الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المزرعة السورية السكسونية

أيهم نور الصباح حسن
باحث و كاتب

(Ayham Noursabah Hasan)

2022 / 4 / 19
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


يُحكى أنه في فترة الحصار الاقتصادي على سورية في الثمانينيات , ركب أحد أعضاء القيادة القطرية لحزب البعث السوري مع الرئيس حافظ الأسد في السيارة بجولة داخل دمشق , و بينما كان عضو القيادة يشرح للرئيس حال الشعب الجائع و مشاكله و همومه , كان الرئيس يستمع و ينظر إلى الشوارع عبر نافذة السيارة , و في خضم اندفاع عضو القيادة بالشرح حول الإشكاليات و الأخطاء و مواطن الخلل في العمل السياسي الداخلي , قاطعه حافظ الأسد ناظراً إلى أحد أبنية الوزارات التي تسدل على واجهتها صورة عملاقة له ( لحافظ الأسد ) تغطي كامل واجهة المبنى , قائلاً : كأنو هالصورة مايلة شوي , موهيك يا .... , ابتلع عضو القيادة لسانه و أصيب بالخَرَس , و ساد صمت مطبق حتى نهاية الجولة !

و يُحكى أنه في ذروة الأزمة الاقتصادية السورية عام 2022 م , و الناس جياع يطعنهم البرد و الفقر و القهر و الخوف بسكاكين مؤلمة , و تراهم سكارى و ما هم بسكارى , ينتظرون أي إشارة أو تلميح أو توضيح , من أي ذو ثقة , عن المدة التي يجب أن يبقوا فيها على هذه الحال البائسة , عن بصيص ضوء في آخر النفق , عن النفق , عن الحياة , عن القادم ... , اجتمع " الرئيس " بشار الأسد مع الممثلة سلاف فواخرجي و زوجها الممثل وائل رمضان , ربما لمناقشة أوضاع الدراما السورية !

و يُحكى أنه في أحد مؤتمرات ستالين ، و بعد انتهاء الخطاب و مغادرة ستالين , وقف الحضور للتصفيق له ، و رغم رحيل ستالين من القاعة ، إلا أن التصفيق بقي مستمراً ، مَرَّت خمسُ دقائق، ست دقائق ، إلا أن أحداً لم يجرؤ على أن يكون أول من يتوقف عن التصفيق ، وبعد إحدى عشرة دقيقة أجهد التعب مدير مصنع الورق فتوقف ، و بلمح البصر توقف الجميع بعده ، فعُزِلَ من منصبه وسُجِنَ لعشر سنوات !


في بلاد كهذه .. من الجريمة أن تشعر بأنك إنسان و بأنك تمتلك بضع كرامة


طبعاً من الواضح أن قضية كلاب " الزعيم الوطني " مع مدير مصنع الورق لم تكن قضية توقفه عن التصفيق , و إنما في كونه أول من توقف عن التصفيق , و هذا الفعل - برأيهم - ناشئ عن شعور بالكرامة أفضى إلى جرأة قد تُنبئ بالتمرد و العصيان و ربما إلى الشعور الكامل بالإنسانية و الإحساس بالغير , و هذا طبعاً يتعارض بشدة مع الثوابت الوطنية التي يحاول الزعيم الأكبر تكريسها و تربية الأجيال عليها .


نعم , لقد تم تلقين المسؤولين أولاً و الشعب ثانياً درساً جديداً في " الوطنية " : كن مع القطيع و لكن حذارِ أن تكون الأول في اتخاذ قرار غير مدروس , فالمزاحمة على المركز الأول تكون فقط في مجال لعق حذاء الزعيم بشكل وطني لائق .


هكذا تتم صناعة العبيد في أوطان " الزعماء الوطنيين " التي تحولت إلى ملكيات خاصة , و إذا ما نظرنا إلى هذه الذهنية بالحكم و عواقبها بمنظار التاريخ , فهل ترانا نراها سوى خيانة عظمى للوطن و الشعب و للإنسانية أيضاً ؟

هل هناك فعلاً أهمية لكل ما يبنيه الزعيم الوطني من مؤسسات و معامل و منجزات , و لكل ما يرفعه من شعارات رنانة , و لكل ما يدَّعي تبنيه من قضايا وطنية أو قومية , إن لم يبنِ إنساناً حراً يصون وطنه لأنه يعيش فيه بكرامة و إنسانية , بالتوازي مع بناء آلية ضمان انتقال سلس للسلطة بشكل ديمقراطي و قانوني , يحافظ على شرعية السلطة في نظر الشعب , كي يحمي وطنه و شعبه من الفتن و الضياع ؟

إن للعبيد ثورة ( بمعنى ردة الفعل لا بمعنى الحراك المنظم و الهادف ) مهما طال الزمن , و هذه الثورات غالباً ما تؤدي إلى ضياع الوطن و تفتيته , إذ من الصعوبة بمكان أن تستطيع ردة الفعل هذه إنتاج منظومة حكم جديدة , و ذلك بحكم التجهيل و الإفساد الديني و السياسي و الاجتماعي , الذي مورس على الشعب ( العبيد ) طيلة فترة حكم الاستملاك .

يحاول الزعيم الأحد الصمد وضع اللوم على ثورة العبيد , قاطعاً الطريق على الوعي الشعبي بأن ما حدث ليس سوى ردة فعل على إجرامه و إفساده و اغتصابه للحكم , و على طريقته في قيادة الدولة و الشعب برؤية أحادية شمولية لا تتوافق إلا مع نفسه المريضة بالسيطرة و الحكم , فيجتهد في تخوينهم و نسب كل الأضرار الإنسانية و المادية و المعنوية الوطنية إلى ثورتهم الخائنة , في محاولة منه لشيطنتهم و إظهارهم بمظهر أعداء الشعب و الوطن , و للأسف يساعده جهل الجميع في محاولته تلك .

و إن حدث و انتصر المعتوه بالسلطة فإنه يتغوَّل إلى أضعاف ما كان عليه في السابق , فالذي كان يخافه و يخشاه قد مرَّ مرور الكرام , و على رأي المثل القائل : الضربة التي لاتقصم الظهر تزيده قوة , يبدأ المجرم بتحديد طريق مستقبل نقل السلطة لوريثه , و كله ثقة بأن أحداً لن يجرؤ أن يعترض بعد كل هذا البطش و الفجور الذي مارسه في من قال لا .
في سورية , نعيش في مزرعة ذات نظام جمهوري تنتقل فيها ملكية الوطن و الشعب للرئيس التالي بالوراثة !!!
مزرعة ذات دستور من ورق , لا يستطيع أحد المطالبة بتطبيقه , السيادة ليست للقانون ولا للدستور ولا للشعب , السيادة فقط لـ " قائد الوطن "
جميع قوانين المزرعة قوانين سكسونية , و لمن لا يعلم ماهو قانون سكسونيا , هو قانون تم وضعه في العصور الوسطى في القرن الخامس عشر بالتحديد , في ولاية ألمانية اسمها سكسونيا ازدهرت أعمالها التجارية بعرق الطبقة الكادحة الفقيرة التي كانت تعمل لدى طبقة النبلاء الأغنياء المالكة لكل شيء في الولاية , وكان هذا القانون يُجرِّم فاعل الجرم سواء أكان من طبقة العامة أو من طبقة النبلاء لكن التمييز بينهما كان في طريقة تنفيذ العقوبة , ففي حين كان يُقطع رأس القاتل و يُفصل عن جسده إذا كان من عامة الشعب , يُحضر القاتل النبيل ( من طبقة النبلاء ) و يقف تحت الشمس و تقطع رقبة ظله , أما السارق من عامة الشعب فيُجلد , و السارق النبيل يقف في الشمس و يُجلد ظله , و إذا كان الحكم قد صدر بسجن المجرم , فمجرم العامة يُسجن و مجرم النبلاء يُسجن أمام الناس و يخرج من البوابة الخلفية , و كحال لصوص المزرعة , كان النبلاء يقفون بكل شموخ و كبرياء و غرور أثناء تنفيذ الحكم بهم و أحياناً مع ابتسامة ساخرة تزين وجوههم , فيما تصفق العامة بحرارة و غبطة أثناء التنفيذ صارخةً : تحيا العدالة !

هذه هي تماماً قوانين المزرعة السكسونية , ثم يحدثونك في الدستور عن مبادئ العدالة الاجتماعية و الكرامة الإنسانية ... !

إن التمسك بالحكم و الاستمرار باغتصابه , هو سعي دائم و اجتهاد يومي حثيث بالنسبة للحاكم , فهو أولاً و آخراً عمل لمصلحة شخصية بحتة , ولا يمكن بأي شكل من الأشكال أن يأخذ هذا السعي صفة وطنية , مهما حاول الحاكم و زبانيته دمج هذه المصلحة بمصلحة الوطن في أفهام الشعب .

لا تتعلق قيادة مؤسسات الدولة و القرارات الوطنية التي يصدرها الحاكم المستبد بمنطقيتها أو بقانونيتها أو بمدى مواءمتها و صلاحيتها للوطن و للشعب أو بمدى محاولتها لتحقيق أمان الوطن و المواطن أو استقراره و رفاهيته , إنما تتعلق و فقط بمقدار تناسبها مع استمرارية البقاء في الحكم على المَدَيين القصير و البعيد , و بمدى تحقيقها و خدمتها لهذا الهدف حصراً , و لهذا السبب نلاحظ أنه في بلاد المزارع المُستَملكة , جميع الحلول لكل الإشكاليات المُعاشة متداولة و معروفة بالنسبة لجميع شرائح الشعب , من سائق التكسي حتى دكتور الجامعة , لكن الدولة بكل مؤسساتها و وزاراتها و هيئاتها عاجزة عن معرفة تلك الحلول أو تطبيقها !
و لكل ذلك , فقد جاز لنا القول أن هذا النوع من السياسة – إن صح التعبير - ينتفي عنه أي وصف وطني أو أخلاقي إيجابي , و التاريخ حَكَمَ على أمثال هؤلاء و على أوطانهم , و سيحكم مستقبلاً أيضاً , ليس بالتدوين فحسب , بل أيضاً بنوع المصير و حجم الثمن المدفوع .
و قد يسأل سائل : و ما ذنب هذه الشعوب المقهورة و المغلوبة على أمرها كي تُقاسي و تتعذب و تدفع ثمن جنون الطاغية الذي يحكمها بقبضة من حديد و قبضة من نار ؟
الجواب بسيط جداً , التاريخ و المستقبل لا يحابي أحد , إنه ثمن الصمت و الخضوع و الخنوع الذي ساد عندما أُكل الثور الأبيض .
لنتذكر أنه في منتصف ثلاثينيات القرن الماضي كانت أكثر من نصف الدول الأوروبية محكومة من قبل طغاة ديكتاتوريين مستبدين , لكن هذا لم يدم , حيث استطاعت غالبية هذه الشعوب التخلص من جلاديها و إرساء أنظمة حكم تحقق العدالة و المساواة و الديمقراطية لمواطنيها , بينما بقينا , نحن , شعوب المنطقة العربية و الأوسطية نستنسخ جلادينا حتى اليوم , لا لشيء , إلا لأن البنية المجتمعية بفضائها السياسي و الاجتماعي و الثقافي لم تتطور و لم تتغير , فبقيت تجتر ماضيها منتجةً نفس النوع من الحليب و الروث .
أدى الكم الهائل من السيطرة و التقزيم و التهميش لحياة الناس الاجتماعية و السياسية و الدينية و انعدام أي أمل بالتغيير إلى الانفجار , فكانت ثورات الربيع العربي – كما اصطُلح على تسميتها – لكن في النهاية عاد الاستبداد و الطغيان للحكم , نعم .. لقد كان هناك وعي جمعي بالاستبداد و شعور جماعي باليأس و القهر و الإذلال , أدى إلى الخروج للشوارع و إعلان الرفض و المطالبة بتغيير هذا الواقع , لكن للأسف , لم يكن هناك وعي على المستوى الجمعي بكيفية التبديل و بماهية الواقع البديل المطلوب , حالنا حال المراهق الذي يثور على أبيه الجاهل الظالم , فيرفض الانصياع و المعاملة الجائرة , و يخرج من البيت بعد مشادة حامية مع والده المتجبر , لكنه يعود مكسوراً بعد سويعات أو أيام , فهو لا يعرف أين يذهب و لا أين ينام أو كيف سيأكل أو يعيش خارج منزل أبيه .
إن كل هذا الضياع و التشتت و الجهل و انعدام الحيلة , أسفر عن ضبابية كثيفة في آلية تحقيق الهدف و عواقبه و آثاره , الأمر الذي أوصلنا ( أو سيوصلنا , فالبعض وصل و البعض الآخر على الطريق ) إلى الاستكانة و الرضا – و ربما القناعة لدى البعض – بفاعلية و جدوى ظهور طاغية جديد يقود نواصينا - من جديد - نحو الذل و القهر و اليأس .
عدوى الوقاحة و الفجور
بالأمس القريب أعلنت إيران عن قصفها لأماكن في أربيل عاصمة إقليم كوردستان طالت القنصلية الأمريكية الجديدة - قيد الإنشاء – و مباني مدنية , بذريعة وجود مكاتب إسرائيلية سريّة حسب زعمها , و اللافت هذه المرة هو هذه الوقاحة بالإعلان عن القصف و كأن قصف مناطق في دول الجوار بالصواريخ هو أمر طبيعي و حق مشروع للدول التي تتفوق على جيرانها بالقوة .
استمدت إيران وقاحتها من وقاحة بوتين الذي احتل أوكرايينا تحت اسم " عملية عسكرية خاصة " بذريعة ارتمائها في أحضان الغرب المعادي لروسيا , و ربما تقوم الصين قريباً بعملية عسكرية " داخلية " لاستعادة تايوان .
كل هذا الفجور و التغول هو مجرد تقليد لما سنته الولايات المتحدة الأمريكية " قائدة العالم الحر " بجرائمها في كل بقاع الأرض من فيتنام إلى العراق إلى أفغانستان إلى سورية إلى ليبيا و غيرها , و الآن نشاهد المجرم يدين جرائم مماثلة لجرائمه , أيضاً بكل وقاحة .
إن نتيجة هذه الحرب بين روسيا ولا نقول أوكرايينا بل الغرب لن تكون , أياً كان المنتصر فيها , سوى مزيد من الاستبداد و الظلم و البطش بحق الدول و الشعوب الأضعف و الأدنى .
منذ أن انتقل الملك أو الزعيم من القتال بيده إلى التخطيط الاستراتيجي , و من مقدمة الجيش عند المعركة إلى مؤخرته , لم تعد هناك قضايا محقة تستحق الموت لأجلها .
بعيداً عن تحليلات زوال القطب الواحد للعالم و ظهور أقطاب جديدة , ربما بات العالم اليوم بحاجة إلى راعي جديد لا نفاق لديه , و نظام جديد يُرسي مبادئ و مفاهيم واضحة لا تقبل الالتفاف أو الاختراق في علاقات الدول مع بعضها البعض , و في العلاقات الإنسانية البشرية بشكل عام , نظام لا يفرض رؤيته و مصالحه على باقي العالم , نظام لا يقتل و لا يستبد الدول باسم الديمقراطية و الحرية , و لا يحتل و يسيطر بحجة الأمن القومي , إنما يحدد الأطر و المحظورات فقط , و يترك القافلة تسير بكل تنوعاتها و عجائبها و غرائبها , فربما حينها قد تجد البشرية مخرجاً من هذا الاحتراب الذي نحن فيه مع أنفسنا و مع غيرنا ومع أمنا الطبيعة أيضاً , فتنعم ببعض السعادة إلى حين .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عقوبات أوروبية جديدة على إيران.. ما مدى فاعليتها؟| المسائية


.. اختيار أعضاء هيئة المحلفين الـ12 في محاكمة ترامب الجنائية في




.. قبل ساعات من هجوم أصفهان.. ماذا قال وزير خارجية إيران عن تصع


.. شد وجذب بين أميركا وإسرائيل بسبب ملف اجتياح رفح




.. معضلة #رفح وكيف ستخرج #إسرائيل منها؟ #وثائقيات_سكاي