الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نقض مفهوم الإله لدى إسبينوزا

هيبت بافي حلبجة

2022 / 4 / 5
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


بعدما إنتقدنا المنظومة الفلسفية لديه ، نود هنا أن نتعمق في حقيقة موقفه من الإله لننتقده من هذه الزاوية تحديداٌ . وهنا وقبل البدء بالمقدمات ، من الضروري إبداء الملاحظات التالية :
الملاحظة الأولى : في مؤلفه ، الأخلاق ، وفي الفصل الأول المعنون ، الإله والطبيعة ، يحدد إسبينوزا موضوع الإله ، موضوع الطبيعة ، موضوع نظام الطبيعة ، وموضوع الجوهر . كما لو إن الإله هو عين موضوعه ، كما لو إن الطبيعة هي عين موضوعها ، كما لو إن نظام الطبيعة هو عين موضوع النظام الثابت المستقر الأبدي الأزلي . وبما إنه يركز على هذه الموضوعات الأربعة في ذلك الفصل ، الإله والطبيعة ، ومن ثم يربط فيما بينها من حيث هي موضوعات وليست مفاهيم ، فنلتزم ، نحن أيضاٌ ، بمحتوى ذلك الربط مابين تلك الموضوعات الأربعة .
الملاحظة الثانية : في أفكاره لايعالج إسبينوزا مفاهيمها ، أي لايبحث عن الشيء من حيث مفهومه ، فهو لايبحث في الإله ، ولا في الطبيعة ، ولا في نظام الطبيعة ، ولا في إفهوم الجوهر . وكإن هذه الموضوعات الأربعة معروفة لديه منذ المنذ ، ومعروفة لدى الجميع كما هي منذ البدء ، وكإنها مشتركة في الجنس من حيث هي في إنطولوجية هي ، ومتباينة من حيث هي في خواصها هي ، ضمن شرط إن المشترك والمتباين هما حدود الربط في أس تلك الموضوعات .
الملاحظة الثالثة : بناءاٌ على ما تقدم هو لايبحث في العلاقة ، كعلاقة بنيوية ، كعلاقة في المنطق ، أو كعلاقة في مقدمات العقل أو الذهن ، أو كعلاقة في التحليل ، مابين تلك الموضوعات الأربعة ، إنما هو يحدد ، يحدد فقط ، مايعتقده هو المشترك من حيث موضوعة التماثل والتماهي والتحاكي مابين تلك الموضوعات الأربعة . وبما إنه ينظر إلى تلك الإطروحات الأربعة على إتها موضوعات وليست مفاهيم ، وبما إنه يحدد فقط المشترك التماثلي فيما بينها من حيث هو الربط مابينها وليس على أساس وجود مفهوم العلاقة ، نجد أنفسنا ، أحياناٌ ، وحينما نستخدم في هذه الحلقة مفردات مثل ، المفهوم أو العلاقة فإننا لانقصدها من حيث هي هي في الذهن العام إنما لكي تتمايز الصورة أكثر وضوحاٌ ، وبالتالي أكثر إستقراراٌ في المعنى وفي المبنى .
المقدمة الآولى : ينطلق إسبينوزا من موضوعة في غاية الجوهرية لديه ، وهي إن الحقيقة هي حقيقة ذاتها ، وإن الأفكار الصائبة هي عين صوابها ، وإن الأشياء من حيث هي هي ، هي عين نفسها . فكما إن الأشكال الهندسية هي ذات خصائصها ، وكما إن المثلث هو نفسه كما هو ، أضلاع ثلاثة ، زوايا ثلاثة ، خصائص تميزه عن غيره من حيث المبدأ ، فإن القضايا لايمكن إلا أن تتمتع بعين خصائصها من زاوية إن تلك الخصائص هي ماتميز هذه القضية عن تلك ، هذا الأمر عن ذاك ، هذا الشيء عن غيره . ومن هنا تحديداٌ ، نستنتج الآتي :
الإستنتاج الأول : ندرك مما تقدم لماذا لايعالج إسبينوزا الأمور في مفاهيمها ، ولا في علاقاتها ، إنما يتحدث عنها كما لو كانت هي هناك ، فالإله هو الإله ومن لايعرف الإله ، الطبيعة هي الطبيعة ومن لايعرفها ، وكذلك نظام الطبيعة .
