الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مدينة أكد وسيرة ملوكها

عضيد جواد الخميسي

2022 / 4 / 6
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


لا أحد يعلم أين تقع مدينة أكد ، وكيف اشتهرت أو لماذا سقطت ! . رغماً من ذلك ؛ فقد كانت ذات يوماً مركزاً للإمبراطورية الأكدية التي سيطرت على مساحة شاسعة من بلاد الرافدين القديمة . ومن المعروف تخميناً ؛ أن أكد ( أگيد Agade) ، مدينة تقع على طول الضفة الغربية لنهر الفرات ؛ ربما بين مدن (سيپار) و(كيش) ، أو بين (ماري) و (بابل) ، أو في مناطق أخرى على طول نهر الفرات . وحسب الأسطورة ؛ فقد تمّ بناؤها من قبل الملك سرگون (عام 2334-2279 قبل الميلاد) ؛ الذي وحدّ بلاد الرافدين تحت حكم إمبراطوريته الأكدية ؛ ووضع معايير نموذج الحكم فيها .
الملك سرگون (أو من كتب عنه) ؛ زعم أن الإمبراطورية الأكدية قد امتدّت من مناطق العراق والكويت ، والأردن وسوريا ؛ وقسماً من لبنان (الجزء السفلي من آسيا الصغرى إلى البحر الأبيض المتوسط ) ؛ ثمّ إلى قبرص . وهناك بعض الألواح تشير الى أنها امتدّت حتى جزيرة كريت في بحر إيجة . حيث أن حجم ونطاق تلك الإمبراطورية الكبيرة كانت تتخللها الكثير من الثورات والانتفاضات .
وليس هناك أدنى شك في أن الملك سرگون قد أسس أول إمبراطورية متعددة الأعراق في العالم القديم .

ملك أوروك وبروز سرگون
لغة المدينة هي اللغة الأكدية ، وكانت مُتداولة فعلياً قبل ظهور الإمبراطورية الأكدية ؛ لا سيّما في مدينة ماري الغنية بالآثار. وقد ساعدت الألواح المسمارية التي عُثر عليها في تسهيل مهمة العلماء للتعرّف على تأريخ اللغة . ومن المحتمل أن الملك سرگون كان قد أعاد إعمار مدينة أكد بدلاً من بنائها . كما تجدر الإشارة أيضاً ؛إلى أن الملك سرگون لم يكن أول حاكم قد وحّد المدن وقبائلها المختلفة تحت حُكم واحد ؛ بل أن ملك أوروك ( لوگال ـ زاكيسي ) قام بهذا الإنجاز في ظل حكمه وإن كان على نطاق أضيق . ولكن بعد هزيمته على يد الملك سرگون ؛ أخذ الأخير بتطوير هذا النموذج في التعايش عندما بسط سيطرته على المدينة وجعل سلالته أكبر وأقوى .

كتبت البروفيسورة گويندولين ليك التعليق التالي حول تلك المقارنة :
" وفقاً للنقوش الخاصة ؛ فقد شنّ [سرگون] حملات واسعة خارج بلاد الرافدين ؛ وقام بتأمين جميع طرق التجارة الرئيسية في البرّ والبحر؛ بينما نجح لوگال ـ زاكيسي فقط ؛ في إخضاع مدن سومر لحكمه " (ص 8).

كان الملك سرجون عازماً على غزو العالم القديم بأكمله . كتب المؤرخ "ديورانت "حول هذا الموضوع ؛ في المقطع التالي :
" في الشرق والغرب ؛ والشمال والجنوب ؛ سار المحارب الجبّار العنيد بجيشه ؛ فقهر إيلام ( عيلام ) ؛ ونظّف أسلحته في أنهارها بعد انتصاره ؛ ثمّ عبر غرب آسيا ؛ إلى أن وصل البحر الأبيض المتوسط ​​، ومن ثمّ أسس أول إمبراطورية عظيمة في التاريخ ." (ص121-122)
لقد استقرّت تلك الإمبراطورية الرافدينية عندما سمحت بتطوّر الفنون والآداب ؛ وتقدّم العلوم والزراعة ؛ وتغيير مفاهيم الدين .
وحسب قائمة الملوك السومريين ؛ كان هناك خمسة حكّام أكديين وهم : سرگون ؛ ريموش ؛ مانشتوسو ؛ نارام ـ سين (المعروف أيضاً باسم نارام- سوين) ؛ و شار- كالي- شاري . وجميعهم قد حافظوا على السلالة ولمدة 142 عاماً قبل انهيارها .

