الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


آوان ازدهار الجنس البشرى (1-7)

راندا شوقى الحمامصى

2022 / 3 / 27
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


أخذت فكرة السلام العالمى تتبلور شكلاً ومضموناً بصورة لم يكن من الممكن تصورها قبل عقد من الزمان. لقد تداعت الصعاب التى كانت ومنذ أمد بعيد تبدو مستعصية واصبح طريق البشرية ممهداً. فالصراعات التى كانت فى ظاهرها غير ذى حل بدأت تستجيب لعمليات التفاوض والتشاور وتستسلم لما يتخذ من قرارات وظهرت الرغبة والميول لمواجهة العدوان العسكرى بالعمل الدولى الموحد. ونتيجة لذلك بدأت تطل من جديد درجة من التفاؤل حول مستقبل كوكب الأرض بعد أن كاد هذا التفاؤل ينمحى لدى جموع البشرية والعديد من قادة العالم.
هنالك وعلى نطاق العالم طاقات فكرية وروحية هائلة تبحث عن وسيلة للتعبير عن ذاتها ولها من قوة التأثير الإيجابى ما يعادل الآثار السلبية للقلاقل والاضطرابات التى حدثت فى العقود الأخيرة. الدلائل تزداد والإشارات تتزايد فى كل مكان على أن شعوب الأرض تتوق لوضع حد للنزاعات والصراعات والدمار وللعذاب والمعاناة التى لم تعد هناك بقعة فى الأرض بمنجى عنها. إذاً لابد من تلقف هذه الدوافع والاندفاع نحو التغيير وتوجيهها للتغلب على ما تبقى من عقبات أمام تحقيق حلم الأزمنة ألا وهو السلام العالمى. العزيمة والإرادة اللازمة لتحقيق هذا الهدف لا تأتى بمناشدة واستجداء الخلاص من الأمراض والعلل العديدة التى تنخر فى عظام المجتمع، بل لابد من بعث الهمة والنشاط على العمل برؤيا ثاقبة وإثارة وتحريك الإمكانات الروحية والمادية للخير والرخاء وازدهار البشرية الذى اصبح قريب المنال والذى ستعود منافعه على سكان الأرض جميعاً دون تمييز وبدون وضع أى قيود أو شروط لا تتناسب مع الأهداف الأساسية لمثل هذه الإعادة لتنظيم وترتيب أمور البشرية.
سجل التاريخ منذ القدم تجربة مرور البشرية بتكوين القبائل ثم الثقافات والطبقات والأمم. وفى هذا القرن بالاتحاد العضوى لكوكب الأرض وبالإقرار بتداخل وتشابك مصالح سكانه تكون قد سُطِّرتْ بداية تاريخ البشرية كشعب واحد. لقد كان تقدم البشرية فى تكوينها الحضارى طويلاً بطيئاً أشتاتاً غير منتظم ولابد من الاعتراف بأنه لم يكن متناسقاً مع ما يزخر به من إمكانيات مادية. مع ذلك فإن سكان الأرض وبما لديهم من ثروة فى التنوع الثقافى وموروثات تكونت وتطورت تدريجياً خلال العهود السابقة, يواجهون الآن تحدياً لجمع طاقاتهم وتكاتف جهودهم معاً للأخذ بكل وعى وكوحدة متكاملة المسئولية لتصميم وبناء مستقبلهم.
ليس من المنطق فى شىء وضع تصور للمرحلة القادمة من التقدم الحضارى دون إعادة النظر كرتين فى الأفكار والمقترحات التى تقوم عليها توجهات التنمية الاجتماعية والاقتصادية فى الوقت الراهن. و من البديهى أن تكون عملية إعادة التفكير هذه مشتملة على ما يطبق من سياسات فعلياً وعلى حسن استغلال الموارد وإجراءات التخطيط وطرق التنفيذ وإدارتها.وعلى كل حال فقد تظهر أمور عاجلة ذات الصلة بتحقيق الأهداف طويلة المدى من قبيل الهيكل الاجتماعى المطلوب, تطوير مضمون مبادئ العدالة الاجتماعية وطبيعة ودور المعرفة فى إحداث تغيير يدوم طويلاً. حقاً فإن إعادة النظر هذه ستتطلب البحث عن اتجاه عام لفهم طبيعة البشر ذاتها.