الإستنتاج الثاني : ندرك مما تقدم محتوى إيمان إسبينوزا بالعقل وبالعلم ، فهما ، حسبه ، أس كل ما تطبيقي من حيث وجوده في الطبيعة وليس من حيث تجريده في الجدل النظري ، وهذا مرتبط بنيوياٌ ، دون إنفصام أو إنفصال ، بتصوره إن الطبيعة ونظامها ، هي الطبيعة ذاتها من ناحية ، وهي الإله من ناحية أخرى .
الإستنتاج الثالث : ندرك مما تقدم لماذا ينفي إسبينوزا مفهوم الخلق عن الإله . فلو كان الإله خالقاٌ لتوجب عليه أن يجادل ويبحث في الإله ، أن يجادل في مفهوم الإله ، أن يبحث عن إشكاليات الخلق ، أن يحلل أسس القضايا الإلهية ، وبالتالي أسس مفهوم العلاقة .
الإستنتاج الرابع : ندرك مما تقدم لماذا يؤكد إسبينوزا إن الإله هو نظام الطبيعة ، ولماذا أكد اينشتاين ، حينما سؤل عن الإله ، إنه يؤمن بإله إسبينوزا ، أي إنه يؤمن بنظام الطبيعة ، أي إنه يؤمن بفيزيائية الكون تماماٌ كما كان يؤمن إسبينوزا بهندسة الكون .
الإستنتاج الخامس : ندرك مما تقدم لماذا أسيء هذا الفهم لدى الاخرين في إعتقادهم إن إسبينوزا يؤمن بوحدة الوجود ، وسموا ذلك بوحدة الوجود الإسبينوزي تمايزاٌ عن وحدة الوجود لدى المتصوفة . وسنرى لاحقاٌ إن إسبينوزا لايؤمن بوحدة الوجود ، على الإطلاق .
المقدمة الثانية : من هذه المقدمة تنجلي حقيقة المنظومة الفكرية لدى إسبينوزا ، فهذا العالم ، هذا الكون هو جوهر واحد ووحيد ، جوهر لابعده ولاقبله ، ولا جوهر يفارقه ولاجوهر يتماهى معه ، وهذا يفضي بنا إلى الآتي :
الأمر الأول : إن هذا الجوهر هو الطبيعة من زاوية ، وهو الإله من زاوية ثانية ، مع إدراكنا ، إن الإله هو عين تلك القوانين ، هو عين ذلك النظام الذي تتمتع به الطبيعة ، ومن جانب إن الإله هو تعبير رمزي عن تلك القوانين وعن ذلك النظام ، حسب تعبير فؤاد زكريا ، ومن جانب إن الإله لايمثل إلا موضوعه في حدود تلك القوانين وذلك النظام .
الأمر الثاني : إن الإله لايمثل شيئاٌ خاصاٌ أو مستقلاٌ أو منفصلاٌ عن أو في الجوهر ، لإن الإله ، حسبه ، وكذلك الطبيعة ، هما من تجليات هذا الجوهر ، وكإن الجوهر هو ، في عين نفسه ، وفي ذات الديمومة ، ذلك الإله وتلك الطبيعة . لذلك فإن الإله لايتمتع بأي خواص تخصه وتثبت ماهيته ولا كينونته . أي بتعبير أخص ، إن الجوهر هو من يتمتع بكل مايمكن ان يتمتع به الوجود ، من زاويتين ، الأولى كونه هو هو ، هو واحد ووحيد ، لاثان ولاثالث ولامكافىء ، والثانية كونه هو حالة نفسه .
الأمر الثالث : إن الجوهر هو الضرورة بحد ذاتها ، هو السرمدي الأزلي الأبدي ، وكذلك الإله ، وكذلك الطبيعة ، وكذلك نظام وقوانين الطبيعة . تماماٌ مثل الرقم واحد ، فهو إما يكون كاملاٌ تاماٌ ، أو ألا يكون ، وبما إن الجوهر هو هذا الجوهر من حيث هو في ذهن إسبينوزا ، تماماٌ مثلما ذلك الرقم الواحد حينما يكون ، فإنه لابد أن يتمتع بخاصية الضرورة والأزلية والأبدية وإلا ماكان . ومن هنا أيضاٌ ندرك السبب الجوهري الذي بناءاٌ على مقوماته : نفي إسبينوزا لمفهوم الخلق من جهة ، ولا مكان لوحدة الوجود في منظومته الفكرية من جهة ثانية .
الأمر الرابع : رغم إن الطبيعة تحاكي الإله والجوهر في خاصية الضرورة والأزلية والأبدية ، إلا إنها تتفارق عنهما في خاصية تخصها هي دون غيرها ، وهذه الخاصية هي الأمتداد وأبعاد الأمتداد . وهذه مفارقة سلبية في منظومته الفكرية لإن الأصل هو الجوهر في إنطولوجيته .
المقدمة الثالثة : ينطلق إسبينوزا من إشكالية قاعدية تتعلق بالإله وبالطبيعة ، فهو ضرورة وأزلي وأبدي ومستغرق في الفكر ويرمز إلى محتوى الفكر ومضمون فكرة الإله نفسها ، وهي ضرورة وأزلية وأبدية ومستغرقة في الإمتداد ، ولا إتحاد فيما بينهما ولا إنفصال ، وهو لاشيء إنما يرمز إلى الفكر وإلى قوة نظام الطبيعة وقوانينها ، وهي أساس المنظومة الفكرية لدى إسبينوزا من حيث هي هنا وهناك ، والأصدق من حيث هي هناك . لذلك ولكي يضفي إسبينوزا الشرعية على الطبيعة في زاوية وجودها ، وفي زاوية العلاقة مابين الإنسان ومابينها ، إخترع موضوع الجوهر الذي لابد ولامناص من أن يكون وحيداٌ ، ولو لم يكن كذلك لأضطر إسبينوزا على معالجة مفهوم الإله ، وعلى شرح العلاقة مابينه ومابين الطبيعة ، ولأضطر أيضاٌ على توضيح جوهر هذه الجواهر وتبيان العلاقة الموضوعية فيما بينها . وحينما إخترع موضوع الجوهر الواحد ، والواحد فقط ، إضطر أن يوازي ويساوي مابين الإله والطبيعة ، الوجهين المتقابلين والمتكافئين من الزاوية الإنطولوجية ، في محتوى الضرورة والأزلية والأبدية . وهكذا فإن كلاهما يمثلان معاٌ الشرط البنيوي لإئتلاف هذا الجوهر ، ضمن قاعدة أصبحت واضحة : لاوحدة وجود في أساس هذا التصور .
المقدمة الرابعة : في أساس الربط مابين الجوهر والإله والطبيعة ، وخاصة مابين الإله والطبيعة ، يؤكد إسبينوزا إن الإله في حدود الجوهر هو الطبيعة الطابعة ، في حين إن الطبيعة في نفس تلك الحدود هي الطبيعة المطبوعة . وهكذا فإن الجوهر الذي يتجلى في حقيقة الإله هو الطبيعة الطابعة ، والذي يتجلى في حقيقة الطبيعة هو الطبيعة المطبوعة . وهكذا أيضاٌ إن الطبيعة التي هي ، حسبه ، مطبوعة تجعل من الجوهر جوهراٌ من حيث مبنى الطبيعة ، وتجعل من الإله إلهاٌ من حيث خواص الطبيعة . وهذا يفضي بنا إلى إستنتاج مايلي :
الإستنتاج الأول : إن حقيقة الجوهر ، وحقيقة الإله لاتستطيعان أن تتحققا إلا تحت شرط الطبيعة ، وفقط تحت هذا شرط ، أي إن الطبيعة هي الأصل والأس والتجلي . وبالنتيجة ماكان بمقدوره إسبينوزا أن يكتشف أصالة هذا الجوهر ومن ثم تأصيل الإله لولا هذا الوجود ، لولا هذه الطبيعة التي هي ماثلة أمامنا . وهذا مايفسر من جانب آخر إبتعاد إسبينوزا كلياٌ من موضوع ماهو غيبي ، ماهو مجهول .
الإستنتاج الثاني : إن حقيقة الإله ، كونه هو الطبيعة الطابعة ، تتماهى وتحاكي القوة الأزلية لنظام الطبيعة . ومن هنا حينما يتحدث إسبينوزا عن المعادلة الرباعية ، الجوهر والإله والطبيعة ونظام الطبيعة ، فإنه يلصق مضمون الضرورة والأزلية والأبدية بنظام الطبيعة ، بتلك القوة التي تحدد قوانين الطبيعة من ناحية ، والتي تحدد تجلياتها من ناحية ثانية .
الإستنتاج الثالث : إن الطبيعة ، كونها الطبيعة المطبوعة ، تخضع لفعل ما ، فعل من الخارج ، فعل من الطبيعة الطابعة ، لذلك فإن إسبينوزا حينما يقسم الوجود إلى ماهو متعلق بالإمتداد ، وإلى ماهو متعلق بالفكر ، فإنه يلصق الأول بالطبيعة ، والثاني بالإله .
نكتفي بهذا القدر ، ونبدي إعتراضنا كالآتي :
الإعتراض الأول : في الحقيقة إن الإشكالية الأصلية تكمن في التناقض الحاصل في ذهن إسبينوزا مابين فهمه لموضوع الإله ومابين فهمه لمفهوم الإله كإله ، في المقطع الأول هو يفسر من هو هذا الإله وكيف يكون وماهي طبيعته ، وفي المقطع الثاني هو يشاهد الإله مابين قوسين ويحاول أن يقيم براهين على صدق إنطولوجيته ، كيف ذلك : فهاهو يزعم بوجود عدة أدلة أو براهين على وجود هذا الإله ، ويقدم برهاناٌ على وجوده ، وهو البرهان الإنطولوجي المقتبس أصلاٌ من البرهان الإنطولوجي للقديس إنسلم ، وهذا البرهان في حال صدقه ولقد بينا سابقاٌ خطل هذا البرهان حينما إنتقدناه في حلقة سابقة عن القديس إنسلم ، فإنه ، أي في حال صدقه ، يقتضي جملة من الحيثيات الأولية التي بدونها لايمكن الحديث أصلاٌ عن العلاقة مابين المقدمة والنتيجة :
فمن ناحية ينبغي إن يكون الموضوع معرفاٌ ومعروفاٌ تماماٌ قبل أن يقام الدليل على وجوده ، وإلا فكيف نقيم الدليل على ما هو مجهول إنطولوجياٌ ، وهنا حينما يزعم إسبينوزا إنه يوجد دليل إنطولوجي على وجوديا الإله ، فهذا يعني إن هذا الإله هو مدرك ومعرف ومعروف ، أي لايمكن أن نعلق إنطولوجيته على تفسيرنا لطبيعته ، لإن لو فسرنا طبيعته فكيف نقدم برهاناٌ على صدق وجوده قبل هذا التفسير. وهكذا يحدث خللاٌ مابين مايزعمه إسبينوزا من وجود برهان إنطولوجي على صدق وجود هذا الإله ومابين تفسيره اللاحق إن الإله هو قوة نظام الطبيعة وقوانينها .
ومن ناحية ثانية لايمكن أن نقدم هذا الدليل ، البرهان الإنطولوجي ، إلا إذا كان المقصود مستقلاٌ ومنفصلاٌ عن كافة الإنطولوجيات ، أي أن يكون الشيء مستقلاٌ ومنفصلاٌ عن كافة الأشياء الأخرى ، أي ينبغي أن يكون الإله ، قبل كل شيء ، مستقلاٌ إنطولوجيا عن الجوهر وعن الطبيعة وعن نظام الطبيعة حتى يتسنى لنا أن نقدم هذا الدليل الإنطولوجي ، ولكن كما شاهدنا فإن هذا الإله لاينفصل عن الجوهر ، ولا عن الطبيعة ، ولا عن نظام الطبيعة ، وإذا قيل العكس فهذا تهشيم تام لكل المنظومة الفكرية لدى إسبينوزا .
ومن ناحية ثالثة إن الدليل الإنطولوجي يقتضي أن يكون المقصود قديماٌ ، وأن يكون هو القديم الوحيد دون سواه ، وإلا لن يكون لهذا الدليل أي إعتبار لإن لو وجد ماهو قديم مثله فسوف يشاركه في نفس القيمة التحليلية لهذا الدليل . أي أن يكون الإله قديماٌ ، ووحيداٌ في قدمه ، وألا يشاركه في قدمه شيء ما ، لكن وكما شاهدنا إن الجوهر قديم مثله ، وإن الطبيعة قديمة أيضاٌ ، وكذلك نظام الطبيعة .
الإعتراض الثاني : إن الإشكالية الثانية تكمن في المفارقة مابين الجوهر من زاوية ومابين الإله والطبيعة من زاوية أخرى ، فالجوهر لديه واحد ووحيد وهو الأصل في الوجود ، بمعنى إن الوجود والعالم والكون هو هذا الجوهر الذي لاغير له وهو يتضمن الإله والطبيعة . في حين إن الإله ، ورغم إنه وحيد وأزلي وأبدي ، إلا إنه ليس كلية الكلي لإنه لايتضمن خاصية الإمتداد التي هي من خواص الطبيعة . وكذلك الطبيعة فهي ليست كلية الكلي لإنها لاتتضمن خاصية الفكر التي هي من خواص الإله . فالإله لايغطي مفهوم الجوهر ، كما إن الطبيعة لاتغطي مفهوم الجوهر ، فما معنى ذلك :
من ناحية فإذا كان الجوهر كاملاٌ وكلياٌ فإن الإله لايمكن إلا أن يكون ناقصاٌ ، ليس ناقصاٌ في ذاته إنما محدوداٌ في حدوده ، وناقصاٌ في حدود الوجود . والناقص لايكتمل مفهومه الإنطولوجي إلا إذا إرتهن بمفهوم إنطولوجي أقوى وأكمل ، وهو هنا الجوهر . ما مدلول ذلك : إن هذا يدل على إن موضوع الإله لدى إسبينوزا لايتطابق مع مفهوم الإله ، سواء أكان المفهوم التاريخي ، أم المفهوم الديني ، أم المفهوم من حيث هو فكرة . ومن المؤكد إن إسبينوزا يدرك حجم التعقيدات التي تكتنف إطروحاته والتي تعتري منظومته الفكرية ، لذلك هو ينفي عن الإله موضوع الخلق ، لذلك يزعم إنه الطبيعة الطابعة ، إنه النظام الأزلي الأبدي الحاكم للطبيعة .
ومن ناحية إذا كان الجوهر هو الواحد الوحيد ، فإن الإله لايمكن ، وفي أفضل حالاته ، إلا أن يكون من إحدى تجليات هذا الجوهر ، أي من تجليات الأصل . والتجلية قد تتمتع بخواص الأصل لكنها ، ومن المستحيل ، أن تتمتع بالخواص الإنطولوجية له ، لإن الأصل يقدم تجليات أخرى وهو مايعترف به إسبينوزا نفسه حينما ينفي عن الإله صفة الإمتداد ويخصها بالطبيعة . ما معنى ذلك : إن الإله الذي فرض إسبينوزا إنه الضرورة والأزلي والأبدي ، لايتمتع بهذه الخاصيات الثلاثة من حيث البعد الإنطولوجي ، ومن لايتمتع بهذه الخاصيات الثلاثة لايمكن أن ننعته بأي شيء نريده لمجرد أن يطيب لنا أن نسمي ذلك بالإله ، أي هل يرتضي إسبينوزا أن يسمي هذا الإله إلهاٌ رغم إنه يفتقر ، في بعده الإنطولوجي الخاص ، لتلك الخاصيات الثلاثة ، الضرورة والأزلية والأبدية ، لا أعتقد .
الإعتراض الثالث : في الأصل حينما يتحدث إسبينوزا عن الجوهر والإله والطبيعة فإنه يتحدث عن الطبيعة الطابعة وعن الطبيعة المطبوعة ، وإذا ما أسقطنا تلك المفردات ، أي الجوهر والإله والطبيعة ، عن الحساب فإننا نحصل على مفردة الطبيعة فقط ، سواء أكانت طابعة أم مطبوعة . ولكي لانغمط عليه حقه فإن الجوهر مؤتلف من الطبيعة الطابعة ومن الطبيعة المطبوعة ، والقصد من الأولى هو تلك القوة الأزلية لنظام الطبيعة ، والقصد من الثانية هو الإمتداد في الطبيعة أي الطبيعة الممتدة . وإذا سمينا الأولى سين أو سلوى ، والثانية صاد أو جورجيت فإننا لن نغير من المحتوى الأصلي شيئاٌ . فماهي الدلالات في هذا :
الدلالة الأولى : إن الإله كمفردة أو كموضوع أو كمفهوم لايمثل هنا سوى إصطلاح تعبيري رمزي ، مثل صاد أو سين ، للربط مابين ما لم يستطع إسبينوزا التحرر من إشكاليته وهو الإله ، ومابين إعتقاده الفعلي بوجوب نفي الغيبي والمجهول والإرتكان إلى أحضان الطبيعة والواقعي .
