الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كارثيّة الإختزال

نجيب علي العطّار
طالب جامعي

(Najib Ali Al Attar)

2022 / 3 / 29
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


الاختزال والتعميم وجهان لعملة "البؤس الثقافي" المتداولة في مجتمعات لا يُمكن تأطيرُها بأُطر جغرافيّة أو غير جغرافيّة؛ كالقوميّة، الدينيّة أو غيرها. يقوم الاختزال بتهيئة البيئة الحاضنة للتعميم غيرِ الجائز، بما يحملُه من لاعلميّة، لنرتقي بعد التعميم الى مرحلة التنميط، أو التصنيف، وبالتالي الى اطلاق أحكامٍ غير منطقيّة، أو منطقيّة غيرِ اتّفاقيّة، على القضايا والأفكار والأشخاص. في ظل هذه الحالة العبثيّة من التفكير، لا نكتفي فقط بتحويل القضايا الجزئيّة الى كليّة، بلغة المناطقة، وانما ننزلق الى جعل "القضايا المُهملة" "قضايا طبَعيّة". لنُشكّل بذلك حالةً ثقافيّة مركّبة من العبثيّة والتشوّش والاضطراب، تنعكس بدورها على المجتمعات، محوّلةً "الاجتماع" الى "تجمّع" وجاعلةً من "المشكلة" و"الحل" خطّين مستقيمَين لا يلتقيان أبدًا.

تظهر كارثيّة الاختزال في ميدانَين، أو حيّزين، من ميادين الصراع التي تنفصل مرّة وتتّصل مرّات؛ ميدانَيّ الدين والسياسة. الاختزال لغةً هو اقتطاع الشيئ، أو حذف بعض أجزائه. أمّا اصطلاحًا فأقصدُ بـ "الاختزال"؛ حدُّ المفهوم/ التصوّر ببعض مصاديقِه، أو مصاديق أنواعِه، أو مُمارسِيه، دون اهتمامٍ كافٍ بالفاصل الزماني أو المكاني، أو كليهما، بين ولادة المفهوم وولادة أنواعِه ومصاديقه ومُمارسيه. عبر ممارسة الاختزال، وفق هذا التعريف، نُطلقُ أحكامنا على مفهوم التديُّن، مثلًا، بعينٍ تَلحظُ مُمارسةَ المتديّنين لتديّنِهم، ثم نُسقط حُكمنا هذا على كلّ الدّين، لأنّنا "اختزلنا" الدّين كلَّه بالتديّن، و"اختزلنا" التدّين بالمتديّنين الذين اعتبرناهم، سهوًا، مصاديقَ التديّن.

يمكننا، بلحاظ طبيعة المُختزَل، أن نُقسّمَ الاختزال الى قسمين؛ بسيط/ تبسيطي ومركّب. الاختزال البسيط هو اختزالٌ للأشياء بشيئ واحد من النوع ذاتِه بحيث أن الشيئ/ الفرد يصبح دالًا على النوع، كاختزال سوائل التعقيم والتنظيف بـ "ديتول"، بحيث أن كلمة "ديتول" لا تعني، من حيث المقصود بالضرورة، سائل تعقيم من ماركة "ديتول"، وانّما أي سائل تعقيم متوفّر في البيت. يُستخدم هذا الاختزال بهدف التبسيط والتسهيل، وأحيانًا للمُفاخرة. أمّا الاختزال المُركّب فهو إختزال للأنظمة الفكريّة/الثقافيّة بتشخّصات المُنتظمين بها، أو المُشتغلين فيها، بحيث يكونُ المُختزَل به دالًّا بالضرورة على كلّ المُختزَل، كاختزال الدين بالمتديّنين في خطوة تمهيديّة، واعية أو غير واعية، لنقد كلِّ الدين بنقدِ كلّ، أو بعض، متديّنيه. والعلاقة بين قسميَ الاختزال هي علاقة اتّكاليّة، أو اعتماديّة، حيث أن الاختزال البسيط يُعطي العقل قابليّة لتقبّل الاختزال المُركّب وممارسته.