ينبنى معظم التخطيط التنموى أساساً على اعتبارات مادية بحتة فى الوقت الراهن. بمعنى آخر إن الغرض من التنمية فى كل المجتمعات يهدف إلى تمهيد السبل المؤدية إلى الرخاء المادى والذى أصبح بعد تجارب عديدة من الفشل والنجاح تتميز به مناطق معينة من العالم. وبالرغم من أن التغيير والتبديل والأخذ والرد جارى فى الحديث عن التنمية ليوائم الاختلافات الثقافية والأنظمة السياسية وليتجاوب مع الأخطار المحدقة من جراء التدهور البيئى إلا أن التوجهات المادية السائدة أساساً لازالت كما هى.

أحدثت هذه الأزمة الاقتصادية التى لم يسبق لها مثيل وما نتج عنها من انهيار اجتماعى خطأً بيناً فى فهم الطبيعة البشرية. إن مستوى ما يطرأ لدى البشر من استجابة تجاه المبادرات التى تقوم بها النظم السائدة الآن ليست فقط غير كافية بل وغير ملائمة ولا تتناسب مع الأحداث العالمية. لقد أصبح واضحاً بأنه ما لم تجد تنمية المجتمع هدفاً اسمى من مجرد تحسين الأحوال المادية فإنها ستفشل حتى فى تحقيق هدف تحسين الأحوال المادية ذاتها. ذلك الهدف الأسمى يجب أن ينشد فى الأبعاد الروحية للحياة وفى الباعث المنزه عن المتغيرات الاقتصادية المستمرة وعن التقسيم المصطنع للمجتمعات البشرية إلى متقدمة ونامية مع إعادة صياغة الهدف من التنمية سيكون ضرورياً أيضاً إعادة النظر فى الأدوار الملائمة التى يمكن أن يطلع بها المناصرون للتنمية. أما دور الحكومات فهو ضرورى وهام ولا يحتاج إلى تفصيل أو شرح. مع ما يحظى به الاعتقاد الفلسفى القديم " بأن الناس سواسية" من احترام وتقدير ومع ما يشاع الآن من مفاهيم ديمقراطية، كيف ستتفهم وتتقبل أجيال المستقبل نظرة التخطيط التنموى الضيقة إلى الناس وأخذهم فى الاعتبار على أنهم متلقى إعانة وتعليمات؟
فبالرغم من الإقرار بالمشاركة كمبدأ إلا أن ما ترك من مجال فى اتخاذ القرار لمعظم سكان العالم هو فى أحسن الظروف ثانوى ومحصور فقط فى عدة خيارات صيغت لهم بواسطة هيئات ووكالات لا سبيل لهم إليها وحُدِّدَت بأهداف تتناقض مع واقعهم.
إن التوجهات المادية هذه تجد التأييد والمساندة ضمنياً أن لم يكن صراحةً من الأديان القائمة. ويبدو أن الفكر الدينى السائد والمثقل بما جرت عليه العادة من تقاليد فى إدارة الشئون أبوياً ( بالبركة ) غير قادر على ترجمة الاعتقاد الواضح فى الأبعاد الروحية للطبيعة البشرية إلى الثقة بالمقدرة الجماعية للبشرية على أن تسمو على الأمور المادية.
وضع كهذا يفتقد إلى الإدراك بأهمية ما يرجح أن يكون أهم ظاهرة اجتماعية فى وقتنا هذا ألا وهى: إذا كان صحيحاً أن حكومات العالم تبذل جهودها عبر أنظمة الأمم المتحدة لتقيم نظاماً عالمياً جديداً، فإن شعوب العالم لديها نفس هذا التصور، إذ أننا نجد ذلك فى رد فعلها الذى جاء فى شكل ظهور فجائى لحركات وتنظيمات من أجل التغيير الاجتماعى على المستويات المحلية الإقليمية والعالمية. فمواضيع مثل حقوق الإنسان، نهضة المرأة، المتطلبات الاجتماعية للتنمية الاقتصادية المتواصلة، نبذ التعصبات، تعليم الأطفال القيم الأخلاقية، محو الأمية، العناية الصحية الأولية، وحشد آخر من الاهتمامات الحيوية تحظى كل منها بمناصرة قوية من منظمات تجد هى نفسها المساندة من جماهير متزايدة فى كل بقعة من المعمورة.
إن تجاوب شعوب العالم بأنفسهم مع الاحتياجات الملحة للعصر يأتى متمشياً مع ما رفعه حضرة بهاء الله من نداء منذ أكثر من 179 عام مضت ما معناه: " اجعلوا همكم احتياجات عصركم الذى تعيشون فيه وتمعنوا فى ضرورياته ومتطلباته "
إن التحول فى الطريقة التى أخذت تنظر بها أعداد غفيرة من عامة الناس إلى أنفسهم، يضع علامات استفهام جوهرية حول الدور المنوط بالهيكل العام للبشرية فى التخطيط لمستقبل كوكب الأرض. ولعمرى انه تحول غير مسبوق على مدى تاريخ الحضارة البشرية وبرز سريعاً وبصور مثيرة للاهتمام.

