الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أوروبا ... الخديعةُ الكبرى

عائد زقوت

2022 / 3 / 23
مواضيع وابحاث سياسية


يدور الحديث طويلًا في الأروقة الفلسطينية وعلى وجه الخصوص، الرسميّة منها، حول استئناف التمويل والدعم الأوروبي لموازنة السلطة الفلسطينية، حيث يمثّل هذا الدعم والإسناد العمود الفقري للموازنة العامة، وله تأثيره المباشر على الدّورة الاقتصادية لملامسته قطاعات هامّة كالصّحة والتعليم والقضاء، ورواتب الوظيفة الحكومية العمومية، ولم يأتِ هذا الدّعم هِبة ولا منّة من الأوروبيين، إنّما جاء في سياق إسناد الدور الأوروبي في العملية السياسية استنادًا لإتفاقية أوسلو العام 1993 .
لقد نسجت أوروبا على امتداد سبعة عقود صورة خلّاقة لمبادئها وقيّمها الإنسانية، بألوانٍ زاهية لها بريق يخطف الأبصار، وتغنّت باحترام حرية الرأي والتعبير والاعتقاد، وكرامة الإنسان، والتداول السّلمي للسلطة، وسيادة الدول، ولكنْ يبدو أنّ نسيجها من خيوط العنكبوت الواهنة تتغيّر وتتبدل مع هبوب الرياح وحركة الغيوم، يستمطِرونها حيث أرادوا، فتارةً يُعلون تلك القيم وتارةً يستخدمونها سلاحًا استراتيجيّا في علاقتهم الدّولية، وستارًا تختبئ خلفه الصورة الانتهازية الفاشية للنّهج السّياسي الأوروبي، وفي سياق هذه السّياسات ربطت مساهماتها في موازنة السلطة والذي جاء داعمًا لعملية السلام ولم يكنْ مشروطًا في حينه، باشتراطات تتعلّق بتغيير المناهج التعليمية الفلسطينية بدعوى تحريضها على الإرهاب والكراهية، متبنّيةً بذلك الرّؤية الإسرائيلية الاحتلالية التي لم تفتأ عن المطالبة بوقف رواتب الشهداء والأسرى، وتنظيف المناهج الفلسطينية على حدّ زعمهم، لاستئناف التمويل الأوروبي لموازنة السّلطة، فقد بادرت واشنطن بتبنّي مسألة الأسرى، واخذت أوروبا على عاتقها المطلب المتعلّق بالمناهج، مستغلّةً تردّي الحالة الاقتصادية واستنكاف المانحين عن دعم الموازنة العامة للسلطة، والذي انعكس مظهره في تسونامي تصاريح العمال، والتصارع على المنحة القطرية، وترسيخ المفهوم الإسرائيلي للصراع الداعي للهدوء مقابل المال والتسهيلات الحياتية، فالموقف الأوروبي المتنامي والمنسجم مع الرّواية الصهيونية، وإصراره المُتعنّت على اشتراطه تنظيف المناهج الفلسطينية في مقابل استئناف التمويل، يشكّل نهجًا استعماريًا جديدًا معاديًا ومنافيًا للقيم الإنسانية، وأدنى درجات حقوق الإنسان التي تتشدّق بها أوروبا، ومنسجمًا مع السياسة العنصرية الإسرائيلية والتي تكرّسها يومًا بعد يوم من خلال تشريعاتها وقوانينها العنصريّة، وممارساتها العدائيّة التي تُجسّد أبشع صور الأبارتيد التي عرفتها البشريّة .
إنّ حالة التراجع الأوربيّة عن المبادئ والقيم الإنسانية، وانصهارها مع مبادئ وأهداف الحركة الصهيونيّة، يكشف جليًّا الخديعة الكبرى التي نسجَتْها وتفاخرت بها، وصنعت لها مؤسسات وهيئات حقوقيّة، نراها أضحت أوهن من بيت العنكبوت، فلم ينْبس القائمون على تلك المؤسسات بِبنْت شَفة استنكارًا للتدخّل الأوروبي في المناهج الفلسطينية والاعتداء على سيادة الشعب الفلسطيني، والذي يمثل سلوكًا شاذًا عن القيم الإنسانية والقوانين الدولية.
