الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أزمة اليسار ومساعي الشُّيوعيين الأردنيين إلى الوحدة

سعود قبيلات

2022 / 3 / 27
مواضيع وابحاث سياسية


نسمع (أو نقرأ) كلاماً عن «أزمة اليسار».. منذ سبعينيَّات القرن الماضي، وأحياناً، كان يُقال «أزمة حركة التَّحرُّر العربيّ». وأنا أُفضِّل هذه التَّسمية، فباعتبارنا جزءاً مِنْ أطراف النِّظام الرَّأسماليّ الدَّوليّ (أي من الدّول التَّابعة)، فإنَّ العنوان الرَّئيس لبرنامجنا السِّياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ هو التَّحرُّر الوطنيّ. ولا أميل، هنا، إلى شعار «فكّ التَّبعيَّة» الدَّارج في خطاب العديد مِنْ قوى اليسار. التَّبعيَّة بُنية كاملة.. سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة ولها بنيان فوقي مِنْ جنسها، وليست حالة جزئيَّة تفصيليّة نقوم بفكِّها وننتهي منها. ولذلك، فعنوان أزمة اليسار (أو حركة التَّحرُّر) الرَّئيس هو عجز حركة التَّحرُّر العربيّة عن القيام بدورها التَّاريخيّ في إنجاز برنامج التَّحرُّر الوطنيّ.
وبرنامجُ التَّحرُّر الوطنيّ هو، بالضَّرورة، برنامج يساريّ؛ لأنَّه لا يمكن إنجاز التَّحرُّر الوطنيّ إلا بنقض بُنية التَّبعية وإعادة بناء الدَّولة على أُسس مادِّيَّة جديدة مغايرة.. اقتصاديَّة اجتماعيّة تنمويَّة وسياسيّة وثقافيّة.. تتمحور جميعها على مصالح البلاد ومصالح الأغلبيّة الشَّعبيّة. وحيث أنَّ النِّظام الرَّأسماليّ الدَّوليّ يتَّسم بحالةِ استقطابٍ حادَّةٍ بين مراكزه وبين أطرافه، تهيمن فيها المراكزُ على الأطرافِ وتستغلُّها، فإنَّ التَّحرُّرَ الوطنيَّ هو نمطٌ من الصَّراعِ الطَّبقيِّ، لكنَّه يدور على مستوى النِّظام الرَّأسماليّ الدّوليّ ككلّ.. بخلاف صراع الطَّبقات العاديّ الَّذي يدور على مستوى كلّ دولة على حدة.
ومع تمدُّد الشّركات متعدِّدة (ومتعدِّية) الجنسيَّة إلى مختلف بلدان الأطراف في العقود الأخيرة، ووضع يدها بشكلٍ مباشرٍ على ثروات تلك البلدان، واستيلائها على فائض قيمة العمل في تلك البلدان، بشكلٍ مباشرٍ أيضاً (وليس مِنْ خلال وكلائها الكمبرادوريين فقط، كما كان الأمر في السَّابق)، فإنَّ الصِّراعَ الطّبقيَّ في البلدانِ الطّرفيّةِ أصبح في جانبٍ منه صراعاً طبقيّاً مباشراً مع المراكز الرَّأسماليّة وليس مع الكمبرادور فقط.
بالخلاصة، بما أنَّ برنامجَ التَّحرُّرَ الوطنيَّ هو برنامجٌ يساريّ، فإنَّه لا يمكن أن يحمله إلا قوى يساريّة حقيقيّة.
المشكلة الآن هي أنَّ معظمَ اليسارِ فقد هويَّتَه اليساريّةَ، واستقال مِنْ دورِه التَّاريخيِّ، وأصبح ليبراليّاً.. الدِّيمقراطيّة أصبحتْ لديه هي الدِّيمقراطيّةُ البورجوازيّةُ تحديداً.. بل حصراً، أي الدِّيمقراطيّةُ الَّتي ترتكزُ على الجانبِ السِّياسيِّ وحدِه وتهملُ الجانبَ الاقتصاديَّ وتهملُ مصالحَ غالبيّةِ الشَّعبِ. وهي، في الأطرافِ، مشروطةٌ بالتَّبعيّةِ! فكيف يمكن التَّكلمُ، إذاً، عن حُرِّيَّةِ شعبٍ إذا كان بلدُه بكاملِه غيرَ حُرٍ؛ بل تابعٌ ومرهونٌ للخارج؟!
الدِّيمقراطيّةُ، كما نوَّهنا مراراً، في مناسباتٍ أخرى، ليست عمليّةً محايدةً، بل هي تختلفُ باختلاف مضمونِها والطَّبقةُ (أو الطَّبقاتُ) المستفيدةُ منها. وهي في أطرافِ النِّظامِ الرَّأسماليِّ الدّوليِّ مشروطةٌ بالتَّحرُّرِ الوطنيِّ وبتغليبِ مصالحِ الأغلبيّةِ الشَّعبيَّةِ السَّاحقةِ.
ونعود إلى استكمالِ الكلامِ عن ملامحِ ليبراليَّةِ اليسارِ، ومنها أيضاً غيابُ برنامجِ التَّحرُّرِ الوطنيِّ لديه؛ ومنها، على الصَّعيد الأيديولوجيّ، استخدامُ مفاهيم تلفيقيّة في الخطابِ السِّياسيّ، بدلاً من المفاهيم العلميّة.

مظاهر أزمة اليسار
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والآن، نأتي إلى تعدادِ بعضِ مظاهرِ أزمةِ اليسارِ، وهي:
أوَّلاً، انحسارُ نفوذِ الأحزابِ اليساريَّةِ؛ رغم اتِّساعِ القاعدةِ الاجتماعيّةِ موضوعيّاً لليسارِ. وأعني هنا أنَّ مطالبَ الطَّبقاتِ الشَّعبيّةِ إنَّما هي موضوعيّاً جزءٌ مِنْ مفرداتِ البرنامجِ اليساريِّ؛
ثانياً، تراجعُ دورِ أحزابِ اليسارِ في الحياةِ السِّياسيّةِ والاجتماعيّةِ والثَّقافيّةِ؛
ثالثاً، تراجعُ قدرةِ أحزابِ اليسارِ على استنباطِ الحلولِ المبتكرةِ مِنْ واقعِ بلدانِها ومن الظَّروفِ التَّاريخيّةِ المحدَّدةِ؛
رابعاً، تراجعُ إنتاجِ الفكرِ اليساريِّ الضَّروريِّ لفهمِ الواقعِ وتيسيرِ سُبُلِ التَّعاملِ معه وتغييرهِ ورؤيةِ آفاقِه بوضوح؛
خامساً، عدمُ وضوحِ أيَّةِ آفاقٍ منظورةٍ لاختراقٍ يساريٍّ جديدٍ يعيدُ أحزابَ اليسارِ إلى دفَّةِ قيادةِ النِّضالِ مِنْ أجلِ التَّحرُّرِ الوطنيِّ والتَّحوُّلِ الدِّيمقراطيِّ؛
وهنا، الحالةُ الوحيدةُ الَّتي يعيشُها اليسارُ حتَّى الآن هي حالةُ إدارةِ الأزمةِ..
وفي بلادِنا، النِّظامُ يعيشُ في حالةِ إدارةِ الأزمةِ، والمعارضةُ عموماً تعيشُ في حالةِ إدارةِ الأزمةِ.
وفي ما يخصّ الكلامَ عن أزمةِ اليسارِ، ثمَّة سؤال ضروريّ وهو: هل الأزمة هي حقّاً أزمةُ اليسارِ بمجملِه؟
برأيي، توجدُ مغالطةٌ أساسيَّةٌ شائعةٌ في الحديثِ عن أزمةِ اليسارِ؛ فمفهومُ اليسارِ يشملُ الفاعلين اليساريين والأفكارَ اليساريَّةَ والبرنامجَ اليساريَّ السِّياسيَّ والاقتصاديَّ والاجتماعيَّ والثَّقافيَّ. ولكن ما يكون في خلفيَّةِ الذِّهنِ عادةً عند الحديثِ عن اليسارِ هو اختزالُهُ بالفاعلين اليساريين تحديداً.