بلحاظِ المُختزِل، يختلف الاختزال المُركّب عن البسيط في أنّ الأخير يكون لاواعيًا دائمًا، أو فطريًا بصورة ما، أمّا المُركّب فهو اختزالٌ واعٍ وموجّه لأغراض صراعيّة، أو إصطراعيّة، وما تحملُه من حاجةِ المتصارعين الضروريّة الى السيطرة على جماعاتِهم. فمن جهة، تقوم معظم "التيّارات الدينيّة" باختزال "الدين الحق" بفهمِها الخاص جدًا للدّين، ممّا يجعل الاختلاف معها مساويًا بالضرورة للـ "لادين" أو "الكفر". ومن جهةٍ ثانية، تقوم معظم التيّارات المناهضة للدّين باختزال "الدين الحق" بـ "جماعات" ترتكب جرائمَها باسم الدين. الطرفان مشتركان إذًا في اختزال مُختَزَلٍ واحد؛ الدين. إضافةً الى اشتراكِ كلٍ منهما في الوسائل والغايات؛ الاصطراع، بمعنى افتعال صراعٍ ليس موجودًا بالضرورة، كوسيلة للسيطرة.

حين يُطرح شعار "الدولة الاسلاميّة" ينقسم المطروحُ عليهم الى قسمين؛ واعٍ وغيرُ واعٍ. القسم غير الواعي يقوم بالرفض أو القبول بالطرح لذاتِ الطرح؛ دولة دينيّة/ اسلاميّة. أمّا القسم الذي يعي خطورة الاختزال ويُدرك تمظهراتِه سيُناقش طارِحَ الشعار في ثلاث قضايا قبل الحكم على الشعار بالرفض أو القبول؛ ما هو فهمكَ للدولة؟ وللدّين/الاسلام؟ وللدولة الدينيّة/الاسلاميّة؟ بغير البدء من هذه الأسئلة الثلاثة يُعدُّ كلُّ جدالٍ عقيمًا وغير ذي جدوى.

يقوم الاختزال اذًا بالتهيئة لتعميم صورة إطلاقيّة للمُختزَل ومن ثم تنميطُه وتصنيف الناس وفق المعايير التي تفرضُها هذه الصورة. ولأنّ الناسَ تميل بطبعِها الى التنميط، والى القابلين له، يُصبحُ المفكّرُ غيرُ القابل للتصنيف/التنميط منبوذًا ومستهجنًا ومُحاربًا من قبل التصنيفيّين/التنميطيّين. فنحن محبوبون إذًا بقدر ما نكون مطواعين لمعايير تُمكّن الناس من تصنيف أفكارنا وتنميطِها.

تبقى الاشارة الى أخطر ما في الاختزال وهو ميزتُه التضاعفيّة، اذا صحّ التعبير، إذ أنّه لا يتوقّف عند حدٍ معيّن، بل تستمرُّ دائرةُ المُختزِل في التَضَيُّق حتى تصيرُ نقطةً لا تسع الا المُختزِلَ، و"شيخَهُ"، وتُصبح "أناه" هي محور الصراع، بل محور الكون، الأمرُ الذي يُنتج لنا مشروعَ مجرمٍ ذي قابليّة كبيرة للانطلاق، في أيّةِ لحظة، الى حربِه ضدَّ الـ "لاأنا".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مئات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى وسلطات الاحتلال تغلق ا


.. المقاومة الإسلامية في لبنان تكثف من عملياتهاعلى جبهة الإسناد




.. يديعوت أحرونوت: أميركا قد تتراجع عن فرض عقوبات ضد -نتساح يهو


.. الأرجنتين تلاحق وزيرا إيرانيا بتهمة تفجير مركز يهودي




.. وفاة زعيم الإخوان في اليمن.. إرث من الجدل والدجل