يتّضح للمتابع لتطورات هذا الملف مفارقات عجيبة غريبة، فهذه القضية على أهميتها الوطنية وأبعادها التفاوضيّة، إلا أنّها لم تأخذ حظها الملائم لحجمها وأهميتها من النقاش الداخلي الفلسطيني، ولم توُضع على سلّم أولويات الفصائل، وكأنّهم طالب ضعيف في صفٍّ كسول اعتراه الخمول والاضمحلال الفكري، وأيضًا من المفارقات الغريبة، الترويج الفاقع من بعض المسؤولين الفلسطينيين عن تقارب الرّؤى مع الاتحاد الأوروبي في إشارة احتمالية أنْ يكون هناك موافقة فلسطينية على تحقيق المطلب الأوروبي، أو تحويل مُخصّصات التعليم من المنحة الأوروبية إلى قطاعات أخرى، ولكنّ نتائج التصويت الأخير للاتّحاد الأوروبي جاءت صريحة واضحة بتسجيل رفضه لكافّة المقترحات الدّاعية لتجاوز هذه المعضلة، معلنًا ثباته عند موقفه، ومن العجائب العجيبة كذلك وجود تناقض في التصريحات الرسمية الفلسطينية حول هذا الملف، فوزير الخارجية من جهة يؤكد فشل المساعي الفلسطينية في التأثير على الموقف الأوروبي، ويؤكد تمسّك الأوروبيين بمواقفهم، ومن جهة أخرى يُقدم رئيس الوزراء الشكر للاتّحاد الأوروبي على تعاونهم في هذا الملف، وهذا يثير القلق والمخاوف، لأنّ مثل هذه التصريحات تترك الباب مواربًا، وتشِي بوجود أطراف فلسطينية على استعداد للاستسلام للإرادة الصهيوأوروبية، والعمل على تنظيف المنهاج الفلسطيني حسب ادّعائهم، فاتحةً الطريق لقبولها باشتراطات جديدة في ملفات أخرى .
إنّ انكشاف الموقف الغربي المترنّح أصلًا من القضية الفلسطينية وتبنّيهم وجهة النظر الإسرائيلية من المنهاج الفلسطيني، وكذلك مواقفهم من الحرب الأوكرانية الروسية، حيث لم تكتفِ أوروبا بخروجها عن القوانين الأمَمية، والإجماع الدولي في صراعها مع روسيا، بل لجأت إلى حجب الوسائل الإعلامية الروسية في مخالفة جليّة لحرية التعبير والاطّلاع على المعلومات والأخبار، وامتدّت أيديهم إلى الأنشطة الرياضية والأدبية والفنية كإجراءات عقابيّة على روسيا، فجميع هذه السياسات والمواقف ساهمت في إزاحة اللّثام، وأبانت زيْف الادّعاءات الأوروبية، وحسرت القناع عن خديعتها للإنسانية جمعاء، إنه لمن الطبيعي أن تستدعي هذه التطورات موقفًا فلسطينيًا، لجهة ترميم النظام السياسي الفلسطيني، وترميم الثقة المفقودة بين الشعب وقيادته وفصائله، وتستدعي من قادة الشعب الفلسطيني وفصائله ونخبه ومثقفيه الخروج من بطن الحوت، والاستعداد لمرحلة صراع جديدة أشدّ ضراوة وخطورةً من معركة الأرض، معركة تستهدف الإنسان الفلسطيني بقيمِه وامتداداتِه وجذوره الضّاربة في أعماق التاريخ.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تنشر أسلحة إضافية تحسبا للهجوم على رفح الفلسطينية


.. مندوب إسرائيل بمجلس الأمن: بحث عضوية فلسطين الكاملة بالمجلس




.. إيران تحذر إسرائيل من استهداف المنشآت النووية وتؤكد أنها ستر


.. المنشآتُ النووية الإيرانية التي تعتبرها إسرائيل تهديدا وُجود




.. كأنه زلزال.. دمار كبير خلفه الاحتلال بعد انسحابه من مخيم الن