الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل اخترق الإخوان هيئة كبار العلماء بالأزهر؟

سامح عسكر
كاتب ليبرالي حر وباحث تاريخي وفلسفي

2022 / 4 / 23
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


الدكتور محمد محمد أبو موسى "عضو هيئة كبار العلماء" بالأزهر، والمشهور "بشيخ البلاغيين" لتخصصه في علوم اللغة العربية وكتابته فيها بعض المؤلفات، وقفت على صفحته بالفيس بوك وجدته يهتم أكثر بعلاقة الدين بالدولة ويقول بوضوح أن الأصل في الدين أنه مرتبط بالسياسة والدولة، وعلى الحاكم تطبيق شريعة الله وإلا سوف يكون مبتعدا عن الدين، وبهذا المقال سنبحر في منهجية وأقوال الشيخ من صفحته وكتاباته المنشورة بالمصدر، لنبحث سويا هل للشيخ علاقة بفكر الإخوان المسلمين أم لا؟..وهل يروج للمذهب السلفي الجهادي أم لا؟..وهل يتبع منهجية الإسلام السياسي في التفكير أم لا؟..فالرجل يشغل منصبا هاما وهو عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر فوجب تحري ما يكتبه وينشره ليس بقصد المحاكمة ولكن للتحذير مما قد يتضمنه هذا الكلام من اختراق وبلوغ لفكر الجماعات داخل مؤسسة الأزهر العريقة التي نكن لها - كمدرسة دينية - كل الاحترام..

كتب الدكتور أبو موسى على صفحته بالفيس بوك ما يلي "يُدهشك أن تسمع تكرار القول بأن المذهب السَّلفي من أهم أسباب تخلُّف مصر، وأن الإسلام السياسي من أهم أسباب تخلُّف مصر، وأن الدولة المدنية القائمة الآن في مصر يجب أن تتطهَّر من السلفية ومن الإسلام السياسي، ويأسف المتحدث بهذا الذي لا أصل له لتغلغل المذهب السَّلفي في مصر، وأنه داخَلَ نفوسَ كثير من المسئولين، وأن رحمًا قائمة بين هذه الثلاثة [المذهب السَّلفي، والإسلام السياسي، والإرهاب]، وكل هذا من الخطأ المَحْض" (المصدر مقال الدكتور بعنوان "مخالفة المعلوم من العقل بالضرورة – المذهب السلفي" بتاريخ 19 إبريل 2022)

ويظهر من كلام الدكتور أنه مؤيد للسلفية والإسلام السياسي وإن كان بشكل مختلف عن ما يقدمه الإخوان والأحزاب الدينية، فهو لم يصرح بتأييد هذه الأحزاب علانية ولكنه يقول بنفس مضمونها الداعي لخلط الدين بالسياسة والدولة، وأن السلفية الحق هي التي يجب أن تحكم المسلمين وفقا لتصوره..

والسؤال هنا: ما موقف الدكتور من قضايا وعقوبات ينكرها الدستور المصري بل يعاقب مرتكبيها أحيانا وفقا للقانون ( كتحكيم الشريعة – وقتل المرتدين – وقتل تاركين الصلاة – وجهاد الطلب لنشر الإسلام بالقوة العسكرية – والبنوك وفوائدها وصناديقها – وفرض الحجاب والنقاب على النساء – واللحية على الرجال – ومنع السياحة والفنادق – ومنع المعارضة السياسية الخارجة عن سلطة الخليفة –ومنع الموسيقى والغناء – ومنع المسارح والسينمات – ومنع الاختلاط بين الجنسين – وقتل المثليين جنسيا – وقتل الزناة بالرجم – وإجبار المسيحيين على دفع الجزية – وقتل الشيعة بتهمة الردة – وتسمية كل غير المسلمين بأهل الذمة) وغيرها من القوانين والتشريعات التي هي من صلب الشريعة التي طبقتها داعش وطالبان والقاعدة ، وسبق للإخوان المسلمين تطبيقها في السودان والصومال وبعض الدول..