الملك سرگون
وهو الملك الذي أسّس أو أعاد إعمار مدينة أكد ؛ وحكم من عام 2334 حتى عام 2279 قبل الميلاد . وقد اجتاح ما أسماه "جهات الأرض الأربعة " ؛ كما حافظ على استقرار البلاد في إمبراطوريته من خلال حملاته العسكرية المتكررة .
أدى الاستقرار الذي وفرّته هذه الإمبراطورية إلى بناء الطرق ؛ وتحسين الري ؛ وتوسيع التجارة ؛ فضلاً عن التقدم في الفنون والآداب والعلوم . كما ابتكرت الإمبراطورية الأكدية النظام البريدي الأول ؛ حيث الألواح الطينية المنقوشة في اللغة الأكدية المسمارية كانت محفوظة في ظروف بريدية خارجية طينية تحمل اسم وعنوان المستلم وختم المُرسل . وهذه الرسائل لا يمكن فتحها إلا من قبل الشخص المقصود ؛ لأن لا توجد طريقة لفتح الظرف الطيني إلاّ عن طريق كسره .
ومن أجل الحفاظ على سلطته في جميع أنحاء إمبراطوريته وضع الملك سرگون استراتيجية جديدة في منح المناصب الحكومية إلى مقرّبيه من هم أكثر ثقة في مختلف المدن وتوابعها . إذ كان "مواطنو أكد " ؛ وكما يسميهم نص بابلي قديم ؛ "قد شغلوا مناصب سياسية وادارية لأكثر من 65 مدينة مختلفة تابعة للإمبراطورية ".
كما جعل الملك سرگون من ابنته (إنهيدوانا ) ؛ الكاهنة العليا لمعبد الإلهة إنانا في أور، والتي كانت قادرة على التعامل مع الأمور الدينية والثقافية وفق الأساليب الجديدة في فهم الدين . والمعروف عن حياتها ؛ يبدو أنها كانت كاهنة ذات شخصية قوية جداً بالإضافة إلى نشاطها الأدبي في تأليف الترانيم الرائعة للإلهة إنانا .

الملك ريموش
حكم الملك سرگون لمدة 55 عاماً ؛ وبعد وفاته خلفه ابنه "ريموش" (عام 2279-2271 قبل الميلاد) ؛ الذي اتبع سياسة والده في إدارة دفّة الحكم . ولكن بعض المدن قد انتفضت بعد وفاة الملك سرگون ، لذلك ؛ فقد قضى ريموش السنوات الأولى من حكمه في استعادة السيطرة على النظام ، وقام بحملة عسكرية ضد عيلام ، فحقق انتصاراً كبيراً عليها. وقد بيّن أحد النقوش ؛ أن ريموش قد جلب ثروة كبيرة إلى أكد .
حكم الملك ريموش تسع سنوات فقط قبل وفاته ؛ وجاء من بعده شقيقه "مانشتوسو" (عام 2271-2261 قبل الميلاد). وهناك بعض الآراء تؤيد بأن مانشتوسو قد تسبب في وفاة شقيقه كي يتولى هو العرش .

الملك مانشتوسو
أعاد التاريخ نفسه بعد وفاة ريموش ؛ واضطر مانشتوسو إلى قمع الثورات المنتشرة عبر الإمبراطورية قبل الانخراط في إدارتها . وبعد سيطرته عليها ؛ توجّه إلى تنمية التجارة . وحسب ما ورد في الألواح الطينية ؛ تمكن من توسيع التجارة الخارجية لتصل إلى منطقة "ماجان"( يُخمّن انها دولة الإمارات العربية وسلطنة عمان) ؛ و"مَلَيوخا " (يُخمّن أنها صعيد مصر والسودان) .
قام الملك مانشتوسو بتنفيذ مشاريع كبيرة في الإعمار لتشمل جميع أنحاء الإمبراطورية . ويُعتقد أنه أمر في بناء معبد عشتار في نينوى ، والذي كان يُعتبر نموذج معماري رائع .علاوة على ذلك ؛ فقد قام بإصلاح الأراضي الزراعية ، وتطوير نظام الرّي .
والمعروف عن الملك مانشتوسو أنه قد قدّم للإمبراطورية الأكدية أكثر مما قدّمه والده وشقيقه .
تصف مسلة الملك مانشتوسو المحفوظة لدى متحف اللوفر في باريس ؛ توزيع قطع الأراضي على المواطنين ، وبعض التشريعات التي تنظّم حياة الناس في جميع أنحاء الإمبراطورية .
كانت وفاة الملك مانشتوسو غامضة إلى حد ما ، ولكن حسب رؤية بعض العلماء من بينهم ليك ، كان لها هذا الرأي :
" قُتل مانشتوسو على يد حاشيته بأختامهم الأسطوانية ؛ على الرغم من عدم وضوح الدوافع " (ص111) .

الملك نارام ـ سين
جاء بعد مانشتوسو ابنه " نارام ـ سين " (عام 2261 ـ 2224 قبل الميلاد) ؛ الذي سلك طريق والده وعمّه في قمع الثورات والانتفاضات التي حصلت في أنحاء الإمبراطورية ؛ وحتى قبل أن يبدأ فعلياً في إدارة الحكم . ولكن بمجرّد أن بدأ ؛ ازدهرت الامبراطورية في عهده .
في السنوات الست والثلاثين التي حكمها الملك نارام ـ سين ؛ وسّع حدود الإمبراطورية ؛ وحافظ على النظام في الداخل ، وطوّر طرق التجارة ؛ وقام شخصياً بحملات عسكرية خارج منطقة الخليج ، وربما وصل حتى مصر .
لوحة النصر للملك نارام ـ سين (الموجودة حالياً في متحف اللوفر) ​​؛ تُجسّد انتصار الملك الأكدي نارام ـ سين على ملك اللولوبيين " ساطوني " (قبائل قاطنة في مناطق جبال زاگروس) ؛ إذ يظهر الملك نارام ـ سين على سفح الجبل يدوس بقدمه قتلى أعدائه.
ومثل جدّه ؛ فقد ادّعى لنفسه "ملك الجهات الأربع" . ولكن في خطوة أكثر جرأة منه ؛ بدأ في كتابة اسمه بإشارة تدل على أنه إله من آلهة بلاد الرافدين .

على الرغم من حكمه المشهود في إنجازاته الكثيرة والتي تُعتبر الذروة في عظمة الإمبراطورية الأكدية ، إلاّ أن الأجيال اللاحقة أقرنته بـ" لعنة أكد "؛ وهو نصّ أدبي نُسب إلى سلالة أور الثالثة ولربما كُتب في فترة أبكر من ذلك .
تدور أحداث هذه القصة الرائعة ؛ عن محاولة رجل طلب من الآلهة إجابة على أسئلته ؛ وهذا الرجل كان الملك نارام ـ سين . وحسب النصّ ؛ فإن الإله السومري العظيم (إنليل) قد رفع حمايته عن مدينة أكد ، ومنع الآلهة الأخرى من دخول المدينة ومباركتها . لكن الملك نارام ـ سين لم يكن يعرف ما يجب فعله لمواجهة ذلك الموقف الصعب ؛ فأخذ يصلّي ويطلب العون والبشارات من إلهه . واستمرّعلى هذا الحال لمدة سبع سنوات ولكن دون استجابة . أخيراً ؛ وبعد أن سئم الانتظار ؛ حشد جيشه وسار به إلى معبد إنليل في (إيكور) عند مدينة نيبور ودمرّه .
" جعل معاوله تحت جذوره ، وفؤوسه على أساساته ؛ حتى انهار المعبد كمحارب ميّت" (ليك ، ص 106) .
هذا الفعل المُشين بالطبع ؛ قد أثار غضب ليس الإله إنليل فقط ؛ بل الآلهة الأخرى الذين بعثوا (الگوتيوم Gutium ) " قبائل لا تعرف الخوف ، تمتلك غرائز بشرية ؛ ولكن بذكاء الكلاب وطبائع القرود" ( ليك ص 106) ؛ لغزو مدينة أكد وجعلها رُكام . إذ انتشرت المجاعة الكبيرة بعد غزو الگوتيين ، وجثث الموتى المتعفنة كانت منتشرة في الشوارع والمنازل ؛ والمدينة في حالة خراب . وتستمر الحكاية بسقوط أكد وتفكك الإمبراطورية ؛ بسبب غطرسة ملكها في وجه إلهها .
رغماً من ذلك ؛ فلم يُعثر على أدلّة أثرية تؤكد قيام الملك نارام ـ سين بمهاجمة إيكور في نيبور، ولا عن تدمير معبد إنليل . حيث يُعتقد أن "لعنة أكد" ؛ هو نصّ كُتب في زمن متأخر للتعبير عن اهتمام عقائدي يركز على العلاقة التي يُفترض أن تكون صحيحة ما بين الآلهة والملك. وعندما اختار مؤلفها مدينة أكد وملكها نارام ـ سين ؛ كان بسبب مكانتيهما الأسطورية في ذلك الوقت . وكما تؤكد النقوش الأثرية على تقديس نارام ـ سين للآلهة عندما وضع نقش صورته بجانب صورهم في المعابد .

الملك شار ـ كالي ـ شاري
تولى العرش الإمبراطوري بعد وفاة الملك نارام ـ سين ؛ ابنه "شارـ كالي ـ شاري " (عام 2223-2198 قبل الميلاد ) ؛ الذي كانت بداية حكمه صعبة جداً ؛ لأن توجّب عليه بذل قدر أكبر من العزم في إخماد الثورات بعد وفاة والده . ولكن على عكس أسلافه ، فقد بدا ضعيف القدرة في الحفاظ على النظام ؛ ومنع المزيد من الهجمات الخارجية على الإمبراطورية . كتبت البروفيسورة ليك التعليق التالي :
" على الرغم من جهوده وحملاته العسكرية الناجحة ؛ إلا أنه لم يكن قادراً على حماية دولته من التفكك ؛ وبعد وفاته شحّت المصادر المكتوبة ؛ في وقت ازدادت فيه الفوضى والاضطراب." (ص 159)
من المثير للاهتمام كان أهم مشاريع الملك شار ـ كالي ـ شاري ؛ إعادة بناء معبد إنليل في نيبور ، وربما هذا الحدث إلى جانب غزو الگوتيين وانتشار المجاعة ؛ قد أدى إلى كتابة الأسطورة ( لعنة أكد ) .
لقد شنّ الملك شارـ كالي ـ شاري حروباً مستمرة ضد كل من العيلاميين ، الأموريين ، والگوتيين الغزاة ؛ ولكن اجتياح الگوتيين كان على الأكثر قد عجّل في انهيار الإمبراطورية الأكدية . ومع ذلك ترى الدراسات الحديثة ؛ أن تقلبات المناخ كانت سبباً محتملاً في حصول المجاعة ؛ وربما اضطراب خطوط التجارة أيضاً قد أسهم في ضعف الإمبراطورية لدرجة أن طبيعة الغزوات والثورات التي تم سحقها في الماضي ، لم يعد من الممكن أن يستمر التعامل معها بسهولة .
آخر الملوك الأكديين بعد وفاة الملك شارـ كالي ـ شاري ، كان "دودو" ؛ وابنه "شوـ تورول" ؛ وكان حكمهما قد شمل فقط ؛ المنطقة المحيطة بمدينة أكد . ونادراً ما ذُكِروا ضمن سلسلة ملوك الإمبراطورية في الألواح الطينية.

أخيراً ؛ فإن نهوض مدينة أكد وسقوطها ؛ بقي لغزاً حيّر علماء الآثار والباحثين كثيراً. كما أن هذه المدينة التي حكم ملوكها إمبراطورية مترامية الأطراف ؛ كانت تُعدّ أول إمبراطورية في العالم القديم قد خلّدها التأريخ .


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صموئيل نوح كريمر ـ السومريون ؛ تاريخهم وثقافتهم ـ مطبعة جامعة شيكاغو ـ 1971 .
گويندولين ليك ـ بلاد الرافدين ؛ اختراع المدينة ـ بينجين للكتاب ـ 2002 .
ويل ديورانت ـ قصة الحضارة ؛ تراثنا الشرقي ـ سايمون وشوستر للنشر ـ 1954.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عقوبة على العقوبات.. إجراءات بجعبة أوروبا تنتظر إيران بعد ال


.. أوروبا تسعى لشراء أسلحة لأوكرانيا من خارج القارة.. فهل استنز




.. عقوبات أوروبية مرتقبة على إيران.. وتساؤلات حول جدواها وتأثير


.. خوفا من تهديدات إيران.. أميركا تلجأ لـ-النسور- لاستخدامها في




.. عملية مركبة.. 18 جريحًا إسرائيليًا بهجوم لـ-حزب الله- في عرب