الدلالة الثانية : لايوجد شيء أسمه وحدة الوجود في المنظومة الفكرية لدى إسبينوزا ، لإن الطبيعة هي بمفردها سواء أكانت طابعة أم مطبوعة ، وهي التي تمثل ذلك الجوهر المزعوم الواحد والوحيد لدى إسبينوزا ، أي إن الدائرتان الهندسيتان اللتان تمثلان ، الجوهر ، والطبيعة ، متطابقتان تمام التطابق ، متماثلتان كلي التماثل ، ضمن شرط أن يكون التماهي في الفكر الإسبينوزي تاماٌ ، أي بتعبير أصدق كما إن الجوهر هو واحد ووحيد فإن الطبيعة هي ، لنفس السبب ، واحدة ووحيدة .
الدلالة الثالثة : إن ربط موضوع الفكر بالإله ومن ثم بالعقل البشري على غرار ربط الإمتداد بالطبيعة أصبح يستند في ركيزته إلى قاعدة مختلفة وأس متباين . فبعد أن إعتمد على حقيقة العلاقة ، أو العلاقة الفعلية ، حسب إسبينوزا ، مابين الإله والفكر ، غدا يرتكز على الوجود الفعلي للطبيعة ، وعلى العناصر الأصلية والأصيلة والمتأصلة في الطبيعة ، وفي الطبيعة وحدها ، لإن الإله ، وكما شاهدنا ، قد تحول إلى موضوع تعبيري رمزي ليس إلا ، أي فقد كل خصائص مفهومه .
الدلالة الرابعة : إن التمايز مابين الطبيعة ونظامها وتلك القوة الأزلية المغروسة فيها لم يعد صائباٌ ، لإن الأمر كان في ذهن إسبينوزا معنمداٌ على ضرورة الفصل مابين ما هو إلهي ومابين الطبيعة . والآن قد تماهت الطبيعة مع الجوهر ، وتحول الإله إلى إصطلاح خارج مفهومه ، فإن الطبيعة أمست هي سيدة نفسها وسيدة نظامها وسيدة قوتها الأزلية .
الإعتراض الرابع : بعدما أدركنا إن تلك الموضوعات ، الجوهر الإله الطبيعة ونظام الطبيعة ، قد تحولت إلى العلاقة الفعلية مابين الجوهر والطبيعة ، أي أصبحت الطبيعة هي الجوهر ، وأصبح الجوهر هو الطبيعة ، أصبحنا ، نحن ، أمام مفهوم جديد وهو إن الطبيعة نفسها هي التي خلقت نظامها وهي التي منحت نفسها تلك القوة الأزلية ، وهي التي أبدعت في تكوين العقل البشري ، أي ليس فقط لم نعد إزاء الفصل مابين الطبيعة ونظامها ، إنما أصبحنا إزاء واقعة وهي إن الطبيعة تبدع في تكوين نظامها وتطويره حسب الحاجة وحسب الضرورة العملية . وهكذا أصبحنا إزاء أمر طبيعي وهو إن العقل البشري من نتاج الطبيعة . وإلى اللقاء في الحلقة السادسة والعشرين مابعد المائة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تشدد مع الصين وتهاون مع إيران.. تساؤلات بشأن جدوى العقوبات ا


.. جرحى في قصف إسرائيلي استهدف مبنى من عدة طوابق في شارع الجلاء




.. شاهد| اشتعال النيران في عربات قطار أونتاريو بكندا


.. استشهاد طفل فلسطيني جراء قصف الاحتلال الإسرائيلي مسجد الصديق




.. بقيمة 95 مليار دولار.. الكونغرس يقر تشريعا بتقديم مساعدات عس