الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


غوستاف لوبون وحضارة العرب

داود السلمان

2022 / 4 / 2
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


يُعدِّ كتاب "حضارة العرب" من أوسع واغنى البحوث التي خاض فيها المفكر والمؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون، حيث حمل هذا الكتاب غزارة نتاج كبير حول حضارة العرب، ورؤية واسعة من قبل المؤلف لما صاحبة تلك الحضارة العربية من سمات، نظر اليها الكاتب على أنها سمات تستحق البحث والتنقيب، ذلك لما امتازت به من انبثاق علوم لم تكن أوروبا قد عرفتها بعدُ. فأوروبا بحسب المؤلف أخذت عن العرب علومها التي هي بها اليوم قد تفوقت عن العرب والمسلمين، في كافة العلوم ومناحي الحياة الأخرى، بينما العرب ظلت تراوح في مكانها، لأسباب وعوامل كثيرة، أوعزها المؤلف لأسباب سياسيّة، وأخرى لتدخلات رجال الدين بالشأن السياسي، وهو نوع من خلط الأوراق.
فضلا عن احتلال العرب والمسلمين لدول أوروبيّة تحت ذريعة ما اسموه بالفتوحات، هذه الفتوحات التي اعتبرها بعض الكتاب والمفكرين، بأنها كانت سبّة على العرب والمسلمين بدل أن تكون صفة حسنة.
وهذه الطبعة التي بين أيدينا هي الطبعة الثالثة من منشورات "دار الرافدين" لسنة 2021 وبترجمة عادل زعيتر.
تعرّض لوبون، في هذا الكتاب، إلى وصف شامل لتاريخ العرب، ولحضارتهم، حيث وصف البيئة التي عاشوا فيها، وهي التي تعرف بجزيرة العرب، وذكر تكوين الدولة العربية بقادة النبي محمد، وتعرّض الكاتب كذلك الى ما تُعرف بالفتوحات الإسلامية، وذكر طبائع ونظم العرب، وأحوال البادية، ولم يفته ذكر العلوم المختلفة التي كانت موجودة لدى العرب، والفنون والمعارف الأخرى والآداب والتجارة وفن العمارة، وعلوم الفلك والفلسفة والرياضيات، والتربية والأخلاق ..إلخ.
وللمترجم مقدمة طويلة، ومهمة ذكر فيها ما طرحه المؤلف في هذا الكتاب بشكل عام والمسائل التي بحث فيها لوبون، واشاد بموقفه المنصف وهو سبر غور تاريخ العرب، واستخراج ما أوصفها زعيتر من كوز معرفية كانت مفخرة لدى العرب.
يقول زعيتر في مقدمته لم يكن العرب، على رأي لوبون، من الأجلاف قبل الإسلام، وقد رأى أن السجايا الخُلقِيَّة للعرق العربي هي التي عيَّنَت اتجاهه، وأنه، وإن أمكن ظهور حضارة أمة ولغتها بغتة على مسرح التاريخ، لا يكون هذا إلا نتيجة نُضْج بطيء، وأن تطور الأشخاص والأمم والنُّظم والمعتقدات لا يتم إلا بالتدريج، وأن درجةَ التطور العالية التي تبدو للعيان لا تبلغ إلا بعد الصعود في درجات أخرَ، فإذا ما ظهرت أمةٌ ذاتُ حضارة راقية كانت هذه الحضارة ثمرةَ ماضٍ طويل، ورأى لوبون، أيضًا، أن جهل الناس لهذا الماضي الطويل لا يعنِي عدم وجوده، وأن الحضارة التي أقامها العرب في أقلِّ من مائة سنة، وهي من أنضر الحضارات التي عرفها التاريخ، ليس مما يأتي عفوًا، وأنه كان للعرب قبل الإسلام حضارة لم تكن دون حضارة الآشوريين والبابليين تقدمًا، وكان للعرب، عدا الآثار القليلة التي كُشف عنها، لغةٌ ناضجة وآداب راقية، وكان العربُ ذوي صِلات تجارية بأرقى أمم العالم عالمين بما يَتِمُّ خارج جزيرتهم، فالعربُ الذين هذا شأنهم كانوا، لا ريب، من ذوي القرائح التي لا تَتِم إلا بتوالي الوراثة وبثقافةٍ سابقة مستمرة، والعرب الذين صُقِلت أدمغتهم على هذا الوجه استطاعوا أن يُبدعوا حضارتهم الزاهرة بعد خروجهم من جزيرتهم في مدة قصيرة.
ويضيف زعيتر وإنّ لوبون أكثر، في مواضع كثيرةٍ، من ذكر الأمثلة على تسامح العرب ورأفتهم بالمغلوبين، ومن ذلك "أن العرب حاصروا الإسكندرية حصارًا دام أربعة عشر شهرًا، وقُتِل في اثنائه ثلاثةٌ وعشرون ألف جندي من العرب، وأن عمرو بن العاص كان سمحًا رحيمًا نحو أهل الإسكندرية مع تلك الخسارة التي أصيب بها العرب، ولم يَقْسُ عليهم، وصنع ما يَكْسِب به قلوبهم، وأجابهم إلى مطالبهم، وأصلح أسدادهم وتُرَعهم، وأنفق الأموال الطائلة على شؤونهم العامة".
وحول سقوط الدولة العربية وانحطاط العرب بعد سطوع نجمهم قال زعيتر، وإنما عزا لوبون سقوطَ الدولة العربية وانحطاط العرب إلى صفات العرب الحربية المتأصلة التي كانت نافعةً في دَور فتوحهم، فالعربُ بعد أن تمَّت فتوحهم أخذ ميلهم إلى الانقسام يبدو، وصارت دولتهم تتجزأ، وقوَّضوا كيانهم بسلاحهم أكثر مما قُوِّض بسلاح الأمم الأخرى، وعزا لوبون انحطاط العرب، أيضًا، إلى ما حدث من قبض أناسٍ من ذوي العقول المتوسطة على زمام دولتهم الواسعة بعد أن كان يُدِير شؤونَها رجالٌ من العباقرة، وإلى ما ألفه العرب من الترف، وما أصابهم من فتورٍ في الحماسة لمثلهم الأعلى، وإلى تنافس مختلف الشعوب التي خَضَعت لسلطانهم، وإلى فساد الدم العربيِّ الذي نشأ عن توالد العرب وتلك الشعوب.
زعيتر أشار إلى أنّ لوبون أفاض في إيضاح تمدين العرب لأوروبا، وانتهى إلى ما يأتي: "إنه كان للحضارة الإسلامية تأثيرٌ عظيم في العالم، وإن هذا التأثير خاص بالعرب وحدَهم فلا تشاركهم فيه الشعوب الكثيرة التي اعتنقت دينهم، والعربُ هم الذين هَذَّبوا بتأثيرهم الخُلُقي البرابرة الذين قَضَوا على دولة الرومان، والعربُ هم الذين فتحوا لأوربة ما كانت تجهله من عالم المعارف العلمية والأدبية والفلسفية، فكانوا مُمَدِّنين لنا وأئمة لنا ستة قرون … وظلَّت تَرجمات كتب العرب، ولا سيما الكتبُ العلمية، مصدرًا وحيدًا، تقريبًا، للتدريس في جامعات أوربة خمسة قرون أو ستة قرون … وإذا كانت هناك أمةٌ تُقِرُّ بأننا مَدِينون لها بمعرفتنا لعالم الزمن القديم فالعرب هم تلك الأمة … فعلى العالم أن يعترف للعرب بجميل صُنعهم في إنقاذ تلك الكنوز الثمينة اعترافًا أبديًّا، قال مسيو ليبرى: لو لم يظهر العرب على مسرح التاريخ؛ لتأخرت نهضة أوربة الحديثة في الآداب عِدة قرون".
وكان زعيتر قد ختم مقدمته هذه بقوله ألا إن الأمة العربية التي هي عرضةٌ لأشد المصائب والمحن، والتي نرى أن القضاء على كيانها القومي، ومقوِّمات حضارتها من سياسة أكبر دول التاريخ في المشرق والمغرب منذ قرون كثيرة، لا تزال تقاوم، وها هي ذي قد أخذت تنهضُ وتسعى؛ لتحتلَّ مكانًا لائقًا بتاريخها المجيد.
وكان المؤلف قد كتب مقدمة لكتابه هذا، ذكر فيه الأسباب التي دعدته إلى تأليف هذا السّفر الجليل، وذكر أنّه كان معجبًا بحضارة العرب حيث عدها حضارة امتازت بالسمو، وروح المثابرة.
