الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحياة تبدأ بعد السبعين

شريف حتاتة

2022 / 3 / 31
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


------------------------------------------

رن صوتها الودود ، المرح فى أذنى كأنها أصبحت معى فى الحجرة . تحركت فى نفسى شعرة من القلق .. ترى ما سبب اتصالها بنا بينما لم يمر سوى يومان على مكالمتنا الأخيرة لها فى القاهرة ؟ .
سمعتها تقول : " ازيك يا شرف " . " كل سنة وأنت طيب " .
مرت لحظة قبل أن التقط رسالة صوتها المرح . فأنا لا احتفل بعيد ميلادى .. فى الأعماق أحب أن احتفل ، لكننى رفضت الطقوس ، والمظاهر منذ زمن ، ثم أدركت أنها ليست كاذبة دائما .
مرت السنون دون أن أحتفل ، ودون أن يحتفل به أحد . الآن لم أعد اهتم. أتركه يمر ولا ألتفت ، أو يأتينى خاطر سرعان ما يتبدد .. ربما هى الواحد والسبعون سنة من العمر تحدثنى عن انقضاء الزمن . أقول لنفسى : طالما أن كل ما حدث حدث فما الذى يمنع من حدوث ما بعده ؟ . ربما عندى نوع من التعفف ، أو القدرة على نسيان الزمن . أو عندى الآن اكتفاء بما أنجزته . أنتظر بلا قلق . ظل الطموح ، وراح الأرق . ترددت وخفت وجبنت ، ولكنى قاومت ، وفى النهاية لم انحن . قضيت حياتى فى جهد متجدد . فأصبحت قادرا على رؤية السعادة فى المطر ينهمر خلف الزجاج النافذة ، وأنا جالس فى مكتبى . فى الزهور تتمايل على أعناقها ، والأشجار العالية . فى نظرة حب ، وتقدير مشرقة . فى لمسة حانية من يد نوال زوجتى ، عندما أستيقظ ، فى كأس من شراب ومعها ضحكة صافية . فى تصور خيالى لعالم ، سيأتى من بعدنا . فى أحلام أولادنا ووجودهما معنا حول المائدة . فى قطعة لحم محمرة شهية .
ربما أرى السعادة فى أن أفتح نوافذى المغلقة . لا أحد يحتفل بعيد ميلادى ما عدا فتاة واحدة . فتاة شابة شاب شعرها منذ زمن . عيناها عسليتان ونظرتها متأملة . نعشق العرقسوس ، والشيكولاتة من غير لبن . ضحكتها فيها طفولة وقلمها يتحدث بلغة نابضة تنفرد بها هى وحدها . إنها إبنتى " منى حلمى " أو إذا أردنا الدقة إبنة نوال من زواج سابق ، ولكن ما الفارق ؟ . إنها إبنتى لا تترك عيد ميلادى يمر دون أن تحتفى به ، وتهنئنى ولو كنت مسافرا آلاف الأميال .
إذا كنت فى القاهرة تدعونى إلى شقتها فى الأدوار العالية ، لأطل منها على أبراج محطة شمال القاهرة ، على الطاقة الحمراء تومض من عيون أبراجها ، على الموت البطىء يتجمع فى سموم سمائها . فأديرنظراتى بعد قليل نحو الشمس الغاربة تنكسب ألوانها فى مياه نيلنا ، وأرتشف من القهوة التى تصنعها لى جالسا على الشرفة ، شاردا فى الأيام ، والسماء الملونة ، والمساحات الواسعة .
تدعو معى دائما أمها نوال ، وأخاها عاطف حتاتة ، يثير أسمه لدى نوال تمردا ضد النظام الذى أورثه اسم أسرتى وحدها ، وترك اسم أسرتها خارج الميراث . فيدور بيننا النقاش . أقول لها السعداوى اسم جدك ولا يمت بصلة إلى أسماء الإناث فتعترف بهذه الحقيقة . وترد قائلة كان يجب أن نسميه عاطف نوال شريف ، وأن نسقط السعداوى وحتاتة . أليست هى ، التى حملته فى بطنها ، وولدته ، وتحملت الجهد سنة وراء سنة ، إلى أن كبر ، وارتفعت قامته ؟.. أليست هى التى ولدت ُمنى وتحملت مسئوليتها وحدها ، الى أن أصبحت صبية فارعة ، مع ذلك لا تحمل اسمها ؟.
تظل غاضبة بذلك الغضب ضد الظلم الذى لا يضعف مع الزمن . ثم فجأة يعود إليها إشراقها بتلك القدرة العجيبة على ترك مرارات الحياة وراءها ، والابتهاج باللحظة الحاضرة .
........................................................................
اللحظات الغالية
--------------
فى أغلب الأحيان تستضيف مُنى فى هذه المناسبة ، عددا قليلا من أصدقائها يحكون لنا عن أحوالهم ، ونحكى عن أحوالنا . نتعرف منهم على آراء جيلهم ، على رؤيتهم للواقع الذى نحياه فى بلدنا . نسمع منهم آخر النكات وذكريات الطفولة ، وأحلامهم . ساعات نقضيها مع هؤلاء الشباب والشابات نجدد فيها نفوسنا ، ونسمع ما لا يتاح لنا أن نسمعه عادة .
مع كل احتفال تهدينى هدية صغيرة ، سلسة مفاتيح ملونة أو قميصا ، أو مفكرة . وإذا كنت غائبا فى أحد البلاد تصلنى منها بطاقة عليها منظر طبيعى ، أو زهور ، أو أطفال يلعبون وكلمات قليلة تعبر بها عن تمنياتها . كلمات تحمل فى طياتها ذلك الفيض من العواطف الذى لا ينضب معينه ، وكأنها تسحبه من منابع جوفية غائرة .
من أين تأتيها هذه القدرة على العطاء لكل منْ لم تغلق بابها أمامه؟ . فهى شديدة الانتقاء ، كأن بستان حياتها الذى تحرث فيه وتزرعه ، وترعاه ، يجب ألا تمتد إلى ثماره ، يد غاصبة أو جبانة لا تدرك قيمة الجهد والإحساس ، الذى بذلته لإنباته .
فى هذه المرة كنت فى " نورث كارولينا " بأمريكا . لم تصلنى البطاقة المعتادة ، وكنت منهمكا فى الكتابة ولا شىء يتغير فى حياتى ، ما عدا الذكريات والصور أرسمها بالكلمات ، ولكن فى ذلك الصباح قرب الساعة التاسعة دق جرس التليفون . كنت أقوم بغسل الأطباق بعد الإفطار ، فجففت يدى على منشفة المطبخ ، وأسرعت إلى الصالة لأرفع السماعة . جاءنى صوتها مثل أشعة الشمس تخترق الأشجار العالية " أزيك يا شرف ؟ كل سنة وأنت طيب .. عامل ايه ؟ صحتك كويسة ؟ واخد بالك من نفسك ولا لأ ؟ ".
اختطفتنى المفاجأة ثم غمرنى تيار من المشاعر الدافئة ، لم تنس . سألتها عن أحوالها . طلبت منها قضاء بعض الأمور التى تخصنى ، وقبل أن أعيد السماعة إلى مكانها ، قلت أشكرك على كلامك ، لم تنس يوم عيد ميلادى فضحكت ضحكة صغيرة معاتبة ، كأن ما كان لمثل هذا الخاطر أن يأتينى ، أن وقالت : أنسى ! أنسى أزاى ؟.
ذكرتنى فى هذا الصباح أننى مازلت على قيد الحياة ، رغم مرور إحدى وسبعين سنة على مولدى وأن فى الحياة أشياء فاتتنى ، ومازالت تفوتنى يجب أن أتوقف عندها .
.............................................................

الدراجة البنفسجية
-------------------
هكذا قبل أن تسقط الشمس خلف الأشجار وتختفى تماما غادرت المنزل ، وسرت على قدمى حتى الشارع التجارى ، " ناينث ستريت " ( أى الشارع التاسع ) القريب من بيتنا . دخلت أحد المحلات ، وخرجت منه ممتطيا دراجة جديدة ، لامعة . لونها بنفسجى ، ولها إحدى وعشرون نقلة موزعة على الفيتيسين الأيمن والأيسر ،وجرس رنان . دراجة خفيفة قوية تستطيع أن تحملنى مثل الطائر فوق الطرق ، أن تخترق حرم جامعة ديوك الذى يمتد فوق 575 فدانا من الأشجار ، والزهور ، والحشائش اليانعة ، أو أن تشق الغابات الكثيفة التى لا أرى لها نهاية ، الا عندما أهبط من الطائرة ، فى المطار الدولى لرالى درهام ، عائدا من القاهرة .
فقبل أن أعود إلى جامعة " ديوك " لأستأنف التدريس فيها ، قضيت شهرين فى معتكف أدبى للكتاب . أسس هذا المعتكف الروائى الألمانى الراحل
" هينريش بول " . حصل على جائزة نوبل فى الستينيات ، فخصص المبلغ الذى حصل عليه لإقامة أول بيت فى هذا المعتكف . وبعد وفاته تولت زوجته شئون المكان هى ، وعدد من الكتاب ، والشخصيات العامة . قاموا بتكوين مؤسسة للنشاط الثقافى ، وإدارة المعتكف وأضافوا إليه ثلاث بيوت صغيرة مفروشة بابسط الاثاث تحيطها حديقة ، ومساحة فدانين أو ثلاثة مزروعة بالتفاح ، والكرز ، والكمثرى ،والبرقوق ، وهناك اثنان من الخيول . مقره فى قرية " لانغنبرويش " على بعد تسعين كيلومترا من مدينة كولون بألمانيا .
لم تكن فى القرية محلات لبيع الأطعمة ، ولم تكن الأتوبيسات تمر عليها إلا فى مواعيد متباعدة ، فخصصت للضيوف فى البيوت ثلاث دراجات للتنقل من مكن إلى مكان ، والذهاب إلى أقرب مركز يبعد عنها مسافة أربعة كيلو مترات لشراء ما يحتاجون إليه . فعدت إلى ركوب الدراجات بعد انقطاع دام منذ أيام كلية طب قصر العينى ، أى ما يقرب من خمسين سنة.
فى البداية كنت أجد صعوبة فى المناورة ، وأعانى من اختلال فى التوازن والثبات . سقطت من على الدراجة عدة مرات ، مرة فى مصرف عميق ، لكن لحسن الحظ كان مغطى فى قاعه بحشيش عال ، وكثيف مما خفف قوة الصدمة التى أصابتنى . لكنى ظللت مصرا على قبول التحدى رغم المخاطرة . فأنا لست أقل من هؤلاء الشيوخ الألمان العواجيز ، ولا النساء الكبيرات السن ، اللائى يذهبن كل يوم فى الصباح على الدراجات لشراء حاجاتهن .
هكذا عرفت مرة أخرى ، وفى هذه المرحلة المتأخرة من العمر متعة المجهود الجسمانى الشاق ، حرمنى منه الجلوس الطويل خلف المكاتب . أصعد الهضاب فتنقطع أنفاسى ، وينهمر العرق من كل المسام ، ولكن بالتدريج ، أصبح قلبى قادرا على ضخ الدماء فى شرايين ظلت شبه مغلقة لمدة سنين . وأصبح صدرى يتسع للهواء، يندفع إلى الأكياس الصغيرة فى الرئتين فتتمدد لتحتويه . أحسست بالسموم المتراكمة فى جسمى تطرد منه يوما بعد يوم ، بالعضلات فى ظهرى ، وساقى تصلب كالعروق ، بالآلام التى كنت أعانى منها فى المفاصل تزول . ضاع منى الشحم ، واستقام عودى ، وارتفعت قامتى . لم أعد أحملق فى الأرض ، وأنا أسير . أصبحت أرفع عينى عن الأرض إلى الأفق الممتد .
أصبحت أستنشق رائحة الزهور ، والحقول والروث يحملها النسيم فى الأمسيات ، أو الصباح بعد الفجر بقليل ، والأشجار فى الغابة تدفنها الشمس ، أو يغسلها المطر . حول جسمى يلتف الريح ، وعلى جلدى تحت القميص تتسلل البرودة المنعشة . فأنا مثل كل الناس ولدتنى الطبيعة . أنا ابن الشمس ، والمياه ،والأرض ، والنبات . انتزعتنى المدينة ، وحاصرتنى باحكام فى الغرف الضيقة ، فلما سرت بين الحقول ، ورأيت الذرة والشعير ، عادت إلىً روائح قريتى ، فنمت الليل ملء جفونى ، مطلقا جسمى لأحلام خضراء كالزرع فى أرضنا .
سرت على شاطىء نهر الأودر . تأملت مياهه الصافية تتدفق من أعلى الجبال . تأملت الأشجار تهتز فى العاصفة وكأنها محيط . لمحت البرق يمد أصابعه المضيئة كأنه يبحث علىً دون سواى . سمعت الرعد غاضبا منذرا يحثنى على الإسراع . عدت إلى التوحش البدائى للإنسان يواجه الكون ، أشحذ كل طاقات الجسم لاخترق المسافات ، والمطر ن والرياح ، لأصعد الهضاب ، وأهبط منها مسرعا دون أن يفلت مِنى الزمام . تخلصت من الإحساس بالأعضاء العاطلة العاجزة بينما خلقت فينا لنستخدمها دون صعاب . فقد أبدعت فينا الطبيعة طاقات للحركة ، والخلق لا حدود لها . لكن المجتمع الذى نحيا فى ظله يفقدنا الإدراك لهذه الطاقات ، حتى يبقى الاستعباد قائما .
بعد هذه الأشهر التى قضيتها هناك ، عادت إلىً طاقات فقدتها . زادت ثقتى بجسمى ، وبقدراته . أستطيع الآن أن أرتاد المسافات فوق دراجتى ، أن أستمتع مثل الشباب والشابات ، أراهم يجوبون المسافات دون عائق .
عدت إلى المنزل ، وضعت الدراجة فى بئر السلم ، وجلست أمام مكتبى . ظل صوت ابنتى يتردد فى أذنى مثل رنين الجرس فى الصباح الباكر .
............................................................................

