الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فقط ارفعي ذراعيكِ

فوز حمزة

2022 / 4 / 17
الادب والفن


انعطفت السيدة سعاد القادمة من الزقاق الموازي لشارع المتنبي نحو سوق السّراي المؤدي إلى جسر الشهداء والذي يربط ضفة نهر دجلة بالضفة الأخرى .. توقفت قليلًا مغمضة العينين بعد أن شمت رائحة الكتب والورق التي حملتها لزمن بعيد حينما كانت طالبة في الإبتدائية .. شعرت بالحنين لتلك الطفلة ذات الجدائل الطويلة المربوطة نهايتها بشرائط بيضاء كلون القميص والجوراب .. سرعان ما تبدلت مشاعرها بالحزن حينما مرت ذكرى زواجها على بالها .. في ذلك اليوم قصوا لها جدائلها و خلعوا عنها ثياب المدرسة ولونوا وجهها لتبدو امرأة.
مشاعر مختلطة انتابتها في ثوان بين الحزن والفرح واليأس والتفاؤل جعلتها تنظر للحياة بقلب خائف وخيال يرتعد كمن تعاني موجة برد وتوهان في صحراء .. فجأة توقفت وأخذت تدور حول خارطة جسدها المتصبب عرقاً كأن هناك من يطاردها فجلست في ظل أفياء إحدى المحال المغلقة.
اتخذت الجانب الأيمن من الشارع صوب الجسر .. نظر إليها بائع حلوى يهش الذباب عن وجه بضاعته مبتسمًا .. الحر الشديد جعل شفاهها تتشقق ولسانها يلتصق بسقف حلقها .. مدت خطواتها ببطء .. توقفت ثانية ملتفة حولها وشعور مؤلم ارتبط بذاكرتها بألم الولادة .. فكرت في الرجوع .. لكن الخطوات كانت أشد تصميمًا من التفكير، فأوحت لها أن ما وراءها أصبح من الخزائن المجففة بالماضي المعطوبة في الذاكرة التي ما أن تفتحها حتى يتصاعد دخانها الأسود نحو الأفق.
واصلت المسير حتى وصلت إلى منتصف الجسر .. مالت بجسدها المثقل بالغبار والعرق فلامست قطع حديده الساخن.
نسائم الهواء القادمة من النهر أنعشتها قليلًا .. تمنت لو إنها يومًا تصعد قاربًا يتهادى بها فوقه و يسير بلا توقف .. تغرف بكفها قليلًا من مائه .. تكون قريبة من صوت هدير الماء .. تسمع الأغاني من المقاهي المنتشرة على ضفافه .. لكن الزمن يمضي دون اكتراث لامنياتها .. اغمضت عينيها وفتحتها في لحظات .. وهي تنظر للسماء التي بدت شديدة الزرقة في هذا الوقت .. تساءلت: ماذا بعد السماء ؟؟ لماذا هي عالية هكذا وبعيدة ؟؟
ابتسمت ثم بكت .. مسحت دموعها بطرف الشال.
حدقت في النوارس فوق صفحة النهر الذي بدا وحيدًا مثلها منذ آلاف السنين .. لاح في فكرها ما قالته لطبيبها: ماذا أفعل والعالم كله ضدي؟؟ نصحها الأخير بالتخلص من الهواجس .. وإن لم تفعل ستكون نهايتها وخيمة .. ستفقدها شعور الطمأنينة.
طبيب بطران !! يظن أن شهادته المعلقة على حائط عيادته تبيح له بيع الراحة في علبة دواء .. أرادت سؤاله: هل جربت إحساس الخوف من لا شيء .. هل نمت ليلة وأنت ترتجف من صوت الرعد .. هل قاومت النعاس كي لا ترى كوابيسك في النوم ؟
قالت لنفسها: لماذا لا أعود إلى المنزل .. ربما تنتهي النهارات دون أن أشعر بالموت وأقضي الليل دون شم رائحته.
صوت قوي وعميق أمرها قائلًا:
لا تتسكعي في الدروب القديمة .. لن تجدي سوى صور الموتى معلقة على الجدران المتهالكة ..
أسلكي الدرب الوحيدة للنجاة.
حاولت إسكات الصوت بالنظر إلى نوافذ البيوت وشرفاتها المطلة على النهر .. القصص المختبئة في الغرف أكبر من أن تغادر .. فالأبواب صغيرة والممرات مظلمة .. شعرت بخواء الأشياء التي تحيط بها.. أخذ قلبها يعتصر بقوة بينما أنفاسها تتسارع وتتصاعد ساخنة كهبوب الرياح.
عاد الصوت ثانية يأمرها:
العالم كله لا يؤمن بالسلام .. فقط ارفعي ذراعيك وسيغدو كل شيء دافئًا .. ستصبحين ضرورية لكل الناس .. تتحولين لفكرة جميلة في رأس أحدهم .. حين ترفعيهما لن تعودي مضطرة لتذكر أي شيء.
سمعت صوت المؤذن يكبّر .. ذلك الصوت الذي ينشط ذاكرتها بأبيها الصارم حينما كان يستعد للصلاة .. كانت تراه يشمر عن ساعديه ويتجه نحو صنبور الماء .. لا تفقه شيئًا وهي تشاهده يركع ويسجد .. يوقد ذاكرتها بزوجها الفظ الذي لم يكن يختلف كثيرًا عن أبيها .. ثم يعطب ذاكرتها طيف الفتى الذي أحبته ذات يوم .. يوجعها إنها لم تتمكن من الاحتفاظ برسائله .. لاحت منها نظرة أخرى نحو الطيور .. علت قلبها أمنية حديث دافئ منسي .. تمنت لو عاد بها الزمن إلى الرسائل الورقية فتحملها النوارس لذلك الأسمر المتخلل بالقلب والعالق في الذاكرة كزجاجة مكسورة .. ابتسمت بألم يعصف بقلبها وهي تستذكر كلمته التي كان كثيرًا ما يصفها بها .. فتاتي النخلة البرحية.
مرور عربة مليئة بلعب أطفال لبائع متجول سرقها من الفكرة قليلًا .. بضاعته الرخيصة ذكرتها بطفولتها البائسة.
الصوت عاد بشدة هامسًا :
ما عليكِ سوى رفع ذراعيكِ .. ما أنتِ سوى عابرة سبيل في هذا العالم .
عادت تنظر ثانية صوب النهر الذي يمنح الطمأنينة لكل الأرض ما عداها .. أمواجه تجري لقدرها المحتوم وضفافه تنتظر الزائرين .. قالت له وهي تنظر له من بين أعمدة الجسر:
حذاري أن تكون مخادعًا مثل الآخرين !!
الوقت ظهرًا والشمس توسطت السماء .. لحظة ذهول مرت بها ثم بدأ قلبها يخفق بشدة.
أدارت رقبتها صوب الشارع .. فكرت بالسيارات المارة فوق الجسر .. في الناس المتواجدين على الجانب الآخر.. بأمها التي لم تلقَ منها سوى التوبيخ والأهانة .. أولادها الذين لم تراهم منذ انفصالها .. غرفتها التي تحولت إلى سجن تملؤه الغربة والوحشة .. زميلات المدرسة .. تساءلت ما الذي يجمعها بهؤلاء ؟؟
عاد الصوت يهمس:
لوحي بيديكِ وأخبريهم بأننا سنغفو ثانية لنتمكن من الحلم.
هذه المرة الصوت يأمرها برفع أقدامها أيضًا .. فالعالم لا يلد سوى الأشرار .. الدهليز المظلم الذي أنتِ فيه .. لا أحد يفكر في إخراجك منه .. تصرخين من الخوف فيرتد إليك صدى خوفك وحيدًا.
بدا قلبها كدمية في يد طفل بينما اتسعت بقاع العرق فالتصق قميصها الأسود بجسدها ليشكل خرائط هندسية .. أخذ العالم يتضاءل لتظهر أمامها أرض الخلاص من بين الغيوم .. بعيدة، لكن ليس صعبًا الوصول إليها.
بدأ الصوت يعلو ..
خلعت عنها شالها .. تناثر شعرها في الهواء .. أمسكت بيديها حافة الجسر واضعة أصابع قدميها بين شقوقه لترتفع بجسدها عن الأرض حتى وصلت لحافته العليا والصوت يعلو ويعلو .. ارفعي ذراعيك .. حلقي في الفضاء .. شعرت بالدوران وهي تنظر إلى صورة النهر فاتحًا فمه يدعوها للقدوم إليه ..
لحظات وابتلعتها أمواجه.
.......................................................................................








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه


.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما




.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة


.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير




.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع