الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العِلْمُ الأَسْوَدُ

مصعب قاسم عزاوي
طبيب و كاتب

(Mousab Kassem Azzawi)

2022 / 5 / 4
حقوق الانسان


حوار أجراه فريق دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع في لندن مع مصعب قاسم عزاوي.

فريق دار الأكاديمية: تحدثت في غير مرة عن هلعك من الانحطاط الأخلاقي والمهني والقانوني الكامن في علاقة السفاح المشهر بين العلم الأسود والاستبداد. فهل يمكن لك توضيح وجهة نظرك بذلك الصدد؟

مصعب قاسم عزاوي: العلم الأسود يفصح عن نفسه في نتاج وسلوك العلماء الذين لا يأخذون بعين الاعتبار الأبعاد الأخلاقية لما يبحثون فيه ولنتاج بحثهم حينما ينتقل من حيز الكشف إلى حيز الاستخدام في المجتمع الكبير. والأمثلة على ممارسي العلم الأسود عصية على الحصر في عالمنا المعاصر، والأكثر قبحاً منها ذاك الذي يتزاوج عن قصد أو غيره مع مصالح الاستبداد والتغول على حيوات بني البشر وحقوقهم الأساسية. وقد يكون أحد أكثر الأمثلة قبحاً في سياق العلم الأسود تلك الممارسات الشنيعة التي قام بها عدد من علماء الأعصاب والعلماء النفسيون الرياديون في العالم الغربي المتقدم المنافح لفظياً فقط عن مبادئ حقوق الإنسان، والتي أنتجت مجموعة من المناهج العلمية لمأسسة وقوننة وزيادة قدرة أساليب التعذيب النفسي على إحداث مفاعيلها في نفس وجسد وعقل المظلوم المعذب بها؛ وهي مجموعة برامج علمية تم تطويرها سالفاً في حضن المراكز البحثية النازية في سياق جهودها لقمع المقاومة لها في أوروبا إبان الحرب العالمية الثانية، وتم تلقفها من قبل المؤسسات العسكرية و الاستخباراتية في الولايات المتحدة عقب خسارة ألمانيا النازية للحرب العالمية الثانية، بالتوازي مع نزح خبرائها من النازيين الذين تم استيرادهم من ألمانيا بعد سقوطها ليتم توطينهم في الولايات المتحدة، وتم بالاستناد إلى خبراتهم البحثية والعملية تشكيل منظومة التعذيب العقلي التي اتبعها الأمريكان ومن لف لفهم من أعضاء حلف شمال الأطلسي في غير موضع من مئات السجون السرية التي أداروها ويديرونها راهناً في غير موضع جغرافي من أرجاء الأرضين، كما وثق ذلك الباحث الطليعي جيرمي سكايهل في كتابه البحثي الموسع «الحروب القذرة» الصادر في العام 2013. وتقنيات التعذيب الشيطانية هذه تستند أساساً على أن الألم العقلي والجسدي لهما نفس المراكز العصبية في الجهاز العصبي المركزي، وأن الدماغ لا يفرق من ناحية تحسسه للألم بين ألمين جسدي محض ناجم عن تعذيب فيزيائي إيلامي لأعضاء الجسد الحسية، وبين ألم عقلي نفسي يتم بتعذيب العقل والجهاز العصبي المركزي دون أي اقتراب فيزيائي من الجسد فعلياً كما في حالة حرمان المعذب من النوم، أو تعريضه للضوء المبهر لأيام، أو وضعه في مناخ من الضوضاء المريعة، أو تعريضه للبرد أو الحر الشديدين، أو وضعه في وضعيات جسدية معيبة كما في حال حشره في تابوت مغلق لساعات طويلة، وقد يكون على رأس تلك القائمة التقنية المرعبة التي اخترعها الأمريكان والمتمثلة في إيهام العقل البشري بأن صاحبه يغرق في الماء، وهي التقنية التي تعرف باللغة الإنجليزية باسم «Water Boarding»، و تقوم على وضع قطعة قماش على فم وأنف المعذب ومن ثم سكب الماء على قطعة القماش تلك بحيث يسد الماء الثغرات بين عرى نسيج تلك القطعة القماشية، ويمنع تسرب الهواء منها، ويمنع المعذب من التقاط نفسه، ويوحي لدماغه كما لو أنه على وشك الغرق في الماء، وهو الإحساس المضني المثير لأعلى درجات الألم النفسي والعقلي على الرغم من أن المعذب لم يتعرض فعلياً لأي تعذيب جسدي فيزيائي مباشر. والحديث عن هذا النموذج الفريد في رعبه وهوله يكتسي بمحورية هائلة في نسق الحديث عن علاقة التزاوج السفاحي بين العلم الأسود وبين اكتشاف تلك الطريقة وشرعنتها علمياً و قانونياً بشكل تلفيقي في قاموس الولايات المتحدة العسكري بالاستناد إلى «اجتهادات علمية سوداء» لرئيس الجمعية الأمريكية لعلماء النفس السابق جيمس ميتشل James Mitchell، والذي كان مهندس ما دعي ببرنامج «الاستجواب المعزز»، وباللغة الإنجليزية «Enhanced Interrogation»، والذي جوهره شرعنة التعذيب النفسي واستخدامه كأداة لكسر إرادة البشر وإرغامهم على الاعتراف بما يريد جلادوهم منهم قوله لتبرير سلوك «الجلادين الكبار» في احتلال بلد أو تهشيم آخر. وقد تكون حكاية الكثير من «السجناء المزمنين» في معتقل غوانتانامو الأمريكي في الجزء الذي تحتله الولايات المتحدة في جنوب كوبا، حكاية وصفية عن أشخاص أبرياء تم التقاطهم من أفغانستان، وتم تعذيبهم بكل تلك الوسائل لانتزاع اعترافات تبرر عدوان الولايات المتحدة الأمريكية على أفغانستان وتهشيمه.
وهو نموذج التعذيب البربري الذي ينشأ من تزاوج العلم الأسود بإرادات ورغبات المستبدين والطغاة وأدواتهم التنفيذية من الجلادين والعسس والبصاصين، واتخذ شكلاً منمقاً في العالم الغربي الصناعي المتقدم، لا يزال بشكله الوحشي المنفلت من كل عقال أخلاقي في دول الجنوب المفقر، وخاصة تلك الناطقة منها بلسان الضاد، والتي قد تكون ممارسة تقنيات التعذيب بالكرسي المطوي أحد أهم التقنيات التي استوردها الاستبداديون العرب من خبراء التعذيب في ألمانيا الشرقية والاتحاد السوفيتي سابقاً في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهي التقنية التي لا تزال سيدة تقنيات تهشيم أجساد المعذبين في أقبية وسراديب ودهاليز الدول الأمنية العربية؛ وتقوم تلك التقنية على وضع المعذب على لوح قابل للانطواء في منتصفه، وبحيث يستلقي المعذب على بطنه عليه، ليتم طي ذلك اللوح بشكل يدفع برأس المعذب ليلامس أخمص قدميه، وبحيث يكون مصدر الألم الأساسي هو تمطيط العصب المبهم «Vagus Nerve»، والذي يمثل العصب الحشوي الأساسي الذي يمتد من دماغ الإنسان إلى أخمص قدميه، وهو مسؤول عن الكثير من الوظائف الأساسية للحفاظ على الحياة، وعلى رأسها ضربات القلب و معدل التنفس، و إيذاء العصب المبهم عبر تمطيطه يؤدي إلى تباطؤ التأثير الناظم للعصب المبهم على الوظائف الحشوية وخاصة نبض القلب، ويؤدي بصاحبه لشعور مهول في إيلامه يماثل شعور النزع قبل الموت، ويدعى باللغة الإنجليزية «Impending Doom»، وهو الشعور الذي يصفه المعذبون السابقون من الناطقين بلسان الضاد، وما أكثرهم، بأنه شعور المعذب بأن روحه تغادر جسده. ولإتمام الصورة القاتمة لتلك التقنية الخاصة بتعذيب المظلومين، فإن العلم الأسود لا بد أن يكون حاضراً فيها بنفس الشكل الذي يجب أن يكون حاضراً فيها عند ممارسة تقنية «الإيهام بالغرق» السالفة الذكر، ليس في تصميم التقنيتين فحسب، وإنما خلال تطبيقها العياني في غرف التعذيب، والمتمثل في ضرورة حضور «طبيب أسود» للإنصات بسماعته إلى تباطؤ نبض قلب المعذب لإعلام الجلاد بالنقطة التي يجب عندها إيقاف حلقة التعذيب، لكي لا يتمكن المعذب بالتملص من جلاديه بالارتحال إلى الدار الآخرة، وبحيث يتم الإبقاء على المعذب معلقاً بين الحياة و الموت، وعدم السماح له بالموت المطلق لكي يبقى أسير حلقة التعذيب الشيطانية وجلاديه الساديين.
وذلك النمط من «الأطباء السود»، يمثل نموذجاً عيانياً مشخصاً لنتاج سفاح العلم الأسود المتنصل من كل صفة أخلاقية، وبين مصالح الطغاة والجلادين وسدنة الاستبداد، بحيث يصبح الطبيب جلاداً مقنعاً، و هو الذي يفترض به الدفاع عن حيوات من يعالجهم، والالتزام بعدم تسبيب أي أذى جسدياً أو عقلياً أو معنوياً لهم كقاعدة أم في ممارسة أي عمل طبي، والتي دونها لا يمكن للطبيب أن يكون طبيباً وفق قسم أبو قراط المنسي، والذي لا بد لكل طبيب من أدائه قبل حصوله على شرف العمل كطبيب لخدمة مرضاه وتخفيف آلامهم ومعاناتهم الجسدية والنفسية على حد سواء.
وفي الواقع لا يستقيم اعتبار أي علم مهما عظمت وارتفعت مكانته التقنية والاختراقية والاكتشافية علماً حقاً ما لم يتم استدماج بعد أخلاقي في تكوينه يستبصر مفاعيل ذلك العلم حينما ينتقل إلى حيز الاستخدام الملموس في المجتمع؛ ودون تحقق ذلك الشرط فسوف نظل نرى طوفاناً من «الكشوفات العلمية السوداء» التي لا تفترق إلا ظاهرياً في نمطها وشكلها عن تقنيات «الاستجواب المعزز»، وأساليب التعذيب «بالكرسي»، ودون أن تختلف عنها في إثمها وعوارها الأخلاقي والإنساني.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. طلاب الجامعة الأمريكية في القاهرة يتظاهرون بأسلوبهم لدعم غزة


.. إعلام فرنسي: اعتقال مقتحم القنصلية الإيرانية في باريس




.. إعلام فرنسي: اعتقال الرجل المتحصن داخل القنصلية الإيرانية في


.. فيتو أميركي ضد مشروع قرار منح دولة فلسطين العضوية الكاملة في




.. بن غفير: عقوبة الإعدام للمخربين هي الحل الأمثل لمشكلة اكتظاظ