تسمع الفلاحين يشتكون من ضريبة الملح، والعشور، والجبايات الإقطاعية ، يتعهد في قلبه بالكراهية الشديدة تجاه البارون الإقطاعي والراهب والمحتكر والحاجب . يمكنك أن ترى المواطن يبكي على فقدان حرياته ويغمر اللعنات على الملك، والشعب يلوم الملكة وهم مستاؤون من التقارير التي تتحدث عن الإجراءات التي قام بها الوزراء، وهم يصرخون باستمرار بأن الضرائب لا يمكن تحملها وأن المدفوعات الضريبية باهظة، وأن المحاصيل سيئة وفصول الشتاء متقلبة، وأن المؤن غالية للغاية، وأن المحتكرين طماعين كثيرا، وأن محامي القرية يعتدي على محاصيل الفلاحين، وأن ضابط الشرطة في القرية يحاول أن يلعب دور الملك التافه، وأن خدمة البريد سيئة التنظيم والموظفين كسالى للغاية. باختصار، يشكو الجميع من عدم نجاح أي شيء. يصرخون في كل مكان: « لا يمكن ان تدوم اكثر من ذلك، ستكون نهاية سيئة ».
ولكن بين هذا الجدل السلمي وبين التمرد أو العصيان، هناك فجوة واسعة -تلك الفجوة التي تقع بالنسبة لأكبر جزء من البشرية بين العقل والعمل، الفكر والإرادة - كيف تم سد هذه الفجوة ؟ كيف يمكن للرجال الذين كانوا بالأمس فقط يشكون بهدوء من مصيرهم وهم يدخنون، وفي اللحظة التالية كانوا يحيون بتواضع الحرس والدرك المحليين الذين كانوا يسيئون معاملتهم للتو، كيف تمكن هؤلاء الرجال أنفسهم بعد بضعة أيام من الاستيلاء على مناجلهم ورماحهم الحديدية، أن يقوموا بالهجوم على قلعة السيد الذي كان بالأمس فقط هائلاً للغاية ؟ وبأي معجزة تحول هؤلاء الرجال، الذين وصفتهم زوجاتهم بالجبناء بحق، في يوم واحد إلى أبطال يسيرون عبر الرصاص وطلقات المدافع لانتزاع حقوقهم؟ فكيف تحولت الكلمات التي كثيرا ما تقال وتضيع في الهواء مثل رنين الأجراس الخاوية إلى أفعال؟
الجواب سهل.
إن العمل، أي العمل المستمر المتجدد بلا انقطاع الذي تقوم به الأقليات، يؤدي إلى هذا التحول. الشجاعة والإخلاص وروح التضحية معدية مثل الجبن والإذعان والذعر.
ما هي الأشكال التي سيتخذها هذا الفعل او العمل؟
كل الأشكال، بل الأشكال الأكثر تنوعاً والتي تمليها الظروف والوسائل المتاحة أحياناً تكون مأساوية، و أحياناً مضحكة لكن دائماً جريئة.
إن سياسة العمل هذه، التي تكون جماعية أحيانا وفردية محضة في بعض الأحيان، لا تُهمِل أيا من الوسائل المتاحة ولا أي حدث من أحداث الحياة العامة، لإبقاء الروح حية وللنشر والتعبير عن الاستياء ولإثارة الكراهية ضد المستغلين، ولإحتقار الحكومة وكشف ضعفها، وبمثال فعلي ( إيقاظ الشجاعة وتأجيج روح التمرد ) وعندما تنشأ حالة ثورية في بلدا ما وقبل أن تستيقظ روح التمرد لدى الجماهير بما يكفي للتعبير عن نفسها في مظاهرات عنيفة في الشوارع أو عن طريق الثورات، تنجح الأقليات من خلال العمل في إيقاظ ذلك الشعور بالاستقلال وتلك الروح من الجرأة التي بدونها لا يمكن لثورة أن تصل إلى ذروتها، يظهر رجال شجعان لا يكتفون بالكلمات ولكنهم يبحثون دوماً عن الوسائل لتحويلها إلى أفعال، رجال صارمون يتوافقون مع الفكرة في أفعالهم، وبالنسبة لهم السجن والنفي والموت أفضل من حياة تتعارض مع مبادئهم، أرواح جسورة تعرف أنه من الضروري أن تتجرأ لكي تنجح وهؤلاء هم الحراس الوحيدون الذين يدخلون المعركة قبل وقت طويل من أن يستيقظ الجماهير بما فيه الكفاية لرفع راية التمرد علنا والسير يدا بيد لانتزاع حقوقهم .
وفي خضم السخط والحديث والمناقشات النظرية، ينشأ عمل تمرد فردي أو جماعي يرمز إلى الطموحات السائدة بالفعل، ومن الممكن في البداية أن تظل الجماهير غير مكترثة، وفي الوقت الذي تُعبر فيه الجماهير عن إعجابها بشجاعة الفرد أو الجماعة التي تأخذ بزمام المبادرة، فإنها تتبع أولا من يتوخون الحذر ويوصفون العمل المتمرد فورا بأنه "جنون" ويقولون إن "أولئك المجانين، وهؤلاء المتعصبون سيعرضون كل شيء للخطر"
لقد أحسنوا حساباتهم مع هؤلاء الرجال الحذرين، حتى أن تنظيمهم الذي يواصل عمله ببطء سوف ينجح في غضون مائة عام أو مائتي عام، أو ربما ثلاثمائة عام في غزو العالم أجمع والآن مع وجود دخلاء أصبح الأمرغير متوقعا!
ما لم يكن متوقعا بالطبع، هو ما لم يتوقعه أولئك المتعقلون والحذرون! فكل من لديه معرفة بسيطة بالتاريخ وعقل واضح يدرك تمام الإدراك منذ البداية أن الدعاية النظرية التي تنادي بالثورة سوف تُعبر بالضرورة عن نفسها في العمل قبل أن يقرر المنظرون بوقت طويل أن لحظة التحرك قد حانت، على الرغم من ذلك فإن المنظرون الحذرون غاضبون من هؤلاء المجانين و يقومون بحرمانهم، ويبغضونهم، لكن المجانين يكسبون تعاطف جماهير الناس التي تصفق سراً لشجاعتهم ويجدونهم بجانبهم فيما يذهب الفاتحون لملء السجون والمستعمرات الجزائية بينما يستمر آخرون في عملهم، أعمال الإحتجاج الغير قانوني و التمرد لكسب الإمتيازات .
إن اللامبالاة من هذه النقطة مستحيلة، فالذين لم يسألوا قط منذ البداية عما يريده "المجانين" وما الضرورة إلى التفكير فيهم ومناقشة أفكارهم والانحياز إلى جانب أو ضد جانب آخر وما ضرورة الأفعال التي تجبر على الاهتمام العام، يجدون فجأة أن الفكرة الجديدة المجنونة تتسرب إلى عقول الناس وتكسب المتحولين، أفعال من هذا القبيل يمكن ان تصنع في غضون ايام قليلة دعايا اكثر من آلاف الكتيبات، فهي في المقام الأول توقظ روح التمرد: التي تولد الجرأة.
وبدا النظام القديم بدعم من الشرطة والقضاة ورجال الدرك والجنود راسخا مثل قلعة الباستيل القديمة، التي بدت أيضا منيعة أمام أعين الناس العزل المحتشدين تحت أسوارها العالية ومجهزة بمدافع محملة ولكن سرعان ما بات من الواضح أن النظام القائم ليس بالقوة التي كان من المفترض أن يتمتع بها. ويكفى فعل شجاع واحد لإزعاج الآلية الحكومية بأكملها في بضعة أيام وإحداث هزة هائلة، فثورة أخرى حرضت مقاطعة بأكملها إلى اضطراب والجيش حتى الآن تراجع أمام حفنة من الفلاحين المسلحين بالعصي والحجارة، ولاحظ الناس أن الوحش ليس فظيعًا لدرجة أنهم ظنوا أنهم بدأوا يدركون بهدوء أن بعض الجهود النشطة ستكون كافية لإسقاطه، فالأمل يولد في قلوبهم، ولنتذكر أنه إذا كان السخط يدفع الناس في كثير من الأحيان إلى التمرد، فإن الأمل هو دائما، أمل النصرالذي يؤدي إلى الثورات.
وعندما تقاوم الحكومة فإنها تكون وحشية في قمعها، ولكن رغم أن الاضطهاد في السابق كان يقتل طاقة المضطهدين، فإنه الآن يؤدي في فترات الإثارة إلى النتيجة المعاكسة.
انها تثير أعمال تمرد جديدة، فردية وجماعية، وتدفع بالمتمردين إلى البطولة وفي تعاقب سريع تنتشر هذه الأفعال وتصبح عامة وتتطور، بينما تُعزز قوة الحزب الثوري بعناصر كانت حتى ذلك الوقت معادية له أو غير مبالية به. يتغلغل التفكك العام في الحكومة والطبقات الحاكمة والمحظوظين، بعضها يدعو للمقاومة والآخرون يؤيدون الامتيازات، ويذهب آخرون مرة أخرى إلى حد الإعلان عن استعدادهم للتخلي عن امتيازاتهم في الوقت الراهن، من أجل استرضاء روح التمرد، على أمل الهيمنة مرة أخرى في وقت لاحق، فقد تحطمت وحدة الحكومة والطبقة المتميزة.
وقد تحاول الطبقات الحاكمة أيضاً إيجاد الأمان في ردود الأفعال الوحشية، ولكن الأوان قد فات الآن والمعركة تصبح أكثر مرارة، أكثر رعبا، والثورة التي تلوح في الأفق ستكون أكثر دموية. ومن ناحية أخرى فإن أصغر تنازلات للطبقات الحاكمة تطيح بما قد تم انتزاعه في الصراع، وما تم إنتزاعه في صراع بالفعل لا يؤدي إلا إلى زيادة إيقاظ الروح الثورية.
