الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العقلية الزئبقية التبجيلية التبريرية : نماذج الخروج من الحرج

جدو جبريل
كاتب مهتم بالتاريخ المبكر الإسلامي والمنظومة الفكرية والمعرفية الإسلامية

(Jadou Jibril)

2022 / 3 / 24
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


نماذج الخروج من الحرج
المحور : نماذج ودراسة حالة
يعنى هذا المحور بعرض نماذج ودراسة حالات تسلِّط الضوء على نهج وآليات وأساليب العقلية الزئبقية التبجيلية التبريرية، لتجاوز الإحراج وإخفاء التعارضات الصارخة التي يعجان بها الموروث والسردية والتاريخ المبكر للإسلام .
تذكير:
لقد ظل هاجس العقلية الزئبقية التبجيلية التبريرية هو التبجيل والتبرير والبحث عن مخرج للإحراجات. هذا ما جعلها، في نهاية المطاف، تنتج تفكيرا زئبقيا.
في رأي الكثيرين، تسلّطت على التاريخ المبكر للإسلام معتقدات وأفكار نابعة من الخرافات والأساطير ورغبة جامحة في التبرير والتبجيل بأي ثمن وبأي وسيلة. مما أصاب هذا التاريخ بالغموض أحيانا وتراكم الضبابية على مدى قرون.
لقد انبجست عن العقلية الزئبقية التبجيلية التبريرية تخريجات غريبة أحيانا، منها ما يبرِّر الأخطاء البلاغية والنحوية وغيرها، الواردة في المصحف. كما سعت حثيثا إلى "إلغاء" أو "القفز" على التعارضات المفضوحة الواردة في الأحاديث – حتى الصحاح – منها.
وقد ساهمت العقلية الزئبقية التبجيلية التبريرية في عدم تمكن الباحثين من التحرر من الموروث الإسلامي، لا سيما الموروث الإشكالي للمفسرين والفقهاء . علما أن التطور الذي عرفته البشرية على الصعيد المعرفي وإزاحة اللثام على ما تم التستر عليه من التاريخ المبكر للإسلام، تفرض اليوم أكثر من أي وقت مضى، عدم التعويل على الكثير من التراث النقلي الإسلامي، الذي ترسخ بالأساس عبر القبول دون تمحيص ومساءلة.
حالة سورة مريم آيات 18 - 38
﴿قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا﴾
إن هذه الصيغة تثير الاستغراب، إذ كيف الاستعادة بالرحمن من التقي الصالح، علما أنه من المعروف أن الاستعادة بالله من الشيطان أو الفاجر.
فقد قع المفسرون في حرج كبير عند محاولة تبرير هذه الصيغة الغريبة، إذ كان من المفروض أن تكون الصيغة بالنفي ليستقيم المعنى على منوال إني أعوذ بالرحمن منك إن لم تكن تقيا. لأن الاستعادة بالله هي بالأساس طلب العون منه لتفادي خطر أو شر. وهذا كما جاء في سورة آل عمران 36 مثلا
﴿ وَإِنِّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّىٓ أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان ٱلرَّجِيمِ﴾
فهذا يتناقض مع تبرير المفسرين بقولهم " لا تأثر الاستعادة إلا في التقي ".
في واقع الأمر، إن آيات سورة مريم 18 – 38 أوقعت المفسرين والفقهاء في حيص بيص ووضعتهم في إحراج متعدد، علاوة على إشكالية الاستعادة المذكورة آنفا، والتي دفعت العقلية الزئبقية التبجيلية والتبريرية إلى فبركة " شخصية " لتفادي الحرج؛ إذ قيل، وقتئذ، كان شخص فاجر يدعى، أي اسمه ، "تقي " أشتهر بمعاكسة النساء وترصدهن، وأن مريم ظنت أنه هو، لذلك استعادت بالله منه. هذه "تخريجة " بها تصنع مفضوح، بل تشير إلى مجرد فبركة. إنها "تخريجة " فضحت نفسها بنفسها، علما أن مريم كانت منقطعة عن الناس لعبادة الله، فكيف تعرفت أنه الفاجر " تقي" ؟ قالوا أن جبريل تقمص هيئة ومظهر الفاجر " تقي"، ولماذا تقمص الملاك هيئة هذا الفاجر دون سواه؟ كما أن هذه " التخريجة " لا تتماشى بيسر كليا مع السياق العام. وإن صح أن هذه مجرد "تخريجة "، فكيف علينا أن نتعامل مع أصحاب هذا القول؟ وهل يمكن تصديق باقي أقوالهم في غير هذا الموضوع؟ وهل يمكن اعتماد كتاباتهم كمرجع؟
وهناك إشكالات أخرى في الآيات المذكورة. منها مكان وجود مريم حين وقوع النازلة ، المحراب، وهو مكان للتعبد، إنه قدس الأقداس ، ووجود امرأة " أنثى " في هذا المكان يتنافى قطعا مع الشريعة اليهودية. إذ من المعلوم لا يجوز عند اليهود دخول شخص غير كبير الكهنة إلى قدس الأقداس.
وتضمنت تلك الآيات غموضا آخر، إذ ورد في المصحف الذي بين أيدينا اليوم
﴿ قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا ﴾
المفهوم من هذه الصيغة أن الواهب هو الملاك ، أي أرسله الله ليهب لمريم غلاما، فهل الواهب هو الله أم الملاك؟
إن عبارة "لأهب لك" جاءت في مخطوطة صنعاء ﴿طلس صنعاء، النص الباطني الممحي أو الممسوح ﴾ ، وهي أقدم مخطوطة للقرآن في حوزتنا حسب إجماع علماء المخطوطات، بدون تنقيط وتشكيل، إذ نُسِخَت كالتالي : لام نبرة هاء ونبرة. وقد تكون النبرة الأولى نونا والنبرة الثانية، وبالتالي تكون القراءة كالتالي:
" لنهب لك "، ويكون الواهب هما الله والملاك، وقد قرأها هكذا قرأها أبو عمرو.
وقد تكون القراءة كالتالي:
" ليهب لك " ويكون الواهب هو الله، وقد قرأها هكذا ابن مسعود وآخرون. وقد تكون النبرة الأولى تلفظ ألف بهمزة إذ كانت الهمزة تنسخ نبرة في زمن غياب التنقيط وغياب تقعيد الهمزة على كرسي كما هو الحال اليوم. وهكذا قد تقرأ أيضا " لأهب لك".
إن النص الباطني – الممحو أو الممسوح- لإحدى مخطوطات صنعاء احتوت نفس الرسم بدون تنقيط
فكيف حاول المفسرون تجاوز هذا الحرج؟ وهل اتفقوا لتكون محاولاتهم متماشية مع السياق؟
قال الثعلبي: تعودت به تعجبا
قال السعدي: جمعت مريم بين الاعتصام بربها وبين تخويفه وأمره بالتقوى، وهما في خلوة بعيدين عن الناس وهو في ذلك الجمال الباهر.
قال البغوي: قول مريم كقول القائل : إن كنت مؤمنا فلا تظلمني، وهنا المراد هو ينبغي أن تكون تقواك مانعا لك من الفجور. وبخصوص " لأهب لك"، أسند البغوي الفعل على الرسول – الملاك – وإن كانت الهبة من الله، لأنه أرسل به.
قال ابن كثير: يقال إنها لما ذكرت الرحمن انتفض جبريل فرقا وعاد إلى هيئته.
فهل فعلا نجحوا في تجاوز الإحراج أم زادوا الطين بلة؟
حالة سورة النساء الآية 162
﴿ لَٰكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ۚ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ ۚ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أولئك سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ سورة النساء 162.
تتضمن الآية 162 من سورة النساء إشكالا مثّل حرجا كان لا مناص من تفاديه، وهو المتعلق بـ "المقيمين" عوض "المقيمون"، فكيف تجاوزت العقلية الزئبقية التبجيلية التبريرية هذه المشكلة؟
لقد فبركت "مشهدا" كأنه لقطة من تصوير فيلم سينمائي:
" كان ناسخ يُدَوِّنُ القرآن، وكان قد انتهى من كتابة ما جاء قبل "المقيمين" وتوقٌف عن الكتابة، ثمّ أُمِرَ أن يستأنف عمله فقيل له : أكتب – أي استمر في عملك- إذ قال الآمر-: أكتب المقيمين الصلاة "، وبهذا الشكل تكون الجملة صحيحة، وليس "المقيمون"، إذ أن الناسخ كتب حرفيا ما قيل له دون ربطه بما سبق."
وهناك تخريجات غريبة أخرى نحوية بلاغية وغيرها حاولت التخلص من الحرج. وكلها من حيث دَرَتْ أم لم تدري، من شأنها ضرب أطروحة " الحفظ في الصدور" و"القرآن كلام الله الحرفي". والغريب فعلا أن تفسير البغوي يُقرُّ أن عائشة اطّلعت على الأمر واعتبرته خطأ كُتّاب، ورغم ذلك لم يتم تصحيحه وظل إلى اليوم كما هو في صدور حفظة القرآن وفي المصاحف.