الأحاديث الصحيحة التي يعتمد عليها الشيخ ويسميها في أعماله شرعا واجبا تقول بوضوح على لسان رسول الله "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإن فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله رواه الشيخان ، وحديث أنس عند البخاري وأصحاب السنن الثلاثة : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، فإذا قالوها وصلوا صلاتنا واستقبلوا قبلتنا وذبحوا ذبيحتنا فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله" انتهى والحديث واضح بوجوب الغزو والجهاد لتطبيق شريعة الله، وهذا ما انتهى إليه المذهب السلفي التقليدي ودعا أتباعه إليه على مدار 50 عاما حتى رأينا خلايا الإرهاب وداعش تعترف في المحاكم والإعلام أنها متأثرة بمذهب السلفية وأنهم تلاميذ لشيوخها الكبار كمحمد حسان وحسين يعقوب وغيرهم..

إن رجلا في حجم ووظيفة الدكتور أبو موسى حيث أنه عضوا في "هيئة كبار علماء الأزهر" لهو رجل خطير ذو منصبٍ خطير صار له الحق في التشريع والحكم وفقا لتفسير الأزهريين للمادة السابعة في الدستور، التي تقول بأن الأزهر هو "المرجع الأساسي للعلوم الدينية والشئون الإسلامية" رغم أن كلمة مرجع تعني في مضمونها (استشارة) وليست (سلطة) وكلمة الأساسي لا تعني (الوحيد) بل تعني (الأول والأهم) مما يعني أن الدستور المصري يؤمن ضمنيا بمراجع أخرى للدين غير أزهرية، وأن السلطة الوحيدة للشعب الناخب، وحق التشريع لهذا الناخب عن طريق نوابه وحكومته وأحزابه ومجتمعه المدني، ففي كلام الدكتور هنا تجاوزا على الدستور المصري ونصوص القانون الصريحة والواضحة بمدنية الدولة المعروفة بنصوص (الحريات العامة) وهي 53، 57، 62، 64، 65، 66 ، 67 ، 68، 70 أي تسعة مواد صريحة في مدنية الدولة رافضة لكل شكل من أشكال الإسلام السياسي أو خلط الدين بالدولة..

ولكي لا نظلم الرجل فالدكتور أبو موسى كان صريحا في مقال آخر بدعوته القاطعة لإنشاء دولة دينية في مصر، فقال بصفحته على الفيس بوك بتاريخ 16 إبريل الماضي 2022 " لم أقرأ في كتاب ولم أسمع من قائل يُستمَع إليه أنه ليس في الدين سياسة إلا بعدما عقد النظام المصري صلحًا منفردًا مع الصهاينة، والذي أعلمه أنه ليس هناك فقيهٌ واحدٌ يُجيز الصلح المنفرد مع أشد الناس عداوةً لنا وهو يحتل شبرًا واحدًا من أرض المسلمين "

ثم يضيف "لماذا نُصرُّ على أن في الإسلام سياسة؟ وجوابي هو أن الله – سبحانه وتعالى – قال لنا وكرَّر أنه – سبحانه – أنزل كتابه ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وكلُّ شيء ضارٍّ في حياة الجماعة داخلٌ في كلمة «الظلمات»؛ فالظلم ظلمات، والفقر ظلمات، والجهل ظلمات.. إلى آخر رذائل التخلف، وكلمة «النور» يَدْخُل فيها كلُّ خير في حياة الجماعة؛ كالعلم والعدل والثروة والقوة التي تحمي أرضها وعرضها.. إلى آخره. وعمل السياسة الأول والأخير هو إخراج الشعب من الظلمات إلى النور، وهذه واحدة، والثانية أنه – سبحانه – قال لنا في كتابه إنه ما فرَّط في الكتاب من شيء، حتى إن الله – سبحانه وتعالى – أنزل آية تنظم مجالسنا وقال: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ»؛ فهل يُعقل أن يُعلِّمنا مثلَ هذا ويُهْمِلَ أمر السياسة التي هي أهم وأوسع وأَدْخَلُ في حياة الجماعة من إفساح المجالس؟ ثم نقترب أكثر من القضية ونقول إن القرآن أمرٌ ونهيٌ، ولا يجوز لأحد أن يتجاوز أمرَه ونهيَه، وإن الحكم لله، وإن من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، وهذا ليس على شاطئ السياسة وإنما هو داخلٌ في القلب منها" انتهى

أرجو التأمل في السطر الأخير لكلام الدكتور الأزهري عضو هيئة كبار العلماء، فهو يقول بوضوح أن الحكم لله ومن لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر، وهي نفس الأقوال التي يرددها الإرهابيون ضد الدولة وبها يكفرون الحاكم والشعب وعن طريقها وصف سيد قطب المجتمع المصري والعربي بالجاهلي، وفي تفسيره لكلمة "الظلمات" القرآنية يظهر منها ذلك المعتقد التكفيري بوضوح فهو يرد الحكم لله فقط وأن الدين بعث لأجل هذه الظلمات وعلاجها، وبالتالي فالإسلام يأمر بتحكيم شرع الله وسيادته على كل شريعة أخرى سواء كانت كتابية أو وضعية أو مستوردة من أي دين وفكر مختلف، وهي نفس القاعدة التي حركت الجماعات الإرهابية في الماضي حيث تشبعت عقول عناصرها بأن "تطبيق الشريعة" هو الحل، ويجب إلغاء مدنية الدولة لصالح مجتمع الخلافة..

ثم تظهر دوافع الرجل التي حملته على هذا الكلام هو أن ما يسميها "بدعة فصل الدين عن السياسة" هي بدعة مستحدثة جراء الصلح مع الصهاينة في كامب ديفيد، وبالتالي فالمدنية هنا وحكم الدستور والمساواة ومواد الحريات جميعها ثقافة غربية مستوردة لا علاقة لها بمصر التي يجب أن تحكم بالإسلام وتلغي هذه المواد العميلة..

أرجو الانتباه أن قائل هذا الكلام ليس إرهابيا معروض في قاعات المحاكم، أو مسجون في المعتقل أو هاربا بل هو كلام شيخ أزهري عضو هيئة كبار علماء الأزهر ، ويقدم نفسه على أنه ممثل للأزهر ومصر ومرجعيتها الدينية في الدستور، لذا وجب التوضيح إلى أي ثقافة وهوية تنتمي مصر الآن هل إلى الحداثة والمدنية والعلم والمعاصرة والمساواة، أم إلى دولة الشريعة والخلافة والرجم والقطع وقتل المرتدين وتاركي الصلاة؟؟ هل إلى دولة العدالة الديمقراطية وتكافؤ الفرص أم إلى دولة الحاكم بأمر الله وحراس العقيدة والمتشددين؟ هل إلى دولة حقوق الإنسان والمواطنة وعدم التفريق بين مسلم ومسيحي أم إلى دولة الجزية والعبودية وأهل الذمة؟ هل إلى دولة المساواة بين الجنسين في الحقوق والواجبات أم إلى دولة الذكر المهيمن والسيد على كل النساء؟ هل إلى دولة السلام والتسامح مع الأمم الأخرى أم إلى دولة الحرب والجهاد والغزو والفتوحات باسم نشر الإسلام ؟