وعلى أيَّةِ حالٍ، حتَّى في ما يخصّ الفاعلين اليساريين، هل يمكن النَّظر إليهم جميعاً باعتبارهم في خانة الأزمة الَّتي يجري الحديث عنها؟
علينا أن ننظر إلى الصّورةِ بشكلٍ أشمل وأكثر وضوحاً، وعندئذٍ، سنرى أنَّ قوى اليسار (وأحزابه) في أميركا اللاتينيّة – على سبيل المثال – لا ينطبقُ عليها هذا التَّشخيص، بل هي تشهدُ ازدهاراً كبيراً، وتُحقِّقُ نجاحاتٍ باهرةً. الجماهيرُ الشَّعبيَّةُ العريضةُ هناك تلتفُّ حول الأحزابِ اليساريّةِ والقوى اليساريّة والشَّخصيَّاتِ اليساريّةِ، وقد أوصلتها (وتوصلها) في أكثرِ مِنْ بلدٍ مِنْ بلدانِ أميركا اللاتينيّةِ إلى سدَّةِ السُّلطةِ، عبر صندوقِ الاقتراعِ. وعملتْ هذه القوى، عند وصولِها إلى السّلطةِ، بمستوياتٍ متفاوتةٍ، مِنْ أجل تنفيذِ البرنامجِ اليساريّ. أي برنامج التَّحرُّر الوطنيّ؛ باعتبارِها، هي أيضاً، بُلداناً طرفيَّةً.
إذاً، الأزمةُ لا تشملُ الفاعلين اليساريين كلَّهم، بل بعضَهم، وخصوصاً اليساريين الَّذين تحوَّلوا إلى الليبراليّة وظلَّوا يصفون أنفسهم بأنَّهم يساريين. ومِنْ ضمنِ هؤلاء، العديد من الأحزابِ الَّتي ظلَّتْ تعلنُ تمسُّكَها بالماركسيّةِ كمرجعيّةٍ فكريّةٍ، لكنَّها لم تخلوا في الواقعِ من الانجرارِ إلى مواقعِ الليبراليَّةِ في بعض أطروحاتها وبرامجِها.
هذا في ما يخصّ الفاعلين اليساريين، أمَّا في ما يخصّ البرنامج، ففي ظلّ النِّظام الرَّأسماليّ الدَّوليّ القائم لا يوجد سوى اقتراحين للتَّعاملِ مع المسائلِ الاجتماعيَّةِ والاقتصاديَّةِ وشروطِ الوجودِ الإنسانيِّ، هما:
الاقتراحُ الرَّأسماليُّ، بمختلفِ تجلِّياتِه العلمانيّةِ أو الدِّينيّةِ.. فبغضّ النَّظر عمّا يدَّعيه كلُّ طرفٍ عن نفسِه، أو ما يدعو به نفسَه، البرنامجُ السِّياسيِّ الاقتصاديِّ الاجتماعيِّ هو الَّذي يحدِّدُ هويَّتَه النَّهائيّةَ. وخصوصاً موقفَه مِنْ ملكيَّةِ وسائلِ الإنتاجِ وتوزيعِ الدَّخلِ والثَّروةِ، والموقفَ مِنْ مصالحِ الأغلبيَّةِ الشَّعبيَّةِ.
والنَّظراتُ الرَّأسماليّةُ متنوّعةً ومتعدِّدةً؛ لكنَّها في النِّهايةِ تشتركُ في شروطٍ أساسيّةٍ محدَّدةٍ. ومِنْ ناحيةٍ أخرى، فالشّروطُ الَّتي يتجلَّى بها النِّظامُ الرَّأسماليُّ في المراكزِ الرَّأسماليّةِ الدَّوليّةِ تختلف كثيراً عن الشُّروطِ الَّتي يتجلَّى بها في الأطرافِ والهوامشِ، بيد أنَّ الرَّأسماليّةَ نظامٌ واحدٌ متكاملٌ على مستوى العالم كلّه. وهذا النِّظامُ – كما سبق أن أشرنا – يتَّسمُ بالاستقطابِ بين مراكز متحكّمة ومستَغِلَّة، وبين أطرافٍ تابعةٍ ومستَغلَّةٍ.
ورغم التَّناقضِ الموضوعيِّ بين المراكزِ وبين الأطرافِ، إلا أنَّ وجودَ كلٍّ منهما مشروطٌ بوجودِ الآخرِ. وهذا لا ينطبق على البُنيةِ التَّحتيَّةِ للنِّظامِ الرَّأسماليِّ الدَّوليِّ وحدِها، بل ينطبق أيضاً على بُنيَتِه الفوقيّةِ؛ فالأيديولوجيا (والثَّقافة) في المراكزِ تأخذُ طابعاً حداثويّاً (حتَّى إن كانت هذه الحداثةُ في تآكلٍ أو أنَّها زائفةٌ). أمَّا في الأطرافِ، فالأيديولوجيا (والثَّقافة) تميل إلى الماضويّة. لكنَّهما متكاملتان، وكلٌّ منهما شرطٌ للآخرِ. التَّقدّمُ العلميُّ والتَّطوّرُ التّكنولوجيِّ والنَّشاطُ الاقتصاديِّ الضَّخمِ في المراكزِ يفرزُ نمطَه الخاصَّ من الأيديولوجيا والثَّقافةِ، كما أنَّ التَّهميشَ والتَّبعيّةَ والخضوعَ للقهرِ والاستغلالِ وغيابَ التَّنميةِ الوطنيَّةِ وتدنِّي شروطِ الحياةِ الإنسانيّةِ تفرض هي أيضاً الأنماطَ الثَّقافيّةَ والأيديولوجيّةَ الملائمةَ لها. وهذا، في الواقعِ، ما يلزم وما يجب استمراره، لكي تظلَّ المراكزُ مراكزاً وتمارسَ الاستغلالَ والقهرَ بلا ضابطٍ، ولكي تظلَّ الأطرافُ أطرافاً وتخضعَ للقهرِ والاستغلالِ وتبقى في حالةِ انحطاطٍ، بلا أفقٍ ولا أملٍ.
والآن، نتوقَّف عن هذا الاستطرادِ، لنعود إلى ما سبق أن قادنا إليه، وهو كلامُنا عن أنَّه لا يوجد في العالم سوى اقتراحين للتَّعامل مع المسائل الاقتصاديّة وشروط الوجود الإنسانيّ؛ حيث قلنا إنَّ الاقتراحَ الأوَّلَ هو الاقتراحُ الرَّأسماليُّ وتكلَّمنا عن الخطوطِ الرَّئيسةِ لتجلِّياتِه..
أمَّا الاقتراح الثَّاني، فهو الاقتراحُ اليساريُّ بأفقِه الاشتراكيِّ..
وكما سبق أن قلنا، فإنَّنا نجد مفردات هذا الاقتراح تتردَّدُ بلغةٍ بسيطةٍ في شعاراتِ (ومطالباتِ) الجماهيرِ الشَّعبيّةِ العريضةِ الَّتي تخرجُ إلى الشَّارعِ في مختلفِ أنحاءِ العالمِ (وخصوصاً العالمَ العربيَّ، وبالأخصّ في الأردن).
النَّاسُ ترفضُ الليبراليّةَ المتوحِّشةَ ورموزَها و«حلولَها»؛ ترفضُ إملاءاتِ البنكِ الدَّوليّ وصندوقِ النَّقد الدَّوليّ؛ ترفضُ الخصخصةَ وانسحابَ الدّولةِ من الاقتصادِ.. خصوصاً من القطاعاتِ الاقتصاديّةِ الأساسيّةِ الَّتي تعتمد على استخراجِ الموادِّ الخامّ الطبيعيّة، أو الَّتي لها علاقةٌ وثيقةٌ بالحاجاتِ الأساسيّةِ للنَّاسِ.. الصّحة والتَّعليم وتوفير الموادّ الغذائيّة والتَّأمينات الاجتماعيّة.
وما دامت المطالبُ اليساريّةُ موجودةً موضوعيّاً في الشَّارع، وما دام البرنامجُ اليساريُّ موجوداً في صيغته الخامّ الأوَّليَّة، فأين حاملهما المفتَرَض، إذاً، أي اليسار؟ وأين اليساريّون الواعون والمبدئيّون؟
أنا أعتقدُ أنَّ اليسارَ، في الأردن وفي معظم البلاد العربيَّة، لم يتجاوز حالةَ الوجودِ بذاتِه. أعني أنَّه موجودٌ كانعكاسٍ موضوعيٍّ فقط لمظالمِ النِّظامِ الرَّأسماليِّ الدَّوليِّ المأزومِ، ولم يرتقِ إلى مستوى الوجودِ الذَّاتيِّ الفاعلِ والرَّدِّ الجدّيِّ الملموسِ على هذه المظالمِ.
وأنا، هنا، عندما أتحدَّث عن الوجودِ بذاتِه، فإنَّما أستعيرُ – كما سبق أن فعلتُ مراراً – مفهومَ ماركس عن الطَّبقةِ العاملةِ بذاتِها والطَّبقةِ العاملةِ لذاتِها.
