الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سنابل الحصاد

عبدالله رحيل

2022 / 4 / 14
الادب والفن


حلّ الشتاء، والبرد القارس ملأ أرجاء المدينة، ليرتدي الصمت والهدوء فضاء النوافذ، والأبواب الخاوية، إلا من عبق يد أغلقتها منذ زمن بعيد، فهدأت الأصوات الرخيمة، في الغرف المجاورة المعتمة، وخمدت الحكايات، بعد أن لوّنت أّسِرّة أطفال بانتظار مبسم جديد لحياة ملؤها التفاؤل والأمل، خارت عيونهم رويدا رويدا، ويد الأم الحانية تلملم حنوّها في جباههم البريئة الناعمة.
تجمعُ غيومٌ داكنة مطرها من كثافة الضباب؛ لتؤلّف ظلاما حالكا، يتناثر طلّه بأرض المدينة الملأى يبابا، وحاجة لتدفئة القلوب والأجساد، فبدا نور خافت بعيد من خلال أشرعة نافذة مكسرة صدئة، أنارت أفق المكان الصامت البائس، فطلت لها عين باكية، يلفّها برد الشتاء، بعباءة الرجفة المدوية في جسد فتاة تنتظر الصباح القادم الدّفِئ، وصوت طائر غريب حطّ في المكان، يبحث عن ألفة، وعن صاحب ليل طويل، فخفت تغريده بعد أن أطبق الليل ردهة المدينة الكبيرة الساكنة في شوارع الأيام المتوالية العديدة، تراقبه عينا فتاة الليل، خلف نافذتها الصغيرة، ففتحت نحوه جفون عينيها، تحاوره في صمت وفي دعة ولين، لعله يروّي عينيها بنسمة دافئة، تجلو بؤس المكان، وكان يرمقها بعينيه السوداوين الخائرتين خلف منقاره الصغير، فطرب المكان به، وراح يخطو نحو نافتها رويدا، فسكنت أطرافه المرتجفة، وظلاّ صامتين غريبين في تلك الليلة المعتمة، يتحدثان بلغة تزيل بؤس المكان.
تسامى مكان باهت فارغ من الأنفس ومن غير العقلاء، مكان لا روح فيه ولا أمل، غير طفلٍ حافٍ رثِ الملابس، منهك الخُطا، شعث الرأس، ملتوي اليدين في الممر، وسط ركام من نفايات الأنس، ويداه الهزيلتان تحملان قطعا من مخلفات الركام، وعيناه ترمقان الأرض بكل تجسّس عن شيء مُلقى، مفيد لحياته المتواترة في أحزانها، وقد مرغ أنفه بمخلفات روائح المدينة المختلفة، وقد تكورت الابتسامة في شفتيه البائستين، راح في ردهة الوقت، والسماء الغافية في أحضانه، ترتب ليلة حالكة الآفاق، لتستقر في عقله، وفي كينونته قلاع البؤس الحصينة، وسور عال من الآلام، كان له أن يمحّص التحليل في مسألة كتاب، أو في يراع جميل، يخط كلماته من عذب الكلام، ينشد في صمت المكان نشيدا عبوسا في غياهب الساحات، وعلى متن كتفيه، قلاعه البائسة، والشقية، تلم فيها، قصص البحث عن سعادة، تطوي فيها وقع نظراته المتفحصة الدقيقة لآلام السنين، وتسرد بمربط فيها، مآسي الظلام، وجور الطبيعة، فانبرى له غراب من بين العتمة، غرداً بنعيق خافتٍ نَعِسٍ، لكن شفتيّ الطفل الحافي، أبتا إلا أن تبتسما لفجر جديد، في رسم تفاصيل أغنية الصباح بلحن، قد يُلوى في حنجرةٍ طَرِبةٍ.
وأجيل طرفي في مساكن المدينة الخربة، فتلقى عيناي امرأةً، تمشي بين الخرائب، وبين الأكوام، في ليل بات يهدد المكان بظلامه، ليصبح كانونا ثقيلا على سيرها، وقد أثقل الإملاق كاحلها، في أثواب رثة ممزقة، لم يعرف الماء لها وسيلة، وأرجلها الحافية الملونة بألوان تراب الطرقات، والمدقات، ويداها السمراوان قد تشققتا في البحث، والتفتيش بأسمال الورى، بأثار أبناء جنسها، علّها تجد ما يستر حياءها، وما يحيل لون عينيها العكرتين، تقضي الليل موصولا بالنهار في المكان الخرب، تبحث عن ابتسامة حرقى، وسط زحام النفايات، تجلس متوسّدة آلامها المجموعة، في قلوع يلم مسيرة حياتها الشقية الطويلة، وعلى وسادتها