الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نشأة النقد الحديث في مصر

مهدي شاكر العبيدي

2022 / 3 / 26
الادب والفن


تحفل المكتبة العربية بمجموعة من الكتب الباحثة في تاريخ النقد الأدبي عند العرب الذي لازم أدبهم زمن الجاهلية والعهود الإسلامية التي تلته بما استجد إبانها من دول وظهر من حكومات وخلص الأمر لخليفة أو أمير ، وقد ينفسح مجال البحث أكثر فيتناول الباحث الحقب المتأخرة التي ركد فيها الأدب العربي وجفت ينابيعه وكلف ذووه بالتقليد والمحاكاة عادمين أي قدرة على الابتكار والتفنن والتجدد ، من هذه الكتب والتصانيف المتقاربة في المسميات والعناوين ما تولى عنه وفرغ منه طه أحمد إبراهيم ، ومحمد مندور ، وإحسان عباس ؛ وقد تندرج ضمنه بعض فصول كتاب (النقد الأدبي) لأحمد أمين وآخر بنفس الاسم لسيد قطب ، وجلها يفيض فيما اصطلح عليه النقاد القدامى من قواعد ومقاييس في تقويم النتاجات الأدبية ، وأغلبها كان منحصراً إبان تلكم الأزمان البعيدة في نطاق الشعر وقلـما يتجاوزونه من ناحية التناول والتمحيص إلى الرسائل والخطب والمقامات لاستبانة استيفائها لشرائط الصحة والنضج وأهليتها للخطوة باستحسان المطلع والقارئ على حد تعبير القدامى في تذوق ما يروقهم من الشعر والنثر أو إزجاء مؤاخذاتهم بصدده ، صنع الله لأولاء الذين استكثروا على أسلافنا مراسهم للنقد ، واستبعدوا ما برعوا في إقامته من ضروب المفاضلة والموازنة من قبيله أو ما يتصل به بسبب.

وكأن شَعَرَ الأستاذ عز الدين الأمين ـ وهو سوداني كما اعتقد ـ بحاجة الجيل إلى مرجع شامل يستقون منه معرفتهم الواجبة عن نشأة النقد الأدبي في أدبنا المعاصر بعد أن أظلت النهضة الحديثة ديارات العرب كافة ، وتعددَت في ظلها الأغراض والفنون الأدبية ، فضلاً عن تعرف الأدباء والمثقفينَ عموماً على التيارات والمذاهب كالواقعية ، والسريالية ، والرمزية ، والوجودية ؛ على غرار ما هو جارٍ ومألوف لدى الغربيينَ ، فشاء أن يولي عنايته لنشأة النقد الأدبي الحديث في مصر وحدها دون شمول الأقطار العربية به بالنظر لوفرة مادة البحث واستنفاد ذلك لمزيد فائق من الجهد والوقت ، ولأن مصر هي المصدر الرئيسي للنهضة فمنها تشعبت الروافد وتفرعَت المسارب ، وكانت المعول في الهدي والاستنارة وتلمس الجادة المنجحة لجهابذتها ورواد التحرر الفكري والتفتح الذهني من بنيها ، وكذا فقد تقدم برسالة تحمل العنوان ذاك إلى كلية دار العلوم بجامعة القاهرة ومُنِح بموجبها درجة الماجستير ، ولك أن تحمد له إكبابه المتواصل على الآثار النادرة ومنها ما قد يكون منسياً وعده إياها النواة الأولى في هذا المنحى ، أمثال : (الوسيلة الأدبية) لحسين المرصفي ، و (المواهب الفتحية) لحمزة فتح الله المتوفى عام 1918م ، وغيرهما ليستقصي بعدهما سابقة الرواد التالينَ لهما سواء من الذين تخرجوا في الجامعات الفرنسية وتشربوا ثقافتها أو الذين انتظموا في المدارس الأولية زمناً وجازوا في التحصيل طوراً لا يسلك بهم في عداد الرواد الجامعيينَ ، لكنـهم واصلوا الليل بالنهار ولم تقف أمامهم عقبة لإغناء أفهامهم وعقولهم بشتى ألوان المعارف والثقافات ، وإن لم يعجز بعضهم أن يتعلموا لغة أجنبية ويصيروا إلى دراية بطبيعة أساليب الكتابة والإنشاء التي جرَت عليها مأثوراتها وأدبياتها معولين في ذلك على الجهد الذاتي المشفوع بثقة عامرة بالنفس وإخلاص جم لرسالة الأدب وتقدير لدورها في نهضة المجتمع.