وشرطُ الانتقالِ مِنْ حالةِ الوجودِ بذاتِه إلى حالةِ الوجودِ لذاتِه هو الوعيُ والفعلُ المبنيُّ على هذا الوعيِ. أعني وعيَ الذَّاتِ وإدراكَ مصالِحِها والعملَ بإخلاصٍ مِنْ أجلِها.
في ما يتعلَّقُ بشرطِ الوعيِ، اليسارُ في بلادنِا العربيّةِ (خصوصاً في المشرق) نشأ في ظروفٍ صعبةٍ. كانت بلدانُنا – آنذاك – قد خرجتْ للتّوِّ مِنْ تحتِ نيرِ الاستعمارِ العثمانيِّ الَّذي صحَّرَ المجتمعاتِ وحوَّلَها إلى البداوةِ، وأهملَ البُنى التَّحتيّةَ والتَّعليمَ تماماً ودمَّر الثَّقافةَ وزيَّفَ الوعيَ، ولم يكن يهمّه شيء سوى استيفاء الضَّرائب والمكوس الجائرة. عند انحسار الاستعمار العثمانيّ عن بلادِنا، كان عددُ المتعلِّمين يقتربُ مِنْ مستوى النُّدرة، وكان الوضعُ الاقتصاديُّ الاجتماعيُّ في مستوى الشُّروطِ البدائيّةِ، وكانت الأحوالُ المعيشيّةُ في حدودِها الدُّنيا. وبالمناسبة، فكلُّ البلدانِ الَّتي أُخضِعَتْ للاستعمارِ العثمانيِّ لم تتمكَّن مِنْ تجاوزِ آثارِه المدمِّرةِ، وليس البلادَ العربيّةَ وحدَها. فلننظر، على سبيلِ المثالِ، إلى عددٍ مِنْ دولِ أوروبّا الشَّرقيّةِ الَّتي رزحتْ لفتراتٍ متفاوتةٍ تحت نيرِ هذا الاستعمارِ ونقارنُها بسواها من الدّولِ الأوروبيّةِ.
وجودُ اليسارِ في بلادِنا في مستوى «الوجودِ بذاتِه»، وعدمُ ارتقائِه إلى مستوى «الوجودِ لذاتِه»، أدَّى إلى اعتمادِه في جانبِ الوعيِ والنَّظرِ السِّياسيِّ الماركسيِّ، إلى حدٍّ كبيرٍ، على ما كان يُنتَجُ منهما في الاتِّحادِ السّوفييتيِّ ضمن ظروفِ الدَّولةِ السّوفييتيّةِ وتقلُّباتِ أحوالِها ومصالحِها.
وهكذا، بدلاً مِنْ إعادةِ إنتاجِ الفكرِ الماركسيِّ والنَّظرِ الماركسيِّ مِنْ مفرداتِ البيئةِ العربيّةِ والظّروفِ العربيّةِ والمصالحِ العربيّةِ، تمَّت استعارةُ هذا الفكرِ وهذه النَّظراتِ من الاتِّحادِ السّوفييتيِّ.
وهنا، غاب عن الأحزابِ اليساريّةِ والشّيوعيّةِ العربيّةِ شرطٌ أساسيٌّ مِنْ شروطِ وجودِ الحزبِ الثّوريِّ، وهو شرطُ النَّظريّةِ الثَّوريَّةِ المتَّصلةِ بالواقعِ المحدَّدِ وبالظَّرفِ التَّاريخيِّ المعيَّنِ.. بخلافِ ما كان عليه الحال مع اللينينيّةِ في الثّورةِ السّوفيتيّةِ، والماويّةِ في الثّورةِ الصِّينيّةِ، ونظراتِ كاسترو وغيفارا في ما يخصّ الثّورةِ الكوبيّةِ.
النَّظريّةُ الثَّوريّةُ لا تُستورَدُ ولا تُستَعارُ، بل يُعادُ إنتاجُها ضمن شروطِ المرحلةِ التَّاريخيّةِ وواقعِ البلدِ المعنيّ.
والمشكلةُ أنَّ اليسارَ العربيَّ، الَّذي جاء بعد هزيمةِ حزيران في العام 1967 وطرحَ نفسَه بديلاً للأحزابِ الشّيوعيّةِ العربيّةِ، لم يُنتج، هو الآخرُ، نظريّةً ثوريّةً، بل استعار التَّجاربَ والتَّطبيقاتِ الماويّةَ والجيفاريَّةَ. أي أنَّه، ضمناً، رأى أنَّ المشكلةَ هي في التَّطبيقاتِ السّوفييتيّةِ وليست في استعارةِ هذه التَّطبيقاتِ وعدمِ إنتاجِ النَّظريَّةِ الثّوريّةِ المطلوبة؛ لذلك، اكتفى بأن استعار مِنْ مكانٍ آخر.
وكما أوضحتُ، في ندوةٍ سابقةٍ لي مع قناةِ «الحوار المتمدِّن»، فالاستعارةُ تضمَّنتْ عدداً من المواقفِ السِّياسيَّةِ والمفاهيمِ النَّظريَّةِ. على سبيل المثالِ، الموقفُ مِنْ قرارِ التَّقسيمِ الخاصِّ بالقضيَّةِ الفلسطينيّةِ الَّذي تغيَّرَ مع تغيُّرِ الموقفِ السّوفييتيِّ.
برأيي، كان الموقفُ السّوفييتيُّ النِّهائيُّ مِنْ قرارِ التَّقسيمِ مبنيّاً على المناخِ الثَّقافيِّ والأيديولوجيِّ للحربِ العالميّةِ الثانيةِ وتحالفاتِها. وليس موقفاً ماركسيّاً مبدئيّاً. الموقفُ الماركسيُّ المبدئيُّ تمَّ التَّعبيرُ عن بدقّةٍ في المؤتمرِ الثَّاني للأمميّة الشّيوعيّة الَّذي انعقد في موسكو برئاسة لينين في العام 1920، حيث رفض بشكلٍ صريحٍ ما أسماه «المنشأة الفلسطينيَّة للصّهاينة والصّهيونيَّة»... «الَّتي تضع السّكَّان الكادحين في فلسطين، حيث يمثِّل فيها الكادحون اليهود أقليَّة لا تذكر، ضحيَّةً فعليَّةً للاستغلال الإنجليزيّ تحت زعم إنشاء دولةٍ يهوديَّةٍ في فلسطين». والموقف الماركسي موجودٌ أيضاً في أطروحةِ ماركس في شأن «المسألة اليهوديّة».
كان الاتِّحادُ السّوفييتيُّ، قبل موافقته على قرار التَّقسيم، يتبنَّى حلَّ الدَّولةِ الفلسطينيّةِ الدِّيمقراطيّةِ الواحدة. وبرَّر المندوبُ السّوفييتيُّ في مجلس الأمن، الَّذي كان – آنذاك – أندريه غروميكو (وزير الخارجيّة السّوفييتيّ لاحقاً)، تغيُّرَ الموقفِ السوفييتيِّ بالقولِ إنَّ قرارَ التَّقسيمِ هو أحسنُ الحلولِ السِّيئةِ المتاحةِ.
ليس كلّ الأحزاب الشّيوعيّة ولا كلّ الشّيوعيين تبنّوا الموافقةَ السّوفييتيّةَ على القرار. والَّذين يرون حتَّى الآن أنَّ هذا الموقفَ كان صائباً، يستخدمون في دفاعِهم عنه حججاً تستندُ إلى المنطقِ الصّوريِّ، فيقولون: لو أنَّ الجميعَ وافقوا على قرارِ التَّقسيمِ، لما وصلَ حالُ القضيّةِ الفلسطينيّةِ إلى ما وصلتْ إليه الآن. أو أنَّ الغايةَ كانت إنقاذُ ما يمكن إنقاذُه. أو إنَّ ما وافقتْ عليه منظَّمةُ التَّحريرِ الفلسطينيّةِ في أوسلو كان أقلَّ بكثيرٍ من الَّذي نصَّ عليه قرارُ التَّقسيمِ مِنْ حقوقِ للفلسطينيين والعرب (مقارنةُ السِّيئِ بالأسوأ). أو إنَّ الواقعَ العربيَّ كان سيِّئاً، بحيث كان يتعذَّرُ التَّمسكُ بالمطالبِ العادلةِ للشَّعبِ الفلسطينيِّ كاملة.. الخ.
الواقع العربيّ الآن أسوأ؛ فهل يبرِّرُ هذا كامب ديفيد ووادي عربة وأوسلو؟
وبالمناسبة، الَّذين يؤيِّدون هذه الاتِّفاقيّات الاستسلاميَّة يدافعون عنها بالمنطق نفسه.
القضيَّةُ الفلسطينيّةُ كانت آنذاك في بداياتِها، والكيانُ الصّهيونيُّ لم يكن قد أُعلِنَ بعد. وبالتَّالي، فإنَّ هذا الموقفَ، كان مجرَّدَ سُلفةٍ مِنْ دونِ مقابل.
ومن المواقفِ والمفاهيمِ الَّتي استعارتها الحركةُ الشّيوعيّةُ العربيّةُ من السّوفييت، مفهومُ «الطَّريق اللارأسماليّ»، الَّذي بناءً عليه حَلّ الحزبُ الشّيوعيُّ المصريُّ نفسَه في ستينيَّاتِ القرنِ الماضي. وهذا المفهومُ مفهومٌ تلفيقيٌّ وليس مفهوماً ماركسيّاً ديالكتيكيّاً. وحين يتبنَّى الحزبُ مفهوماً تلفيقيّاً فإنَّه يضعُ نفسَه في متاهةٍ ويضلِّلُ جماهيرَه. والأصل هو أن يرى طريقَه بوضوحٍ ويُنيرُ دربَ جماهيرِه.
ومن المواقفِ الَّتي تمَّت استعارتُها، أيضاً، الموقفُ من القوميَّةِ، وهذا مع أنَّ الأحزابَ الشّيوعيَّةَ في لبنان وفلسطين وسوريا، كانت سبَّاقةً للأحزابِ القوميّةِ في تبنِّيها للوحدةِ العربيّةِ.. خصوصاً في البيانِ المشتركِ الَّذي أصدرته تلك الأحزاب الثَّلاثة في العام 1931. لكن، في ما بعد، تمَّت استعارةُ الموقفِ السَّلبيِّ من الأيديولوجيا الوطنيّةِ المبنيِّ على مناخات الحربِ العالميّةِ الثَّانيةِ. في الحربِ العالميّةِ الثّانيّةِ، كانت الأحزابُ النَّازيّةُ والفاشيّةُ تستند – كما هو معروف – إلى أيديولوجيا وطنيَّةٍ عنصريّةٍ عدوانيّة. وتمَّ تعميمُ هذا الموقفِ وهذه الثَّقافةِ على جميعِ الحالاتِ والمواقفِ الوطنيّةِ لتصبحَ الوطنيّةُ، ثمَّ القوميّةُ (كما هي في الحالةِ العربيّةِ الخاصّةِ)، صفةً ذميمةً. وهذا الموقفُ يُغفلُ جانباً أساسيّاً للصِّراعِ الطَّبقيِ، وهو المتعلِّق بالصّراعِ الطَّبقيِّ بين مراكزِ النِّظامِ الرَّأسماليِّ الدّوليِّ وبين شعوبِ الأطرافِ. القوميّةُ في الأطرافِ، وليس في الأطراف فقط، بل حتَّى في الدّولِ الصَّاعدةِ الآن (مثل روسيا، على سبيل المثال) هي حصنٌ للذَّاتِ بالنِّسبةِ لشعوبِ هذه البلدان في مواجهةِ الهجومِ الكاسحِ للشّركاتِ متعدِّدةِ الجنسيّةِ ومتعدِّيةِ الجنسيّةِ، وهي أداةٌ للنّهوضِ وتجاوزِ الحالةِ الطَّرفيّة. ولكن، مِنْ ناحيةٍ أخرى، القوميّةُ في الأطرافِ مشروطةٌ بموقفٍ طبقيٍّ واضحٍ وبوعيٍ طبقيٍّ متقدِّمٍ.. وإلا فإنَّ الكلامَ عنها يكون مجرَّدَ خلخلةٍ في الهواءِ أو يقودُ في الواقعِ إلى نقيضِه. رأسُ المالِ (خصوصاً الكمبرادور ورأسَ المال الماليّ المهيمنين في معظم بلداننا الآن) إنَّما هو كوزموبوليتي، بالضّرورة.. بحكمِ مصالحِه، مهما ادّعى أو توهَّمَ. أمّا اليسار والقوى الاجتماعيّة الَّتي يمثّلها، فهو، في نضالِه مِنْ أجلِ التَّحرُّرِ الوطنيِّ، وطنيٌّ وقوميٌّ بالضّرورةِ.. وبخلافِ ذلك، فهو تائه ولا يعي هويّتَه وموقعَه في الصِّراع.
في رسالةٍ بعثها ماركس إلى أنجلز، في تاريخ 20 حزيران 1866، يشيرُ إلى نقاشٍ دار في «مجلس الأمميَّة» حول مسألةِ القوميَّاتِ والموقفِ منها، ويسخرُ مِنْ موقفِ الشيوعيين الفرنسيين الرَّافضِ للقوميّةِ، ويقول: «لم يخفِ الفرنسيّون، وكان عددُهم كبيراً جدّاً، نفورَهم الصَّادقَ من الإيطاليين».
ويضيف قائلاً: «لقد ضحك الانجليزُ كثيراً عندما قلتُ في مستهلِّ خطابي إنَّ صديقَنا لافارغ والآخرين، الَّذين ألغوا القوميَّاتِ، يخاطبوننا "بالفرنسيَّة"، أي بلغةٍ لا يفهمُها تسعةُ أعشارِ المجتمعين. ثمَّ ألمحتُ إلى أنَّ لافارغ، مِنْ دون أنْ يدرك ما يقول، يفهم، كما يبدو، مِنْ إنكارِ القوميَّاتِ، امتصاصَها مِنْ قبل الأمّةِ المثاليَّةِ، الأمّةِ الفرنسيَّةِ».
(هذه الرِّسالة منشورة ضمن كتاب «ماركس أنجلز – رسائل مختارة» - ص 140 و141)
ونحن لا نعيد الكلامَ عن هذه المواقفِ، الَّتي لا نرى أنَّها كانت موفَّقة، مِنْ أجل جلد الذّات، بل مِنْ أجلِ الاستفادةِ مِنْ هذه الأخطاءِ والانطلاقِ نحو آفاقٍ جديدةٍ. لن نتمكَّن مِنْ تجاوزِ واقعنا ما لم نقم بعمليَّةِ نقدٍ ذاتيٍّ جريئةٍ وحقيقيّة.
وفي ما يخصّ الآفاقَ الجديدةَ والتَّجديدَ، فإنَّ كثيرين من الَّذين يتحدَّثون عن ضرورةِ تجديدِ الخطابِ واتِّخاذِ مواقفَ جديدةً، إنَّما يقصدون بذلك القيامَ بانقلابٍ شاملٍ على الأفكارِ والمبادئِ الأساسيّةِ لليسارِ والشّيوعيّةِ، والانتقالَ إلى خندقِ الخصمِ وتبنِّي الليبراليّة الَّتي هي – بالتَّأكيدِ ليست أفكاراً جديدةً كما أنَّ خطابَها ليس خطاباً جديداً. لذلك، يجب أن نتَّفقَ على ما هو مطلوبٌ تغييرُه في الخطابِ والمواقفِ. وهو، بالتَّحديدِ، الانسجامُ أكثرَ مع الهويّةِ اليساريّةِ والشّيوعيّةِ. وهذا يستلزمُ أن نتحدَّثَ بدقّةٍ وصراحةٍ عن عثراتِنا وأخطائنا.
بطبيعة الحال، ليست تلك الأخطاءُ هي وحدَها المسؤولة عن أزمةِ اليسارِ العربيِّ، فلا يجب أن ننسى القمعَ الممنهجَ وتجريفَ الحياةِ السِّياسيّةِ في العديدِ من البلدانِ العربيّةِ.
وبرأيي، توجد حاجةٌ ماسّةٌ إلى إنتاجٍ فكريٍّ ماركسيٍّ أصيلٍ (أصيل بمعنى الإبداع المنتمي للواقعِ والظَّرفِ التَّاريخيِّ المحدَّدِ)، يقودُ إلى فهمِ الواقعِ فهماً صحيحاً ووضعِ الخططِ والبرامجِ العلميّةِ المدروسةِ للتعاملِ معه وتغييرِه.
مطلوبٌ، كذلك، الخروجُ مِنْ حالةِ الجيتو، الَّتي يعيش فيها العديدُ من الأحزابِ اليساريّةِ والشّيوعيّةِ، والانفتاحُ على أوسعِ قطاعاتِ الشَّعبِ، والسَّعيُ إلى فهمِ همومِها الحقيقيّةِ ومطالبِها الحقيقيّةِ، وفهمِ أساليبِ تفكيرِها، والوصولِ إلى لغةٍ مشتركةٍ معها، والسَّيرِ أمامَها ومعها.. لا خلفَها أو بعيداً عنها.
الشَّعبُ ليس مفصَّلاً على مقاسِ تصوّراتِنا ومفاهيمِنا المجرَّدةِ، وفيه نزعاتٌ وسماتٌ قد لا تُريحنا. ولكن، على رأي نجيب سرور: «منين أجيب ناس؟!». في الواقعِ، هذه مشكلةٌ كبيرةٌ لليسارِ والشّيوعيين العربِ، وهي أنَّ تصوّراتِهم للشَّعبِ وللنَّاسِ لا علاقةَ لها بالواقعِ. النَّاسُ الَّذين تمّ الاعتمادُ عليهم للقيامِ بثورةِ تشرين أوَّل (أكتوبر) السّوفييتيّة وكلِّ الثّوراتِ الأخرى هم أيضاً لم يكونوا مرسومين حسب المواصفاتِ النّموذجيّةِ.
مطلوبٌ أن نتبنَّى مطالبَ النَّاسِ وأن نتقدَّمَ الصّفوفَ في الدِّفاعِ عنهم والعملِ مِنْ أجلِ تحقيقِ مطالبِهم.
مطلوبٌ أن نحلِّلَ الواقعَ تحليلاً علميّاً صحيحاً، ونضعَ النُّقاطَ على الحروفِ، ونعملَ على أساسِ هذا الفهمِ السَّليمِ.
وهنا، يوجد خلطٌ وسوءُ فهمٍ كبيرين؛ فيُنظَرُ أحياناً إلى مَنْ يلتزم بتحليل الواقعَ بدقّةٍ ووضوحٍ على أنَّه متطرِّفٌ. التَّطرّفُ لا يكون في هذا الجانبِ، بل يكون عندما نطرحُ برامجَ للتغييرِ لا تنسجمُ مع جدولِ أعمالِ التَّاريخِ في المرحلةِ التَّاريخيّةِ المحدَّدةِ، وعندما نستخدمُ أساليباً للنِّضالِ لا تخدمُ عمليّةَ التَّغييرِ.. بل تأتي بنتائج عكسيّةٍ. أمَّا فهمُ الواقعِ كما هو، وتحليلُه تحليلاً دقيقاً، وشرحُه للشَّعب مِنْ دونِ مواربةٍ أو مراوغةٍ، فهذا أمرٌ ضروريٌّ، وبخلافِه، نُضلِّلُ أنفسَنا ونخدع شعبَنا.

انقساماتُ الشّيوعيين الأردنيين ومساعيهم إلى الوحدة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الانقساماتٌ أمرٌ مألوفٌ لدى كلّ الأحزابِ، في بلادِنا وفي سواها من البلدان. بالطَّبع، تختلفُ أسبابُ هذه الانقساماتِ مِنْ حزبٍ إلى حزبٍ، ومِنْ بلدٍ إلى بلدٍ.. لكنَّ النَّتيجةَ هي نفسُها.
ما يستحقُّ التَّوقُّفُ عندَه ولفتُ النَّظرِ إليه في حالةِ الشّيوعيين الأردنيين هو استمرارُهم في العملِ مِنْ أجلِ توحيدِ صفوفهِم في إطارٍ حزبيٍّ واحد، رغم كلّ انقساماتِهم المتوالية. لا أريد، هنا، أن أؤرِّخَ لمحاولاتِ الوحدةِ؛ فهذا له مقامٌ آخر؛ لكنَّني أكتفي بالإشارةِ إلى الوحدةِ الكبيرةِ الَّتي تمَّت في أواسطِ ثمانينيَّاتِ القرنِ الماضي، ثمّ الوحدةِ الَّتي تمَّت في أواسطِ العقدِ الأوَّلِ من القرنِ الحالِّيّ، ثمَّ تجربةِ اتِّحادِ الشّيوعيين الأردنيين الَّذي كان لي شرفُ أن أُنتَخَبَ رئيساً له.
مع عدمِ الاستهانةِ بتجاربِ الوحدةِ الأخرى، تجربةُ اتِّحادِ الشّيوعيين الأردنيين، مِنْ بين هذه التَّجاربِ كلِّها، كانت مختلفةً. وكنّا – آنذاك – نعرفُ أنَّنا نشقُّ طريقَنا عبرَ تجربةٍ جديدةٍ غيرِ مسبوقةٍ، وأنَّه ليس أمامنا إلا أن نستكشفَ أبعادَ هذه التَّجربةِ وآفاقَها أوَّلاً بأوَّل في أثناءِ خوضِنا لغمارِها.
انطلقنا، في هذه التَّجربةِ، مِنْ واقعِ وجودِ عددٍ من المجموعاتِ الشّيوعيّةِ المنظَّمةِ – بغضِّ النَّظرِ عن أحجامِها – إلى جانبِ الحزبِ الشّيوعيِّ الأردنيِّ؛ ومِنْ واقعِ وجودِ أعدادٍ كبيرةٍ من الشِّيوعيين غيرِ المنضوين في صفوفِ أيٍّ مِنْ هذه المجموعاتِ. وكان ملحوظاً – آنذاك – حضورُ الشّيوعيين الكبير في الحِراكِ، وفي مختلفِ الأنشطةِ السِّياسيَّةِ والثَّقافيَّةِ، لكنّهم كانوا يمارسون أدورَاهم تلك منفردين وكلٌّ منهم على حدة. فتنامت الرَّغبةُ في حشدِ هذه الطَّاقاتِ وتنسيقِ عملِها. وكنّا نعرف صعوبةَ دفع المنتمين للأطرِ الشّيوعيّةِ القائمةِ إلى حلِّ أُطرِهم والانضواءِ فرادى في إطارٍ واحدٍ، كما أنَّ تجربةَ المحاصصةِ قد جُرِّبَتْ وثبتَ عقمُها وفشلُها. لذلك، قلنا: فليبقَ كلٌّ في إطارِه، وليحافظَ كلٌّ على إطارِه، ولنحشد طاقاتِنا وجهودِنا في إطارٍ واحدٍ فضفاضٍ واسعٍ ومرنٍ هو اتّحادُ الشّيوعيين الأردنيين الَّذي يجب أن يضمّ الحزبَ الشّيوعيَّ الأردنيَّ، والمجموعاتِ الشّيوعيّةَ الأخرى، والشّيوعيين الأفرادَ، معاً.
وهكذا، انطلقت الفكرةُ، وكان يومُ إشهارِ الاتّحادِ، في تاريخ 29 آذار 2013، احتفالاً كبيراً حضره حشدٌ كبيرٌ من الشّيوعيين الأردنيين ملأ مجمّعَ النّقاباتِ المهنيّةِ وفاضَ عنه. حضره الشَّبابُ وروّادُ الحركةِ الشّيوعيّةِ الأوائلِ (الَّذين كانوا أحياءً منهم بالطَّبع) جنباً إلى جنب. وحظي الحدثُ باهتمامِ القوى السِّياسيّةِ والنّشطاءِ السّياسيين في البلادِ، وكُتِبَ عنه في الصّحافةِ المحلّيَّةِ. وكسبتْ هذه التَّجربةُ عدداً من المثقَّفين البارزين الَّذين لم تكن لهم صلةٌ سابقةٌ بالحزبِ الشّيوعيِّ الأردنيِّ أو حتَّى بأيّ حزبٍ آخر.
وذهبنا نحو المؤتمرِ، وانتخبنا الهيئاتِ القياديّةَ للاتّحادِ، وأصبح للاتّحادِ حضورٌ ملموسٌ ليس محلّيّاً فقط، بل عربيّاً أيضاً، واتَّخذ الاتِّحادُ العديدَ من المواقفِ في القضايا المختلفةِ.
وأُنوِّه، هنا، بأنَّ اتِّحادَ الشّيوعيين الأردنيين كان الوحيدَ مِنْ بين القوى السِّياسيّة الأردنيّة الَّذي جرؤ على معارضةِ التّعديلاتِ الدّستوريّةِ الَّتي أُجرِيَتْ في العام 2014 ومنحت الملكَ صلاحيّاتٍ إضافيّةً؛ إذ أصدر بياناً واضحاً قويّاً في هذا الشَّأن.
وأنوّه، هنا أيضاً، بأنَّ عيدَ العمّالِ الَّذي أعقب إشهارَ اتِّحادِ الشّيوعيين الأردنيين، كان عيداً مختلفاً؛ إذ لأوَّل مرَّة منذ الخمسينيّات تنطلقُ مسيرةٌ شيوعيّةٌ كبيرةٌ في عمَّان، فملأت الرَّاياتُ الحمراءُ شارعَ طلال في وسط البلد في عمّان، وكان منظراً بهيجاً يدعو إلى الفخر.
