الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صاحب البدلة الواقية من البلل

عبدالرزاق دحنون
كاتب وباحث سوري

2022 / 4 / 11
الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة


تحقيق صحفي
عن مأساة الشاب السوري معاذ البلخي الذي عُثر عليه في بحر الشمال
1
بلا أثر

العاصفة البحرية الآن على أشدها، آتية من الجنوب الغربي، إذ يرتدى معلم بناء عجوز معطفه وحذاءه المطاطي قبل الخروج من منزله. على مقربة من هذا الخليج المقفر، أمواج عاتية يبلغ ارتفاع بعضها أربعة أمتار تضرب الحواف الصخرية وتنشر رذاذ البحر على مسافة مئات الأمتار بامتداد مساحات الرعي لدى أبعد نقطة جنوبي النرويج.

في طريقه، يفاجأ معلم البناء ببذلة واقية من البلل تقبع منفرجة على زاوية من الحشائش الخضراء بين الحواف الصخرية بعيداً عن متناول الأمواج. «ربما تنفعني هذه البذلة»، يقول في نفسه، رغم أنه من النادر أن يخرج أحد من القرية للتسكع في مثل هذه الظروف.

بينما يتقدّم الرجل يصل إلى أنفه عبق البحر ورائحة الطحالب ورائحة أخرى لا يستطيع تمييزها لكنها تكاد تقلب معدته. عندما يصل إليها، يكتشف أن البذلة من طراز «ترايبورد» تبدو في عينيه رخيصة الثمن بينما يبدو جانب منها مقلوبًا باطنُه إلى ظاهر. ثم فجأةً، تنتأ عظمتان بيضاوان من حيث يوجد الجوربان.

المحقق كار أونهامر، في قسم شرطة فارسوند، يتمتع بشخصية سلطوية وله عينان واسعتان لا تعرفان المزاح وشارب كث وسِنّة ذهبية تلمع كلما فتح فمه. يوم جيد من أيام أبريل/نيسان هذا العام، بينما تلحظ على جدران حجرة الانتظار في قسم الشرطة تحذيراً من لصوص القوارب، ولوحة من المعلومات حول الحجم القانوني لسمك القُد الذي يمكن اصطياده جنوب خط الطول 60 درجة، وهو 40 سنتميترًا لا أكثر. في العصور الوسطى كانوا يحرقون الساحرات أمام هذه البقعة، لكن الأمور صارت الآن أكثر سلامًا.

«هذا مكان هادئ»، يؤكد أونهامر، قبل أن يقرأ في سجلاته: في الساعة الثالثة ودقيقتين بعد ظهر الثاني من يناير/كانون الثاني 2015، عُثر على بذلة غطس تحتوي على رفات بشرية في منطقة ليستا.

توجه فريق من خبراء المعامل الجنائية كي يلتقطوا صوراً وكي يفحصوا الجثة، لكن من الواضح أن زمناً طويلاً كان قد مر عليها في البحر بحيث لم يترك وراءه كثيرًا مما يقبل الفحص. ورغم ذلك، لم يكن فيما تبقى من رفات ما يمكن أن يشير إلى إصابات من جراء اصطدام بمحركات القوارب البخارية أو من جراء طعن بآلة حادة أو من جراء إصابة بطلق ناري. وعلى هذا، يخمن أونهامر أن الجثة غالباً تعود إلى شخص ما فُقد في بحر الشمال، وأنه سيتم التعرف عليها سريعًا.

يقارن الخبراء هذه الجثة بتقرير ورد من منطقة ستافنيير عن رجل كان يرتدي بذلة واقية من البلل انقطع الاتصال به قبل عام. لكنّ تطابقًا لم يحدث، لا في هذه الحالة ولا في أي من الحالات الأخرى. يقول أونهامر: «من وقت لآخر، تصلنا جثث طافية على سطح الماء، ولم يحدث أبدًا أننا لا نستطيع التعرف على هويات أصحابها».

ثمة خريطة ملاحية لمنطقة ليستا على أحد جدران الغرفة. التيارات البحرية هنا غير قابلة للتنبؤ إلى حد بعيد، ولا يستطيع حتى الصيادون المحترفون أن يعرفوا بما سيكون عليه الحال في اليوم التالي. ومن ثم، فإن من المستحيل توقع من أي اتجاه وصلت أي جثة طافية إلى هنا.

في هذه الحالة، لم يكن بين يدي أونهامر الكثير. «عندما لا يكون بين أيدينا الكثير، لا مناص من اللجوء إلى سجلات اختبارات الحمض النووي DNA للبحث عن إجابة، ونحن لا نستطيع القيام بمثل هذا هنا».

كان لمفتش الشرطة، بير آنييل، دور كبير في فك طلاسم الجثث المجهولة في كثير من الحوادث والكوارث منذ نهاية الثمانينات. هو رئيس «مجموعة كريبوس الوطنية للتعرف على الهوية»، وهي المجموعة التي يُلجأ إليها في حالات الحوادث والكوارث التي ينتج عنها وفيات متعددة أو في حالات العثور على جثة مجهولة الهوية. يتحدث آنييل عن النرويج باعتبارها بلد الحوادث؛ فهي مليئة بالعواصف وبالطبيعة القاسية، إضافةً إلى حوادث القطارات والطائرات والسفن والإرهاب. «لقد صرنا مهرة في فنون التعرف على الهوية»، كما يقول آنييل.

من ناحيتها، تقول قائمة المفقودين في النرويج إنه منذ عام 1947 حتى كتابة هذه السطور وصل العدد إلى 1443، بينما تشير قائمة الشرطة بشأن من عُثر على جثثهم في هذه الفترة الزمنية نفسها أن عدد من تم التعرف على هوياتهم أقل من هذا بكثير. فقط 18 جثة، بما في ذلك حالات العثور على عظام. وعليه، يقول آنييل، «ربما إذًا يكون الرجل في البذلة الواقية من البلل الجثة رقم 19 في هذه القائمة».

وما يحدث عادة حين تتسلم «مجموعة كريبوس» جثة مجهولة أن خبراءها في المعامل الجنائية وفي علم الأمراض وفي طب الإنسان وفي العلوم الوراثية يجمعون ما يسمى معلومات ما بعد الوفاة، يخلقون من خلالها ملف الحمض النووي وبصمات الأصابع والأسنان والمجوهرات والعظام المكسورة والوشم وأي تفاصيل أخرى يمكن أن تساعد في التعرف على الهوية. وسوى هذا كله، يحاولون أيضاً التعرف على سبب الوفاة.

وبعد ذلك، تتم مقارنة معلومات ما بعد الوفاة بسجلات المفقودين التي تحتوي على معلومات أفاد بها أهالي المفقودين وأصدقاؤهم. أما المتطلبات الأساسية للتعرف على الهوية فهي الأسنان وبصمات الأصابع والحمض النووي، ولا يغني أي منها عن الآخر.

في إطار هذه العملية، لم تتطابق معلومات ما بعد الوفاة في حالة صاحب البذلة الواقية من البلل مع أي من سجلات المفقودين في النرويج. لا يتوفر بين يدي المحققين في هذه الحالة سوى معلومة الحمض النووي، وإذا أرادوا أن ينجحوا في التعرف على هويته فلا بد لصاحب الجثة من أن يكون له سجل بحمضه النووي لسبب ما في مكان ما، أو أن يكون أحد أقاربه قد أبلغ عن فقده وأمد جهة ما بعينة من حمضه النووي يمكن استخدامها في عملية المقارنة.

في الخامس من فبراير/شباط، أرسلت مجموعة كريبوس ما يوصف بـ «إعلان أسود» من خلال الشرطة الدولية (الإنتربول) احتوى الإعلان معلومات عن الحمض النووي ووصفاً مفصلاً للجثة التي وُجدت في منطقة ليستا.