إن عامة الشعب، الذين كانوا في السابق سيكتفون بأصغر التنازلات يُلاحظون الآن أن العدو متردد مرتعد ، فهم يتوقعون النصر، ويشعرون بشجاعتهم تنمو، ونفس الرجال الذين سحقهم البؤس في السابق واكتفوا بالتنهد في السر ، يرفعون رؤوسهم الآن ويسيرون بفخر لإنتزاع مستقبل أفضل.
أخيرا اندلعت الثورة، وأكثر رعبا كما كانت الصراعات السابقة مريرة.
لا شك أن الاتجاه الذي سوف تسلكه الثورة يتوقف على مجموع الظروف المختلفة التي تحدد قدوم الكارثة، ولكن يمكن التنبؤ به مسبقا، وفقا لقوة العمل الثوري الذي أظهرته التنظيمات التقدمية المختلفة في الفترة التحضيرية، وقد يكون أحد الأطراف قد طور بشكل أوضح النظريات التي يعرفها والبرنامج الذي يرغب في تحقيقه، قد يكون أحد قد قام بالدعاية بنشاط القول والطباعة، غير أنها ربما لم تعبر بما فيه الكفاية في العلن وفي الشارع عن تطلعاتها بأفعال تجسد ما تمثله، بل انها لم تفعل شيئا يذكر، أو لم تفعل شيئا ضد أعدائها الرئيسيين، لم تهاجم المؤسسات التي تريد هدمها، كانت قوتها نظرية وليست عملية فهي لم تسهم إلا قليلا في إيقاظ روح التمرد، أو أنها أهملت توجيه تلك الروح ضد ظروف ترغب بشكل خاص في مهاجمتها وقت الثورة، ونتيجة لذلك، أصبح هذا التنظيم أقل شهرة، فإن طموحاته لم تكن يومية ولم تتأكد باستمرار من خلال أفعال قد يصل مداها حتى إلى أبعد الأكواخ، فإنها لم تتغلغل بصورة كافية في وعي الشعب و لم يتواصلوا مع الحشد أو الشارع، لم يجدوا أبدا تعبيرا بسيطا في شعار شعبي.
إن أكثر الكتاب نشاطاً في هذا التنظيم يعرفهم قراؤهم بالمفكرين ذوي الجدارة الكبيرة، لكنهم لا يتمتعون بسمعة ولا بقدرات رجال العمل، وفي اليوم الذي يتدفق فيه الرعاع في الشوارع، سيفضلون اتباع نصائح أولئك الذين لديهم أفكار نظرية أقل دقة وليس لديهم تطلعات كبيرة، ولكنهم يعرفونهم أكثر لأنهم شاهدوهم يتصرفون.
والتنظيم الذي قام بمعظم الدعاية الثورية وأظهر معظم الروح والجرأة سيُستمع إليه في اليوم الذي يلتزم فيه التحرك ليتقدم إلى الأمام من أجل تحقيق الثورة، ولكن ذلك التنظيم الذي لم يتجرأ على تأكيد نفسه بأعمال ثورية في الفترات التحضيرية ولم تكن لديه قوة دافعة كافية لإقناع الرجال والجماعات بالتخلي عن أفكارهم والرغبة التي لا تقاوم في وضع أفكارهم موضع التنفيذ (لو كانت هذه الرغبة حقيقية لأعرب عن نفسه بالعمل قبل أن ينضم جماهير الشعب إلى الثورة بوقت طويل) والذي لم يكن يعرف كيف يجعل عَلَمَهُ مشهورا وتطلعاته ملموسة وشاملة، ذلك التنظيم لن يحظى إلا بفرصة ضئيلة في إدراك ولو أقل جزء من برنامجه، الفرصة التي سيتم تنحيتها جانبا من قبل أطراف الفعل .
هذه الأشياء نتعلمها من تاريخ الفترات التي تسبق الثورات الكبيرة، ولقد أدركت البرجوازية الثورية هذا تمام الإدراك فلم تُهمل أي وسيلة للإثارة لإيقاظ روح التمرد حين حاولت هدم النظام الملكي، وقد فهم الفلاح الفرنسي في القرن الثامن عشر ذلك بشكل غريزي عندما تعلق الأمر بإلغاء الحقوق الإقطاعية، والأممية تصرفت وفقا لنفس المبادئ عندما حاولت إيقاظ روح التمرد بين عمال المدن وتوجيهها ضد العدو الطبيعي للعامل المأجور ( المحتكر لوسائل الإنتاج والمواد الخام ) .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. آثار القصف الإسرائيلي على بلدة عيترون جنوبي لبنان


.. ما طبيعة القاعدة العسكرية التي استهدفت في محافظة بابل العراق




.. اللحظات الأولى بعد قصف الاحتلال الإسرائيلي منزلا في حي السلط


.. مصادر أمنية عراقية: 3 جرحى في قصف استهدف مواقع للحشد الشعبي




.. شهداء ومفقودون في قصف إسرائيلي دمر منزلا شمال غربي غزة