أشير إلى أن هيئة كبار العلماء الأزهرية التي ينتمي إليها الدكتور هي التي أحياها الإخوان المسلمين سنة 2012 لتنافس مجمع البحوث الإسلامية الذي أنشأه عبدالناصر بديلا عنها سنة 1961، فعبدالناصر كان يرى أن وجود هذه الهيئة الأزهرية للعلماء مرتبط بدولة الشريعة التي كان ينادي بها الإخوان والشيوخ عقب إلغاء سلطات الخلافة العثمانية سنة 1908 فأقام الشيوخ هذه الهيئة سنة 1911 لتكون بديلة عن دولة الشريعة الملغاة بأثر الاضطرابات السياسية في تركيا، وظلت هذه الهيئة تعمل 50 عاما على أمل إحياء الخلافة مرة أخرى والبدء في تنظيمها لشئون الحكم باسم (جماعة الحل والعقد) لكن عبدالناصر وبسياساته المعادية للجماعات والأيدلوجيات الراديكالية المنافسة قام بمشروع تطوير الأزهر ألغى فيه هذه الهيئة سنة 1961 ليعلن نهاية ما يسمى دولة الخلافة والشريعة وجماعة الحل والعقد المنتظرة، ثم أنشأ بديلا عنها "مجمع البحوث الإسلامية" لكي يعيد الأزهر إلى تكوينه الأصلي كمدرسة تعليم دينية لا علاقة لها بالسياسة ولا دخل لها بشئون الحكم والمجتمع.

لكن الإخوان وبعد انتخاب مرسي بأيام قليلة أعادوا إحياء الهيئة ولا زالت تعمل إلى اليوم مع سلب بعض صلاحياتها عقب ثورة يونيو 2013، فالرئيس الأسبق محمد مرسي انتخب في 24 يونيو 2012 بينما تم تشكيل الهيئة 17 يوليو 2012 أي بعد انتخاب الإخوان المسلمين حكاما لمصر ب 23 يوم فقط، وهذا الزمن القصير دلالة على أن ما فعله عبدالناصر بإلغاء الهيئة كان صائبا من ناحية إدراكه بمركزية الهيئة في دولة الشريعة المنتظرة، وأنه لا معنى لوجودها في ظل وجود دار الإفتاء المصرية التي هي المنوط بها الحكم في القضايا الدينية المختلفة، ولعل هذا التعارض والتضارب بين السلطات الدينية (شيخ الأزهر – مفتي الجمهورية – مجمع البحوث – هيئة كبار العلماء) مصدره اضطراب الرؤية الدينية والسياسة ناحية تصور الدولة في القرن 20 ولا زال هذا الاضطراب قائما ولم يفصل فيه بهوية واضحة وحاسمة للدولة تكون هي الممثل الرسمي للمجتمع والحكومة

فمنصب شيخ الأزهر هو منصب قديم (قرووسطي) يفترض أن بديله مفتي الجمهورية، لكن ولأن المفتي تتعلق أعماله بالبحث العلمي لا التدريس تم الإبقاء على منصبه واستحداث منصب مفتي الجمهورية للشيخ "حسونة النواوي" سنة 1895 الذي جمع بين المنصبين (المشيخة والفتوى) ثم الفصل بينهما مع الشيخ محمد عبده في وقت لاحق بمنشور للخديوي "عباس حلمي الثاني" وهذا الفصل لم يساعد الشيخ محمد عبده في مشروعه الفكري بتطوير الأزهر، وظل يصب لعناته وسبابه على الأزهر حتى وفاته كرد فعل على فشله في تطوير المؤسسة وإصلاح التعليم الديني في مصر وجعله موافقا للعصر ، ومما حدث للشيخ محمد عبده يتبين كمّ الانفصال الوجداني بين منصبيّ (المفتي وشيخ الأزهر) منذ ذلك التوقيت، وتجلى هذا الانفصال الوجداني بإنشاء الشيخ علي جمعة مفتي مصر الأسبق "أمانة الفتوى" مع عدة شُعَب مختلفة لتكون بديلة عن مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر، ولعل هذا القرار من علي جمعة كان سببا في عدم ترقيته شيخا للأزهر في وقت لاحق..وهذا استنتاج خاص مصدره الخلاف المذهبي الكبير بين صوفية علي جمعة الراديكالية ووهابية كثير من النافذين بالأزهر قبل ثورة يناير..