في اليوم التالي جاءهم الرد: هذه الجثة ليست الجثة الوحيدة التي ألقى بها التيار إلى الشاطئ في بذلة واقية من البلل رمادية اللون مشوبة بالأسود من طراز ترايبورد.

«نسميه صاحب البذلة الواقية من البلل»، هكذا يفتتح يون فيلزينباخ، المحقق في الوحدة الخاصة في الشرطة الهولندية المعنية بالأشخاص المفقودين في بحر الشمال. يبلغ من العمر اثنين وخمسين عاماً، غطاس بحري سابقًا، ذو جسد رياضي، يرتدي سترة واقية من الريح ونظارة شمسية رياضية. هو من نوع المحققين الذين لا يغمض لهم جفن حتى يفكوا طلاسم ما بين أيديهم.

على عَبّارة تحركت من دِن هيلدر إلى تيكسيل في شمالي هولندا، يشير فيلزينباخ بإصبعه إلى ضفة رملية ويقول إنه لا يزال يبحث عن هوية رجل عُثر على جثته هناك على متن قارب عام 1995. وقبل أسابيع قليلة، كما يستطرد، استطاع الوصول إلى معلومات حاسمة قد تغلق الملف في حالة سيدة فرنسية طفت جثتها بالقرب من هنا نحو الشاطئ قبل خمسة عشر عامًا.

أما جثة «صاحب البذلة الواقية من البلل» فقد عُثر عليها في تيكسيل في الساعات الأولى من صباح السابع والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول، داخل بذلة سوداء/رمادية مطابقة لتلك التي عُثر عليها في ليستا في النرويج بعد ذلك بسبعة وستين يومًا. عُثر على هذه الجثة الأولى هنا على حافة الشاطئ في ممر يقع أسفل سلسلة من المقاهي في قرية صغيرة اسمها دي كوخ. هذا الشاطئ يرتاده المهتمون بالألعاب المائية والسياح من كافة أنحاء هولندا الذين يفدون إلى هنا في الصيف.

وكل عام، يقع بين يدي فيلزينباخ ومجموعة بحر الشمال الهولندية بين 20 و30 جثة أو رفات إنسان للتعرف عليها. معظمها ينتمي لمفقودين من المناطق المحلية، ومعظمها تُحل طلاسمه سريعًا.

«أما هذه الحالة فهي مختلفة»، كما يؤكد فيلزينباخ. كم من الزمن بقيت جثة هذا الرجل في المياه؟ ثلاثة أيام؟ أم ثلاثة أسابيع؟ لا ندري، إذ إن من الصعب حساب مدى سرعة تحلل الجسد إذا كان الإنسان يرتدي بذلة واقية من البلل في مياه باردة. من أين أتت الجثة؟ كان من المستحيل أيضاً معرفة هذا بشكل دقيق. ذلك أن جثثًا من بقع مختلفة انتهى بها الحال بين يديه قبل ذلك، من بحر الشمال بعرضه وطوله ومن منطقة القنال الإنغليزي.. جثث من إنغلترا ومن اسكتلندا ومن فرنسا وألمانيا وبلجيكا وبكل تأكيد من هولندا.

لا يوجد بين يدي فيلزينباخ دلائل جسدية كثيرة يمكن أن ينطلق منها في التعرف على هوية صاحب الجثة. إلا شيء واحد ربما: أن شعره أسود اللون.. جدًا. «ظننت أولاً أنه ربما يكون من إسبانيا؛ فلا توجد أماكن كثيرة في أوروبا يكون لأهلها شعر بهذه الدرجة من السواد». لا يملك المحقق الهولندي لدى هذه المرحلة أكثر من التخمين.

في الفترة نفسها التي عُثر أثناءها على الجثة كان قد أُعلن في إنجلترا عن فقد أربعة من المتزلجين على المياه، فظن الهولنديون في البداية أن الجثة ربما تكون لأحدهم. ولكن بعد قليل عثروا على جثث المتزلجين. ثم علموا بعد ذلك بفقد غطاس فرنسي في منطقة نورماندي، فأعلنوا أن جثة الرجل صاحب الشعر الأسود التي عُثر عليها في تيكسيل هي جثة الغطاس الفرنسي. «كان هذا خاطئًا بكل تأكيد، ولكن حتى في اجتماعاتنا لاحقاً ظللنا نسميه الغطاس، ولم أسترح لهذه التسمية»، يعترف فيلزينباخ؛ «فلم تكن لدينا فكرة عن أي نوع من الرياضة كان هذا الرجل يمارس عندما تحول إلى جثة، وكانت خشيتي- إذا أطلقنا عليه هذه التسمية- من أن يغفل انتباهنا عن أي تفصيلة يمكن أن تساعدنا. ولذلك قلت لهم: من الآن فصاعداً سنسميه الرجل صاحب البذلة الواقية من البلل».

عادت الشرطة إلى المربع رقم واحد؛ فلم يكن من الممكن الحصول مرة أخرى على بصمات الأصابع، ولم تتوفر سجلات ولا أوصاف ولا حامض نووي. وإضافةً إلى هذا كله لم تكن هناك استجابة للنداء الذي أطلقه المحققون عبر الإنتربول. فقط البذلة الواقية من البلل كانت كل ما يملكه فيلزينباخ.. بذلة من المطاط الصناعي سمكها خمسة ملليمترات، غطاء الرأس جزء لا يتجزأ منها، تُستخدم للغطس في أجواء تتراوح حرارتها بين 16 و24 درجة مئوية. المثير للانتباه هنا أن من النادر جدًا أن تتجاوز حرارة الماء في بحر الشمال وفي القنال الإنجليزي 15 درجة مئوية، وأنها في أكتوبر/تشرين الأول- وقت العثور على الجثة- لم تتجاوز 10 درجات. وكان هذا أمراً محيرًا من وجهة نظر المحققين.

التفت نظر فيلزينباخ إلى شيء آخر في غاية الأهمية له علاقة بما يسمى تحديد الهوية عن طريق التردد الشعاعي Radio-Frequency Identification (RFID) وهو عبارة عن رقائق متناهية الصغر تحمل معلومات شفرية تستخدم غالبًا في كل شيء.. من تسجيل مرور السيارات لدى محطات جمع ضريبة استخدام الطرق، إلى التعرف على الحيوانات الأليفة، إلى تسجيل المعلومات الخاصة بحركة البضائع من أماكن إنتاجها إلى أماكن بيعها إلى حقيبة المشتروات.

لمعت عينا المحقق الهولندي عندما اكتشف وجود رمز RFIDعلى تلك الرُقعة التي أُحكمت حياكتها في جسم البذلة؛ إذ إنه أدرك توًّا أن هذا الرمز يمكن أن يقوده إلى معرفة أين ومتى بيعت هذه البذلة، وربما يكون أوفر حظًا فيهتدي من خلال بطاقة الائتمان التي ربما تكون قد استخدمت في الشراء إلى الخيط الحاسم. تحرك فورًا فكان هذا ما توصل إليه:

في الساعة الثامنة وثلاث دقائق من مساء الثلاثاء الموافق السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وقف رجل أمام خزينة الدفع في متجر ديكاثلون للأدوات الرياضية في ميناء كاليه الفرنسي قرب القنال الإنجليزي. اشترى بذلة واقية من البلل من طراز ترايبود، سمكها خمسة ملليمترات، مقاسها متوسط، ثمنها 79 يورو. اشترى الرجل أيضًا مجاذيف يدوية وأنبوبًا للتنفس تحت الماء وقناعًا للغطس وزعانف وجوارب مائية وحافظة بلاستيكية للورق من حجم A4 واقية من البلل. الأكثر إثارة أن قسيمة البيع تبين أنه اشترى زوجًا من كل صنف من المذكور أعلاه.

يعلم الآن فيلزينباخ أين انتهى المطاف بإحدى هاتين البذلتين: في مخزن الأدلة لدى الشرطة الهولندية. وعندما أُرسلت هذه المعلومات إلى النرويج علم محققوها أن البذلة الأخرى هي تلك التي عثر عليها معماري عجوز في يوم شتوي عاصف في منطقة ليستا، على بعد 850 كيلومترًا من ميناء كاليه، بعد 87 يومًا على تاريخ الشراء.

أما المؤسف فهو أن المشتري دفع 256 يورو نقداً قبل أن يغادر، بينما لم يتوفر فيديو مراقبة يسجل فترة وجوده في المتجر. قاب قوسين أو أدنى من لحظة حسم تبخرت فجأة مثلما انبثقت فجأة. تمكن الإحباط من المحققين في النرويج وفي هولندا.

2
الغابة

تعصف ريحٌ صرصرٌ بالرمال فتمسح الأرض. تخفت القدرة على الرؤية حتى تتلاشى في بعض الأحيان في تلابيب العاصفة. على بعد عدة مئات من الأمتار، في منطقة رملية يكسوها لون رمادي/بني بين تلّتين، ترتسم خيالات حفنة من اللاجئين في غمار سحابة من التراب، يدفعون في مواجهة الريح سلة مشتروات متحركة مليئة بقنينات المياه.

«ممنوع التصوير»، يصيح أحدهم عندما يلمحنا، ويشيح بيديه في وجوههنا أن ابتعدوا عن هنا. تحيط بنا من كل اتجاه كشافات ضوئية بلاستيكية زرقاء وسوداء وخضراء، وخيام بسيطة مثبتة في الأرض بقوائم وأسلاك حديدية وحقائب بلاستيكية. مئات من هذه الخيام تفترش هذه البقعة التي كانت قبل ذلك مكبًا للنفايات. نحو ألفين ممن يوصفون بالمهاجرين غير الشرعيين من كل أنحاء العالم يعيشون هنا، ومن المتوقع أن يتضاعف هذا العدد بحلول الصيف. تقريبًا لا يوجد لديهم مياه ولا كهرباء ولا قواعد ولا أمن ولا مصادر للتدفئة.. لا شيء.

يبزغ رجل عشريني مفتول العضلات، طوله نحو مترين، منحدرًا بحذاء الطريق في اتجاه مبنى اعتاد المهاجرون منذ يناير/كانون الثاني أن يحصلوا منه على وجبتهم الوحيدة في اليوم. يوجد في هذا المبنى أيضًا صنبور المياه الوحيد في هذه المنطقة.

لم تتعد الساعة الحادية عشرة صباحًا وهذا الرجل العشريني مخمور بالفعل، قابض على قنينة نبيذ وردي من متجر ليدل. ثم يصرخ الآن بأعلى صوته: «أريد أن أعود إلى وطني أريد أن أعود إلى أفريقيا».

أهلًا بكم إلى مخيم اللاجئين البائس، الراتع في الأمراض، غير الرسمي، في ميناء كاليه شمال غربي فرنسا. أهلًا بكم إلى الدليل القاطع على الفشل التام لمحاولات أوروبا الغربية التعامل مع اللاجئين بأدنى درجات الكرامة الإنسانية. أهلًا بكم إلى المخيم الذي لا يريده أحد لكنه هنا على أية حال وهو يتفاقم كل يوم. أهلًا بكم إلى المخيم الذي لا يحمل اسمًا رسميًا وإن كان معروفًا على نطاق واسع باسم يليق به. أهلًا بكم إلى «الغابة».

تطل كاليه، التي يسكنها نحو سبعين ألفاً، على أضيق جزء في القنال الإنجليزي؛ فالمسافة من هنا إلى إنجلترا لا تتجاوز 34 كيلومترًا حتى أنك إن تطلعت منها في يوم صحو تستطيع أن ترى حواف الصخور الجيرية البيضاء التي تميز دوفر على الجانب البريطاني. سوى هذا، فإن كاليه بلدة خالية من السحر.. مجرد مدخل إلى فرنسا. يصف أحد كتب الإرشاد السياحي هذه البلدة بأنها مكان يعبره معظم الناس ولا يتوقفون.

لا يبعد النفق الرابط بين بريطانيا وفرنسا تحت القنال الإنجليزي بأكثر من كيلومترات معدودة، ومن ثم تلحظ حركة دؤوبة للقطارات والسيارات والشاحنات تحت سطح الماء، بينما فوق سطحه تنطلق العبّارات من هذه النقطة على هذا الجانب إلى دوفر على الجانب الآخر.

الأمر إذًا يهم بريطانيا، ربما بأكثر مما يهم فرنسا. ورغم أن باريس تفرض حصارًا شبه عسكري على المخيم منذ نشأته، فإن تعزيزات أمنية ظهرت حديثًا في صورة سور شائك يبلغ ارتفاعه خمسة أمتار تمتد أفقيًا لمسافة عشرين كيلومترًا. كانت آخر مرة استُخدم فيها هذا السور الشائك بعينه أثناء اجتماع رفيع المستوى لحلف شمال الأطلسي (ناتو) في مقاطعة ويلز البريطانية. تبرعت لندن به، إضافةً إلى 12 مليون جنيه استرليني لدعم إجراءات الأمن حول العبّارات وحول النفق.

في المخيم، لا يوجد لدى المهاجرين سوى هدف واحد: أن يصلوا إلى إنجلترا. السؤال: كيف؟ يصل هذا الهدف من القوة إلى حد أن خمسة عشر مهاجرًا لقوا حتفهم العام الماضي، بينهم فتاة لم يتجاوز عمرها السادسة عشرة. معظمهم صدمتهم شاحنات أو حافلات أو سيارات على الطريق. أحدهم مات عندما قفز من جسر فدهسته شاحنة تصادف مرورها في تلك اللحظة. مهاجر آخر وُجدت جثته في نهر قريب، بينما سقط زميل له من مكان اختبائه إلى أسفل عجلات حافلة سياحية ضخمة. وهناك آخرون لا أثر لأسمائهم في القوائم الرسمية أو على صفحات المدونين أو ضمن شريط الأخبار. هؤلاء هم الذين لا يسمع بهم أحد، ولا يتذكرهم أحد، ولا يسأل عنهم أحد.

من هنا، انبثق احتمال المهاجرين في ذهن المحقق الهولندي، يون فيلزينباخ، وزملائه، عندما استطاعوا أن يربطوا البذلتين الواقيتين من البلل بذلك المتجر في كاليه. إذ إن شخصًا دائم الإقامة في أوروبا أو من كاليه أو حتى سائحًا عاديًا كان لا بد أن أحدًا ما، من أهله أو من أصدقائه، سيبلغ عن فقده، وكان لا بد لهذا أن ينتهي به المطاف لدى الشرطة.

شيء آخر حيّر تفكير المحقق الهولندي، وهو أن توليفة الأدوات المشتراة من المتجر الرياضي لم يكن لها معنى لدى المحترفين. مزيج من أدوات السباحة التنافسية والجمباز المائي ومعدات الغطس. لا أحد يتمتع بحد أدنى من الإلمام بالرياضات المائية كان ليشتري هذا المزيج المتنافر.

هل يمكن إذًا افتراض أن الأمر يتعلق بلاجئيْن كانا يخططان للسباحة في اتجاه إنجلترا؟

أمام مجمع صناعي في إحدى ضواحي كاليه يقع متجر ديكاثلون للأدوات الرياضية. هو أحد فروع سلسلة من المتاجر التي تشبه متجر XXL في النرويج حيث تستطيع أن تشتري الكثير بأسعار منخفضة. داخله، انشغلت امرأة شابة بترتيب البضائع. تفصل الآن ألواح التزلج عن البذلات الواقية من البلل عندما نقترب منها كي نشرح لها القصة. «أعلم هذا»، توفر علينا كثيرًا من عناء الشرح، «فقد اتصلتْ بي الشرطة. أنا الذي باع للرجلين تلك الأدوات». وقبل أن تستكمل حديثها طلبت أن تستأذن أولًا رئيسها في العمل. لكنها عادت بعد قليل لتقول إنها لا تستطيع الحديث معنا، وأننا لا يجب أن نذكر اسم المتجر في سياق هذه القصة. نقوم بجولة في المتجر، نتعمد بعدها أن نلتقي بها مرة ثانية «بالصدفة» قرب رفوف بدلات الواقية من البلل. «اشترى الرجلان بذلتين من هذا النوع»، تهمس قرب آذاننا بينما تشير بصورة خاطفة نحو بذلة بعينها معلَّقة. تلتفت في قليل من التوتر قبل أن تستطرد: «أذكرهما، ولكن بالكاد. كانا رجلين صغيري السن، ربما في بداية العشرينات، من المهاجرين، ربما تخمن من هيئتيهما أنهما من أفغانستان».

بعد العثور على جثة أحدهما في تيكسيل، كانت الشرطة الهولندية قد التقطت صورًا لها وأرسلتها إلى خبير بريطاني أعاد بناء ملامح الوجه. عرضنا على بائعة المتجر تلك الصورة. «لا أستطيع أن أجزم، لا أذكر تمامًا». هل ذكرا أي شيء عما كانا ينويان عمله بهاتين البذلتين؟ «كلا، لكن ما سمعته أنهما كانا ينويان السباحة في اتجاه قارب صغير يحملهما بعد ذلك إلى إنجلترا». وهل يشتري المهاجرون في هذه المنطقة كثيرًا من هذه البذلات؟ «سمعت من بعض هؤلاء الذين يعملون هنا أن هذا أمر يحدث مرة كل شهر تقريبًا، ولا أعلم أي شيء آخر».

كانت مشكلة اللاجئين في كاليه قد بدأت عام 1999؛ ففي حظيرة قرب النفق فتحت منظمة الصليب الأحمر الدولية مركز سانغات للاجئين. كان الهدف منه عندئذ توفير مأوى لنحو مائة من لاجئي كوسوفو الألبان الذين فروا من الحرب في البلقان. وبعد أقل من ثلاث سنوات، صار سانغات فضيحة وخُرّاجًا سياسيًا لكل من فرنسا وبريطانيا. تحول مائة لاجئ ألباني إلى 1600 لاجئ من الشرق الأوسط وأفريقيا، يحاول المئات منهم كل ليلة الوصول إلى إنجلترا عن طريق الاختباء داخل شاحنات في طريقها إلى النفق أو العبّارة. تبادلت الدولتان الاتهامات حول المسؤولية عن ذلك.

في إحدى المرات، وقعت مشاغبات بين لاجئين من أعراق مختلفة، قام البعض منهم بعدها بإحداث ثغرات في السور الشائك واقتحموا مدخل النفق. «أوقفوا الغزو»، كان العنوان الرئيس لجريدة ذا ديلي إكسبريس البريطانية. وفي ديسمبر/كانون الأول عام 2002، أعلن وزير الداخلية البريطاني، ديفيد بلانكِت، أن فرنسا وافقت على إغلاق سانغات. ورغم ذلك، استمر اللاجئون في الوصول إلى هذه البقعة. الشيئ الوحيد الذي اختلف أنه لم يعد لهم مكان يؤويهم.

ومن ثم، بدأوا في ابتكار ملاجئ لهم. بعضهم يعيش في الشوارع، وبعضهم الآخر ينشئ مجتمعات عشوائية صغيرة، لكن معظمهم يستقر في بقعة صناعية تنتمي لواحدة من كبرى شركات إنتاج ثاني أكسيد التيتانيوم. كانت هذه أول «غابة» في كاليه.. غابة ثاني أكسيد التيتانيوم.

بعد الظهر، فيما يسمى الآن الغابة الجديدة، يقودنا هينوك البالغ من العمر 26 عامًا وقد فر من الإرهاب في إريتريا قبل نحو شهر. يرتدي سروالًا من الجينز وسترة رقيقة. يتحدث ببطء ولا يقول كثيرًا ولديه عينان متعَبتان رأتا الكثير، كما هو واضح، حتى وصلتا إلى هنا. يأخذنا إلى منطقة إريترية من الغابة؛ فالمهاجرون هنا يلتصقون داخل جماعاتهم العرقية في مواجهة الآخرين. «هذا مكان خطر»، يحذرنا هينوك، «نحن نعيش في برد، ولا ماء لدينا.. فقط لدينا ثعابين. ليس هذا مكانًا لحياة آدمية».

من أين أتى كي يحق له أن يشكو من الحياة في أوروبا الغربية؟ يشرح هينوك أنه ذهب إلى السودان قبل ثمانية أشهر، ومن هناك عبر الصحراء الكبرى في اتجاه ليبيا التي تعاني من الحرب الأهلية وغياب الأمن والقانون. هناك، قُبض عليه وسُجن لثلاثة أسابيع لا يدري لماذا. الجنود ورجال الشرطة في رأيه فاسدون حتى النخاع. اشترى منهم حريته بخمسمئة دولاراً أمريكياً، لكن الأمر تطلّب مبلغاً أكبر كي يتخذ خطوته التالية. بعثت له أسرته في إريتريا دعمًا ماديًا توجه إثر استلامه إلى طرابلس حيث التقى بمن يعملون في تهريب البشر. دفع لهم 1700 دولار أمريكي فحشروه في قارب صغير شق طريقه عبر البحر الأبيض المتوسط.

«الموت في إريتريا كالموت في ليبيا كالموت في عرض البحر، فلماذا لا أحاول؟»، يدلف هينوك إلى إطراقة وهو يتذكر زوجته، بيثيليم، صاحبة العشرين عامًا، وطفيليهما، فاير-آب هينوك، صاحب العشرين شهرًا، اللذين تركهما وراءه في إريتريا. «أفكر فيهما طول الوقت، في كل ثانية».

قبل أن يتمكن من الإجابة على الأسئلة التي جئنا من أجلها، حاول مهاجر إثيوبي أن يسرق المصور الذي كان واقفًا خارج الخيمة. غضب الإريتريون وحاولوا الإمساك به لكنه هرب. «عليكم أن تتحركوا الآن؛ فربما يعود مع مزيد من أصحابه». وبعد ساعات قليلة، تندلع مشاجرة بين السودانيين والإريتريين. السبب؟ الدور الآن على من كي يحاول الاختباء في إحدى تلك الشاحنات العابرة في اتجاه إنجلترا. استُخدمت السكاكين أثناء المشاجرة، وانتهى الحال بامرأة في المستشفى بعد احتراق الخيمة التي تؤويها.

جورج جيليه، عجوز على المعاش تطوع للعمل كموظف إغاثة في كاليه قبل أربع سنوات. كل يوم يقود ناقلة صغيرة قديمة بيضاء اللون كي يوزع الأغطية والأطعمة والأقمشة المشمعة. لا تكفي أبدًا، مهما حاول أن يجلب من كميات. نسأله عن كيفية عمل المهربين فيقول: «منتشرون في كل مكان، ولكن من وراء ستار. ستجدهم غالبًا أكراد أو أفغان أو ألبان. الألبان هم الأسوأ، ولو كنت مكانك لابتعدت. لو لمحوا كاميرا معك سيقتلونك».

كل واحد هنا لديه شج من جرح، ظاهر على وجهه أو في موضع من جسده، أو مستتر في روحه أو في قلبه. المهاجر الأفغاني، خليل خامان خليلي البالغ من العمر 26 عامًا، يحمل النوعين. تفجؤك بطنه بشج ممتد من أعلى القفص الصدري حتى موضع السرة. «إنها طالبان»، يقول وهو يعيد ترتيب ملابسه فوق بطنه. كان يعمل في شركة للبناء استأجرها حلف الناتو منذ عام 2007، كما كان يعمل في قاعدة عسكرية في شوراباك في مقاطعة هلمند. قبل خمسة أشهر، اختُطف وحُبس وطُعن في بطنه بينما كان في طريقه للقاء صاحب عمل جديد. «كل الأفغان الذين عملوا لحساب حلف الناتو يعيشون في خطر»، كما يقول. نجح في الإفلات بحياته بينما كان أحد الحراس مخمورًا، وبمساعدة بعض الأصدقاء استطاع الوصول إلى كابول، ومنها نزح إلى أوروبا. على الحدود من إيران إلى تركيا، اتُّهم بأنه إما ينتمي لداعش أو أنه جاسوس أفغاني. يقول إنه تعرض للتعذيب ليومين قبل أن يفهموا أنه حقًّا لا يملك ما ينفعهم. بقية قصته تمتلئ بأشباح المهربين، وبفصل من النزوح مشيًا على الأقدام عبر شبه جزيرة البلقان. اخترق الحدود إلى المجر والاتحاد الأوروبي من خلال غابة قرب قرية صوبوتيتسا على الحدود. ومن هناك تقمص شخصية رجل أعمى في رحلة بالقطار إلى باريس، ومن ثم إلى كاليه. «حتى هنا لا أشعر بالأمان. كلما مر الوقت كلما زاد اكتئابي».

على مدى الأيام العشرين التي قضاها هنا حتى الآن، حاول خليل خمسًا وعشرين مرة أن يعبر إلى إنجلترا بصورة أو بأخرى كي ينضم إلى أخيه الذي يدرس علوم الكمبيوتر، لكنه فشل في كل مرة. يحلم هو بأن يصير طبيبًا جراحًا يخدم في الجيش وبأن يعود إلى أفغانستان. «أنا مضطر إلى اقتفاء الحرص في محاولاتي للوصول إلى إنجلترا نظرًا لحالتي الصحية، لكنني حين أتعافى ستكون لديّ قدرة أكبر على المخاطرة، وسأصل إلى هناك».

نسأله إن كان سمع عن مهاجرين حاولوا الوصول إلى هناك عومًا فيهز رأسه ضاحكًا: «نحن هنا نستحم بالكاد». نعرض عليه الصورة التي رسمها الخبير البريطاني لصاحب البذلة الواقية من البلل. «يبدو أفغانيًا، لكنني جديد على هذا المخيم. الناس يأتون إلى هنا ثم يختفون سريعًا إذا استطاعوا».

ينتشر خبر وجودنا فتأتي مجموعة أخرى من سكان المخيم من الأفغان. يدعوننا إلى شاي داخل خيمة يعيش فيها عشرة لاجئين من منطقة بانجشير. نرى مقبلات بسيطة من البصل والبطاطس، وعربة تسوّق بها أرز ومعكرونة، وموقدًا بريًّا يتوسطه إبريق كبير لعمل الشاي. لم يكونوا أول من قص علينا حكايات عن العنف الذي تمارسه الشرطة هنا بحقهم.

أحدهم، وقد اكتسى ذراعه الذي يبدو مكسورًا بالجص الأبيض، يقول إنه وقع على ذراعه أثناء فراره مع آخرين أمام الشرطة التي كانت تطاردهم. «لم نفعل شيئًا. ما عسانا نفعل؟ الشرطة هنا في موضع الأسد ونحن في موضع قطيع من الجواميس».

كثير من المهاجرين الذين التقيناهم يزعمون أن الشرطة ضربتهم بالعصي وركلتهم بالأرجل ورشت رذاذ الفلفل في أعينهم من مسافة قريبة عندما اكتشفت وجودهم مختبئين في الشاحنات العابرة. تتوافق هذه الروايات مع تقرير لمنظمة هيومان رايتس ووتش سيصدر في يناير/كانون الثاني القادم مبني على شهادات جُمعت من أربعة وأربعين مهاجرًا في كاليه. تنفي الحكومة الفرنسية ذلك وتزعم أن المنظمة الدولية لم تتحر الدقة في الوصول إلى الحقائق.

قبل أسابيع، نشرت حركة «تضامن مع مهاجري كاليه» شريطًا كان قد صُوِّر في الخامس من مايو/آيار هذا العام يدعم شهادات المهاجرين، وتظهر الشرطة أثناءه وهي ترغم المهاجرين المختبئين في الشاحنات على الخروج باستخدام غازات مسيلة للدموع، ثم تضربهم بالعصي وتركلهم وتدفعهم بقسوة إلى عُرض الطريق.

أمام هذا، تقول السلطات إنها ستفتح تحقيقًا في الأمر، بينما تفكر شرطة كاليه في استخدام كاميرات مراقبة كي يثبتوا للعالم أن المهاجرين لا يتركون لهم خيارًا في بعض الأحيان سوى استخدام القوة. «لا توجد أدنى فكرة لدى بقية العالم عن الطريقة التي يعاملوننا بها هنا. اذهب وأخبرهم عن معاناة البشر في مخيم الغابة»، هكذا يرجونا خالد الذي يبدو كأنه زعيم الخيمة التي نجلس فيها الآن.

كان خالد قد عاش لعدة سنوات في إنجلترا، ثم رُحّل منها بعد أن ارتكب «تصرفًا غبيًا»، على حد قوله. الآن صار له في كاليه أربعة أشهر. عندما عرضنا عليه صورة صاحب البذلة الواقية من البلل قال: «يبدو من الهزارة (طائفة تتحدث الفارسية وتتبع المذهب الإثنا عشري وتنتشر في أواسط أفغانستان وباكستان). هم أفغان لكن أصولهم منغولية لكنني لم أسمع عن أحد اشترى بذلة واقية من البلل كي يسبح بها، وأنا أقدم ساكن في هذا المخيم. إنه لأمر مؤسف أن يكون قد خرج من هنا ورغم ذلك لا يستطيع أحد التعرف على هويته».

نشكر خالد وجماعته على الشاي ونواصل سعينا بين الخيام بحثًا هذه المرة عن مهاجري الهزارة. كانت هذه بقعتهم، لكنّ معظمهم رحل، كما يقول لنا مهاجرون آخرون نعرض الآن عليهم الصورة ونسألهم. تبدو علامات القلق على وجه مترجمنا الذي كان هو نفسه لاجئًا في كاليه قبل أن يتحول إلى صحفي وقد نجح في الوصول إلى لندن حيث أسس محطة إذاعية تعنى بالشؤون الأفغانية.

«خبّئ الصورة الآن»، يهمس المترجم، «بعضهم يعتقد أنكم إما من الشرطة أو مهربون تنتحلون مهنة الصحافة، وأنكم تحاولون القبض على أحد ما. لا بد أن نختفي من هنا». وكي يزيد المشهد تعقيدًا يلفت المترجم أنظارنا إلى حقيقة أن كثيرًا من الأفغان الذين ضيّفونا قبل قليل عاشوا قبل ذلك في إنجلترا ومعهم هواتف ذكية وأرقام هواتف بريطانية. أهم مهربون؟ لا يستطيع مترجمنا أن يقطع بذلك وإن كان يرجح أنهم ربما يكونون حلقة اتصال مع مهربين.