وهنا، يجب أن أقولَ، للإنصافِ، إنَّه ما كان لتجربةِ الاتِّحاد أن تتحقَّق آنذاك لولا الدَّعم والمساندة لها الَّتي قدَّمتها لها المجموعاتُ الشّيوعيّةُ المنظَّمةُ، وخصوصاً الحزبَ الشّيوعيَّ الأردنيَّ. وشهدت التَّجربةُ ما يمكن أن أسمّيه نكرانَ ذاتٍ من المجموعاتِ الشّيوعيّةِ المختلفةِ – ومن الحزبِ الشّيوعيِّ الأردنيِّ خصوصاً – حيث كان تمثيلُ هؤلاء في الهيئاتِ القياديّةِ للاتّحادِ في حدودِه الدّنيا. وعلى سبيل المثال، كان للحزبِ الشّيوعيّ الأردنيّ ممثِّلٌ واحدٌ فقط في المكتب التَّنفيذيِّ (الَّذي هو نظير المكتب السِّياسيّ في الأحزاب الشّيوعيّة) مِنْ بين 15 عضواً. الأكثريّةُ المطلقةُ في هذه الهيئاتِ كانت للشّيوعيين غير المنتمين للتنظيماتِ القائمةِ.
أكتفي بهذا القدرِ من الحديثِ عن هذه التَّجربةِ، وسأتحدَّثُ لاحقاً عن سببِ (أو أسباب إخفاقها)، لأتحدَّث الآن عن المساعي الحالِّيَّةِ لإعادةِ توحيدِ الشّيوعيين. بدأت المساعي الحالّيّةُ قُبيل تفشِّي وباءِ كورونا بقليل، وكانت بمبادرةٍ من الرِّفاقِ في قيادةِ الحزبِ الشّيوعيّ الأردنيّ؛ حيث دُعي عددٌ محدودٌ من الرِّفاقِ (مِنْ خارجِ الحزبِ ومِنْ داخلِه) للتَّداول في مبادرةٍ لتوحيدِ الشّيوعيين الأردنيين في إطارِ الحزبِ الشّيوعيّ الأردنيّ القائمِ، وعقدنا أكثرَ من اجتماعٍ في مقرِّ الحزبِ في عمّان، وكانت هذه اللقاءاتُ تدعو إلى التَّفاؤلِ؛ لكن، سرعان ما تفشَّى وباءُ كورونا، وبدأ الحظر الشّاملُ، ودخلتْ الحياةُ – ليس في بلادنا وحدَها.. بل في العالمِ كلِّه – في مسارٍ آخر، وانقطعتْ لقاءاتُنا. ثمّ، بعد بدءِ الفتحِ الجزئيِّ للحظرِ، أُعلِنَ عن الانتخاباتِ النِّيابيّةِ، وقرَّر الرِّفاقُ في الحزبِ وائتلافِ الأحزابِ اليساريّةِ والقوميّةِ المشاركةَ في الانتخاباتِ، واختلفنا معهم في قرارِهم هذا، ثمّ شُكِّلت اللجنةُ المسمّاة لجنة إصلاح المنظومة السِّياسيّة، برئاسةِ رئيسِ الوزراءِ الأسبقِ سميرِ الرّفاعي، وقرَّر الرِّفاقُ في الحزبِ (وأحزاب أخرى) المشاركةَ فيها، واختلفنا معهم أيضاً، وجاءت نتائجُ عملِ هذه اللجنةِ مخيِّبةً جدّاً، بل نقيضَ أهدافِها المعلنةِ. وبعد ذلك، تحرَّك بعضُ الرِّفاقِ، وطرحوا مبادرةً جديدةً للوحدة، وتواصلوا مع الأطرافِ والأشخاصِ المعنيين، وتوافقوا معهم على صيغةٍ مشتركةٍ لنداءٍ يُوجَّه إلى جميع الشّيوعيين للعمل معاً مِنْ أجلِ وحدةِ الشّيوعيين في إطارِ الحزبِ الشّيوعيِّ الأردنيّ. وكان التَّجاوبُ جيّداً، ووقَّع النِّداء 105 من الرَّفيقاتِ والرِّفاقِ مِنْ نشطاءِ الشّيوعيين. ومنهم عددٌ غيرُ قليلٍ من الشَّخصيّاتِ العامّةِ والثَّقافيّةِ والفكريّةِ الَّذين لم تكن لهم علاقةٌ سابقاً بالحزبِ الشّيوعيِّ الأردنيّ. الأمرُ الَّذي يعني أنَّ مسألةَ وحدةِ الشّيوعيين تحظى باهتمامِ أوساطٍ أوسعِ مِنْ تلك الَّتي كنّا عادةً نتحرَّكُ في إطارِها، وهؤلاء الرِّفاقُ موافقون سلفاً ليس على المشاركةِ في توجيه هذا النّداءِ فقط، بل أيضاً على الانتسابِ إلى الحزبِ الشّيوعيِّ الأردنيِّ في صيغتِه الجديدةِ.
انتهينا مِنْ إصدارِ النِّداءِ، والآن يجري إعدادُ مشروعٍ (أو حتَّى مشاريع) برنامجٍ سياسيٍّ جديدٍ، وثمّة لجنة تُعدُّ للمؤتمرِ التَّأسيسيِّ للحزبِ، حيث سيتمُّ في هذا المؤتمرِ إقرارُ البرنامج السِّياسيّ الجديد، وإقرارُ نظامٍ داخليٍّ جديدٍ، وانتخابُ قيادةٍ جديدةٍ للحزبِ.
هل يجب أن نتفاءل؟
الصّيغة الجديدة الَّتي صدر بها نداءُ وحدةِ الشّيوعيين، تدعو إلى التَّفاؤلِ، ويمكن أن تتعزَّز نسبةُ التَّفاؤلِ بعد إنجازِ كلِّ خطوةٍ من الخطواتِ اللاحقة المتَّفقِ عليها.
وفي كلِّ الأحوالِ، سواء نجح هذا المشروعُ أم لا، فنحن متمسّكون بالتَّعاونِ مع بعضِنا البعض، ومتمسّكون بأن ندير خلافاتِنا بهدوءٍ ومِنْ دون أيّ خصوماتٍ أو عداواتٍ شخصيّة. وهذا ما نجحنا فيه منذ تأسيسِ اتِّحادِ الشّيوعيين وحتَّى الآن.
وآتي، هنا، إلى تقديمِ رأيي – كما وعدتُ في موقعٍ سابقٍ مِنْ هذه الورقةِ – في أسبابِ فشلِ تجربةِ اتّحادِ الشّيوعيين الأردنيين. كانت تجربةُ اتِّحادِ الشّيوعيين تعتمد على الابتكارِ والخيالِ والسّعيِ لاستكشاف حلولٍ جديدة لمشاكل مستعصية. لكنّ بعضَ الرِّفاقِ ظلّوا يقيسون التَّجربةَ بما تعوّدوا عليه، فكانوا يتعاملون مع الاتِّحادِ كما لو كان حزباً، وبعضهم كان يعمل طوالَ الوقتِ لتحويلِه إلى حزبٍ رديفٍ للأحزابِ الموجودةِ.. وخصوصاً الحزبَ الشّيوعيَّ.
المسالةُ الثَّانية، هي أنَّ الاتِّحادَ حاول طرحَ خطابٍ جديدٍ ومواقفَ جديدةٍ، ونجح في ذلك إلى حدٍّ ما؛ لكن، عندما أردنا أن نتقدّم خطوةً أوسعَ في هذا المجالِ، لنطوّر خطابَنا ونطوّرَ مواقفنَا، تعثَّرتْ التَّجربةُ. لقد كان التَّقدّمُ إلى الأمام ضروريّاً؛ لأنَّه بخلاف ذلك تراوحُ التَّجربةُ في مكانِها وتتآكلُ.
شكّلنا – آنذاك – لجنةً مِنْ أربعةِ رفاقٍ لإعدادِ وثيقةٍ سياسيّةٍ أساسيّةٍ مختلفةٍ.. وبعد أشهرٍ تمكَّنت اللجنةُ مِنْ إعدادِ وثيقةٍ شاملةٍ وغيرِ مسبوقةٍ؛ لكن، عندما طلبنا مِنْ أطرافِ الاتّحادِ تبنِّي هذه الوثيقةِ ونشرها في منابرِها؛ ووجهنا بالمماطلةِ إلى ما لا نهاية. وهنا، حدث الجمودُ، ولم يبقَ إلا وقوع حدثٍ تفصيليٍّ صغيرٍ ليقلبَ كلَّ شيءٍ رأساً على عقب؛ فجاءت انتخاباتُ نقابةِ الأطباءِ وما دار حولها مِنْ خلافٍ محتدمٍ، ثمّ انتخاباتُ رابطةِ الكتّابِ، فكان هذان الحدثان التَّفصيليَّان هما الشَّعرةُ الَّتي قصمتْ ظهرَ البعير، ليصبح اتِّحادُ الشّيوعيين بعد ذلك خاوياً على عروشه. صفحة الاتِّحاد لا تزال موجودةً في الفضاءِ الإلكترونيِّ، ولا تزال تحظى بالتَّفاعلِ ويُنشَرُ فيها؛ لكنَّ الاتِّحادَ لم يعد موجوداً في الحقيقة.. وإن كان أعضاؤه موجودين.
الوحدة ليست مجرَّدَ حالةِ جمعٍ بسيطةٍ لأفرادٍ ومجموعاتٍ، بل هي أيضاً كيف يجتمع هؤلاء وعلى أيّ أُسس ومِنْ أجل ماذا. هي، بالأحرى، مشروطة بتحويل الكمَّ إلى كيفٍ.
وفي مشروعِ الوحدةِ الجديدةِ، يجب أن نستفيدَ مِنْ كلِّ تجاربِنا السَّابقةِ (ومِنْ ضمنها، تجربةُ اتِّحادِ الشّيوعيين). الآن يجب أن نتجاوز عقليّةَ المحاصصةِ، فننتدبُ للهيئاتِ المختلفةِ مَنْ يمكن أن يفيدوا مجالاتِ عملِها، وخصوصاً مَنْ هم أصحابُ اختصاصٍ في أعمالِها؛ ويجب أن يُتاح المجالُ واسعاً أمامَ مبادراتِ الرِّفاقِ جميعاً، وأن تكون أبوابُ الحوار مفتوحةً، وحقُّ الخلافِ في الرَّأيِ والنَّقدِ مصوناً.
يجب أن ننفتحَ على أوسعِ قطاعاتِ الشّعبِ ونفهمَها ونكونَ معها وندافعَ عنها. الشَّعبُ الآن موجودٌ في الميدان. قسمٌ منه موجودٌ في الشّوارعِ، والقسمُ الأكبرُ حاضرٌ بقوّةٍ في الفضاءِ الإلكترونيّ. والخطوط الأساسيّة لبرنامجنا هي ما يطلبونه ويعملون مِنْ أجلِه. بالطَّبعِ، توجد تشوّهاتٌ كثيرةٌ في طروحاتِ النَّاسِ؛ لكنَّ هذا طبيعيّ، ووجودُنا معهم هو وحده ما يُشذِّب طرحَهم وخطابَهم ويرتقي بهما. أنا أحكي هذا الكلامَ مِنْ واقعِ تجربتي؛ إذ كنتُ على صلةٍ كبيرةٍ بمختلف مجموعاتِ الحِراك وأشخاصِها، وبمختلفِ الفاعلين السِّياسيينِ في عمَّان والمحافظاتِ، وأثَّرتُ في الكثيرِ منهم وتأثَّرتُ بهم وتعلَّمتُ منهم. وتجربتي في «لجنة المتابعة الوطنيّة»، على سبيل المثال، كانت مفيدةً لي كثيراً.
لجنة التابعةُ، للرِّفاق مِنْ خارج الأردن الَّذين ربّما لا يعرفونها، تضمُّ ضُبّاطاً متقاعدين مِنْ أعلى الرُّتب العسكريَّة وأصغرها، وتضمّ رجالَ دولةٍ سابقين.. وزراءَ سابقين ومحافظين سابقين في وزارة الدّاخليّة وضُبّاطَ أمنٍ متقاعدين ونُوّاباً سابقين وعدداً غيرَ قليلٍ من المناضلين اليساريين والقوميين.. الخ.
ومع ذلك، تمكَّن هؤلاء جميعاً من الاتِّفاقِ على خطوطٍ سياسيّةٍ رئيسةٍ متقدّمةٍ، ورفعوا سقفَ الخطابَ السِّياسيَّ، فوضعوا النّقاطَ على الحروف، وسمّوا الأمورَ بمسمّياتِها الحقيقيّةِ.
لقد تحمَّلتُ، أنا شخصيّاً، مسؤوليّةَ صياغةِ الخطابِ السِّياسيِّ للّجنةِ، بالاتِّفاقِ مع رموزِها الأساسيين الآخرين، ورضينا جميعاً بأن نكونَ رأسَ حربةٍ للمعارضةِ الأردنيّةِ، وأن نعمل مِنْ أجلِ رفعِ سقفِ حُرِّيَّةِ التَّعبيرِ – مهما كان الثَّمن – بإقدامِنا وجرأتِنا على تجاوزِ القيودِ الَّتي يضعُها النَّظامُ على حُرِّيَّةِ التَّعبيرِ وليس بالاكتفاء بالمطالبة بذلك فقط. فالحُرِّيَّة تُؤخَذُ ولا تُعطى. وقد سُجنَ الكثير من الحِراكيين ومِنْ أعضاء اللجنة.. خصوصاً الشَّباب، ولوحق كثيرون منهم في رزقهم.. رجالاً ونساءً، عقاباً لهم على مواقفهم الشُّجاعة.
وأنا أعتقدُ أنَّه، لكي تنجحَ تجربةُ الوحدة الجديدةِ للشّيوعيين، يجب أن يرتقي خطابُنا ويكون أكثرَ جرأةً وشجاعةً وأن نكون دائماً مع النَّاس.
لقد استُقدِمَ النِّظامُ الهاشميُّ إلى البلادِ على هامشِ وعدِ بلفور ومِنْ أجل تسهيلِ تنفيذه. جاء عبد الله الأوَّل إلى البلادِ وقد كانت تمورُ بالحراكاتِ السِّياسيّة، ابتداءً بمؤتمر قَمْ في العام 1920 ومؤتمر السّلط ومؤتمر أم قيس. وفي هذه المؤتمرات كان الحديث يدور عن تحريرِ سوريا ورفضِ الاستيطانِ الصّهيونيِّ في فلسطين ورفضِ وعدِ بلفور الذَي كان قد تكشّف منذ مدّةٍ قريبةٍ. وفي مؤتمر أمّ قيس تقرَّر تشكيلُ فصيلٍ مسلّحٍ لمهاجمةِ المستوطناتِ الصّهيونيّة، بقيادة الشَّيخ كايد المفلح العبيدات. وبالفعل تمّ تشكيلُ هذا الفصيلُ، وشنّ هجوماً باسلاً على المستوطناتِ الصّهيونيّة في بيسان، وأُستُشهد قائدُه الشَّيخ كايد المفلح وعددٌ مِنْ رفاقِه.
وجاء عبد الله الأوَّلُ إلى البلادِ بدعوى إطلاقِ ثورةٍ ضدّ الاحتلالِ الفرنسيّ لسوريا، لكنّه ما إن وصل إلى عمَّان حتَّى مضى إلى القدس وقابل تشرتشل (وزير المستعمرات البريطانيّ آنذاك)، بحضورِ المندوبِ السّامي هربرت صموئيل. استمرَّ اللقاء نصفَ ساعةٍ في بعض الرِّواياتِ وساعةً في بعضِها الآخر، وتقرَّر فيه تنصيبُ عبد الله الأوَّل حاكماً للأردن تحت التَّجربة لمدّة ستّة أشهر، براتبٍ قدره 4000 جنيه تدفعُها الحكومةُ البريطانيّة. وأُتُّفِقَ على كتمانِ بقيّة ما اتَّفقوا عليه.
ومنذ ذاك، تمّ تهميشُ الشَّعبِ الأردنيّ واستبعاده، وفُرضَ على البلاد حُكمٌ فرديٌّ مُطلق (أوتوقراطيّ) وظيفيّ تابع وفاسد ومستبدّ.
والحال هذه، فإنَّه يجب على أيَّ حزبٍ يُريدُ أن يُؤخذَ بجدِّيَّة أن يضع النُّقاطَ على الحروفِ في هذه المسألةِ. الأحزاب القائمةُ، تحمِّل المسؤوليّةَ عن سياساتِ النِّظامِ اللاوطنيّةِ واللاديمقراطيّةِ للحكومةِ أو لما تسمِّيه «الحكومات المتعاقبة» أو لهذا الوزير أو ذاك. وهذا في حين أنَّ هذه الحكومات لا تملك مِنْ قرارها شيئاً، والقراراتُ الأساسيّةُ تُملى عليها عبر موظَّفين في الدّيوان الملكيّ، وما يُملي على الجميع في النَّهاية هو السَّفارةُ الأميركيّةُ والسَّفارةُ الإسرائيليّةُ.
الدّيوانُ الملكيُّ أصبح دولةً فوق الدّولة، ففيه الآن حوالي أربعة آلاف موظَّف يقومون بالاختصاصات المختلفةِ للحكومةِ. والبلاد نُهِبَتْ وبيعت بالمفرَّق والجملة، والسِّيادة الوطنيّة لا وجود لها، ومؤخَّراً استجلب النِّظّام القوَّاتَ الأميركيّةَ إلى البلادِ، وفتحَ البلاد للقواعدِ العسكريّةِ الأميركيّةِ. وتنتشر الآن على الأرضِ الأردنيّةِ 15 قاعدة عسكريّة أميركيّة. وهذا إضافة إلى اتَّفاقيّةِ التعاونِ الأميركيّةِ الأردنيّةِ المذلّة الَّتي تصلُ في شروطها إلى مستوى شروطِ الاحتلالِ؛ حيث يتمتّع الجنودُ الأميركيون بحقوقٍ خاصّةٍ على الأرضِ الأردنيّةِ لا يتمتع بها الأردنيّون. والمصالحُ الوطنيّةُ الآن بمختلف ألوانِها مرهونة للأميركيين والإسرائيليين، والشَّعبُ يجوعُ ويعرى وأحوالُه مِنْ سيّئٍ إلى أسوأ. وهذا بينما كشفتْ وثائقُ بندورا عن أنّ الملك اشترى 15 قصراً في الخارج.. هذا إضافة إلى ما كان قد سرَّبه البنك الدّوليّ عن تحويلِ قروضٍ منه بقيمة 3 مليارات إلى الملاذات الآمنة.
وبعد التَّعديلاتِ الدّستوريّةِ الأخيرةِ، انتهى الدّستورُ (مع أنَّ وجودَه في السَّابق كان شكليّاً لتزيين الحكمِ الفرديِّ المطلقِ). ولم يعد مِنْ معنى للمادّةِ الأولى في الدَّستورِ، وهي المادَّةُ الَّتي يتأسَّسُ عليها باقي الدّستورِ، إذ أنَّها تنصُّ على تعريف نظامِ الحُكمِ، فتعرِّفُه بأنَّه نيابيٌّ ملكيٌّ وراثيّ. النِّظام الآن ملكيٌّ وراثيٌّ فقط. وأصبحت المادَّةُ الَّتي تنصُّ على أنَّ «الأمّة مصدر السّلطات» بلا معنى، فالقرارُ، دستوريّاً (بعدما كان واقعيّاً)، بيدِ شخصٍ واحدٍ هو الملك، وله أن يتصرَّف بالبلادِ والشَّعبِ كما يشاء، وهو بالفعل يتصرَّفُ ويقرِّرُ مصيرَ البلادِ والشَّعبِ كما يشاء، مع أنَّه بنصّ الدّستورِ «غيرُ مسؤولٍ». وفوق ذلك، فهو لا يريد أن يُساءلَ أو يُنتَقدَ. ولا تزال توجد في البلاد قوانين قروسطيّة غايتُها تكميمُ أفواهِ النَّاس ومنعهم مِنْ حقِّهم في النَّقدِ والمساءلةِ. ومنها المادّةُ القانونيّةُ الَّتي تُعاقِبُ على ما يُسمَّى «إطالة اللسان»، والمادَّة القانونيّة الَّتي تُعاقبُ على جُرمٍ يُسمَّى «قدح المقامات العليا»، وقانون الجرائم الإلكترونيّة.. الخ.
النِّظام الهاشميّ في الأردن واحدٌ مِنْ آخر عشرةِ أنظمةٍ ملكيّةٍ أوتوقراطيّة في العالم. وهي كلّها عربيّة باستثناءِ سلطنة بروناي. حيث يوجد 42 نظام ملكيّ (بمسمَّيات: مملكة أو دوقيّة أو سلطنة أو إمارة أو إمبراطوريّة) 32 منها الملك فيها لا سلطات له، بل له منصب رمزيّ فخريّ.
البرنامجُ السِّياسيُّ، يُشتقُّ من الواقعِ الموجودِ، وليس من الرَّغباتِ أو الخيالِ. الواقع يقول إنَّه توجد في البلاد أوتوقراطيّة قروسطيّة، ويجري التَّصرفُ بالبلادِ كما لو كانت مزرعةً خاصّة، وبالشَّعبِ كما لو كان مجموعةً من العبيدِ أو الخدمِ يعملون في هذه المزرعةِ.
هذا أمرٌ تجاوزَه الزَّمن. والشَّعب، في غالبيَّته العظمى، لم يعد يقبل به. القاعدةُ الاجتماعيّةُ للنِّظامِ الآن في الحضيض، وهو يعيشُ على الأجهزةِ وحدِها (بإيحاءاتها الطِّبِّيّة والسّلطويّة)، كما كتبتُ وتحدَّثتُ مراراً. ومثلما أنَّه ما مِنْ إنسانٍ يعيش على الأجهزةِ إلى ما لا نهاية، فإنَّه ما مِنْ نظامٍ يعيش على الأجهزة إلى ما لا نهاية.
البرنامجُ السِّياسيّ لكلِّ حزبٍ سياسيٍّ أردنيٍّ (وبالأخصّ الحزب الشّيوعيّ) يجب أن لا يتغافل عن واقع السُّلطةِ الفرديّةِ المطلقةِ. ما مِنْ أحدٍ في المعارضةِ الأردنيّةِ يدعو إلى إسقاطِ النِّظام، لكنَّ الإصلاحَ غيرُ ممكنٍ. والمطلوب تغيير ديمقراطيّ عميق.. لا أقلّ؛ بحيث ينتهي تزييفُ إرادةِ الشَّعب، ويتمّ تمكينُه من التَّعبيرِ عن إرادتِه بشكلٍ صحيحٍ لا لبس فيه، ليصبح الشَّعبُ فعلاً (وليس قولاً فقط) مصدرَ السُّلطات، ولتكون الحكومةُ المنبثقةُ مِنْ مجلسٍ نيابيٍّ منتخبٍ انتخاباً صحيحاً هي صاحبةُ الولايةِ العامَّةِ في الدّولةِ وعلى الدّولةِ ولا ينازعُها في ذلك أحدٌ، وليكون الملكُ رمزاً للدّولةِ، ويقفَ على مسافةٍ واحدةٍ مِنْ جميعِ السّلطاتِ وجميعِ التَّيَّاراتِ السِّياسيّةِ ومختلفِ الأفكارِ والقوى والتَّعبيراتِ الاجتماعيّةِ والثَّقافيّةِ، ولا يتدخَّلُ بقراراتِ أجهزةِ الدّولةِ وصلاحيّاتِها، وليصبحَ الدّيوانُ الملكيُّ جهازاً محدودَ الوظائف والموظَّفين، غايتُه ترتيبُ مواعيدِ الملكِ وتسهيلُ شؤونِه وأعمالِه البروتوكوليّةِ.
ومن المطالب الأساسيّة أيضاً، استعادة ثروات البلاد الوطنيّة المهدورة، والأموال العامّة المنهوبة والمسروقة.
أنا لا أطلب من الحزبِ الشّيوعيِّ الأردنيّ أنْ ينصَّ في برنامجهِ حرفيّاً على هذه الأمورِ كلِّها؛ لكن يجب أن يكون واضحاً في تشخيصِه لطبيعةِ النِّظامِ كنظامِ حكمٍ فرديٍّ مطلق، والمطالبةِ بحياةٍ ديمقراطيّةٍ عصريّةٍ كاملةٍ. فكيف يمكن للقوى السِّياسيّةِ أن تعمل وتحقَّقَ برامجاً سياسيّةً جدّيَّةً في ظلِّ نظامٍ كهذا؟ هذه مسألةٌ أساسيّةٌ وتمثّلُ عتبةً للحياةِ السِّياسيّةِ بمجملِها، وعتبةً لتحقيقِ مطالبِ الشَّعبِ الاجتماعيّةِ الاقتصاديّةِ والسِّياسيّةِ وإنجاز التَّحرُّرِ الوطنيِّ وإنهاءِ التَّبعيّةِ.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تشدد مع الصين وتهاون مع إيران.. تساؤلات بشأن جدوى العقوبات ا


.. جرحى في قصف إسرائيلي استهدف مبنى من عدة طوابق في شارع الجلاء




.. شاهد| اشتعال النيران في عربات قطار أونتاريو بكندا


.. استشهاد طفل فلسطيني جراء قصف الاحتلال الإسرائيلي مسجد الصديق




.. بقيمة 95 مليار دولار.. الكونغرس يقر تشريعا بتقديم مساعدات عس