لكى يأخذ سكان العالم على عاتقهم تولى المسئولية من أجل مصيرهم المشترك، لابد أن يكون أساس استراتيجيتهم هو الإحساس والإيمان والاعتقاد الراسخ بوحدة العالم الإنسانى. رغم أن مفهوم أن الجنس البشرى " شعب واحد " يبدو بسيطاً عندما تجرى حوله المناقشات العامة إلا أنه خادع ويشكل تحدياً أساسياً للطريقة التى تدير بها معظم مؤسسات المجتمع المعاصر شئونها. هنالك عوامل جعلت من الصراع أمراً مقبولاً كباعث للتفاعل الإنسانى، من ضمن هذه العوامل التركيبة المتنافرة للحكومات المدنية، والقواعد التى توضع على أساسها القوانين المدنية، وإزكاء روح النزاع بين طبقات المجتمع، وروح المنافسة المسيطرة على الكثير من نواحى الحياة المعاصرة. ويمثل الصراع أيضاً تعبيراً آخر عن المفهوم المادى للنظام الاجتماعى والذى قويت شوكته خلال القرنين الماضيين.
فى خطابه للملكة فيكتوريا منذ أكثر من قرن مضى والذى تضمن تشبيهاً يشير إلى النمط القاطع الناجز والمأمول لنظام المجتمع العالمى شَبَّه حضرة بهاء الله العالم (المظهر الإلهي للعقيدة البهائية) بجسم الإنسان وحقيقة ليس هنالك تشبيه آخر فى عالم الإبداع يضاهيه و مضمون هذا التشبيه هو : لا يتكون المجتمع الإنسانى من مجرد مجموعات من الخلايا المختلفة بل من أفراد رفقاء متزاملين أوتى كل منهم العقل والإرادة. إن طريقة عمل الطبيعة البيولوجية للإنسان توضح مبادئ الوجود الأساسية وأهمها الوحدة فى التنوع فرغم المفارقة الظاهرية إلا أن كمال وتعقيد مكونات الجسم البشرى وتناسق أداء وتكامل خلاياه هو الذى يؤدى إلى تحقيق التمييز بين القدرات الخاصة بكل من تلك العناصر المؤتلفة. لا تعيش الخلية بمعزل عن الجسم فهى تشارك فى فعالياته وتستمد بقاءها من بقائه. والسعادة الجسمانية التى تحدث بهذه الكيفية تحقق الهدف المنشود من ورائها بالتمكين من التعبير عن الشعور والإدراك الإنسانى. أى بمعنى آخر إن الهدف والغرض من التنمية البيولوجية اسمى من مجرد وجود وبقاء الجسم وأجزائه.
ما ينطبق على حياة الفرد له ما يوازيه فى المجتمع الإنسانى. الجنس البشرى عضو متكامل يأتى على رأس عملية النشوء والترقى. إن حقيقة أن المشاعر الإنسانية تعمل عن طريق تنوع غير محدود لعقول الأفراد ودوافعهم لا تتناقض بأى حال من الأحوال مع اتحادها الحتمى. بل وفى واقع الأمر التنوع من الصفات والخصائص اللازمة التى تجعل التمييز بين الوحدة والتجانس والتماثل ممكناً.
يوضح حضرة بهاء الله بأن شعوب العالم تمر اليوم ببداية مرحلة بلوغها سن الرشد وعند اكتمال بلوغها سيتضح تماماً معنى مبدأ الوحدة فى التنوع.