تغيب الشمس عن الغابة، ويبدأ الظلام في إسدال أستاره عليها فتدب الحركة في أرجاء المخيم. بهدوء. يرتدي مهاجرون ملابس داكنة اللون ويحملون حقائبهم الصغيرة ويشرعون في المشي خفافًا، بعضهم في اتجاه مدخل العبّارات، وبعضهم الآخر في اتجاه النفق.

يخيم الآن هدوء شديد على المخيم. المنطقة التي كنا فيها قبل قليل في وسطه شبه مهجورة في هذه اللحظات. نستغل الفرصة ونسأل بعضًا من هؤلاء الذي لم يحن دورهم في محاولة الهرب. لكنّ أحدًا لم يسمع عن أحد اشترى بذلة واقية من البلل كي يسبح بها إلى الشاطئ الآخر. نعرض الصورة عليهم، لكنّ أحدًا لا يعرف من عساه يكون. نقترب من شرطي لم يكن يفعل الكثير. «تسألني عما إذا سبح أحدهم إلى الشاطئ الآخر؟»، يتأكد أولًا من أنه سمع السؤال جيدًا مستغربًا قبل أن يهز رأسه، «على الأقل لم أسمع أنا بشيء من هذا القبيل، لكننا على أية حال لا نذرع الساحل بالدوريات ولا نعرف كل ما يحدث».

من شاطئ كاليه نرى الآن العبّارة «فخر بورغوندي» وهي تبدأ في الانسياب من مياه الميناء نحو عُرض القنال في اتجاه ميناء دوفر في إنجلترا. تحت أرضية العبّارة، في باطنها، داخل حاويات وداخل شاحنات يقبع الآن مهاجرون أدركوا لتوهم أن أملًا يبرق. لقد حبسوا أنفاسهم لدى نقطة التفتيش وفيما وراءها بينما انتشر ضباط الشرطة وكلابها بحثًا عن أي نفَس آدمي أو غير آدمي. لا بد أنهم سمعوا صليل الجنازير الثقيلة وهي تثبت إطارات الشاحنات في مواضعها على جسد العبّارة، ولا بد أن صرير الزلاجة الخلفية للعبارة وهي ترتفع إلى أعلى كي تشكل سور أمان كان سيمفونية في آذانهم. هم الآن في أمان ولا يفصلهم عن إنجلترا إلا تسعون دقيقة.

قبل مغادرتنا كاليه، يلفت مترجمنا أنظارنا إلى صفحات على موقع فيسبوك تُعنى بشؤون الأفغان الذين يتواصلون من خلالها. نقرر أن نضع صورة صاحب الجثة، التي رسمها الخبير البريطاني، مع جانب من المعلومات على بعض هذه الصفحات.

بعد يومين، تقع عينا موظفة إغاثة فرنسية في كاليه على الصورة والمعلومات. تتصل بنا كي تقول إنها كانت على اتصال مع رجل سوري يعيش في إنجلترا وأن هذا الرجل يعرف سوريًا آخر يبحث عن ابن أخيه المفقود لشهور، وأن هذا كان قد شوهد في كاليه قبل انقطاع أخباره. بعد ثلاثة اتصالات هاتفية في لغة إنجليزية ركيكة نعلم الآن قصة الشاب معاذ من سورية.

3
الفتى الذي كانت إنجلترا في مرمى بصره

في أرض غريبة، على بعد آلاف الكيلومترات من وطنه، وقف فتى شاخصًا بعينين تشقان أفق البحر وقلب عامر بالأمل. كان الترحال المفعم بالخطر قبل هذه اللحظة قد استهلك من حياته القصيرة مائة واثنين وأربعين يومًا. يطبق الخريف على جسده بأجوائه القارسة لدى نقطة على ساحل موحش في شمال غربي فرنسا، لكنه يعلم الآن أن هذه ربما تكون فرصته الأخيرة.

لم يعد وطنه وطنًا. انتهى. دمشق، سورية. نزحت أمه مع أبيه وشقيقاته الأربع إلى الأردن. لم يرهم منذ نزح هو الآخر قبل خمسة أشهر. نحن الآن بعد ظهر السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2014، وقد وصل معاذ البلخي، الذي لم يتعد عمره الثانية والعشرين، أخيرًا إلى هذه النقطة قبل نحو ساعتين.

تناول هاتفه وفتح تطبيق واتساب وكتب لعمه الذي يعيش في برادفورد، بين ليدز ومانشستر: «أستطيع الآن أن أرى إنجلترا». كتب أيضًا أنه ربما يستطيع أن يصل إلى قارب أو أن يسبح المسافة كلها حتى الشاطئ الآخر. رد عليه عمه ناصحًا بأن الأمر يشبه بحر مرمرة في تركيا حيث يستطيع المرء أن يرى الأرض فيما وراءه وإن كانت المسافة في الواقع أطول كثيرًا مما تبدو.

«سأحاول اليوم»، رد الفتى منتعشًا متحديًا، لكنه لم يحدد كيف. وفي ذلك المساء، قبل ساعة وثلاث وأربعين دقيقة من شراء البذلتين الواقيتين من البلل من متجر ديكاثلون للأدوات الرياضية في كاليه، بعث برسالة مقتضبة إلى أخته وعائلته في الأردن: «اشتقتلكن». كان هذا آخر خبر يصل إلى العائلة من ابنها معاذ.

أما عمه بديع، البالغ من العمر ثمانية وثلاثين عامًا، فيرتدي قميصًا أنيقًا يوافق شعره الأسود اللامع وابتسامته الدافئة التي تعتلي وجهه فجأة حين يجهد للوقوع على الكلمة الصحيحة باللغة الإنجليزية. هو نفسه أتى إلى إنجلترا لاجئًا بعد أن اختبأ داخل شاحنة لدى دَنْكرك، شمال كاليه، عبرت به النفق من فرنسا إلى هنا. حصل بديع على حق اللجوء السياسي لمدة خمس سنوات، وهو الآن يعيش مع زوجته وطفلتيهما الصغيرتين في مبنى من الطوب الأحمر في منطقة للمهاجرين داخل برادفورد التي تبعد نحو ساعة بالسيارة من مانشستر.

كانت هذه وجهة معاذ التي كان يحلم بها عندما وقف على شاطئ كاليه وقال إنه سيحاول، ثم اختفى. حاول عمه أن يتصل به في اليوم التالي، الثامن من أكتوبر/تشرين الأول، لكن هاتفه كان مغلقًا. على مدى الأيام القليلة التالية حاولت عائلته مرارًا وتكرارًا كل يوم، وفي كل مرة لا يحصلون إلا على مقطع من أغنية عربية كان يستخدمه لتسجيل الرسائل الصوتية الواردة.

بعد قليل، سيبدؤون في تقبل احتمال أن مكروهًا أصابه. ربما طمع أحدهم في الثلاثمائة يورو التي كان يحملها فهاجمه. وبعد أسبوع، توجه اثنان من أقربائه من اسكتلندا إلى كاليه والتقيا بالشرطة، لكنّ هذه لم تكن تعرف شيئًا عنه. وبعد شهر، عادوا إلى قسم شرطة كاليه مرة أخرى، ولم يكن لدى هذه جديد. حملوا صورته في أيديهم وجابوا مخيم اللاجئين لعل أحدًا يذكره، لكنّ أحدًا لم يتعرف عليه. وكانت الإجابة نفسها في انتظارهم في المستشفى وفي المشرحة.

وفي مارس/آذار، كما يقول بديع، اتصلوا بالشرطة في إنجلترا فقيل لهم إن تلك مسألة لا تخصهم على أساس أن معاذ اختفى في فرنسا، لكن الشرطة وعدت بالبحث عبر الإنتربول. الرسالة الوحيدة التي وصلتهم من الشرطة بعد ذلك كانت تأكيدًا بأن معاذ البلخي ليس أحد نزلاء سجن برادفورد. بقيت العائلة رغم ذلك في تواصل مع الصليب الأحمر ومع مكتب الهجرة في بريطانيا.

بديع شغوف بالتفاصيل وبأي شيء له علاقة بالجثتين التي عُثر عليهما في النرويج وهولندا. أما التفاصيل التي يذكرها هو فتنطبق مع التفاصيل التي توفرت حتى الآن بين أيدي الشرطة: الزمان المكان المال الذي كان في حوزة معاذ. لكنه يقول إنه كان مسافرًا وحده، فهل يمكن لأحد أن يكون قد قرر أن يسبح في مغامرة كهذه مع أحد لا يعرفه؟

نشرح لبديع أن الاحتمال الوحيد الآن للتأكد مما إذا كانت إحدى الجثتين تعود لمعاذ هو اختبار الحمض النووي. نعطيه قفازًا بلاستيكيًا وقطعة من القطن، ونطلب منه أن يضع هذه في فمه وأن يحك بها الجدار الداخلي لخده. عندئذ تلتصق الخلايا الموجودة في الفم بقطعة القطن فنتناولها بعناية ونضعها في حقيبة بلاستيكية صغيرة. وقبل أن نغادر، يرسم لنا شجرة للعائلة تبين علاقة معاذ بجذورها وأطرافها.

في النرويج، نسلّم قطعة القطن للمحققين في مجموعة كريبوس الذين يبدأون في مقارنة نتائجها بنتائج العينة المستخلصة من جثة ليستا. وفي الوقت نفسه يطلبون من زملائهم في هولندا نتائج اختباراتهم المستخلصة من جثة تيكسيل لتطبيق الإجراءات نفسها.

شقيقة معاذ الصغرى، رهف، البالغة من العمر تسعة عشر عامًا، تعيش مع أمها وأبيها وشقيقاتها الثلاث في العاصمة الأردنية، عمّان. نتواصل معهم عبر تطبيق سكايب على الإنترنت. هي تترجم وأمها تحكي لنا عن معاذ.

ولدت رهف وتربت في العاصمة السورية، دمشق، لأب بقي في السجن أحد عشر عامًا لأنه يعارض النظام، ولم يُطلق سراحه إلا حين قامت الثورة عام 2011. عاشوا جميعًا في منطقة متعددة الطوائف والأديان والمذاهب والقناعات السياسية، من سُنّة إلى شيعة إلى علويين إلى مسيحيين إلى يهود. في أجواء كهذه، كان معاذ صديقًا للجميع. «لو تشاجر أحد مع أحد، كان هو الذي يصلح بينهما».

كان يحب مشاهدة الأفلام والسباحة، كما تقول رهف. كل أسبوع قبل قيام الثورة كان يحرص على ممارسة رياضته المفضلة في أحد حمامات السباحة في دمشق. وعندما تحولت الثورة لاقتتال داخلي نزحت الأسرة إلى الأردن عام 2013، لكنّ معاذ بقي في دمشق لاستكمال دراسة الهندسة الإليكترونية. كانت قوات نظام الأسد تستوقفه دائمًا في الشارع، لا فرق من وجهة نظرها بين محارب وطالب جامعي. من وقت لآخر، كان يُقاد إلى نقطة للشرطة ويُحبس إلى حين التأكد من هويته. بقي معاذ هكذا صامدًا لستة أشهر قبل أن ينزح هو الآخر إلى الأردن.

بعد فترة وجيزة التأم فيها شمل العائلة، لا يبدو أن معاذ كان مضطرًا لترك الأردن، لكن شقيقته تقول إنه لم يجد له مكانًا في إحدى جامعات عمّان. في الوقت نفسه كان من الصعب دائمًا على والده أن يجد عملًا في بلد محدود الموارد مكتظ باللاجئين. ولأنه الولد الوحيد لأبويه إلى جانب أربع شقيقات، شعر معاذ بأن عليه أن يفعل شيئًا. بدأ يخطط للنزوح إلى تركيا بحجة استكمال دراسته عسى أن يوفر لعائلته جسرًا للحاق به بعد حين. سافر معاذ إلى تركيا لكنه لم يستطع الالتحاق بجامعة هناك، وفي الوقت نفسه لم يستطع العودة لاجئًا إلى الأردن بعد أن غادرها. ومن ثم قرر أنه إن كان عليه أن يخاطر فليسدد إلى أعلى ما يستطيع: إنجلترا. لديهم قوانين جيدة لاستقبال اللاجئين وحمايتهم، ويمكنه أن يدرس ما يشاء، وسيكون عمه الذي سبقه إلى هناك إلى جواره إذا احتاج إلى سند. أو هكذا كان يفكر.

لم تكن أمامه بكل تأكيد فرصة مباشرة للجوء إلى بريطانيا. حتى الآن كانت تجربته في النزوح مجهدة لكنها لم تكن خطرة. كل يوم يمر عليه في تلك الفترة وهو يحلم بإنجلترا كان ذهنه يتهيأ تدريجيًا لقبول احتمالات المجازفة التي يمكن أن يحملها في طياته أي بديل غير مباشر. إلى أن هداه تفكيره إلى طريقة.

في السابع عشر من أغسطس/آب 2014 ركب طائرة من اسطنبول إلى الجزائر. ومن هناك، استغرقه الأمر يومين من الترحال عبر الصحراء الكبرى قبل أن يعبر الحدود إلى بلد غارق في حرب أهلية وفي فوضى: ليبيا. وقتها لم يخبر أحدًا من عائلته، لكنهم علموا بعد ذلك أنه بقي هناك عشرة أيام قبل أن يتمكن من حشر نفسه على متن قارب صغير في رحلة مترنحة عبر البحر الأبيض المتوسط. ومما يبدو فإن القارب، الذي استغرقت رحلته ثلاثة أيام، إما انقلب براكبيه قرب الشاطئ الآخر أو أن خفر السواحل الإيطاليين حاصروه، لكن أحد هؤلاء قاده نحو بر الأمان: أوروبا.

في الخامس من سبتمبر/أيلول، وصل معاذ إلى دَنْكرك شمال كاليه. بقي فيها أسبوعين حاول خلالهما عشر مرات أن يعبر إلى إنجلترا مختبئًا في شاحنة أو أخرى، لكنه فشل. كان دائم الاتصال بالعائلة عن طريق الرسائل الهاتفية المكتوبة. ولسبب ما، يبدو أنه اقتنع- أو ربما كان يتعلق بأي قشة- بأنه يمكن أن يركب طائرة من إيطاليا تطير به مباشرة إلى إنجلترا دون تعقيدات. عاد إلى إيطاليا كي يكتشف طبعًا أنه كان على خطأ. الإحباط الذي بدأ في دَنْكرك يزيد الآن إحباطًا على إحباط.

عاد أدراجه في قطار إلى البلدة الساحلية التاريخية في فرنسا حيث قام بمحاولتين أخريين للعبور مختبئًا في شاحنة، وفشل في المرتين. لم يكن بوسعه تحمل تكاليف المهربين فكان يحاول بنفسه الوصول إلى أي ثغرة، وفي كل مرة يفشل. حتى جاء صباح السابع من أكتوبر/تشرين الأول فهبط من دَنْكرك إلى كاليه. لا يدري أحد من عائلته إن كان فعل هذا وحده أو أن أحدًا كان معه، لكنهم يقولون إن من عرفهم في المرة الأولى من مهاجرين لم يكن لهم أثر عندما عاد مرة ثانية إلى هناك.