أعود للدكتور محمد أبو موسى، ففي نفس المقال السابق بتاريخ 16 إبريل قال جملة واضحة " وهذا هو الذي عندي في تأكيد معنى أن في الإسلام سياسة، بل إنني أرى أن كلَّه سياسة... والذين يقولون: «ليس في الإسلام سياسة» كان الواجب عليهم أن يدرسوا الكتاب كلَّه، والسُّنَّة كلَّها، والفقه كلَّه، والسياسة الشرعية كلَّها، وما يجب على الراعي وما يَحْرُم عليه، ثم يعرضون لنا نتائج دراستهم، وإنما رأيتهم لا يفعلون ذلك، وإنما يقولون شيئًا واحدًا، وهو أن الذين يقولون: «في الإسلام سياسة» إرهابيون "..

وقال أيضا في نفس المقال " وإذا كان فينا من يطلب الدنيا بالدين فيجب أن نتعامل معه من غير أن نقول: «لا سياسة في الدين، ولا دين في السياسة»، وتلاحظ أنني لم أتكلم في القول بأنه «لا دين في السياسة»؛ لأن السياسي الذي يقول هذا هو مسئول عن نفسه، ويرى أن سياسته لا تحكمها ضوابط الدين، وأنه لا يحاسَب على ظلم أو قهر أو استحلال أموال.. إلى آخره، وهو يعيش في سياسته بعيدًا عن الدين كالذي يعيش في تجارته غير ملتزم بدين، وهذا شأنه وهو الذي اختار، وهو الذي يُحاسَب على سياسته وسلوكه، أما الذي يقول: «لا سياسة في الدين» فهو يَحْكم في الدين وأنه لا سياسة فيه، وهذا يخصُّ كل أهل الدين، وهذا حسبي في هذا الأمر"

ففي الفقرة الأولى يفتي بكل وضوح أنه لا يجوز فصل الدين عن السياسة بل الدين (كله) سياسة، وهو نفس معتقد الجماعات بقولهم (هي لله) أي شئون الحكم والسلطة، ويخمن أن العلمانيين والليبراليين واليسار وأنصار مدنية الدولة لم يقرأوا كتابا ولا سنة ولا فقه، بل قرأوا يادكتور ورأوا أن كتاب الله لا يقول بالخلافة ودولة الشريعة مثلما كتب الشيخ علي عبدالرازق كتابه "الإسلام وأصول الحُكم" سنة 1925 فحَكم عليه الأزهريون وقتها بالكفر واتهموه بالحرب على الإسلام، وهو الذي لم يخرج من نصوص الكتاب والسنة نفسها ورأى أن الله في القرآن لم يقل بالحكم الديني، ولا بنظام الخلافة الذي كان يدعو إلى إحياءه الأزهريون في العشرينات بعد سقوط الخلافة التركية باسطنبول، بل أجزم أن الدكتور هو الذي لم يقرأ لخصومه ولا ردودهم على العلاقة بين الدين والدولة، التي كتبت في تلك العلاقة آلاف المصنفات التنويرية من مثقفين وفلاسفة ورجال دين مستنيرين منذ نهاية القرن 19 وإلى اليوم..

بل كتب فيها فلاسفة مسلمون قدماء كالإمام "الفارابي" الذي جعل شئون السياسة من المدنيات التي يجب فصلها عن العقائد، وكتب فيها شيخ الأزهر الأسبق "محمود شلتوت" حين أفتى بأن أمور السياسة والحكم هي اجتهاد شرعي قوامه المصلحة، وهي أمور يجوز فيها الاجتهاد بناء على أدلة الرواية والقرآن والعقل والمصلحة مجتمعة، بينما شئون العقيدة الإسلامية منفصلة ومصدرها القرآن المحكم فقط، وهذا الذي قاله الشيخ شلتوت فصل واضح بين الدولة والدين، فجعل شئون الدولة اجتهادا له مصادر وأدلة متعددة لبيان المصلحة التي هي العصب الأول في السياسة، بينما جعل شئون الدين في العقيدة مصدرها القرآن، بينما كتاب الله يخلو من طريقة هذا الحكم السياسي وشكله، وغاية ما يذكره الله هو مبادئ إلزامية لكل إنسان وليس فقط الحاكم كالأخذ بالشورى ووجوب الصدق والعدل والإحسان وخلافه..

بينما الفقرة الثانية للدكتور أراها (أخطر) من الأولى، حيث تُفضي إلى تكفير الحاكم قولا واحدا، فمن يتناول مسألة الحاكمية عن طريق الاختيار بين أمرين (الدين واللادين) سيُفضي به القول لتكفير الحاكم الممتنع عن الشريعة، وهذا الذي وصل إليه سيد قطب بتكرار هذه الثنائية وإلزامها نظام عبدالناصر، وجوابها المختصر في كلمات بسيطة: أنت أيها الحاكم عليك أن تختار الدين أو غيره، عليك أن تلتزم بضوابط الدين أو تختار شيئا آخر، وهكذا يفتح الباب لقراءه وأتباعه (لاستنتاج كفر الحاكم) الذي لا يطبق الشريعة ، حتى لو لم يعلن ذلك صراحة، فسيد قطب لم يقل أن عبدالناصر كافر بصريح اللفظ لكنه قالها (بمدلول العبارة) وما يتضمنه السياق، مما رسخ في قلب أتباعه هذا الاستنتاج دون تدخل من قطب، وعبارة الدكتور محمد أبو موسى الثانية استعملت نفس منهجية قطب في تكفير الحاكم خصوصا عبارة "هو يعيش في سياسته بعيدًا عن الدين كالذي يعيش في تجارته غير ملتزم بدين" وهي عبارة تكفيرية محضة تصف كل رئيس جمهورية ومسئول يخالف الشيخ في تصوره للدولة على أنه (بعيد عن الدين ولا يلتزم بدين)....!!

على جانب آخر يثبت فيه الرجل انتمائه السياسي يقول الشيخ الدكتور "محمد أبو موسى" عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر في مقدمة كتابه شرح أحاديث من صحيح البخاري "كل الشعارات التي يرفعها الإخوان المسلمون هي من مبادئنا، ولا يستطيع المسلم أن ينكر واحدا منها ولو وضع السيف على عنقه، من يستطيع أن ينكر الله وأكبر ولله الحمد؟ من يستطيع أن ينكر لا إله إلا الله عليها نحيا وعليها نموت وعليها وبها نلقى الله، من يستطيع أن ينكر أن الموت في سبيل الله أغلى أمانينا"....ثم يضيف " أرى ويرى الناس أن اليسار يعبر عن نفسه والإلحاد يعبر عن نفسه وكل الاتجاهات تعبر عن نفسها والممنوع فقط هو الاتجاه الإسلامي، بل إن منابر الإعلام والثقافة في أيدي اليسار وقد أبيحت الحرية للطير من كل جنس ولكنها حرام على الاتجاه الإسلامي" انتهى (شرح أحاديث من صحيح البخاري..دراسة في سمت الكلام الأول صـ 31)

وبصفتي إخواني سابق أقول بكل حسم أن هذه عبارات (إخواني أصيل) فكنا نستعيض كلمة الإخوان المسلمين بألفاظ أخرى منها (الاتجاه الإسلامي) و(الحركة الإسلامية) وهنا الدكتور الأزهري يستعمل إحدى مفرداتنا التي كنا نطلقها على أنفسنا كناية عن التنظيم وحلفائه من الجماعات المختلفة وهي كلمة (الاتجاه الإسلامي)، وقد كان الشيخين القرضاوي والغزالي من أكثر شيوخ التنظيم استعمالا لهذه الكلمة يليهم سيد قطب وعبدالله عزام بالترتيب، وكثر استعمالها من فتحي يكن وحسن الترابي وإخوان تونس والجزائر أيضا، ثم يؤكد الشيخ الأزهري إخوانيته بقوله أن الموت في سبيل الله أسمى أمانينا، فهذه الكلمة حق يراد بها باطل، أي هي في ذاتها حق لكل مدافع عن نفسه لكنها تستعمل سياسيا ووظيفيا من طرف الجماعات في ميادين الجهاد وكثر استعمالها في حروب أفغانستان وسوريا والسودان والصومال وغيرها من المعارك التي كان فيها الإخوان طرفا أصيلا فيها، حتى أن الدواعش في بياناتهم ضد الجيش المصري كانوا يقولوها باعتبارهم محاربين للجيش المرتد أعوان فرعون وفقا لتوصيفهم..

فالشيخ الأزهري هنا والذي يشغل منصب هيئة كبار العلماء كثير التعميم والشعارات، وهي صفة ملازمة لعناصر الجماعات الذين يتخيلون قدرتهم على تطبيق شريعتهم دون ضجيج أو احتمال للفشل، وهو تصور أفلاطوني استقوه من كتابات زعمائهم الشعاراتيين كسيد قطب وحسن البنا والقرضاوي والغزالي ..وغيرهم ، والدكتور أبو موسى هنا سليل نفس العائلة الفكرية وذات المنهاج الذي صنع الجماعات، فكلمة الاتجاه الإسلامي سياسية محضة وبها خلط بائن في المدلول بين الدولة والعقيدة، فتصبح الجماهير مجرد رعايا للحاكم وليسوا مواطنين كاملي الأهلية يمكنهم منافسة الحاكم وطرده بالانتخابات، وأتذكر أن الشيخ "خليل عبدالكريم" وهو أزهري ايضا لكنه إخواني سابق مثلي، تبرأ من هذا المنهج والتفكير الذي يستعمله الدكتور أبو موسى وحذر أنه سوف يكون بريدا للتكفيريين والمتشددين في صدر كتابه "الإسلام بين الدولة الدينية والدولة المدنية"

فقد كان خليلا يصف عباس العقاد ب "الليبرالي السابق" وممثل جماعة "التبريريين" لما قدمه العقاد في سلسلة العبقريات التي اتسمت بالروح الدينية التي تخلط بين الدين والدولة وتنكر المساواة بين الجنسين، كتقديمه فصل عن ضرب الزوجات في كتابه "عبقرية محمد" مبررا ذلك الضرب والقول أنه شريعة، بينما عاب خليل عبدالكريم على العقاد تلك المنهجية التي لم تخرج النص من ظروف عصره ومجتمعه التاريخي، ولم تولي اعتبارا لمسائل العُرف والمصلحة والعدل، وأن هذا الضرب ليس من ثوابت الدين وأركانه كي يتمسك به الشيوخ إلى اليوم ويبرر له المثقفون ، ولولا أن العقاد – لدى عبدالكريم – مبررا ومتشددا دينيا ما أقدم على تشريع الضرب فهو الذي اشتهر بالنقد والأدب لكنه لم يوظف تلك الحاسة النقدية العقلية عنده في أعماله كما ينبغي لمصلحة الدين، بل كان مجرد ميكروفون لمن سبقه ومقلدا لفقهاء ماتوا منذ قرون كأنهم يحكمون العقاد من قبورهم وهو الأذكى ..

أختم بأمر هام وهو أن الشريعة التي يطلبها بعض الشيوخ، وحُكم الدين الذي يُروّج له الدكتور أبو موسى يبدأ في التاريخ بهذا الشكل، وهو مجرد دعوات دينية كهنوتية تلزم الحكومة والدولة والشعب لرأي الفقيه، وهو ما اصطلح عليه في الشريعة "بحكم الفقيه" حتى إذا تحصّل هذا الحكم على القبول الشعبي الغالب واللازم لتطبيقه يُترجم على شكل أحزاب دينية مختلفة تتنافس فيما بينها على تطبيق مشروعاتهم، وهذا التنافس لا يخلو من المُزايدات فترى كل حزب يُزايد على إيمان الحزب الآخر فيتشدد أكثر لينال ثقة المجتمع..وهكذا يبلغ المجتمع قمة تشدده بالمزايدات شيئا فشيئا حتى يصبح إطلاق صفة الكفر والبدعة تلاصق كل مختلف بالرأي، فينتج هذا صراعا دينيا يظل محصورا في المجتمع ما دام الحاكم قويا، فإذا جاء حاكما ضعيفا يترجم هذا الصراع الديني المذهبي لحرب أهلية دينية وجدناها كثيرا في التاريخ الإنساني وتتكرر في كل مجتمع كصفة أصيلة للحكم الديني القائم على المزايدات بين طلاب السلطة..

