الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زمن الاحتجاج

الحسان عشاق
روائي وكاتب صحفي

2022 / 3 / 21
الادب والفن


يوم شتائي دافئ، مثنى، مثنى، نذرع الشارع الرئيسي، امشي في الصفوف الأمامية، انقل خطوي بإيقاع بطيء كأني امشي في موكب جنائزي، مرة تلو مرة ترفع شارة النصر، الأفكار اللعينة تقفز كالجراد وتزدحم في مخيلتي، العالم من حولي يبدو كئيبا، الكائنات الفارغة الأفواه تحدجنا بخوف. وجوه بعض الرفاق هرب عنها الدم ، الشيخوخة اللعينة سافرت على سحناتهم بدون جواز سفر، اقرأ فيها التقزز والأحلام التي ولدت ميتة، في عيني تنتحب الأشجار والأشياء الجميلة و تتسربل بالقتامة .

*علينا أن نعلن التمرد والحرب على الخطيئة ونفجر المواقع الأسنة المسكونة بالرهبة والقمع ونقتلع العسف من الكراسات والرؤوس البليدة المدجنة لانتزاع حقنا في الحياة...

وقع الكلمات الكبيرة المعلوفة لا زال يتردد صداها بداخلي، داخل القاعة المشبعة بالرطوبة والحموضة والتي تشبه حافلة عمومية. تحول الجمع إلى غليان، تساءلت إن كانت الكلمات القوية في زمننا العجيف تسترد بها الحقوق المهضومة، تكبر الحرارة في أحشائي، مند أعوام ارتجف بالانتظار الأجرب، يلبسني الغيظ وامضغ مصيري بهلع حتى ذبلت أزهاري الجميلة ولم تبق سوى العروش المقدودة من الطمي، فهل ستظل أعلامنا منكسة، ونترك لقاضي الزمان أن ينسج الموت فوق الأعناق، ويعصر الفقر فوق الجلود و يسيج المدن بالمواخير والحانات والخبز المغموس بالعبرات، لم يبق أي شيء نستبدل به البؤس بعد أن تهنا بين الكراسات واللغات المتكلسة التي أغرقتنا في أحضان اللامبالاة القاتلة وكدنا نحجز تذاكر مع قوافل المجانين حين جلسنا نودع شبابنا ونراقب ساعات وقتنا تنتحر في الأجساد.
وسط الساحة الواسعة، ارتفعت الشعارات مدوية، اقل من دقيقة انقرضت، طوق المكان من جميع الجهات، استغربت لحضورهم الفوري، أرواح تزهق ولا يحضرون، شجارات دامية ولا يتدخلون، دكاكين تغلق بالقوة، أبواق السيارات ترتفع، تعطلت حركة المرور بالمرة، نمل بشري يتدفق من جميع الاتجاهات، يصطف على جنبات الأرصفة المهترئة، العاهرات اللواتي يعرضن بضاعتهن في الساحة غادرن بسرعة، ربما يلعن في صمت قطع أرزاقهن من طرف شباب متهور هجم بدون إذن على سوقهن اليومي، لصوص يندسون بين الأجساد بحثا عن صيد، شاذون يلتصقون بسروج النساء، عمليات الاستمناء بدأت ، مصائب قوم عند قوم فضائل، اصرخ بكل قواي، يتصلب عودي، كل مطارق العالم لن تستطيع ثني ظهري، تصلب عودي بالمعاناة والإقصاء ، المعاناة والإقصاء يتحولان إلى خيول جامحة، وجوه معروكة بالتذمر والحلم المجهض تقفز منها الكراهية، العيون الفولاذية، تجحظ، تخرج من المحاجر، تستعرض العضلات، لا تريد أن يملا الهواء النقي الصدور المختنقة بالدخان المر، الحناجر فوهات، متاريس، تقذف حمما تحرق الأعصاب، مكبرات الصوت تقيء وعيدا بائسا، فكرت * من لا عمل له لا وطن له..* لم يعد يهم إن كان ما نقوم به قانوني أم العكس، لم يعد يهم أي شيء، أن تقوم القيامة أو يأتي الطوفان، أو يمزق جسدي كالخرق البالية الى اشلاء، في البدء كان الوطن في عيني كبيرا وصورة الله قريبة، فأصبحت لاجئا منذ احترفت طمر الانفجار وأحني هامتي لأحزاب الخراب التي حولتني إلى مرمدة بعد أن قصت لساني، منذ زمان تجيئني قصاصات ونشرات الأخبار بوعود مبطنة، سممت دمائي وكبحت تمردي، وأخرى لرفع المراتب، والزيادة في أجور أصحاب المراكز العليا في أجهزت الدولة، والآن أصبحت رجيما حين امتص الوطن لوني، وحولني إلى رذيلة، ويدفعني قهرا لأبيع دمي وأتنفس الجريمة، واحترف التسول، وتخريب الذات، كل ليلة أنام على حبال الكوابيس، تهاجمني كما تهاجم الحدأة خم الكتاكيت، فيساق الأمل إلى المقصلة، فكيف اجعل الموت تاجا وأناله بكل شهية لينفخ الرب في روحي الحرية لتلهب رئتي وترصع بشرتي وارتاح من غرغرة الجوع في بطني وتقشر الشفتين. المؤذن يرفع عقيرته بالآذان، طفل في عمر الزنابق يعوي يقفز في الهواء ، تلقى ضربة موجعة بالحداء العريض على مؤخرته ، فكرت "ها هم ينشرون الرعب ويوجهون رسائلهم القذرة.."، الساحة تحولت إلى سوق حقيقي، مهرجان للرقصات الشعبية، تصطخب في أعماقي نشوة الشعارات، وتزداد الرغبة في أن تزهق روحي وسط الساحة، فمثلما يتعلم الإنسان فن الاحتجاج عليه أن يتعلم فن الموت.