أما النقاد الذين تناولتهم الرسالة وعُنيَت باستقصاء أصول النقد وأسسه عندهم فهم : مصطفى صادق الرافعي ، وطه حسين ، وعباس محمود العقاد ، وإبراهيم عبد القادر المازني ، ومحمد حسين هيكل ، وزكي مبارك ، وأحمد ضيف ، ويُضاف إليهم المستشرق الإيطالي كارلو نالينو ؛ لأنـه ساهم بمحاضراته المجموعة بكتاب (تاريخ الآداب العربية) بعد أن ألقاها على طلبته في الجامعة المصرية القديمة إبان السنوات الأولى لتأسيسها ، مستخدماً في أدائها بياناً عربياً سليماً ، دالاً به على خبرة واطلاع على روائع الموسوعات والتصانيف الأدبية والفكرية التي بقيَت على الدهر رغم ما فدحَت به الأمة وحاق بها من الشر والظلام ، نقول ساهم نالينو بمحاضراته تلك في ترسيخ جملة قيم وأصول نقدية عبر دعوته شباب الأمة إلى الاعتزاز بتراثهم ، ولفتَ أنظارهم إلى أن الإبداع الذي أوفى عليه أسلافهم في العصور الماضية ما كان ليتم لولا أن نبذوا التقليد وامتنعوا عن قبول آراء الغير وتخريجاتهم ، دون مطالبتهم بدليل على صحتها وسلامتها من الغرض ، وكذا فقد دعا إلى الاجتهاد المستقل في العلوم ، بقدر ما أهاب بناشئة الأدباء في ذلك الوقت أن يرسلوا نفوسهم على سجيتها في الأداء والتعبير ويؤثروا العفوية والبساطة على الإغراق في الصنعة والتكلف ، مبدياً من الشعور بالأسى والمرارة على ما مُنِي به الفكر العربي منذ أخريات القرن السادس الهجري من العقم والانغلاق والعجز عن الابتكار وانصراف حملة الأقلام إلى كتابة التلخيصات والحواشي والهوامش في المصنفات البلاغية واللغوية بدلاً من استيحاء خواطر نفوسهم وتأملاتهم وتجاربهم في الحياة ، ما لا يرقى إليه ويجاريه فيه كثير من المتشدقين بانتمائهم لهذه الأمة العريقة وجهادهم في سبيل عزتها وحرصهم بالتالي على تراثها أن تطوله يد المسخ والتشويه.

