الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خلف نافذة صغيرة

عبدالله رحيل

2022 / 4 / 11
الادب والفن


مِنْ خلفِ نافذةٍ صغيرةٍ....
عدت بأدراجي إلى مدينة، هجرتها منذ زمن بعيد، فاستوقفتني رياح الجنوب المتنسمة من أطراف نجد البعيدة، والموغلة في القدم، فاعتليت بناء حديثاً مُوشّى بألوان البنفسج الهادئ، وعلى لحظة شرود في غياهب عقلي، الذي اختزن طويلا شموس بلادي، نظرت من نافذة صغيرة نظيفة، قد لُوِّنت بألوان الشتاء المضمحل من غيمة داكنة، محنية، لتنثر قطرات مائها على المكان الخرب، ما رجعت بعقلي البعيد إلى زمن العصور الجاهلية، واقفا على أطلال بُويتات، هجرتها نفس البشر الغافية في مدقّات المجهول، والذكريات، والأثافي الثلاث متقابلة، كحمام نُزَّع في ساحاتها، تُحدِّث الرياح بكلمات حب صامت ندي.
أرمق تلك البيوت الأربع، بنظراتي المتفحّصة كلّ يوم، تاركا وراءها، استفسارات عديدة، حول هجرانها، وخلو المكان بها، وحركة عواصف الدهر، التي أفرغتها من الحبّ، والكلام، والهجس، والهوى الروحي، المستمر المتلازم السرمدي، الطويل اللامتناهي، والسحيق بين شطآن أسوارها المتآكلة، فلا شكّ أن هناك أكفّاًّ حنونة ناعمة، قد خطّطت لبنائها، وزيّنتها بغراس شجر كثير، حيث أن رسمها لم يعفُ ، فرياح الشمال تطمسها، لتأتي رياح الجنوب فتكشفها، منثورة في ساحاتها قطع بالية، والتصقت البيوت الأربع ببعضها، غارقة في صمت رهيب كئيب رافضة موت السنين، ورافضة اندثارها وراء أزمنة الحداثة في المدينة الكبيرة الجميلة، فلعلّ من هجروها كانت لهم غايات، وقصص طويلة، وليالي سمر عاشوها بين أزقتها، وغرفها المظلمة الداكنة الساكنة الصامتة.
يتراءى لي من خلف نافذتي في إحدى البيوت أثر نفس امرأة عجوز، قد هَرِمت، وهي تراعي، وتتعهد شجرة سرو صغيرة، تعهدتها رعاية وسقاية وحبًّا، حتى كَبُرت ونمت، وربما فارقتها عجوزها، فبقيت الشجرة وارفة الظلال، تحكي بصمتها قصص الديار، فأصبحت ملاذا لعصافير شقية، بنت أعشاشها الصغيرة حول وريقاتها، فكانت السكان لهذي الديار، تملؤها بهجة وفرحا صباحا، لتعود في العشي نائمة بين وريقاتها الشريدة، وعلى تموجات شقشقاتها، يطوف وجداني بمقطع حزين، غارقاً في تفسيرات عقلي البعيد.
لقد هجر البيوت سكانها، على وقع قرع سيوف الهجرة، وعلى طبول حرب، تشابكت فيها أنامل الحاجة، والفاقة، والتغيرات، فمضى المتحاربون، يحيكون مستقبلهم بوشي فكر عديدة، وبألوان عدة، ما حدى بالديار أن تفرغ، وأهلها اعتلوا سطح مهب الريح، فلفظتهم بقايا أرواح ساكنة في بعيد البحار، وفي أرض المجهول، ولعل في آذان البعض منهم غرّد صائح الدهر الصدوح، فغُيِّبوا عن هذه الدار، فأُوصدت المصاريع حزنى، يلفها طول الانتظار، ووجع الغياب الطويل، فأّسرت بهذا الحب الرهيب، تقبع على نفسها حالمة ببعض حنان يد البشر، الذين بالأمس كانوا هنا، واليوم قد رحلوا
لكنني وإن أرى فيها الهجران، والخراب، والغياب، أرى الأيدي المتجعدة، التي شغلت نفسها في بنائها، وترتيب ساحاتها، فهناك قطع لآلات قديمة، قد أهلكها الصدأ، وهناك بعض من أشجار قديمة، قد غالبت الحنان، والجفاف، والرماد، وغالبت حر السنين، بينما بعض منها، قد مرت عليه بعض إنسانية البشر، فنثرت فيها بعض الحشائش، التي تقتات منها، إذ لم يزل الغازون، ومختلفو الرأي، وسياسات العالم المتحضر، ذي النظرة التكنولوجية والرأسمالية مختلفين، فلم يتركوا لأهلها ما يسد من جوعهم، إثر هذا البلاء الاقتصادي المتواتر عليهم.
هذه البيوت متجاورات بصمت، وسكون، وهدوء، قد ألفتْ بعضها، وأحبت بعضها، وتقاسمت هموم بعضها، فلعلها قد شكّلت مجتمعا كاملا فاضلا، واقفة بشموخ أمام اختلافات الطبيعة، شتاءات متوالية، وصوائف مرت، وريح الشمال، مردفه ريح الجنوب، لكنهن صامدات، كحبيبة تنتظر، حبيبها يدق عليها باب الحبّ، وبيده وردة حمراء، يحكي لها في نور القمر قصة غيابه.
لقد اختار أهلها الفراق، والتشتت بين القبور، وخلف حدود الهجرة، وعلى وقع مجاديف السفن في عرض البحار البعيدة، وعلى لحن مزامير حراس الحدود الشجية، وعلى وقع قطرات مطر من سمائي المتراكمة بالفكر، والصور، لوّنت عيني بأخضر ساحاتها، واعتصرت لحن قلبي بمقطع حزين، فمنعت رغما عني دمعة سريعة محرقة، نازلة من خلف أعماق عيني، ورثيت حال ساكنيها؛ لينتهي نظري بعصفور مغرد على قطعة خشب متروكة، منذ زمن بعيد، لقد ملأ المكان فرحا وحبا وأملا وتفاؤلا، بلقاء مفرح فيها، فأغلقت نافذتي بهدوء، مرددا نشيد البنفسج، ونشيد الحياة من جديد، ومرددًا قول النابغة الذبياني:
أمستْ خلاءً، وأمسى أهلُها احتملوا أخنَى عليها الذي أخنَى على لُبَدِ








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحكي سوري- رحلة شاب من سجون سوريا إلى صالات السينما الفرنسي


.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع




.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج