الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من -رهائن العبث- 3

عبدالإلاه خالي
(Abdelilah Khali)

2022 / 5 / 7
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


قَصَدْتُ لكريي [1] واشتغلتُ معاشو[2]. قبيل الإغلاق كان جيبي يعج بالفرنكات. خارج السوق وقفتُ أعُدُّ الحصيلة. حوالي ثلاثة دراهم. لم تكن كافية للذهاب عند حلاق عصري. هؤلاء يأخذون ضعف فرنكاتي خمس مرات. لم أفكر في حميد. توجهتُ إلى "ظهر الخميس" حيث يصطف مجموعة من الأشخاص أسفل سور مستشفى كوكار. كانوا يمتهنون الحلاقة في الهواء الطلق بثمن بخس.. كُلّهُم متطفلون على مهنة الحلاقة ومُعظم زبائنهم متشردون وبدويون..
لجأتُ لأحدهم فنهض بسرعة قائلا:
- « يا فتاح يا رزاق! ».
مرّر لي كرسيا خشبيا بدون مسند. جلست عليه وأدرتُ وجهي نحو الحائط حتى أتحاشى أنظار المعارف من الناس. تناول منديلا أسود وعَقَدَه حول رقبتي. أخَذَ مقصا وَمِشْطاً ثم راح يَجُزُّ شعري الطويل. آلمني كثيرا. خصوصا لمَّا كان يُمَرِّرُ مِشْطَهُ فوق رأسي.
مرت برهة فقال:
- « بالصحة والراحة! ».
فك منديله من عنقي ثم راح يكنس بقايا شعري المتساقط على الأرض. شكرتُه وقدمتُ له درهمين. بدا وكأنه غيرُ راضٍ. تلعثم قائلا:
- « هذا لا يكفي! ».
أخرجتُ الدرهم المتبقية وقدمتها له:
- « هذا كل ما أملك! ».
كَشَّرَ عن أنيابه وقال بحدة:
- « هذا لا يصلح حتى ثمنا للزيزوار[3] ! ».
معروف أن هؤلاء الحلاقين لا يُغَيّرون زيزوار الموسى إلا بعد أن يستعملوه ثلاثين مرة أو أكثر. هتف ووجهه يسْوَد من الغضب:
- « الواجب خمسة دراهم! ».
تدَخّل زملاؤه وتضامنوا معه. أحاطوا بي من كل جانب..
- « خُذ أغراضَه حتى يأتيك بالبقية!؟ ».
قالها أحدهم وهو يحدجني بنظرة استنكار.
وبحركة عنيفة نزع الحلاق الكيس البلاستيكي من يدي. أخرج محتوياته ووضعها أمامه على الطاولة مُرَدِّدا بِصَوْتٍ عال:
ـ ‹‹ تفاحتان، ثلاث بصلات، برتقالة، معطف قديم..
كنت قد لففت داخل المعطف كتابَ "كفاحي" الذي سرقتُه قبل مدة من "حمّان" بائع الكتب المستعملة. مَسَكَ الحلاق الكتاب وبدأ يقلب صفحاته. بادرني بالسؤال:
ـ « أنت مثقف، تقرأ الكتب؟ ».
سمعته فهدأ خاطري، قد يكون هذا الحلاق من أولئك الذين يشعرون بالنقص إزاء الثقافة والمثقفين فيفرج عني دون متاعب.
تشجعتُ وقلتُ له:
ـ « نعم، إنه كتاب هتلر ».
قطب جبينه وقال:
ـ « أعوذ بالله! ».
ثم وهو يُعيد المحتويات إلى الكيس:
- « اذهب لإحضار النقود، أغراضك تنتظرك! ».
قالها في إصرار فانصرَفتُ إلى حال سبيلي. وما أن أشْرَفتُ على "باب السيفر" حتى تعالت ضحكات الشباب وتوالت تعاليقهم الساخرة:
- « هل هذه موضة جديدة؟! ».
- « أرجوك ما اسم هذا الأستاذ وأين محل الخبير مالك هذه الحلاقة!؟ ».
قاموس من النكات والثرثرات. أرحم ثرثرة سمعتها كان صاحبها حميد إذ قال لي متسائلا في إشفاق:
- « جبريل! ماذا فعَلتَ بنفسك؟! ».
رأتني نادية فانفجرَتْ ضاحكة وَوَلَّتْ هاربة. حينها أدركتُ أن حلاقتي مهزلة. أسرعتُ بالدخول إلى البيت. أخذتُ مرآة صغيرة ونَظَرْت. صُعِقْتُ وأنا أرى نفسي..
هل هذا أنا!؟
بَدَوْتُ كمن جُزَّ شعره بمقص البساتين..

الهوامش:
[1] لَكْرِيِّي: سوق الخضر المركزي، والكلمة فرنسية الأصل.
[2] مْعَاشُو: حَمّال بلغة الشارع.
[3] الاسم الفرنسي لموسى الحلاقة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل باتت الحرب المفتوحة بين إسرائيل وحزب الله أقرب من أي وقت


.. حزمة المساعدات الأميركية لأوكرانيا وإسرائيل وتايوان..إشعال ل




.. طلاب جامعة كولومبيا الأمريكية المؤيدون لغزة يواصلون الاعتصام


.. حكومة طالبان تعدم أطنانا من المخدرات والكحول في إطار حملة أم




.. الرئيس التنفيذي لـ -تيك توك-: لن نذهب إلى أي مكان وسنواصل ال