الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عندما تُزهر البنادق

مهند طلال الاخرس

2022 / 4 / 9
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


عندما تزهر البنادق
رواية لبديعة النعيمي تقع على متن 173 صفحة من القطع المتوسط وهي من اصدارات فضاءات للنشر والتوزيع في الاردن سنة 2020.

عندما تزهر البنادق رواية وطنية وتاريخية وانسانية بإمتياز؛ وذات نسق ادبي مبهر، ومفعم بكثير من الصور الادبية الممتلئة بالمجازات والتعابير الحية، والرموز وكثافة المشاهد وتعدد اللوحات في الرواية، والتي تقوح من بين ثنايا سطورها اصوات الوجع والانين والحنين، هذه الصور والمشاهد المزدحمة بالتفاصيل حيكت بقلم مبدع انيق صاحب فكر وقضية، ولولا ذلك لما اكتملت صفحات هذه الرواية بهذه الحلة من البهاء والابداع.

هذه الرواية تتحدث عن مجزرة دير ياسين مع التوطئة لها بكثير من الاحداث الجسام التي مرت على فلسطين ومهدت لها، كالمؤتمر الصهيوني والانتداب البريطاني وقرار التقسيم والكتاب الابيض ووعد بلفور والهجرة اليهودية وصولا الى النكبة والتي كانت احد محطاتها الرئيسية مجزرة دير ياسين موضوع الرواية.

الرواية في القسم الاول والثاني تسير بخطين متوازيين؛ بحيث اعتمدت الكاتبة هذا التكنيك لتأثيث روايتها وصنع حبكتها وطرح الاسئلة والحبكات الفرعية بما يخدم الحبكة الرئيسية ويخدمها، ويضفي عليها مزيدا من ضروب الجمال وامعانا في زيادة التشويق .

جاء الخط الاول للرواية مستعرضا طفولة الصغيرة زينب من عند محاولتها الوصول لطرف الشباك وامعان النظر والتمكن من تفاصيل المكان في حدود القرية الوادعة دير ياسين، وتستمر الاحداث بالتصاعد مع زينب بما ويتفق وسياق نمو الصغيرة واتساع افاقها ومداركها، مع التعرض لكثير من التفاصيل الاسرية والاجتماعية التي تتمحور حول زينب وعائلتها، وهي تفاصيل واحداث احسنت الكاتبة توظيفها لخدمة فكرة الرواية وموضوعها الاساس.

وحتى خلال هذا الخط ومع تصاعد الاحداث نجحت الكاتبة باضافة ظل اخر لهذا الخط وبموازاته وتحت احداثه الرئيسية، ويبدا هذا الظل من عند ظهر ص ١٨ وتحت عنوان ذاكرة الوطن محشوة بالتواريخ الساقطة ، مبتداة سردها لابرز معالم واحداث وتاريخ الصراع من اذار ١٩٢٠، وتستمر الكاتبة بحرفية ودقة متناهية في تطريز صفحات الرواية في حدود هذا الظل الموازي للخط الاول في الرواية، فتتحدث عن احداث نيسان ١٩٢٠، واحداث ايار ١٩٢١، ومنتصف تشرين الاول ١٩٢١، و١٩٢٢، ونهاية نيسان ١٩٢٣، واحداث العام ١٩٢٩، و١٩٣٠، و١٩٣٦، و١٩٣٧، و١٩٣٩، و١٩٤٠، و١٩٤٢، و١٩٤٣، واواخر العام ١٩٤٧، ومطلع العام ١٩٤٨.

وتتابع الكاتبة وبكل حرفية سير الاحداث وتصاعدها مع تصاعد الحبكة وتكثف الاحداث وازدحام الاسئلة، فتنجح بتتبع هذه الاحداث والمراحل في القسم الثالث من الرواية من عند ظهر الصفحة ١٣٩، بحيث يبدا خطي الرواية المتوازيين بالانصهار والاجتماع معا، ويبدا الحديث في هذا القسم بشكل اوحد، وهذا ما يلحظه القاريء من عند الصفحة ١٣٩ والمؤرخ له بتاريخ ليلة التاسع من نيسان ١٩٤٨، وهو بداية المجزرة بحق دير ياسين واهلها وتمتد فيه الكاتبة حتى ص ١٦٥، وهو اكثر فصول الرواية اثارة ودموية والم، بحيث تنحبس معه الانفاس ويرتفع منسوب الادرينالين في الدم ، حتى يخيل للقاريء بانه يشتم رائحة شواء وشعط الجثث التي تدمي القلب وتزكم الانوف، لكنها ضرورية لتبقى الذاكرة حية، فالربما لو كانت المصائب والكوارث بدون دماء لامكن نسيانها، لكن وكما ورد في ص ١٢٦ وعلى لسان جد زينب قوله: "نحن بحاجة لرؤية تلك الذكريات حتى لو كانت مؤلمة، لانها تذكرنا بشيء لنا وسرق منا، فهل نطمس ماضينا وننسف هويتنا بايدينا، فبعض المرايا جوازات سفر الى انفسنا كي لا ننسى من نحن واين كنا ذات وقت".

ويبدا معالم الخط الثاني (الموازي للاول) في للرواية من عند ص ٥٥، حيث تتمكن الكاتبة بادخالنا في مضامين واحداث هذا الخط وسياقه ومضمونه، فتقول:" هناك الكثير من القصاصات وجدت مخبأة اسفل فرشة زينب بعد خروجها من المصح، وكانت احدى العاملات قد هربت لها قلما واوراقا، فالقوانين تمنع ذلك لئلا يقدم المريض على الانتحار.

وتقول زينب في احداها، ومن الواضح بان الذاكرة كانت قد اسعفتها لتذكر بعض المواقف التي مرت بها.

القصاصة الثانية كتبت فيها: شعرت ذات مرة بأني اتجول في ذاكرة عارية في ازقة حارات قريتنا، باحثة عن اي شيء يستر عورتها، فلم اجد، فكل الاشياء هناك تحولت الى رماد.
سرت في طريق لا اعلم اين سينتهي بي، فاذا ببئر كنت قد مررت بها من قبل، نظرت بداخلها علني استطيع ان اروي ذاكرتي من مياهها فتزهر من جديد، فاذا بها تغص بجثث مشوهة لاطفال ونساء، تراجعت بسرعة للخلف، وبدات اركض بخطوات محمومة للامام، وكنت التفت للخلف لاتأكد من ايا منها لا يتبعني، فاتعثر واسقط، ثم انتصب، كانت الجثث تلاحقني، وتقترب مني اكثر واكثر، تسارعت انفاسي واضطربت وصرخت حتى تلقيت تلك الحقنة المجنونة في المصح (المستشفى).

في هذا الخط الموازي من احداث الرواية والذي تبدأ احداثه بعد عشرة اعوام من وقوع المجزرة والنكبة، تدخل زينب لمصح للامراض العقلية، وتعاني الاهوال، وتكون فاقدة للذاكرة، وتبقى الاحلام تزورها وتحفز ذاكرتها على الرجوع، يتناوب الاطباء عليها في المصح، ولا حلول لديهم، إلا الحقن والمهدئات، حتى بلوغ ص ٦٠، يظهر طبيب جديد في المناوبة، وحده الطبيب ناجي يستطيع مداواتها وفك اسرار ذاكرتها ومداواتها لاحقا.

مع ناجي الطبيب تدور حبكات جديدة تضيف روحا واسرارا جديدة للرواية، مع ظهور ناحي تبدا عدالة السماء باعادة شيء من الاعتبار لاصحاب الارض...

بين ناجي وزينب، والتي بدات لتوها بتذكر اسمها تثور اسئلة متعددة مفرحة ومحزنة ومشوقة تزيد من جماليات وصنوف الابداع في الرواية.

تطمئن زينب لناجي، وتلحظ دفئا في صوته ليس بغريب عليها، وكذلك عيونه البنية، واستخدامه لبعض الكلمات والمصطلحات المعهودة لديها، مع ناجي تبدا زينب بالتذكر اكثر واكثر، وتخاطبه في ص ٧٤ وتقول: هل تُغسل الذاكرة بعد الموت كالاجساد، هل تكفن، هل تعطر بعطر الموتى؟
وهل تشعر بالغربة حينما تُدفن وتبتعد عن اصحابها؟
بكى ناجي وهو يستمع اليها، ناجي الذي طالما شعر بشيء غريب يشده نحو هذه المريضة.

تستمر جلسات العلاج، ويدور حديث مطول ومكثق ومزدحم بالرمز والمجاز بين زينب وناجي على ظهر الصفحة ٨٧ جاء فيه: التفت الى جدي ووجهت له السؤال الصعب: هل ستعترف الارض يوما بما حصل؟ ام انها ستدعي بانها كانت نائمة؟
فأحابني: ومن سيصدقها مع كل ذلك البلل الذي لن تجففه حرارة الشمس يوما! كيف لها ان تبقى نائمة مع كل تلك الفوضى والعويل؟

تستمر احداث الرواية بالتصاعد بصورة تحبس الانفاس ، الى ان نصل لصفخة ١١١، حيث تعود الذاكرة لزينب، واثناء تلك الاحداث تتكشف شخصية ناجي اكثر، وتتعرف زينب في ص ١٢٦ على ناجي بالشكل الصحيح، وتكتشف انه ابن عمها اكرم الذي تحب، والذي يتضح انه كان متزوجا بالخفاء عن العائلة، واكرم هذا كان يعمل في يافا ويخدم في صفوف الثورة، وتستمر الاحداث وتطلب منه البحث عن زوجة عمهم ايوب وولديه في الناصرة.

تزدحم الاحداث ويبدأ الهجوم على قرية دير ياسين وتبدا احداث المجزرة، والتي نجحت الكاتبة بالتقاط افظع صورها واحداثها لُتبقيها عالقة في الذاكرة. كيف لا وهي القائلة على ظهر الصفحة ١١٥:" قال لي جدي يوما: كم من السنين ستصمد صورة قريتنا وهي معلقة على جدران الذاكرة دون ان تسقط..؟
وتستمر احداث المجزرة ويستمر معها شلال الدم- والدمع- وتكثر التفاصيل حتى يعود جد زينب مجددا على ظهر الصفحة ١٣٧ ليقول:" ستزهر البنادق في نيسان. هاهو التاسع من نيسان قد وصل محملا بالانتصارات مرة وبالخيبات مرات كثيرة، لكن البنادق اصابها الذبول بعد ان ازهرت يا جدي".

سكنت الجلبة في القرية، وانتهت المعركة بمجزرة تكدست فيها الجثث بالطرقات وداخل البيوت ولم تجد من يدفنها، فقامت العصابات بمحاولة حرقها، وكانت محاولة فاشلة فانتشرت رائحة الدماء مع رائحة شواط الاجساد.

وغادر من غادر على جمر الالم الى قرية عين كارم وتشرد ايتام القرية في شوارع القدس.

كانت شمس ذلك اليوم اشرقت على مجزرة دير ياسين، ولم تتمكن عصابات شتيرن والارغون من البلدة واهلها إلا حين نفذ رصاص بنادقهم.

شائت الاقدار ان تنجوا زينب وان يذهب عقلها، يكتشفها الصليب الاحمر من بين اكوام الجثث ويسعفها الى مصح عقلي، تمكث فيه عشر سنوات، لا رفيق لها إلا شذرات من احلام وكوابيس يكثر فيها الدم والموت، الى ان يزورها الطبيب ناجي، ويتعرف عليها ، ومعه تبدأ استعادة الذاكرة وتسجيل ما حصل.

موضوع الرواية تجسيد فعلي لمضامين الرواية الجادة والهادفة، فالرواية الجادة والهادفة هي صاحبة القضية وتكون صفحاتها ومضامينها منارات ضد سياسة التجهيل والتذويب والمحو والشطب والالغاء، وتمارس الوعي وتستهدف بناء حالة ثقافية مقاومة تستطيع مجابهة ومواجهة زيف رواية المحتل وخداعه وبطشه، اضافة الى دورها في حرب الوجود التي يخوضها الشعب العربي الفلسطيني ، وفيها تعدّ معركة الذاكرة من أهم المعارك التي خاضها هذا الشعب بجدارةٍ لمواجهة حرب التهويد التي فُرضت عليه منذ النكبة التي ابتُليت بها بلاده سنة 1948.

ولعل مقولة "الكبار سيموتون والصغار سينسون" التي أطلقها أول رئيس وزراء إسرائيلي، بن غوريون، من أكثر المقولات استفزازاً وتحدّياً لأبناء الشعب الفلسطيني. غير أنها، ومن دون أن يدري مطلقها، والإسرائيليون الذين ما زالوا يتبنّونها، أدخلت اليقظة إلى ذاكرة الفلسطينيين، من أجل عدم نسيان أرضهم المسروقة، وتاريخهم الذي يحاول الإسرائيليون طمسه. وبرزت إرادة الحفاظ على الذاكرة، وفي هذا السياق جائت رواية بديعة النعيمي "عندما تزهر البنادق" وهذا العنوان ومن تحته المضمون يشكلان معا فكرة الرواية صاحبة القضية، وهذا الطرح لا يأتي إلا من صاحب قضية بالضرورة، والقضية هنا ليست مهنة طارئة، بل هي تعبير حي عن اصول وجذور راسخة تنتصر لذاتها ولقيم الحرية والعدالة الانسانية باحلى واجمل الصور، وهذا ما نراه ونلمسه في كل روايات بديعة النعيمي.

الرواية جائت لتنعش الذاكرة وتبقيها متقدة وحية في مواجهة الرواية الصهيونية المزيفة والتي تستهدف كي الوعي وطمس الحقيقة وصناعة تاريخ جديد يقوم على الاوهام والاكاذيب، تلك الاكاذيب القادمة من مزابل التاريخ ومتحف الحكايات الرديئة، مضافا اليها كثيرا من فصول العربدة والبلطجة والاستبداد لتأخذ لها حيزا تحت الشمس، ليس بفعل صوابيتها وصدقيتها وانما بفعل الكذب والخديعة وسطوة النار والبارود، وطبعا ما كان لهذا كله ليتم دون خذلان وتواطؤ كثير ممن كنا نحسبهم اخوان وخلان.

بقي ان نقول ان هذه الرواية كتبت بمداد من دم وروح، وان كاتبتها -ولها من اسمها نصيب فهي بديعة والرواية بديعة-
هذه الرواية رواية الذاكرة الوطنية بحق، وتستحق ان تعتلي رفوف مكتباتنا بجدارة.

شكرا كبيرة بحجم السماء للكاتبة المبدعة بديعة النعيمي على هذه التحفة والوثيقة، لبديعة وامثالها ترفع القبعات ويُلوّح بشارات النصر، رفعت الاقلام وجفت الصحف.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهاجمة وزير الأمن القومي الإسرائيلي بن غفير وانقاذه بأعجوبة


.. باريس سان جيرمان على بعد خطوة من إحرازه لقب الدوري الفرنسي ل




.. الدوري الإنكليزي: آمال ليفربول باللقب تصاب بنكسة بعد خسارته


.. شاهد رد مايك جونسون رئيس مجلس النواب الأمريكي عن مقتل أطفال




.. مظاهرة أمام شركة أسلحة في السويد تصدر معدات لإسرائيل