فالذي يطلبه الدكتور أبو موسى في الحقيقة هو الفتنة الدينية بعينها دون أن يدري، فهو وإن تخصص في البلاغة واللغة العربية لكن عدم إلمامه بالسياسة والتاريخ وعلم الاجتماع والفلسفة أدى به لإطلاق تلك الشعارات الدينية باستهتار، وما يعتقده في ذهنه أنها شريعة موروثة منذ عصر السلف لم تزول سوى بمؤامرات الغرب الصليبي هي في الحقيقة مجرد (قوانين فرضت على الشعب بقوة السلاح ثم حصلت على ثقة العرف في زمن لاحق) أي أن السر في بقاء تلك الشريعة عدة قرون دون نظر في عقليتها وأهليتها أنها حظيت بثقة العُرف الاجتماعي كأي قانون يرثه الناس من الأجداد، ولولا حصوله على قوة ثقة العُرف هذه ما دامت الشريعة طوال هذا الزمن ، بالخصوص عندما توالي ظهور المصلحين والمجددين الذين كانت قدراتهم أقل من تغيير هذا العُرف فنظروا لجانب آخر وهو جانب الفقه والعقيدة والانشغال به دون الخروج عن ثقة الأعراف..

ويحكي الشيخ رشيد رضا في مجلة المنار موقفا له ضد الزعيم مصطفى كامل ومجلته اللواء، حيث كانت تدعو مجلة اللواء بعدم مضايقة المتبرجات في الشوارع وأن سلطة (المحتسب الديني) لا يجب أن تتعرض لحق النساء في الملابس، لكن الشيخ رشيد رضا معترضا يكتب هذه الكلمات لنرى مدى قوة هذا العُرف وتأثيره على المجتمع والسلطة، حتى أنه يستعمل مفردات عرفية واجتماعية ليست دينية لفرض وإلزام الناس بأمر هو ديني في الأساس، يقول الشيخ " حتى أن جريدة اللواء الوطنية المفتخرة بعداوة الإنكليز أنكرت التعرض لغير المومسات مهما تبرجن وأفسدن , وارتأت إلى أن يلجأ إلى جناب مستشار الداخلية الإنكليزي في حماية شرف نساء المسلمين وحريتهن مما تعرض له محافظ العاصمة , فيظهر أنها رجعت إلى رأي المقطم في عدم الثقة بالمصريين أو المسلمين , ووجوب إسناد كل أمر للإنكليز حتى أمور الأعراض وشرف الحجاب . على أن سعادة المحافظ تدارك الأمر فيه فوكل التنفيذ إلى رجال الدورية من ( صف ضباط ) فما فوقهم , وأقرت الداخلية على ذلك , وكان في التشديد الأول حكمة بإرهاب من لا أدب لهنّ" (مجلة المنار 3/ 595)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - طالما يضم الاسلام شريعة فهو نظام سياسي
منير كريم ( 2022 / 4 / 23 - 16:44 )
الاستاذ سامح عسكر المحترم
طالما يضم الاسلام شريعة فهو نظام سياسي والتاريخ يثبت ذلك من دولة الرسول في المدينة مرورا بكل الدول الاسلامية الى الوقت الراهن
لليهودية شريعة لكن اليهودية مرت باصلاح ديني اصبحت بعده تقبل العلمانية والقوانين الحديثة باستثناء نسبة صغيرة غير مؤثرة
فلا تعجب من موقف الاخوان والازهر وغيرهما من المؤسسات الدينية
شكرا لك

اخر الافلام

.. حكاية -المسجد الأم- الذي بناه مسلمون ومسيحيون عرب


.. مأزق العقل العربي الراهن




.. #shorts - 80- Al-baqarah


.. #shorts -72- Al-baqarah




.. #shorts - 74- Al-baqarah