الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تازة: في رحاب روح رمضان ..

عبد السلام انويكًة
باحث

2022 / 4 / 18
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


احتفاء خاص وتجل ومشاهد وتقاليد كذا إرث رمزي وتلاقح بين سلف وخلف، هو ما كان يطبع رمضان مدن المغرب العتيقة ولا يزال. ولعل ما يملأ نهار هذه المدن خلال ساعات ما قبل الفطور ومن سكون تام خلاله، قبل استعادتها نبض ليل بسحر خاص حتى السحور، كذا من عبادة واقبال وأدعية تضرع لله وقيم تآزر وعمل خير وتلاوة قرآن وقراءات وجهد واجتهاد. ما تكون عليه هذه المدة الأصيلة بعمارتها وأعلامها ومظاهر نمط عيشها وارثها المادي واللامادي، يجعلها حقا وعاءات بأجواء روحنية خاصة خلال هذا الشهر الفضيل، فضلا عن تجليات تفاعلات وثقافة تعج بما هو صوفي لِما لرمضان من قدسية ومكانة وهيبة في الأنفس.
ولعل من سمفونيات ليالي رمضان مدينة تازة مثلا، ما كان يملأ سماءها وأركانها منذ زمان الى عهد قريب من روح تراث جامع بين عبق "مهلل" وصدى "غياط" ودفئ صوت ونغم "نفار"، ضمن تعاقب ايقاع من فوق صومعة جامع أعظم بها عبر قرون. هكذا هي ليالي رمضان تازة أمس بسماع لحن وتوسل ومدح وشفاعة وصوفية ونوبات، كل هذا وذاك من رمزية إرث يحضر ذاكرة أهالي المدينة ولا يزال بحضن يُتقاسم في رمضان.
ويبقى "النفار" أو"تانفارت" تحفة ليالي رمضان المدينة، ليس لِما كان له من أثر في تأثيث اجواء خاصة بل لِما تحفظه الذاكرة الشعبية من حكي يخص النفار يعتقد أنه كان سر اعتماده لإسماع كائن لياليه عبق زمن، جامع بين صوت وصدى وألحان وتراتيل روحية من فوق صومعة جامع مدينة اعظم، وعبر دروبها وفضاءاتها تنبيها لغافلين وايقاظا لنائمين. مع أهمية الاشارة لِما كان يقوم به "نفار تازة" من جولات بين دروب احياء من حين لآخر، لجمع ما تيسر وما قد يجود به الأهل من عون نقدي وعيني (سكر، ملابس، ثمر، دقيق، زيت، زيتون وتين..)، مردداً عبر سحر نفارة تسرق أنفس سامعين "حق النفار يا أهل الدار". بل مما لا يزال عالقا في الذاكرة من عادات شعبية ارتبطت بجولات هذا الأخير التي كثيرا ما كانت تؤثثها براءة أطفال واثارة، نجد ما كان من معتقد كرامات. وعليه، كثيراً ما كانت أسر تازة تطلب من "النفار" النفخ في أبواب بيوتها اعتقادا منها جلب كل رزق وبركة وطبع حياة بطول عمر وسعد وصحة ونِعم، هذا فضلا عن جولة ختامية له لجمع زكاة فطر عبر دروب المدينة صبيحة يوم العيد.
هكذا كان"نفار" أزمنة رمضان تازة وأمكنتها أمس، بصدى عزف جامع بين اقتباس وابتهال اصيل مغربي ممتد حتى صلاة فجر كل يوم من ايام الشهر الكريم، ما يعرف عند العارفين بالشأن ب "تهلالت" التي من جملة ما كانت تردده "يا عباد الله قوموا لا تناموا هذا وقت الخير قوموا تغنموا يا عباد الله قوموا لا تناموا حان وقت الصلاة قوموا تغنموا". وهكذا كانت قدسية وهيبة رمضان تازة زمان، لا تكتمل سوى بصدى ابتهالات ليلية روحية راسخة في كيان أهالي، تلك التي تجعلهم باحتفاء وجداني رمضاني خاص وعبادة وتقرب من الله تعالى وأدعية. ولعل بقدر ما تشهد مهمة "النفار" في رمضان تازة على احتفاء واصالة وزمن روحي جميل، بقدر ما هي عليه من سؤال استمرارية وتلاقح أجيال باعتبارها ذاكرة وإرثا رمزيا احتضنه أهل أمس المدينة وحافظوا عليه على امتداد قرون. وهكذا كان أهل تازة يجددون وصلهم وتواصلهم خلال رمضان مع تقليد نفار، وهكذا أيضا كان جامع المدينة الأعظم يزداد ويفوح بهاء واشعاعا روحيا خلال رمضان، لِما يطبعه ويكون عليه من اقبال وقطبية وتدفق وتعبد وحج من كل حدب وصوب.
يذكر في علاقة بتقليد النفار، أن آلة "ترومبيت" الموسيقية هي التي تعرف في ذاكرة المغاربة الشعبية ب"النفار" أو "النفارة"، على أساس ما جاء في نصوص بحثية تاريخية. واذا كانت ألة النفار هذه في شكلها الحالي حديثة عهد نسبيا، فإن أصولها لا شك أنها أندلسية قد تكون جُلبت زمن العصر الوسيط الى فاس العاصمة أول الأمر من مدينة قرطبة التي كان المسلمون بها يستخدمونها لتقليد الافرنج. مع أهمية الاشارة الى أن هذه الآلة كانت تسمى بداية ب"البوق"، الأداة والآلة التي بإحالة ومرجع دلالي روماني "debucca" "حلزون".
ولعل آلة النفار التي أثثت ولا تزال رمضان تازة العتيقة بدفئها وصداها ورمزيتها، كانت موجودة بإسبانيا خلال القرون الأولى الهجرية. انما خلال أواسط القرن الثامن الهجري زمن حكم السلطان أبي عنان المريني، دخلت الى فاس بواسطة أسرة العزفي التي اشتهرت بمدينة سبتة. وكان أبا عنان هذا خلال هذه الفترة كما تذكر الرواية التاريخية، قد أقام بكل حي من ثلاثة أحياء أساسية بفاس السلطانية، حصنا به برجا عاليا كانت منه تنتقل أصوات هذه الآلة النحاسية الموسيقية وصداها. وتذكر النصوص البحثية أن بفاس كان برج"البواقين" بحي الأندلسيين على مقربة من جامع القرويين قبالة سوق الشموع، ثم برج اللمتيين بجوار منبع مائي كان تحت اشراف شرفاء وزان (دار الضمانة)، مع برج ثالث آخر كان بعدوة فاس.
هكذا انتقلت هذه الآلة الموسيقية الروحية النحاسية في البداية الى مدينة فاس، حيث تبلورت رمزيتها وتبلور شكلها وايقاعها وتحول اسمها الى "النفار" أو "النفارة" خلال هذه الفترة من زمن مغرب العصر الوسيط. ومن فاس العاصمة انتقلت الى باقي مدن وجهات البلاد العتيقة ومنها تازة. لتحل محل آلة الطبل الذي شكل لفترة أداة تواصل ارتبطت بحكم دولة الموحدين. ولعل آلة النفار التي انتقلت الى المغرب من بلاد الأندلس، عرفت بهذه الأخيرة جملة تغييرات عندما بدأ استعمالها لإيقاظ النائمين خلال رمضان. علما أن المغرب لم يتبع هذا التقليد الروحي الذي طبع بلاد الاندلس سوى ابتداء من القرن الرابع عشر الميلادي، متى بدأت اصوات النفارات ترفع وتتدافع من صوامع جوامع ومساجد رغم ما سجل حول الأمر من حرج ديني.
وكانت آلة النفار قد بلغت فترتها الذهبية بما عرفته من صنع نحاسي رفيع وثمين، لدرجة كانت هذه الآلة سبيكة ذات معادن سبعة كما تذكر النصوص. مع أهمية الاشارة الى أنها كانت تصنع خلال مطلع القرن الماضي بسوق السفارين بمدينة فاس، من نحاس خالص أصفر ومن قِبل حرفي واحد متخصص محتكر لمنتوج أقل ربحا، على أساس أن آلة النفار أداة بقدسية خاصة تحتاج ال ترخيص من مصلحة أحباس المدينة لتوفير ما هو مطلوب منها. وآلة النفخ هذه كانت تصنع من صفحات معدنية نحاسية يتم الصاق اطرافها بعد تركيبها، وكانت أقل طولا في الماضي قبل أن تبلغ حاليا حوالي المترين. بل كانت تتكون من اجزاء ثلاثة يتم ادخال بعضها ببعض لتشكيل آلة نفخ مستقيمة، ومن ثمة امكانية صدور اصوات هرمونية عالية منها، علما أن عزف ونفخ النفار لا يقوم على قوة صوت دفعة واحدة مثلما هو معروف في آلة "ترومبيت"، بل على نفخ تدريجي مع اعادة الصوت الواحد وعليه ما هي عليه آلة النفار الساحرة هذه من اصالة روح وتراث.
لقد كان نفار رمضان تازة زمان بدور معبر اجتماعي، بقدر ما ارتبط بمهمة حراسة ليلية بقدر ما كان ملزما خلال هذا الشهر بأدوار أخرى منها الاعلان عن بدايته بعد رؤية الهلال، من خلال نفخ ونفارة بحوالي نصف ساعة، كذا القيام في كل ليلة بنفخ وعزف من اجل اصوات طقوسية خاصة عبر أربع فترات. تلك التي تعرف ب"الشفع"، حيث بعد نصف ساعة بعد صلاة العشاء مثلا بجامع المدينة الأعظم كما حال ما كان قائما بجامع القرويين بفاس، يقوم النفار بأصوات ذات تعبير خاص بعد تلقيه الإذن من موقت حريص على زمن صلاة به، بحيث إثر ذلك كان يزيد في نغمات اصواته عبر جمل متلاحقة متسلسلة دون انقطاع، مع دوران تقاسمي من فوق أركان صومعة جامع اعظم قبل ما يلحق من تنويع لروح صوتيات.
أما الفترة الثانية من نشاط نفار رمضان تازة، فهي التي يتم فيها القيام بما يعرف ب "الدقان" بعد حوالي ثلاث ساعات من صلاة الشفع، حيث يقوم بدق ابواب البيوت عل ايقاع ونغم أصوات نفارة تتضمن مثلا قول،"عباد الله نوضوا تسحروا في طاعة الله يرحمنا ويرحمكم الله". وفي فترة اخيرة ترتبط بالسحور وقطعه، يكون النفار بحاجة لجهد أكثر لحوالي ساعة ونصف علما أنه لا يقوم بذلك بشكل مسترسل، بل يتوقف لأخذ نفَسه قبل اعلانه نهاية السحور من فوق صومعة جامع المدينة الأعظم عبر ما هو شجي روحي من صوت.
ويسجل أنه خلال شهر رمضان كان عمل نفار تازة يقتصر على جامع المدينة الأعظم، لموقعه فوق ربوة بعلو معبر يسمح بإطلالة محْكمة ومن ثمة بلوغ صداه الى كل الجنبات. مع أهمية الاشارة الى أن معظم ممارسي هذه المهنة مؤقتا من نفارين خلال الشهر الفضيل، كانوا صناعا حرفيين تقليديين من جهة وبانتماء للطائفة العيساوية التازية من جهة ثانية، منهم نذكر الى عهد قريب قبل حوالي ثلاثة عقود كل من "علال الكعوي" ثم"جلول الشرابي" ومعه أبوه وعمه ممن توارث المهمة، كذا من كان يشتهر لدى العامة بالمدينة ب "باصوطة" الذي توفي أواسط ثمانينات القرن الماضي، أيضا "حاجي" لفترة معبرة ثم ابنه عبد العزيز فيما بعد لبعض الوقت، فضلا عن أسماء عدة لناشئة عن الطائفة العيساوية بالمدينة ارتبطت بنفار رمضان وبهذا التقليد الروحي النبيل.
ما اجمل نفحات روح ليالي رمضان تازة أو على الأقل كائنها الى عهد قريب، قبل حداثة كاسحة وتدفق قيمي وفردانية وسلوك استهلاك لا غير، وما اجمل صور نبض حياة ليالي رمضان مدن المغرب العتيقة عموما لِما تحتويه وتحضنه من ايقاع عادات وتقاليد واشكال تعبير ضاربة في الزمن، وما اجمل ما كانت عليه تازة الأصيلة العالية عبر جامعها الموحدي المريني الأعظم ومساجدها وزواياها من ذكر ومديح وتعبد واقبال وتراويح، وما اجمل ما كانت عليه دروب وأزقة ورحاب ومساحات هذه الحاضرة من عبق تراث ودفئ أواصر وتصوف ومحبة وعظمة واسرار شهر فضيل. كانت تزيد من جمال مدينة شامخة عالقة بموقع مدهش للعين هناك على شرفة حيث أطلس متوسط وريف. هكذا هو رمضان زمان الذي جعل تازة بخصوصية وهوية محلية غير معزولة عما هو إرث كائن مجتمعي سلوكا تفكيرا ووجدانا، عبر تجليات قائمة ممتدة هنا وهناك بين أمكنة وأزمنة شهر فضيل. وبقدر ما من المهم والمفيد سرد ما هناك من تجلي احتفائي محلي بعظمة رمضان الروحية، بقدر ما من المهم ايضا اثارة ما من شأنه حماية ارث رمزي لصيق عبر الزمن، ذلك الذي يخص جوانب عدة ذات علاقة بعلاقات وتفاعلات ونمط عيش واحتفاء وذاكرة وتعبير، باعتبار كل هذا وذاك نتاج كيان ووجدان يترجم طباع ونمط عيش ووعي ومعان.
كل شيء بات تحت رحمة تغير وتدفق بما في ذلك ما يخص هوية رمضان في علاقة بكائن زمن جديد، لدرجة السؤال حول ما الذي تبقى مثلا من إرث نفار و"تانفارت" المغربية خلال الشهر الفضيل. علما أنه رغم ما يسجل من حداثة كاسحة متدفقة كما هو غير خاف، لايزال وقع هذه الأخيرة دون ما يهز روح رمضان وأسراره، فضلا عن إرث جمعي وهويات احتفاء محلي وذات. هكذا مقابل ما هناك من اختفاء لبعض أثاث صوفية رمضان مدن المغرب العتيقة كما تازة، في علاقته بأمكنة وعيش وسلوك ومن ثمة عبق تراث. هناك ما لا يزال يطبع رمضان من قدسية تعني ما تعنيه من هوية مغربية اسلامية وروح مدن وانسان.
مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما ردود الفعل في إيران عن سماع دوي انفجارات في أصفهان وتبريز


.. الولايات المتحدة: معركة سياسية على الحدود




.. تذكرة عودة- فوكوفار 1991


.. انتخابات تشريعية في الهند تستمر على مدى 6 أسابيع




.. مشاهد مروعة للدمار الذي أحدثته الفيضانات من الخليج الى باكست