على أنـه رغم ما توافر لهذه الرسالة من أسباب الجودة والغنى والاشتمال على الأحكام المنصفة والاستنتاجات الدقيقة ، واستخلاصها مما جهد في إعداده وكتابته الأعلام المخصوصون بالدراسة من مقالاتٍ ضافية وكتب زاخرة بآرائهم وانطباعاتهم ، فضلاً عن البيان الرائع والأداء الطلي اللذين دلل بهما الباحث على حسن تأثره واستهدائه بالأساليب القوية التي جرى عليها أولئك النقاد في غير تفصح أو حذلقة وتعالم على القارئ بالوقوف على غرائب المفردات وشوارد الألفاظ ، مما يحمل على الإقرار بكونه أديباً بالأصل قبل أن يغدو إعداد الرسالة الجامعية عنده مطمحاً يباريه فيه سائر الناس ممن لهم دربة وإلمام بتاريخ الأدب ومكنة من الكتابة ومَن يعدمون ذلك ، فإنـها لم تسلم من بعض الهنات التي قلـما ينتفي وجودها في الأعمال والإنجازات الفكرية ، إذ فاته أن يتلمس وجوه الفرق بين الناقد والموجه ، فلا يصُح بهذا النظر أن تعد كتابات أحمد ضيف ، وزكي مبارك ، ومحمد حسين هيكل ؛ من قبيل النقد التطبيقي المكرس لدراسة الأساليب وتحليل النصوص وتعليل ما تكتنز به من صور الجمال والإبداع أو ينزر نصيبها منه ، وما أثِرَ عن أولاء الأعلام الثلاثة من فصول وأبحاث تطلبوا من خلالها ناشئة الأدب أن يكون لكل منهم أسلوب في الكتابة يختص به ويدل عليه ، "متميز بالدقة والصحة والسهولة ، مجانب للتصنع والتكلف ، وخالٍ من وحشي الكلام وغريبه ، ومراعٍ لقواعد اللغة وأصولها " ، إلى غير ذلك من التوجيهات العامة والإرشادات المفيدة حتى وإن تعدت ذلك إلى الاهتمام بالأدب القومي وتمثيل حياة الجماعة التي يمُت إليها الأديب بأقوى الصلات ، لا ينسلك في قبيل النقد التطبيقي المعني بتلمس عوامل التجويد والإبداع أو القطع بانتفائهما من الأثر الأدبي أو توفرهما بقدر محدود يلزم الأديب المنتج معه أن يأخذ نفسه بالجهد والمشقة لتكتمل أداته ويستوي إمكانه.

ولولا أنـه عقد مقارنة موجزة بين منهج طه حسين في الدراسة الأدبية وبين منهج العقاد والمازني واستدل على اهتمام الأخيرين ِ بالمناهج والنظريات والمقاييس الأدبية وانصرافهما إلى توضيحها ومراعاتها والانطلاق منها في دراسة شاعر بعينه بخلاف زهادة طه حسين في ذلك وتعويله على المنهج اللغوي غالباً في فهم الشعر لينهد إلى استجلاء نفسية الشاعر ، فإنـه كاد في إجماله للأصول والاتجاهات النقدية التي انماز بها كل منهم يقدمهم للقارئ شخصاً واحداً لا جملة أشخاص لكل منهم خصائص وشيات معينة ، مما يحمل على الإعجاب بقدرته على إعادة صوغ الاستنتاجات المتماثلة بتعابير أخرى في كل مرة ، تبين في سياقها نفس الألفاظ والمفردات المعول عليها في تحديد الحكم النقدي ، واشترط للأدب الصحيح أن يكون خالياً من التعقيد والصنعة والتنميق والزخرف ، مبرأً من السفسافية والابتذال وتصيد الألفاظ لغير غرض واضح ، مع الاتسام بالوضوح والقوة في الأفكار والمعاني ، واستلهام عناصره من البيئة وحياة الجماعة من أجل مساهمة الأدب في ترقيتها وإسعادها ، وكان يجمل بهِ أن يومئ إلى هذه المشابه في المنطلقات والتوجيهات النقدية العامة ، ولولا أنـه يعدوها إلى تسجيل ما للعقاد والمازني من سبق إلى ما يشبه التنظير النقدي عبر مباحثهما الدائرة حول موضوعات الخيال والحقيقة ، والمجاز والشكل والمعنى ووحدة الموضوع في القصيدة ، لجاز عَد هذا الفصل ـ من الرسالة ـ من قبيل العرض والتعريف بمؤلفات الرواد المتماثلينَ في آرائهم وانطباعاتهم بصدد النتاجات الإبداعية وما يتصل بذلك من اكتناه شرائط التجويد الفني وخصائصه.

لكن حسب الأستاذ عز الدين الأمين أن يستدل القارئ على كونه أديباً بالفطرة لا أنـه صار أديباً غداة تخرجه في جامعة من خلال وقوفه على مراسه آداب البحث وترسمه لها في إعداد رسالته من توق إلى الاستقراء واستخلاص النتائج مع التحلي بالصبر والأمانة والنزاهة والحرص على الضبط والتحقيق ، وإيداع ما ينتهي إليه من الأحكام والأصول في بيان آسر وتعبير قوي لا يبتغي بهما تأثيراً في وجدان القارئ بقدر ما ينزع إلى التحديد والتوثيق.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا