الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل وقع بوتين فعلا في فخ أمريكي؟

رابح لونيسي
أكاديمي

(Rabah Lounici)

2022 / 3 / 17
مواضيع وابحاث سياسية




فسر الأكاديمي وكاتب الدولة للشؤون الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر كل المناورات البريطانية وإستراتيجيتها في أوروبا على أساس وضعها وموقعها الجغرافي كجزيرة يفصلها بحر المانش عن أوروبا القارية، وذلك في كتابه الشهير"عالم أعيد بناؤه"، والذي هو في الأصل توسيع لرسالته في ماجستير التاريخ ناقشها عام 1954 أين تناول فيها بالتفصيل مؤتمر فيينا 1815 الذي جاء بعد الحروب النابولونية، ويحلل فيها بدقة متناهية تحركات ومناورات أبرز الفاعلين أنذاك كالفرنسي تاليران Tallyrandوالبريطاني اللورد كاستلري Castlereagh، لكن ركز أكثر على تحركات النمساوي فون مترنيخ von Metternich الذي تأثر به كيسنجر كثيرا فيما بعد عند وضع رؤيته للحرب الباردة ورسم إستراتيجية أمريكية ضد الإتحاد السوفياتي، كما أخذ عنه فكرة وأساليب تحول الدبلومسي إلى حكم ووسيط بين المتصارعين وإستغلاله ذلك لخدمة مصالح بلده، وهو الأسلوب الذي سيظهر بجلاء عند كيسنجر كوزير للخارجية، خاصة في الشرق الأوسط، والتي لايتوانى عن الحديث عن هذه الأساليب الدبلومسية في مذكراته، كما تناول في رسالته هذه التي تجاوزت 500صفحة السياسة البريطانية التي يراها أنها ثابتة، ويتحكم فيها موقعها الجغرافي كجزيرة، مما حتم عليها إصرارها الدائم على منع سيطرة أي قوة قارية على أوروبا لأن ذلك سيسمح لها بمحاصرة بريطانيا ومنع عليها كل شيء حتى الموت، وهو ما يفسر حرصها على الحفاظ على التوازن بين كل هذه القوى، خاصة بين فرنسا وألمانيا في كل مسارها التاريخي سواء في الحرب البروسية-الفرنسية 1870 وبعدها، وكذلك في الحربين العالميتين الأولى والثانية، فإن أختل التوازن لصالح ألمانيا دعمت فرنسا والعكس صحيح، وهو ما يظهر بحلاء في مؤتمر فرساي1919، فقد كان كيسنجر في تحليله هذا وفيا لإستراتيجيي بلده الأصلي ألمانيا الذين يقولون أن الجغرافيا هي التي تصنع التاريخ، وعلى رأسهم أب الجيوبولتيكا فريدريك راتسيل(1844-1904) بكتابه الهام "الجغرافية السياسية"، وهذا التأثير الجغرافي في التاريخ هو الذي يفسر تدريس التاريخ إلى جانب الجغرافيا في مادة واحدة في عدة دول في العالم.
نشير أن كيسنجر المتخصص في التاريخ كان يرفض العيش في الماضي العقيم كما يفعل الكثير من المختصين في التاريخ اليوم عندنا للأسف الشديد، فميعوا هذا التخصص، وجعلوه دون أي فائدة تذكر، فقد كان كيسنجر يعمل على توظيف الدراسات التاريخية لفهم الحاضر من أجل بناء المستقبل ولرسم مختلف الإستراتيجيات والسياسات الواجب إتباعها، فكيسنجر يعتبر التاريخ مخبرا لبناء المستقبل، وليس للعيش في الماضي العقيم، كما يرى أيضا أن الحاضر لايكرر الماضي، بل يمكن أن يتشابه معه، ولهذا فإنه يعتبر أن مهمة المؤرخ ليس في سرد الماضي بشكل عقيم، بل تتلخص في أن يعرف، ويحدد أوجه التشابه والإختلاف بين الماضي والحاضر كي يبني على أساسه المستقبل"، وهو ما يفسر إختياره لمؤتمر فيينا1815 الذي جاء بعد الحروب النابوليونية التي تشبه عالم ما بعد يالطا التي جاءت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وكان كل همه هو هل بإمكان بناء سلام عالمي بعد هذه الحرب الخيرة يشبه سلام المئة عام في أوروبا الذي جاء بعد الحروب النابليونية ومؤتمر فيينا1815.