كانت شقيقته رهف آخر من تواصل معه. تقول إنه ذكر أنه سيحاول العبور إلى إنجلترا من كاليه، لكنه لم يشرح لها كيف. ورغم ذلك تقول إنه كان قد ذكر لها أكثر من مرة أن الأمر ربما يكون أسهل لو سبح في اتجاه قارب أو عبّارة قرب الشاطئ يتعلق بها إلى أن يصل إلى الجانب الآخر. وتؤكد رهف أنه لم يذكر أبدًا أنه يمكن أن يسبح بنفسه المسافة كلها حتى الساحل الإنجليزي.

كانت رهف هي التي تلقت على هاتفها المحمول آخر رسالة من معاذ في السادسة والنصف من مساء السابع من أكتوبر/تشرين الأول: «اشتقتلكن». لم يسعفها القدر كي ترد على آخر رسالة من شقيقها. تبكي. وتغلب العاطفة الآن عقلها. «معاذ كان ليقول لنا لو كان حقًا يخطط لأي شيء خطير. لا نصدق أنه كان يحاول السباحة كل هذه المسافة في مثل تلك الظروف. بل نعتقد أنه الآن في معتقل إما في فرنسا أو في إنجلترا. الشرطة في البلدين هي المسؤولة عن مصيره».

جاءت نتائج اختبار مقارنة الحمض النووي مفاجأة لنا: لا علاقة وراثية تجمع بين عم معاذ في برادفورد والجثة التي عُثر عليها في ليستا في النرويج. أما العينة التي أُرسلت إلى هولندا لمقارنتها بعينة جثة تيكسيل فلم تكن كافية لإجراء مقارنة دقيقة.

نبني سيناريوهات متعددة لملء الثغرات فيما يمكن أن يكون قد حدث لمعاذ، وفقًا لما أتيح لنا من معلومات حتى الآن. لكنها جميعًا لا تزال محيرة. فمن النادر جدًا أن يختفي أحد من كاليه، هكذا بلا أثر. نتصل مرة أخرى بمنظمات الإغاثة في كاليه ودَنْكرك، لكننا لا نحصل على أي دليل جديد. لم يسمع أحد حتى عن أن أحدًا اختفى أثره في أكتوبر/تشرين الأول.

تفاصيل حالة معاذ قوية رغم ذلك وقت الاختفاء حديثه عن السباحة النقود التي كانت معه وحقيقة أنها كانت لا تكفي للانتفاع بخدمات مهرب وإن كانت تكفي لشراء بذلة واقية من البلل. هذه التفاصيل وغيرها تدفعنا إلى مزيد من الإصرار على الوصول إلى خط النهاية. نتصل بعائلته في الأردن كي نطلب منهم إمدادنا بعينات الحمض النووي لكل منهم، فربما يختلف الأمر في حالة القرابة من الدرجة الأولى. وإمعانًا في الدقة نرسل لشخص نعرفه في عمّان أدوات احترافية لجمع العينات كنا قد حصلنا عليها من المعهد النرويجي للصحة العامة. يقوم هذا الشخص باصطحاب الأم والأب وإحدى الشقيقات إلى عيادة طبية خاصة تحصل على مجموعتين من كل عينة من كل واحد منهم. نرسل مجموعة منهما إلى المحققين في النرويج، ونرسل المجموعة الأخرى إلى المحققين في هولندا.

تأتينا أولًا نتائج النرويج: لا رابط بين أي من هذه العينات والجثة التي عُثر عليها في منطقة ليستا. وبعدها بأيام قليلة تأتينا نتائج هولندا: تطابق.

ما الذي يمكن أن يتمناه أحد، أي حد، فقد عزيزًا عليه، ابنًا أو أخًا أو أمًا أو أبًا، ولا يعرف مصيره، حين يكون البديل الوحيد المتاح أمامه للتخلص من عذاب المصير المجهول هو الغرق في بحر لا قرار له من الحزن على فقد بلا رجعة؟ ثمة ذرة من أمل دائمًا في حالة المصير المجهول، لكنها تأتي دائمًا مشوبة بوخزة الإحساس بالذنب. يتخلص الإنسان من هذه الوخزة حين يتأكد من خبر المصيبة الكبرى. الآن فقط يمكنه أن يحزن وأن يأسى وأن يبكي؛ فلا مجال بعد اليوم لانتظار تلك المكالمة الهاتفية التي لا تأتي: «ماما.. كيفكون؟»

تأكدنا الآن من مكان معاذ، لكننا دون ذلك لا نعلم أمورًا أخرى كثيرة. لا نعلم مَن عساه يكون ذلك الذي قرر أن يقاسمه مصيره، ولا نعلم بم أحس حين وضع قدمه أول ما وضعها في مياه لا تعرفه ولا يعرفها. لا نعلم إلى أي مدى ظل يسبح في القنال الإنجليزي البارد من أجل حلم دافئ، ولا من أي نقطة تولت تيارات بحر الشمال المزاجية المتوحشة دفته نحو جزيرة في أقصى الشمال الغربي لهولندا.

ولكننا الآن نعلم اسمه. ونعلم إلى جانب اسمه أنه كان يحلم باستكمال دراسة الهندسة الإليكترونية في إنجلترا وبأن يكون قادرًا على مساعدة أهله النازحين من وطن ضاع. ونعلم أن آخر ما وصل إلى أهله منه كلمة واحدة: «اشتقتلكن».

في حقل للمقابر على جزيرة تيكسيل في شمالي هولندا، في زاوية من المربع E، بين قبر يحمل اسم أنيكا مولينار فان دن برنك وقبر يحمل اسم آنا كورنيليا أليدا بوير، يقبع قبر لا يحمل اسمًا لأحد، ولا شاهدًا ولا عبارات تأبينية ولا حتى «ارقد في سلام». لا يوجد سوى بصمة حذاء لإنسان واحد انطبعت على جانب من كومة التراب الطازج التي أُهيلت فوق القبر.

«لكَم أحب لو استطعت أن أمنحه اسماً»، يتحسر المحقق الهولندي، يون فيلزينباخ، الذي حضر بنفسه أثناء دفن رفات صاحب البذلة الواقية من البلل، «لا أسرة على وجه الأرض تستحق أن تحيا في عذاب المصير المجهول».

في مقبرة على جزيرة تيكسيل في هولندا، بين قبرين أحدهما لسيدة تدعى أنيكا مولينار فان دن برينك والآخر لسيدة تدعى آنا كورنيليا أليدا بوير، كان يوجد قبر بلا اسم لفتى كانت إنجلترا في مرمى بصره. الآن صار له اسم وعنوان: معاذ البلخي ولد يوم 6 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1991 عاش حتى صار عمره 22 عامًا كان يحلم بحياة أفضل.

تحقيق: أندرس فيلبيرغ
نشر أول مرة في جريدة «دايبلاديت» النرويجية بتاريخ 15 يونيو حزيران 2015 والمقال موَّثق بالصور:

https://www.dagbladet.no/spesial/vatdraktmysteriet/eng/

فيديو يشرح فيه أندرس فيلبيرغ أمام الجمهور مأساة الشاب السوري معاذ البلخي:

https://www.ted.com/talks/anders_fjellberg_two_nameless_bodies_washed_up_on_the_beach_here_are_their_stories/tran-script-?embed=true&language=es








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. القادة الأوروبيون يبحثون في بروكسل الهجوم الإيراني على إسرائ


.. حراك تركي في ملف الوساطة الهادفة الى وقف اطلاق النار في غزة




.. رغم الحرب.. شاطئ بحر غزة يكتظ بالمواطنين الهاربين من الحر


.. شهادات نازحين استهدفهم الاحتلال شرق مدينة رفح




.. متظاهرون يتهمون بايدن بالإبادة الجماعية في بنسلفانيا