الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أمي وذلك العشيق

فوز حمزة

2022 / 4 / 22
الادب والفن


تلقاني السمسار باستغراب قائلًا:
- لم أتوقع حضوركِ في الموعد .. تعجبني المرأة المنضبطة !!
قلت له وأنا ما أزال واقفة عند الباب بينما سحابة من القلق تتكثف في صخب داخل رأسي:
- ليس لدي وقت .. عليّ أن أعود إلى عملي بعد ساعة.
نهض بصورة مباغتة قائلًا:
- هيا إذن لنذهب ونرى الشقة ..
ثم نادى على الشاب الذي كان ينظم في أوراق أمامه أن ينتبه للمكتب في غيابه.
وهو يقود سيارته قال:
- لا أخفيكِ سرًا .. كنت قلقًا من عدم حضورك فتضيعين على نفسك شقة رائعة يصعب الحصول على مثلها في مثل هذا الوقت.
لم أرد عليه فاستأنف حديثه وكأنني غير موجودة:
- الناس في ازدياد والأزمة تشتد والمباني كما هي .. لا نعرف كيف ستؤول إليه الأمور في الأعوام القادمة.
قلت وعيناي مصوبة على الطريق لأسجل في ذاكرتي خريطة للشارع في حال عودتي ثانية لوحدي:
- ما يهمني إن لا يكون هناك كلاب أو قطط، فأمي كما أخبرتك لديها فوبيا من الحيوانات ..
- لا تشغلي بالك بهذا الأمر .. لقد تأكدت من خلو البناية من الحيوانات والحشرات أيضًا .. للنساء أمورًا يصعب تفسيرها.
هز رأسه وهو يقول جملته الأخيرة ثم ضحك ليصمت بعدها مستمعًا لأغنية من الراديو حتى وصلنا إلى شارع فرعي على جانبيه عمارات قديمة ومحلات بقالة وأخرى لبيع الألبسة وثمة مقهى صغير عند الزاوية.
توقف أمام بناية لونها يميل إلى الأصفر و شرفاتها صغيرة بعضها مليئة بأصص النباتات والزهور والبعض الآخر تتدلى منها حبال لنشر الغسيل .
قال لي وهو يشير إلي بالنزول:
- للبناية بابان .. الآخر يؤدي بك إلى حديقة الحي الخلفية .. صدقيني .. لولا أن مالكها صديقي لما عرفت بأمرها .. متأكد إنها ستعجبكِ .
وأنا ما زلت واقفة استطلع المكان .. خرجت من باب البناية سيدة في أواسط الخمسينيات من عمرها .. تضع نظارات طبية إطارها مذهب .. توقفتْ قليلًا قبل قطعها الشارع منعطفة إلى اليمين.
شيء ما لا يشبه أي شيء هبط عليّ في تلك اللحظة .. تولتني الدهشة واستبدت بي المفاجأة.. امتلأ قلبي بضباب كثيف غطى على عيني وكأني أقف بين الموت والحياة .. تسمرت في مكاني محدقة فيها حتى لاحظ السمسار ذلك فقال لي بعد أن وزع نظراته بيني وبينها:
- هل تعرفين هذه السيدة ؟؟
أجبته في ذهول:
- تشبه امرأة أعرفها .. امرأة ماتت منذ زمن .. ؟
- على كل حال .. جيرانك أناس طيبون .. كوني مطمئنة.
بكل ما أملك من دهشة بقيت أنظر إليها حتى غابت في زحمة الشارع .. هنا شعرت بسريان الدم في أوصالي وبتدفق العتمة من تلك الأوصال التي بدأت ترتعش من جلبة الأفكار التي اشتعلت بصمت في رأسي .. ها أنذا ثانية في مشهد ظننت أن سنوات من العلاج النفسي كانت كافية لتسدل الستار عليه.
لم أسمع السمسار وهو يدعوني للإسراع حتى انتبهت إليه وهو يغيب داخل البناية.
لاحظ السمسار أنني لم أكن على ما يرام وأنا اتفقد الشقة التي كانت تحتوي على صالة معيشة واسعة ومشمسة كما طلبت وحجرتين للنوم مع مطبخ وحمام صغير.
ظن أنني لن أوافق .. فبدأ يذكر لي محاسنها قائلًا:
- قد تكون حجرات النوم صغيرة قليلًا لكن موقعها القريب من مركز المدينة يجعلها مميزة جدًا لهذا هي مرتفعة الإيجار قليلًا لذا لا أنصحك بالتفكير طويلًا ..
قاطعته وشعورًا بالاضطراب يسيطر علي:
- جهز لي العقد بأقرب فرصة.
في نهاية الشهر انتقلنا إليها .. كانت أمي هي السعيدة بينما أختي الصغيرة عبرت عن حزنها لأنها تركت صديقاتها في الحي القديم وأكدت بما لا يقطع الشك إن المدرسة الجديدة لن تنال رضاها أبدًا.
وفي زحمة العمل نسيت تلك السيدة لأنني لم أقابلها ثانية حتى ظننت أن خيالات الماضي وكوابيسه ما زالت تلاحقني .. تزحف نحوي كالعقارب بينما أقف وحيدة في صحراء بلا نهاية.
مر أسبوع قبل أن أصادفها ثانية عند باب المصعد .. إذن ماشاهدته لم يكن وهمًا .. اقتربت منها بحرص ومع كل خطوة أشعر بثقل الكلمات على لساني.
بدأت اتفرس فيها قبل أن أعرّفها بأنني جارتها الجديدة .. كنت حريصة على عدم ذكر اسمي أمامها ولا أعرف لماذا .. ربما خوفي من المواجهة كان السبب .. كنت أريد فرصة أخرى ألتقط فيها أنفاسي.
رحبت بيّ بحرارة قائلة: إنها تعلم ذلك لكنها تنتظر الفرصة المناسبة لتدعوني وأمي لشرب القهوة .. فكانت صبيحة الجمعة هو الموعد المقرر للدعوة .
ابتسمت لي قبل أن تستقل المصعد وتغيب داخله .. ما زال الجمال عالقًا في ملامح وجهها رغم إنها بدت أكبر من عمرها .. شيئان فيها أكدا ظنوني وجعلني أقف على أرض راسخة .. بريق عينيها وتوهجهما التي لم تطفئه السنون ونبرة صوتها التي ترن في أذني منذ آخر مرة سمعتها تتحدث ..
كنت في العاشرة من عمري حين رأيتها من ثقب الباب عارية في أحضان صديق أبي الذي كان يتردد علينا كثيرًا كانت هذه المرة الأولى التي أعرف فيها ما يفعل رجل وامرأة على الفراش .. بل هي المرة الأولى التي أرى فيها أجسادًا عارية .. هالني منظرهما فهربت إلى غرفتي .. لا أتذكر ما حصل بعدها إلا أنني حينما فتحت عيني وجدت أبي جالسًا عند رأسي في المشفى وهو يدس يده المرتجفة بين خصلات شعري .. ما أذكره أننا حين عدنا لم نجدها في المنزل ..
عند المساء أخبرته بما رأيت .. وحينها رأيت الحزن يبعده عني .. فخشيت فقدانه هو الآخر.
بقيت ذكرى المشهد الذي عجل بكهولتي راسية عند شواطىء ذاكرتي ورؤيتها الآن سمحت للعواصف بالهبوب ثانية على تلك الشواطئ لبعثرة كل شيء.
أمسى أبي رجلًا آخر .. حول البيت إلى سجن لا يسمح لي بالخروج منه إلا إلى المدرسة .. لا يقبل كلمة من إنسان ويرفض استقبال الزائرين .. متخبطًا في قراراته .. لم يعد شيء يجمعني به سوى الخيبة.
أما أنا فقد حولني ثقب الباب إلى طفلة حكيمة كبرت قبل أوانها وفوق عمرها بينما سنواتها الأولى من عقدها الثاني باتت باهتة كمريضة لا هي بالميتة ولا هي بالمشافية.
.............................................
انتظرت يوم الجمعة.. أعد الدقائق و الثواني كي التقي المرأة التي جعلتني أنظر للحياة بعين واحدة. ارتديت ثوبًا فضفاضًا خفيفًا في ذلك النهار الذي بدأت شمسه حامية أكثر مما ينبغي ..
سألتني أمي ونحن واقفتان على بابها:
- سندعوها لزيارتنا في الجمعة القادمة، ما رأيك ؟
- لا بأس.
دخلت شقتها كغريق يبحث عن زورق نجاة وسط بحر مليء بأسماك القرش .. أحضرت لنا السيدة ما وعدتنا به من أكواب القهوة .. وأنا ارتشف قهوتي سألتها عن الرجل المعلقة صورته على الحائط لأتخلص من الأفكار التي تدور في رأسي كدوران الريح في ليلة شتاء ..
قالت دون أن تنظر إلى الصورة:
- إنه الرجل الذي تركت العالم من أجله لكنه ...
قطعت حديثها بتنهيدة كأنها تذكرت شيئًا لا تريد منا معرفته.
وهي تودعنا عند الباب .. حصل الذي خشيت منه حين سألتني عن اسمي .. تفرستْ هذه المرة في وجهي طويلًا حينما علمت أن اسمي سارة .. كأنها تذكرتْ شيء ما.
صوت أمي وهي تطلب منها رد الزيارة في أقرب فرصة أخرجها من صمتها وجعلها تتلعثم معلنة الموافقة بأشارة من رأسها .. لكن ذلك لم يحصل .. إذ لم نقابلها ثانية.
قد أخطىء في كل شيء إلا في ذلك العبق الصادر منها كأنه أول لحظة عند فتح خزانة ثياب شتائية .. ما زالت بقاياه عالقة في روحي.
مضت أيام عديدة ترقبت فيها رؤيتها أو مقابلتها صدفة دون جدوى .. أمي حسمت الموقف عندما أخبرتني بأن جارتنا الوحيدة كما يحلو لأمي تسميتها ترقد في المستشفى مريضة وليس لديها أقارب يعتنون بها لهذا علينا القيام بالواجب قدر استطاعتنا.
ذهبت لعيادتها وحين رأيتها مستلقية على السرير يعلو وجهها اصفرار الموت المتربص بجبروت جسدها .. شعرت بمؤشر الميزان يقف عند المنتصف .. سرعان ما أبعدت هذا المشاعر المخجلة التي صورتني كحديقة خاوية وقت الشتاء أو كشجرة في فصل الخريف وقد تعرت عنها زينة الحياة.
شعرت بالكلمات تملأ صدري دون إيجاد متنفس لها .. تدور كما يدور دولاب الهواء بعد علمي
انها مصابة بمرض عضال جعلها على موعد مع حرب جديدة لن تنتهي لصالحها .. حزنها الأكبر أنها ستغادر الحياة وحيدة بعد تخلي الرجل الذي من أجله تخلت عن كل شيء.
وهي تحدق بيّ قالت:
- كما نبذت الجميع نبذتني الحياة.
استغربت كيف إنها أخبرتني بكل هذه الأشياء، لعله الموت الذي يحرص على قلب الصور وتغيير الألوان.
جلست عند حافة السرير أرقب جسدها المركون وأنفاسها الضعيفة .. استعيد مع نفسي ذكريات كانت وما زالت تهزني هزًا بينما الصمت وحده يهذي .. فالكلمات أنزوت بعيدًا تنتظر الحصاد.
أردت الهرب مع سري الدفين وتركها وحيدة ثأرًا لطفولتي .. لكن منظر الأسلاك التي تحيط بجسدها كانت كالجدران العالية التي حالتْ بيني وبين تنفيذ ما فكرت به .. صراع مرير نشأ داخلي لحظتها وحاجة خبيثة خطرت لي من جراء شريط الذكريات الذي التف بقوة حول رقبتي ..
فكرت في إيقاف الأجهزة التي تربطها بالحياة لأرقب الموت وهو ينتزع الروح منها .. لكن لحظة تجلي شعرت فيها بانتصار إنسانيتي على كل شيء رغم أن صورة أبي الحزينة لن تستطيع أية ممحاة تغيير معالمها .. فعيناه التي سكنهما الإنكسار والخيبة لآخر يوم في حياته .. يغشاني البكاء حين أتذكرها .. في تلك اللحظة وأنا أرى الموت في كل ثانية يطفىء خلية من خلايا جسدها كان الواجب هو الذي يملي عليّ ما أفعل وليس شيئًا آخر.
سأمضي اليوم وغدًا كما مضيت في الأمس .. لكن بذكريات وصورًا جديدة علها تعيد إلي شيء من ذلك التوازن النفسي الذي فقدته في مرحلة ما كنت في حاجة لمن لم يكن من الطبيعي فقدانهم ..
فتحت النافذة لأجد العالم الذي يحيطنا صغير جدًا.. بدأت بطرد ذبابات الحقد فالعالم لا يسع المعارك التي نخوضها مع أنفسنا.
شعرت بحب جارف نحو أمي فاتصلت بها لأخبرها كم أحبها .. في تلك اللحظة تمنيت لو أنني أختبىء تحت جناحيها أتدفأ.
قلت لها وثمة دمعتان انحدرت على خدي:
- أمي .. لأجلي كوني مستيقظة حين أعود.
استفاقت الجارة الغريبة من غيبوبتها بعد مغيب الشمس وعلامات الموت ترسم ببطء إشاراتها على وجهها وجسدها، وهي توصيني خيرًا بأمي .. أجبتها:
- ليست أمي ..إنها زوجة الأب التي ربتني وتمسكت بيّ حتى بعد وفاة أبي .. النور الذي أنار حياتي منبعه قلبها النقي وروحها الطاهرة .
وبصوت واهن سألتني:
- وأمك .. هل توفيت ؟
وأنا أحدق عبر النافذة وثمة دمعتان عالقتان في محجري أجبتها:
- أمي تركتني وأنا في العاشرة من عمري لتهرب مع عشيقها.
هنا شهقت سيدة ذلك العبق الذي ظل طوال أعوام عالقًا بذاكرتي قبل أنفاسي .. فكانت شهقة الحد الفاصل لها ما بين الحياة والموت وكأن الله أرادني حضور هذه اللحظة وذلك الفاصل .. وكانت لي شهقة الحد الفاصل ما بين الحياة والحياة ••








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأسود والنمور بيكلموها!! .. عجايب عالم السيرك في مصر


.. فتاة السيرك تروى لحظات الرعـــب أثناء سقوطها و هى تؤدى فقرته




.. بشرى من مهرجان مالمو للسينما العربية بعد تكريم خيري بشارة: ع


.. عوام في بحر الكلام | الشاعر جمال بخيت - الإثنين 22 أبريل 202




.. عوام في بحر الكلام - لقاء مع ليالي ابنة الشاعر الغنائي محمد