بِدْاءً بتكوين الحياة الأسرية، انتقلت عملية التنظيم الاجتماعى إلى التكوين العشائرى فالقبلى ثم إلى أشكال المجتمع الحضرى العديدة ثم إلى ظهور الدولة والأمة. وقد كانت كل مرحلة فاتحة لآفاق جديدة تبرز من خلالها الطاقات والمقدرات البشرية.
من الواضح أن تقدم الجنس البشرى لم يأتى على حساب الفرد إذ أنه مع كل تقدم فى النظام الاجتماعى يتسع الأفق والمجال لتدفق الطاقات والإمكانات الكامنة فى كل فرد. والعلاقة بين الفرد والمجتمع علاقة تبادلية تكاملية لهذا لابد من أن يحدث التحول والتطور المطلوب فى وعى وإدراك البشر متزامناً مع بناء المؤسسات الاجتماعية الملائمة ومن ثم تتحقق استراتيجية التنمية العالمية بما تتيحه هذه العملية المزدوجة المتزامنة من فرص وتفتحه من آفاق. ومن الضرورى فى هذه المرحلة الحرجة من تاريخ البشرية أن يكون الهدف هو بناء مؤسسات متينة تدوم طويلاً لتنمو وتترعرع فى كنفها المدنية العالمية. فوضع حجر الأساس لمدنية عالمية يتطلب وضع القوانين والمؤسسات ذات الطابع العالمى شكلاً ومضموناً نفوذاً وسلطاناً، ولا يتحقق ذلك إلا إذا ما آمن كل من بيده مقاليد الأمور واتخاذ القرار إيماناً صادقاً بمبدأ وحدة الجنس البشرى وإذا ما انتشرت المبادئ والأسس ذات الصلة بها من خلال الأنظمة التعليمية ووسائل الإعلام. ثم بعد ذلك وبمجرد تخطى هذه العقبة تبدأ مسرعة الخطى عمليةٌ يجتمع من خلالها الناس والشعوب حول بلورة أهداف مشتركة ويبدءوا معاً فى تحقيقها. وهذه الصياغة الجديدة هى وحدها القادرة على إيقاء البشرية شر النزاعات العرقية والصراعات الدينية المزمنة. عند بزوغ الوعى والإدراك لدى البشر بأنهم جنس وشعب واحد سيكون بإمكانهم البعد عن أنماط الصراعات التى سيطرت على النظم الاجتماعية فى الماضى ويبدءوا فى تعلم واستيعاب سبل التعاون والتآلف والمودة.
يتفضل حضرة بهاء الله بقوله الكريم ما معناه :
" لا يمكن الوصول إلى راحة البشر وسلامه واطمئنانه إلا بتأسيس وحدته تأسيساً متيناً. ". بما أن جسم الإنسان وحدة واحدة لا تتجزأ فإن كل فرد أمانة فى عنق المجتمع. (وثيقة ازدهار الجنس البشري)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مزارع يتسلق سور المسجد ليتمايل مع المديح في احتفال مولد شبل


.. بين الحنين والغضب...اليهود الإيرانيون في إسرائيل يشعرون بالت




.. #shorts - Baqarah-53


.. عرب ويهود ينددون بتصدير الأسلحة لإسرائيل في مظاهرات بلندن




.. إيهود باراك: إرسال نتنياهو فريق تفاوض لمجرد الاستماع سيفشل ص