الساحة تغلي بالمتفرجين وأصناف المخبرين، فيا قاضي الزمان، كيف تراني من خلف المكتب المكيف ، وكلاب الحراسة، ودخان السيجار المستورد، كيف تراني في دزينة القوانين التي تخصي حريتي، أتراني قطعة ثلج في عز الحر، أم بالونا من الهواء، متى تنزل من البرج العاجي وتقر علنا أن لي نصيب في الوطن، وتفرج عن أمالي المحكومة بالسجن المؤبد والأشغال الشاقة، أفقت من شرودي و تيهاني اللذيذ على صوت زميلي يحثني على رفع اللافتة التي ضمخت بعبارة قوية، تختزل مطالبنا *الشغل أو الموت* مطلب متهور وقاسي، الانصياع الى مخرجات الاغلبية قمة الديمقراطية، ارفع صوتي عاليا كالمجنون، تذوب الشعارات في أذني، تهدهدني، ترعشني وتتولد بداخلي الحرارة، ينعزف التمرد في دمائي، يجتاحني الفرح، يشرئب الغد مكللا بالأزهار والرياحين، ينشط الجواسيس والمقدمون، يندسون كالهواء بين الأمواج البشرية، يدونون الحركات والسكنات والتنهدات، الساحة تندلق، مد وجزر، زمجرة العساكر وهمهماتهم ترتفع، الرؤوس الخائفة تبحلق في ذعر، الحركات المستفزة تحدثني عن رقصة السوط في الأجساد، رنين الأصفاد يكبل الأيادي، الأحذية العريضة تدهس الإسفلت في إيقاع قوي ومتجانس، تسللت إلى ذرى الروح رعشة، من خلال مخاوفي تراءت لي حياتي الماضية مليئة بالإحباط واللاجدوى، أحلت على التقاعد في سن مبكرة، فكرت في الرب الذي وهبنا الحياة، لكنه لم يكن عادلا في توزيع الثروات، فيا أيتها الآلهة، ويا أيها الأنبياء القدامى والجدد، هل نسمي قذارة الحياة نعمة أم نقمة...؟وان المنتظر فردوس يتسع للمشردين والمقصيين، يا لهذا التخدير الساذج الذي علمنا العيش في الجحيم والاستلذاذ بفظاعته، فأي طريق سأسلك، وأي آفاق سأعبد، وبأي دم حيض ارسم خارطة لمعاناتي حتى تصبح القضية مقدسة، قبل الميلاد كنا سبايا الصمت فعشعشت العناكب على الأفواه، والآن استقلت الروح من المارد المتردد الضعيف الذي يسكنها بخبث والذي ولد العجز والاستسلام الذاعر في النفوس.
الشاحنات الخضراء والسيارات الموشومة تفرمل بقوة، تزيد في تطويق الساحة، تنفث من بطونها كائنات هلامية، فكرت دزينة من الشباب الأعزل تستنفر كل ألوان الطيف الأمني، وخيل إلي في لحظة أن السماء تمطر بهم، تنغرس مخالبها الحادة في جميع مسام جسمي، اللافتة تبتسم في عنف وتحدي بريء، تستفز الكائنات الفولاذية، اعرف أنهم عبيد لآلهة الأرض، أدوات طيعة، آلات تشغل عن بعد، ينفذون الأوامر بدون تفكير، اغلبهم لا يعي ما يفعل وما نفعل، ولا يستطيع طرح سؤال عن القمع الذي يمارسه في حق الناس، الكثير منهم يقال له أن المحتج ضد الحكم، ضد النظام، يريدون قلب النظام ، يخدمون أجندات أعداء الوطن، الشواهد الجامعية المعلقة على الصدور تكشر، أقرا فيها سفري الضائع وشبابي الذي نثرته مخدوعا على مكاتب تأتيني فاتحة الكفن. اقرأ فيها معامل تغلق، عمال يطردون، أطفال يهربون من سجن المدارس، يغرقون في التشرد، قرأت فيها رعاعا يبيعون عذارى قومي في الأشهر الحرام بالدولار....بإشارة واحدة معلومة، خيم الصمت، انطلقت الكلمات مزمجرة، تندد بالسياسة الحكومية واتساع الفوارق الاجتماعية وانتشار الفقر والجريمة والاتجار في مناصب الشغل...الكلمات الحارقة تلسع الأدمغة، تنتشلها من السبات، تخترق النوافذ والبيوت، تثقب الهواء، الجو بدأ يتكهرب، مجزرة قوية تلوح في الأفق، أصحاب البدل الخضراء والأزرار المذهبة يهشون المتفرجين، بعضهم تلقى لكلمات وركلات، الموت يحتك بنا وبين السجن والحرية رمشة عين، يا ساحة الحرية تقدسي بذكرى هذا العرس واشهدي أننا لم نأت لنقدم قربانا لألاه فر من يدنا في ساعة السهو، لقد جئنا لتقام صلاة الجنازة على الجرح الغائر في النفوس، بأصواتنا سنحفر الصخر، ولن نستدرج إلى الصمت بالوهم اللذيذ والوعود الضبابية. فيا أيها الرجل الفولاذي، متى تنسلخ عن دور سلب إنسانيتك، لقد صنعوا منك آلة لبقر البطون وكسر العظام وتكميم الأفواه، متى تتعلم أن تعلق التعليمات على حبل الغسيل....؟معالم المجزرة السابقة تحبك في صمت، فكرت ليس لهم ما يخسرون حتى لو مات الجميع دفعة واحدة، سيبحثون عن مشجب يعلقون عليه الجريمة، وستخرج بيانات الإدانة والشجب، سيتدخل السماسرة وينتهي كل شيء، وستدخل القضية إلى دهاليز النسيان.
سيارة الإسعاف تعوي، عوائها يشد الأنظار، تخترق الجموع، تمتد يدان مدربتان إلى الفتاتين اللتين أغمي عليهما من شدة الخوف والضغط النفسي، زفير العساكر يرتفع، خرج من بين الصفوف مزهوا ، على الصدر يتأرجح شريط مخطط بالأحمر والأخضر وفي يده مكبر للصوت، تقدم إلى الأمام بكبرياء.

-باسم القانون تفرقوا....

قالها ثلاث مرات، اختلطت الأصوات بوقع الأقدام. تكلمت العصا في الأجساد بقوة، لا تميز بين المحتج والمتفرج، بين الشيخ والشاب والمرأة، الكل سواسية أمام الزرواطة المقدسة...الساحة بدأت تقفر، صحيح هذا شعب *تجمعه الغيطة وتفرقه الزرواطة* ، همست لزميلي.

*وطننا وكر ذئاب وعلى المحروم أن يمسخ نفسه إلى عفريت حتى ينتزع مكانة تحت الشمس...

بإشارة مدروسة مسبقا، أقعى الجميع على الإسفلت البارد، أصبحنا مثل ثيران في حلبة للمصارعة ، بعد قليل ستهشم العظام وترتوي الأرض بالدماء، إذا لم نصمد سنموت فوق هذه الأرض ولا احد يحس بنا ولو فاحت روائح جثثنا. أجهزة الاتصال ملتصقة بالرؤوس. المصابيح الكهربائية تقيئ ضوءا خافتا. لم يبق سوى بشر قليل. مثنى، مثني ،نذرع الشارع الرئيسي، الأشياء الجميلة تستعيد جمالها ورونقها. غدا ستنفذ الوعود ...هكذا قيل لنا....








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ربنا يرحمك يا أرابيسك .. لقطات خاصة للفنان صلاح السعدنى قبل


.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف




.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي


.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال




.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81