تبادل الأدوار
---------------------
سألت نفسى من أين تستقى هذه الفتاة فيض العواطف التى تمنحه لنا ؟. من أين جاءتها هذه الرغبة فى أن تشع على منْ حولها دائما ؟ ، مع ذلك تحمل معها حزنها ألمحه فى عينيها تشرد . حزنها من العالم الذى يحيط بها . إنها خليط عجيب من الفرحة ، والضجر ، من الطفلة الضاحكة ، والنضج الماكر . فى لحظات تبدو فى سكونها كأن روحها غائبة ، فاعرف عندئذ أنها رافضة . وفى لحظات تكون مقبلة ، مبتهجة بها تسمع وترى ، فمن أين هذا الشمول المتناقض ؟. أمن نوال والدتها ، أو من المجتمع ، أو من الاثنين معا ؟ . فهى امرأة فى مجتمع ورث القهر الذكورى والطبقى منذ أقدم الأزمنة .
عاشت مُنى ، تغيرات المجتمع المصرى .. كانت طفلة بالأمس ، ثم فجأة أصبحت أديبة لها قلم . هكذا يبدو لى فاندهش . طوال السنين لم أر.شىء كالمعجزة حدث بين يوم وليلة ، أم سنة وراء سنة ، وأنا غافل عما يجرى فى أعماقها ، فبدت لى معجزة .
وجدتها أمامى فارعة القوام ، ممتلئة الجسم ، والثقة بنفسها ، ضاحكة ، ساخرة . وجدتها محبة عاشقة ، ورايتها تمسك بالقلم لتسجل التناقضات والصور بقلم ، كشفرة الحلاقة يقطع فى اللحم الحى دون ن نشعر به ، ويسيل الدم الأحمر ، أو كريش النعام يكتب عن أدق الخلجات ويخط كلمات الحب ، والأرق ، أو العزم الذى لا ينثنى . كلما فكرت فيها اندهش . كبرت من خلف ظهرنا كالزمن . كنت أباها ، وهى طفلتى ، فأصبحت هى الأم ترعانا بحبها .
هكذا تداخلت الأمور بينى وبينها لتزول الحدود الفاصلة ، وليسقط هرم الأبوة الأكبر . هى ابنة جاءتنى من أين لا أدرى ، وفرضت نفسها . قالت أنا هنا . أنا وعد الأجيال القادمة ، والمرأة تُولد . أنا بالنسبة إليك سأكون عنصر تحد ، وقلق .
سلامى إلى ابنتى مُنى وامثالها من الشباب ، جعلونى أشترى دراجة بنفسجية لامعة فى عيد ميلادى الواحد والسبعين ، لأجوب فى المساحات الواسعة ، وأستعيد أشياء كنت على وشك أن أفقدها .
من كتاب " فى الأصل كانت الذاكرة " 2002
-------------------------------------------------------------------








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - من هي منى؟؟
ماجدة منصور ( 2022 / 4 / 1 - 08:15 )
هي إبنة سيدة الزمان و المكان د نوال السعداوي
لقد أدهشتني منى بكتاباتها حيث تفوح من كلماتها رائحة الصدق و التحدي في الوقت عينه0
هي إبنة د نوال و إبنة مصر العظيمة
و لن ننسى بأنك قد تركت بصماتك الوراثية على منى0
فأنت من ربى
فكانت منى خير من ربيت
كل سنة و أنت طيب
ان شا الله تعيش و نحتفل باليوبيل الذهبي لعمرك المديد
هابي بيرث داي مستر شريف حتاتة
و للدكتور نوال الخلود
و لمنى مزيدا من البهاء و التألق
يحيا الأحرار
في كل زمان و مكان

اخر الافلام

.. اضطرابات في حركة الطيران بفرنسا مع إلغاء نحو 60 بالمئة من ال


.. -قصة غريبة-.. مدمن يشتكي للشرطة في الكويت، ما السبب؟




.. الذكرى 109 للإبادة الأرمينية: أرمن لبنان.. بين الحفاظ على ال


.. ماذا حدث مع طالبة لبنانية شاركت في مظاهرات بجامعة كولومبيا ا




.. الاتحاد الأوروبي يطالب بتحقيق بشأن المقابر الجماعية في مستشف