ان أسهب كيسنجر في الحديث عن هذا الموقع الجزيري لأنجلترا الذي يحدد سياساتها وإستراتيجيتها في أوروبا، فإنه عادة ما يخفي بأن أمريكا تشبه أيضا وضع أنجلترا بالنسبة للعالم، وهو الذي يحدد أيضا إستراتيجيتها، فأمريكا أيضا محاطة بالمحيطات والبحاركالأطلنطي والهادي، وأي سيطرة لقوة عالمية على أوراسيا التي تضم آسيا وأوربا، فمعناه نهاية أمريكا وخنقها، ولهذا فهي تعمل دائما على منع أي تقارب روسي- أوروبي مهما كان الوضع، وهو الذي يفسر عدائها للفرنسي شارل دوغول بحكم ترويجه لفكرة أوروبا من الأطلسي إلى جبال الأورال متأثرا في ذلك بنابليون بونابرت، وهي ما يعني أوراسيا بمفهومها الجيبوليتيكي، خاصة أنه قد سعى لتحسين علاقته مع روسيا، وهو ما من شأنه إبعاد أووربا عن النفوذ الأمريكي التي تحرص عليه أمريكا بكل قوة تحت شعار التحالف الأورو-أطلنطي، وعندما يتحدث صموئيل هنتنغتون عن الحضارة الغربية في مواجهة الحضارات الأخرى، فهو ينطلق من حرصه على هذا التحالف الأمريكي-الأوروبي.
تستهدف أمريكا دائما إبقاء أوروبا تحت نفوذها وفي مواجهة دائمة مع روسيا، كما تدفعها دائما إلى تهديد أوروبا لدفع هذه الأخيرة إلى أحضان أمريكا أكثر حفاظا على أمنها، وهو ما يظهر بجلاء أثناء الحرب الباردة، كما نشير أيضا إلى إقلاقها غرب أوروبا بالإرهاب المتستر بالإسلام الذي كانت توظفه أمريكا التي صنعته ليس فقط لزرع الفوضى وإيجاد مبررات للتدخل وفرض سيطرتها على المناطق القريبة من الطاقة أو لإقلاق روسيا من جهة آسيا الوسطى، بل أيضا لإقلاق أوروبا أمنيا إنطلاقا من جنوب المتوسط كي تكرس فكرة هنتنغتون حول الخطر الحضاري الإسلامي المتحالف مع الحضارة الكنفوشيوسية المتمثلة في الصين.
أشرنا في مقالة سابقة كيف سعت أمريكا إلى توسيع الحلف الأطلسي إلى أوروبا الشرقية منذ 1996 لدرجة وصولها إلى محاولات ضم أوكرانيا التي لها حدود مع روسيا، وهو ما يشكل خطرا أمنيا كبيرا على هذه الأخيرة بشكل مشابه نسبيا إلى شعور أمريكا بالخطر على أمنها عند تنصيب السوفيات صواريخ لهم في كوبا في 1961، كما أن ضم أوكرانيا إلى الحلف الأطلسي معناه منع روسيا تماما من إعادة بناء امبرطوريتها التي لايمكن أن تكون إلا بأوكرانيا، كما أن تضييعها أوكرانيا معناه أن روسيا أصبحت آسيوية، وفقدت أي دور أوراسي لها، لكن بلغ الإستفزاز الأمريكي أوجه بإيصال متطرفين إلى السلطة في أوكرانيا وقمعهم للسكان القريبين من روسيا في المناطق الحدودية معها، مما جعل هذه الأخيرة تدعم إنفصالها كمناطق عازلة عن أوكرانيا التي أصبحت موالية لأمريكا بفعل حكومتها الجديدة، فتمكنت أمريكا بإستفزازاتها من دفع روسيا إلى التصرف العسكري، وهو ما سيجعل أوروبا ترتمي أكثر في أحضان أمريكا للدفاع عن أمنها، كما ستسقط هذه الحرب الروسية-الأوكرانية مشروع الدفاع الأوروبي وضرورة بناء قوة أوروبية مستقلة عن أمريكا، كما أنها ستعزل روسيا أكثر عالميا، ويمكن ان يحطمها إقتصاديا، ولو أننا لايمكن أن نجزم بذلك لأن هناك إحتمال بناء نظام إقتصادي عالمي مستقل عن النظام الرأسمالي الغربي، كما يمكن أن يكون بداية فك الإرتباط بالرأسمالية العالمية التي تحدثنا عنها كثيرا في عدة مقالات سابقة، وهو ما من شأنه إخراج دولنا من تخلفها الإقتصادي وتبعيتها للمراكز الرأسمالية المتمثلة في أمريكا وفرنسا وبريطانيا.
فبغض النظر عن ذلك كله، فإننا نعتتقد أن بوتين قد أرتكب خطأ قاتلا شبيه بخطأ هتلر وكذلك أردوغان، فهو لم يأخذ بطرح مستشاره ألكسندر دوغين الداعي إلى التقرب من أوروبا، خاصة ألمانيا لبناء تحالف اوراسي يحاصر أمريكا، وهو نفس الخطأ الذي ارتكبه هتلر الذي لم يأخذ بنصيحة هاوسهوفر الداعي إلى التقارب مع روسيا لمحاصرة أنجلترا، ونفس الخطأ أرتكبه أردوغان الذي لم ياخذ بنصيحة داوود أوغلو بالتقارب الإقتصادي مع الدول التي كانت تابعة للدولة العثمانية، وبناء علاقات وطيدة وشراكة إقتصادية معها بناء على مبدأ صفر أعداء كي يركز على العامل الإقتصادي في إعادة بناء تركيا كمنطلق لإعادة بناء الأمبرطورية العثمانية بشكل سلس وناعم، لكن أنحرف أردوغان عن ذلك بعد إندلاع ما يسمى ب"الربيع العربي"، فأنقلب على عدة دول أقام معها شراكات إقتصادية من قبل، فدخل في صراع معها، ومنها مصر وسوريا، مما أضعف تركيا أكثر بعد ما أعتقد أردوغان أن ما يسمى ب"ثورات الربيع العربي" ستوصل حلفائه من الإخوان المسلمين إلى السلطة، فهل سيكشف لنا المستقبل أن أمريكا كانت وراء هذه الإنتفاضات لخدمة مصالحها الإستراتيجية، وكذلك لدفع أردوغان إلى هذا الخطأ؟، وهل ينطبق نفس الأمر مع بوتين اليوم الذي يمكن أن يدفع بحربه على أوكرانيا إلى عزل روسيا عالميا بعد إستفزازات أمريكية له، والتي وضعته في الحائط أمام هذا الوضع الخطير، ولم تترك له أي خيار آخر إلا الحرب، كما علينا أن نذكر بأن كل المبادرين بإعلان الحروب الكبرى يحققون إنتصارات في البداية ثم يتلقون هزيمة نكراء تعيد دولهم إلى نقطة الصفلر بداية بنابليون بونابرت في فرنسا ثم ألمانيا في الحرب العالمية الأولى ثم هتلر في الحرب العالمية الثانية، ولا ننسى ذكر صدام حسين في السنوات الأخيرة.
ان أنكسرت روسيا بهذه الحرب، فمعناه الإنتصار الكبير للحلف الأوروبي-الأطلنطي وفرض أمريكا سيادتها العالمية بعد ما فشلت تكريسها نهائيا بعد الحرب الباردة، أما الخاسر الأكبر سيكون الصين أيضا التي ستفقد الموارد الطاقوية الروسية حتى ولو حاولت ان تكون طرفا ثالثا بين المعسكرين الروسي والأمريكي، كما ستخسر دولا أخرى التي ستصبح تحت الرحمة الأمريكية، أما دول منطقتنا، فسيسوء وضعها بشكل أكبر لأنها ستكون تحت سيطرة أمريكا والغرب لأنها لن تجد بمن ستحتمي كما كانت تفعل أثناء الحرب الباردة بإحتمائها بروسيا وأيضا كما تفعل في السنوات الأخيرة بعد ما صعدت كل من الصين وروسيا.
ونشير انه إن وقع ذلك، ستصبح أول حادثة تاريخيا لأنه دائما ما كانت الدول الجزيرية تنهزم أمام الدول القارية كما وقع مع روما القارية التي أحرقت قرطاجة البحرية، وتراجع أنجلترا نهائيا بعد الحرب العالمية الثانية، لكن ليس لصالح قوة قارية كفرنسا أو ألمانيا، بل لصالح أمريكا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - روسيا اختارت الحرب بملء ارادتها
منير كريم ( 2022 / 3 / 17 - 19:29 )
تحية للاستاذ المحترم
بوتن اختار الحرب دونما ضغط من احد وقد حاول الغرب لاخر لحظة تفادي الحرب وقد اخذ الغرب على حين غرة اذ كان وجود الناتو في شؤق اوربا رمزيا وقد بدأ التحشيد العسكري الغربي بعد وقوع الحرب
بوتن قومي فاشي وقد بدأ ادعاءات هي نفس ادعاءات هتلر وهي ضم الناطقين باللغة الروسية لروسيا وهكذا بدأ هتلر بضم الناطقين بالالمانية لالمانيا , نفس المنطق
ترى لو كانت في روسيا ديمقراطية هل يحدث ما حدث ؟
هذه افعال الديكتاتوريات وهذا جذر المشكلة
شكرا لك

اخر الافلام

.. الرد الإسرئيلي على إيران .. النووي في دائرة التصعيد |#غرفة_ا


.. المملكة الأردنية تؤكد على عدم السماح بتحويلها إلى ساحة حرب ب




.. استغاثة لعلاج طفلة مهددة بالشلل لإصابتها بشظية برأسها في غزة


.. إحدى المتضررات من تدمير الأجنة بعد قصف مركز للإخصاب: -إسرائي




.. 10 أفراد من عائلة كينيدي يعلنون تأييدهم لبايدن في الانتخابات