حالة " أفلم يتبين الذين آمنوا" و"أفلم ييأس الذين آمنوا"
اعتمدت العقلية الزئبقية التبجيلية التبريرية مخرجا آخر بخصوص أخطاء أخرى، حيث قيل أن الناسخ كان "ناعسا" – إي غلبه النوم- وهذا لتفسير الاختلاف التالي:
" أفلم يتبين الذين آمنوا" و"أفلم ييأس الذين آمنوا"، في حين أن الأمر حسب السردية الإسلامية نفسها يرتبط بأطروحة الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن. وهذا يثير تساؤل جوهري بخصوص أطروحة القراءات أو الأحرف السبعة أو أكثر، هل هي حقيقية أم مجرد آلية من الآليات التي ابتدعتها العقلية الزئبقية التبجيلية التبريرية لتفادي الإحراج.
حالة الهمزة
عندما تم الإقرار بالتنقيط والتشكيل والتهميز والمد، أضيفت الهمزة التي لم يكن لها موضع معين ولا كرسي – أي نبرة أو حرف – في المصاحف، وهذا بعد مرور مدة طويلة جدا عن استكمال نزول القرآن – مما أدى أحيانا إلى رسم الكلمة بشكل لا يتطابق مع لفظها ونطقها، مثلا لفظة "دعاء" رُسِمَتْ " هكذا " دعـؤا" في سورة غافر، ورغم أن الأمر تعلق، بكل بساطة بمسار تطور كتابة اللغة العربية عبر الزمنيّ فإن العقلية الزئبقية التبجيلية التبريرية أصرت على "تخريجة" عقائدية لأنها مكبلة بأطروحة " القرآن كلام الله الحرفي ولا يجوز المس حتى برسم كلمات المصحف"، أبدعت تنظيرا عقائديا للأمر. فبخصوص مثالنا، رسم "دعــؤا"، قال الشيخ ابن البناء المراكشي: " وهو الدعاء الظاهر على ألسنتهم وليس في قلوبهم ... وزيدت الألف تنبيها عن ظهور دعائهم باللسان لا بالقلب والجنان" ﴿المرجع المراكشي: عنوان الدليل ص 43 ﴾. وقال الشيخ العروسي في مرجع الكناوية "انفردت الكلمة في آية غافر بحذف الألف ورسم الهمز فوق الواو ‏وألف زائد بعدها إشارة إلى استحالة استجابة دعاء الكافرين وهم في جهنّم بعد فوات الأوان، أمّا ‏الكلمة في آية الرّعد فهي بثبات الألف باعتبار أنّ دعاء الكافرين في الدّنيا يشبه الحلم الذي لم يتحقّق".
لماذا كل هذه التخريجات، علما أن الأمر تعلق برسم وضعه بشر وليس من فعل إلهي. وذلك جراء التطور الذي عرفته اللغة العربية وقواعدها وتقنية كتابتها، ولا علاقة له بقدسية النص. إلا أنه كان لابد من التبرير العقائدي ما دامت العقلية الزئبقية التبجيلية التبريرية تعتمد فكرة أن كل ما يحتويه المصحف كلام رباني ورسمه ليس اعتباطي. وبالتالي كان لزاما من وجود مخرج. والأمثلة من هذا القبيل كثيرة ومتعددة. هكذا اضطرت العقلية الإسلامية التقليدية أن تكون زئبقية تبجيلية تبريرية رغما عنها، وهذا ليس بنية مبيته، وإنما تم ذلك بصدق مادام ما تقوم بتبجيله وتبريره في نظرها، هو حق مطلق وحقيقة ربانية لا ينالها باطل أو خطأ.
حالة ضياع شيء من القرآن
لما ظهر قول ضياع جزء من القرآن المنزل وتأكد في جملة من الروايات، لم تلق العقلية الزئبقية التبجيلية التبريرية بأسلحتها أرضا وتُقِرّ بالأمر، وإنما بحثت كعادتها عن مخرج ، وكان كالتالي:
"ردا على ما ورد في "الدر المنثور" ﴿ج2 ص298 بسند صحيح عن ابن عامر﴾ : " لا يقولن أحدكم قد أخذت القرآن كله وما يدريه ما كله، قد ذهب منه قرآن كثير[...] قيل إن القصد من هذا الكلام المنسوخ التلاوة فقط".
طبعا كان لزاما على العقلية الزئبقية التبجيلية التبريرية اعتماد مخرج للتخلص من الحرج لحفظ أطروحة " القرآن محفوظ في الصدور" وأطروحة "اللوح المحفوظ" وأطروحة التواتر وغيرها ، إذ كيف لما هو محفوظ أن يضيع شيء منه؟ وطبعا لم تقدم دليل أو حجة، ما يَهُمُّها هو تجاوز الحرج والتخلص منه. ولا يَهُمُّها أن تكون تخريجتها استخفافا للعقول واستحمارا للمتلقين.
جدو جبريل
[email protected]

استنتاجات وتساؤلات
المحور : نماذج ودراسة حالة

- ريرية التبجيل والتبرير والبحث عن مخرج للإحراجات، هاجس العقلية الزئبقية التبجيلية التبريرية
- تخريجات غريبة أحيانا، منها ما يبرِّر الأخطاء البلاغية والنحوية وغيرها، الواردة في المصحف. ومنها "إلغاء" أو "القفز" على التعارضات المفضوحة الواردة في الأحاديث – حتى الصحاح – منها.
- حالة سورة مريم آيات 18 - 38
- حالة سورة النساء الآية 162
- حالة " أفلم يتبين الذين آمنوا" و"أفلم ييأس الذين آمنوا"
- "تخريجات" عقائدية مكبلة بأطروحة " القرآن كلام الله الحرفي ولا يجوز المس حتى برسم كلمات المصحف"، مثال، رسم "دعــؤا" في سورة غافر
- حالة ضياع شيء من القرآن

فهل فعلا نجح المفسرون وحراس هيكل المنظومة الإسلامية في تجاوز الإحراج أم زادوا الطين بلة؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة الأمريكية تعتقل عشرات اليهود الداعمين لغزة في نيويورك


.. عقيل عباس: حماس والإخوان يريدون إنهاء اتفاقات السلام بين إسر




.. 90-Al-Baqarah


.. مئات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى وسلطات الاحتلال تغلق ا




.. المقاومة الإسلامية في لبنان تكثف من عملياتهاعلى جبهة الإسناد