ويوعز لوبون أنّ تأثيرُ العرب كان عظيمًا في الغرب، وهو في الشرق أشد وأقوى، ولم يتَّفق لأمة ما اتفق للعرب من النفوذ، والأمم التي كانت لها سيادة العالم، كالآشوريين والفرس والمصريين واليونان والرومان، توارت تحت أعفار الدهر ولم تترك لنا غير أطلال دارسة، وعادت أديانها ولغاتها وفنونها لا تكون سوى ذكريات، والعرب، وإن تَوارَوا أيضًا، لم تزل عناصر حضارتهم، وإن شئت فقل ديانتهم ولغتهم وفنونهم، حيةً، وينقاد أكثر من مائة مليون شخص مقيمين فيما بين مراكش والهند لشريعة الرسول.
ولهذا يقول إنّ الحضارة العربية من صنع قومٍ من شِباه البرابرة، فلما خرج هؤلاء القوم من صحارى جزيرة العرب صرعوا الفرس واليونان والرومان، وأقاموا دولة عظيمة امتد سلطانها من الهند إلى إسبانيا، وأبدعوا تلك الآثار التي هي آية في الإعجاز والتي تُورِث بقاياها العجب العجاب.
ومع ذلك يعتقد لوبون أنّ في تاريخ العرب، مسائل كثيرةٌ تتطلب حلًّا، وفيه دروسٌ وعِبَرٌ جديرة بالحفظ، والعربُ عُنوان أمم الشرق التي تختلف عن أمم الغرب، ولا تزال أوربة جاهلةً لشأنهم، فلتعلم كيف تعرفهم، فالساعة التي ترتبط مقاديرُها في مقاديرهم قد اقتربت.
لوبون في هذا الكتاب يعترف إن الآثار الباقية من حضارة العرب كثيرة، وهي تكفي لإيضاح أقسامها الجوهرية بسهولة، وقد استعنَّا بأكثرها، أي بما خلَّفه العرب من العلوم والآداب والفنون والصناعات والنظم والمعتقدات.
وأكثر ما رَجَعْ إليه لوبون في هذا التوليف هو ما اسماه بالآثار الماثلة التي تستوقف النظر بأشكالها الظاهرة، وتعبر عن رغائب الزمن الذي قامت فيه ومشاعره تعبيرًا صادقًا، ولا غَرْوَ، ففيها يتجلَّى نفوذُ العروق وتأثير البيئة، وبها يمكن الوقوف على أحوال القرون الغابرة، فالكهف الذي نُحت في العصر الحجري أو المعبد المصري، أو المسجد الإسلامي، أو الكتدرائية، أو محطة السكة الحديدية، أو مخدع المرأة العصرية أو الفأس المصنوعة من الصَّوَّان، أو السيف ذو المِقبضين، أو المِدفَع الذي يزن خمسين طُنًّا، أفضل لمعرفة جميع ذلك من أكداس كتب البحث والجدل.
وختم لوبون مقدمة كتابه هذا بتلخِّيص المنهاج الذي قدمه في وضع هذا السّفر، والذي تتَّبِعُه فيما نؤلفه من تواريخ الحضارات، بما يأتي:
من المبادئ العامة: الوجوبُ في وقوع الحوادث التاريخية، والصلةُ الوثيقة بين الحوادث الحاضرة وحوادث الماضي.
ومن موادِّ التأليف، كما ذكر المؤلف: آثارُ الشعوب التي هي موضوع الدرس وتصويرُها تصويرًا صادقًا، ووصف العِرق جسمًا وعقلًا، والبيئةُ التي نشأ فيها العِرْق، والعواملُ التي خضع لها، وتحليلٌ لعناصر الحضارة، أي للنُّظم والمعتقدات والعلوم والآداب والفنون والصِّناعات، وتاريخٌ لتكوين كلِّ واحدٍ من هذه العناصر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اتساع رقعة الاحتجاجات في الجامعات الأمريكية للمطالبة بوقف فو


.. فريق تطوعي يذكر بأسماء الأطفال الذين استشهدوا في حرب غزة




.. المرصد الأورومتوسطي يُحذّر من اتساع رقعة الأمراض المعدية في


.. رغم إغلاق بوابات جامعة كولومبيا بالأقفال.. لليوم السابع على




.. أخبار الصباح | مجلس الشيوخ الأميركي يقر إرسال مساعدات لإسرائ