المتكئة عليها، تقص أحاديث المدينة، وتسارع الناس إلى منازلهم المضاءة، وقد حفلت عيناها صورا للخرائب كلها، تحدث بيوتاً، والأسى يلف قلبها البريء، تناغي أشياءها البائسة المتناثرة بين راحتي يديها الخشنتين، وقد ثار في دمها، وقلبها حنان الأمومة، متخيلة طفلها بين أحضانها، تحكي له، حكاية العفريت الذي خطف الأميرة، عله يرقد في عينيها بسلام، فاعتلت قمة روحها ابتسامة عريضة، لتفرح المدينة كلها، قامت تلملم، مآسيها وراحت تسير في ليل العابثين.
وعند أبواب الصمت ينثر الأصيل وريقات أشجار قديمة مرماة، تتموج فيها الآلام بصور شتى، تلقي عذوبة طفولتها المسروقة، وتحمل طيات براءتها، فتقف عند أبواب المساجد، وعند مفارق الطرق ليل نهار، تمد يديها الناعمتين الصغيرتين، بأكف ولّدت روايات البؤس، والشقاء، طفلة في سن زهور المدينة الكبيرة، تمد يديها اللطيفتين، تستجدي معونة من عطف الخلائق، علها تجد قلوبا رؤوفة، ربما رزق تقتاته في مسائها المؤلم الطويل، تؤلف جملاً في الاسترحام والاستعطاف، والرقة والدعة، تقف حيرى عند الأبواب، والنور الخافت في عينيها، تلملم شقاءها، في حقيبة سوداء مترهلة، مثل ضفيرة شعرها الأشقر الطويل، يجود عليها البعض دريهمات براقة؛ لتسترسل بالدعوات لهم، فيجيبها القدر، وتمضي إلى مكان آخر شقي بائس مأمول، فيما خطواتها البطيئة، تنثر في الطريق قصص قدميها الصغيرتين، وترسم شفتاها الحائرتان ابتسامة الغروب في من يداعبها.
أيها الحائرون في تنوع قوتكم اليومي، واستكثاره، واللاهثون وراء مسالك الغنى والتملك، والهادفون إلى ارتشاف حصة الفقراء والبائسين، عودوا إلى الخيام، تجدوا بؤس المدن وحكايا الظلام، واعتبروا من نافذة الهلاك إلى آخر العمر والذهاب إلى مستودع الآخرة الدائم، لتتركوا ما جمعتم لأفراد يبددون، انظروا لتلك القلوب الحيرى، والعيون البائسة، علكم ترسمون بسمة الأمل والحب، وتقصوا قصة بكاء البؤساء؛ لتغيروا فيها فصول الشقاء إلى فصول الفرح في رواية الحياة، وتقدموا لأنفسكم يوم يصير الورى إلى يباب، يقول الأديب والشاعر الفرنسي فكتور هوغو، في روايته البؤساء:
"إذا تركت الروح في الظلمة، فسترتكب الذنوب، المذنب ليس هو الذي يرتكب الخطيئة، بل هو الذي يسبب الظلمة".
و يا أيها الكون الحافل بالحياة والنماء، والمحجوب عنا بالظواهر الطبيعية، وبعوالم الكائنات، والمتجلي بخوارق العادات، والمغير دائما، وبكل الأزمنة والعصور، وعلى تواتر الأيام والدهور، مُرِ الشمس أن تطلع دافئة وبنور خافت بهيج، يروي أنفسا قد أعياها البؤس واستشرت في أجسادها الفاقة، وارسل عموم خيراتك تتهادى إلى أعين قد أفسد نظرها الظلام، وبات معشعشا في جفونها اليأس والسراب، فحين تتلألأ أنوارك على الأرض يتبدد الظلام، ويكثر الندى، تاركا النفوس فرحة جذلى، كاشحا وجه البؤس، متجهما إلى صحارى الأرض، ململما أسماله الرثة، منزويا في أودية السراب، لتندى النفوس والأيام للحيرى البائسين، ويعم بيوتهم الأمل، ولتعود ابتسامة الثغور الصغيرة، تناغي طيور الحب والحياة، في البيوت المنارة الآمنة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج المغربي جواد غالب يحارب التطرف في فيلمه- أمل - • فران


.. الفنان أحمد عبدالعزيز يجبر بخاطر شاب ذوى الهمم صاحب واقعة ال




.. غيرته الفكرية عرضته لعقوبات صارمة


.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية




.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر