الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ملاحظات عابرة في الدراسات الثقافية

قاسم المحبشي
كاتب

(Qasem Abed)

2022 / 5 / 8
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


على مدى السنوات القليلة الماضية شهدت الدوائر الأكاديمية والثقافية والإعلامية عبر العالم ازدهار خطاب الدراسات الثقافية والنقد الثقافي بوصفه نسقا معرفيا جديدا في حقل المعرفة الإنسانية إذ أخذ يتموضع على تخوم السرديات التقليدية للآداب والعلوم الإنسانية فبدلا من الأدب والفن الرفيع حل الاهتمام بالآداب والفنون الشعبية وبدلا من دراسة المجتمعات والطبقات الاجتماعية والمؤسسات الرسمية أنصرف الاهتمام إلى البحث في الجمهور والعلاقات والأنساق المتخفية وذلك بعد الأزمة النظرية والمنهجية التي واجهتها العلوم الإنسانية والاجتماعية ومازالت بإزاء تحديات وأسئلة ومشكلات لم تشهد مثيلاً لها في تاريخها الطويل، وهذا ما يشف عنه القلق المتزايد الذي أخذ ينتاب علماء الإنسانيات والاجتماع في المجتمعات الغربية، بعد أن أحسوا بعجزهم إزاء ما يشهدونه من تحولات وظواهر جديدة لا عهد لهم بها، وليس بمقدور نماذجهم المعرفية التقليدية الإحاطة بها وفهم دلالاتها. كتب عالم الاجتماع الفرنسي جوفاني بوسينو: "إذا كان من الواجب تمييز علم الاجتماع في الأربعين سنة الأخيرة بكلمة واحدة فإن )كلمة) انقلاب هي التي تفرض نفسها بالتأكيد، فمنذ أواخر سبعينيات القرن العشرين بدأت الوظيفية ومعتقدات وتأكيدات أخرى تتمزق، وبدت كل التحليلات والتنبؤات المتعلقة بالواقع التاريخي الاجتماعي التي غذت تفكيرنا ووجهت بحوثنا حينذاك حشوية وخادعة، وأدى عجزنا عن تفهم وتفسير انبثاق الجديد والمختلف والمغاير والآخر... وبات وجودنا ونشاطنا من الآن فصاعد باطلاً وغير مفيد .. وبدون جدوى؛ إذ تحطمت فكرة الجماعة التي كانت تمنحنا هويتنا المهنية، ودورنا ومقاييسنا العلمية وآمالنا ومشاريعنا ... وأدركنا أن مجرى التحولات الجديدة والتغيرات السريعة قد جردتنا من كل أدواتنا وأطرنا المرجعية التقليدية. ويخلص بوسينو إلى التساؤل) :هل هو إفلاس العلوم الاجتماعية وموت علم الاجتماع وبطلان كل نماذج معرفتنا للشأن الاجتماعي؟ مجيباً: إني لا أعرف الإجابة وكل ما أعرفه أن العقل الغربي هزته أزمة عميقة، يصعب تحديد طبيعتها وعمقها ومداها ونتائجها"( جيوفاني بوسينو ، نقد المعرفة في علم الاجتماع ، ترجمة محمد عزب صاصيلا ، المؤسسة الجامعية للدراسات بيروت ، 1995،ط1، ص18) وفي السياق ذاته جاءت صرخة بول فيين؛ إذ كتب تحت عنوان فرعي،) توعك السوسيولوجيا) قائلاً " ليس سراً على أحد أن السوسيولوجيا تعيش اليوم متوعكة، وأن أفضل رجالها بل ومعظمهم لا يأخذون على محمل الجد إلا العمل الامبريقي التجريبي… وبإيجاز فالسوسيولوجيا ليست ككلمة إلا جناساً (اتفاق الحروف واختلاف المعنى ..(فليست السوسيولوجيا بالتعريف فرعاً علمياً متخصصاً، فرعاً متطوراً ، ولا وجود لاستمراريتها إلا بواسطة اسمها الذي يقيم صلة لفظية بحتة بين أنشطة عقلية لا صلة بينها" (بول فيين ، أزمة المعرفة التاريخية ، فوكو و ثورة في المنهج ترجمة ، إبراهيم فتحي، دار الفكر للدراسات القاهرة، 1993،ط1، ص194 ) في الواقع لقد طالت الأزمة أنساق العلوم الإنسانية الغربية كلها، وانتشرت كالنار في الهشيم في مختلف الدوائر الفكرية والأكاديمية الأورأمريكية، فعلى صعيد الدراسات التاريخية كتب المؤرخ الإنجليزي جفري باراكلاف من جامعة أكسفورد تحت تأثير الإحساس العميق بالأزمة: "إننا مهاجمون بإحساس من عدم الثقة، بسبب شعورنا بأننا نقف على عتبة عصر جديد لا تزودنا فيه تجاربنا السابقة بدليل أمين لسلوك دروبه، وإن أحد نتائج هذا الموقف الجديد هو أن التاريخ ذاته يفقد - إن لم يكن قد فقد - سلطته التقليدية ولم يعد بمقدوره تزويدنا بخبرات سابقة في مواجهة المشكلات الجديدة التي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً منذ آدم حتى اليوم"( تيدور هيمور، تأملات حول التاريخ والمؤرخين عرض وتحليل مصطفى العبادي، مجلة عالم الفكر الكويتية - المجلد العشرون.. العدد 1 يونيو 1989،ص260) وقد بلغ هذا الموقف المتشكك بلا جدوى التاريخ والمعرفة التاريخية عند المؤرخ الأمريكي دافيد رونالد، من جامعة هارفارد، حد الاستفزاز والتحدي في كتابه، (تاريخنا بلا أهمية) إذ أعلن "أن التاريخ يظهر مقدار ضعفنا في مواجهة الحاضر وأننا لا نتعلم من أخطاء الماضي، وما أقل تأثيرنا في ما ينزل بنا من أحداث، وما أشد عجزنا في قبضة قوى أساسية هي التي تشكل الوجود الإنساني" (تيدور هيمور،المرجع السابق ص 261) ويمكننا تتبع هذا الإحساس القلق بحالة الأزمة عند عدد واسع من علماء الإنسانيات من مختلف الأنساق المعرفية، فهذا عالِم الاجتماع التربوي مالكهولم تويلز يقر بذلك حيث يقول: "إننا نعيش في زمن تتسارع فيه التحولات الاجتماعية وتتغير فيه المعارف بسرعة مضطردة، بحيث غالبا ما تصبح فيه الكتب قديمة قبل خروجها من المطبعة، وبات من الضروري إعادة النظر في استراتيجيات التربية والتعليم وأهدافها بما يتواكب مع تلك المعطيات الجديدة"( اوليفيه ربول، فلسفة التربية، ترجمة، جيهان نعمان، دار عويدات، بيروت _ باريس، 1986،ط3، ص30) تكشف تلك النصوص طبيعة الأزمة وقوة أثرها الصادم عند علماء الإنسانيات الغربيين وكيفية تعاملهم وفهمهم لها؛ وبغض النظر عن تأويلات الأزمة، يهمنا التأكيد أن ثمة اتفاقًا بين معظم الفلاسفة والعلماء على أن المجتمع الإنساني الراهن يعيش لحظة تحول سريعة ومضطربة تصيب الإنسان بالذهول وتتحدى قدراته على الفهم والحكم والتمييز "إذ سرعان ما تأتكل الكلمات في محاولة التعبير عن هذا العالم المنبثق حيث الحركة هي القانون والرجوع إلى الماضي لا يسعف كثيراً في فهم هذا الزمان، فهناك كثير من المستجدات التي توهن العزم على الاستعانة بالمماثلة وأن المشكلات التي تراكمت في أواخر القرن العشرين جعلت العالم يبدو للإنسان وكأنه تيه" (جورج بالانديبة المرجع السابق، ص3) وسط هذه الأزمة العاصفة وقف علماء الإنسانيات أمام خيارين لا ثالث لهما: إما التشاؤم والقنوط واليأس والعجز, وإما التفاؤل والتفكير والمبادرة باتخاذ موقف نقدي جذري من كل شيء؛ نقد الذات ونقد التصورات ونقد التاريخ والتراث والمجتمع والحياة ونقد نظرياتهم ومناهجهم وأدواتهم وتصحيحها في ضوء المتغيرات وما تحمله من معطيات وممكنات إبستيمولوجية جديدة ونقد الثقافة. وهذا ما تم فعلاً؛ إذ مثلّت سنوات الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي لحظة تحول حرجة للعلوم الإنسانية والاجتماعية في مواجهة السؤال الجوهري: "كيف يمكن جعل مرحلتنا المفصلية بين مجتمع الأمس الآخذ بالزوال وبين المجتمع الآخذ في الانبثاق قابلة للتعقل والإدراك؟"( يان سبورك، المرجع السابق، ص12).
- هنا ولدت الدراسات الثقافية من قلب الأزمة وتجاوزا لها وسوف نكرس بحثنا لرصد الأسس الفلسفية لنمو وازدهار الدراسات الثقافية ونعني بالأسس الثقافية بالأسس الفكرية نعني تلك المعتقدات والأفكار والنظريات الكلية الميتافيزيقية التي يعتنقها الناس شعورياً ولا شعورياً عن أنفسهم وعن الكون والحياة والمجتمع. وهي منظورات كلية يسلم بها جماعة من الناس ويعدونها بديهيات ومرجعيات لا تقبل الجدل والتشكيك أوهي إذا استخدمنا تعبير فرنسوا ليوتار9 حكايات كبرى ومرجعيات أيديولوجية للشعور والسلوك والعمل. أو هي البرديمات10 أو النماذج المحتذى بها للنظر والسلوك والعمل تشبه المعتقدات والقناعات الأيديولوجية.
- واجه القرن التاسع عشر صدعاً فكرياً بين عقيدتين عقيدة التقدم وعقيدة التدهور، فاذا كانت فلسفة التقدم قد صورت التقدم، وكأنه قانون طبيعي ومسار تلقائي وحتمي(), فإننا نرى أن الصدع الفكري سوف يتسع مداه منذ منتصف القرن التاسع عشر، إذ تبرز نزعتات قوتيان من التشاؤم التاريخي والتشاؤم الثقافي وتشيع فكرة الاضمحلال والتدهور وتنتقد بشدة فكرة التقدم الحتمي، في الثقافة الأوروبية والأمريكية على حد سواء.
- ويعبر عن التشاؤمية التاريخية بعض فلاسفة التاريخ نذكر منهم جاكوب بوركهات() ورانكة(), وارنولد تونبي.
- أما التشاؤمية الثقافية فقد وجدت هوى في قلوب عدد واسع من الفلاسفة أمثال (شوبنهاور ونيتشه وشبنجلر)، والمتشائم التاريخي يرى أن الحاضر يقوم بعملية تفكيك منظمة لمنجزات الماضي الخلاق المنظم. المؤسسات التي كانت دائما في توازن متوائم، تصبح ألان فاقدة للتزامن، والتطور الاجتماعي يصبح فوضى ودماراً، وفي الوقت نفسه، يصبح الأفراد عاجزين عن فعل أي شي لتجنب الكارثة الوشيكة وإذا لم يصلح النظام نفسه على نحو ما، فسوف يكون الاضمحلال حادثاً لا محالة، إذ يرفض رانكة فكرة التقدم الخطي أو القوانين التاريخية وكان يرى أن واجب المؤرخ هو كشف الماضي كما حدث بالفعل وان القضية الوحيدة المهمة في دراسة التاريخ ليست هي تقدم الحضارة تلك القضية الملتبسة دائما() بل فهم حقيقة التاريخ الواقعية.
- ويرى بوركهات، "أن التقدم المادي سبب خراب الثقافة الرفيعة، وكان يقارن بين الحياة الحديثة والحياة في القرون الوسطى "حياتنا... بيزنس... حياتهم كانت حياة", والثقافة الرفيعة والإبداع أصبح في منزلة منحطة في عالم يصبح فيه المال ويظل هو المقياس الأساس للأشياء" بيد إن النقد الكاسح للحضارة الحديثة هو الذي جاء من اتجاه التشاؤمية الثقافية إذ يعلن شوبنهاور (1788-1860م) "ما كان يجب إن تكون الحياة هكذا" وان الهدف النهائي للإنسان العاقل في الحياة هو ما سماه "بوذا" بـ "النرفانا" أو "الخلاء" وهو انعتاق نهائي من الإرادة والرغبة التي تؤدي في النهاية إلى الانطفاء والموت. وان الفن والموسيقى تحديداً هو المنفذ الوحيد للخلاص.
- ويذهب نيتشه بالتشاؤمية الثقافية إلى نتائجها القصوى إذ يعلن أن كل ماضٍ جدير بالإدانة، لان تلك هي طبيعة كل ما هو إنساني، وكان يرى إن الحياة الحديثة بقيمها الزائفة تستحق الموت لتحل محلها حضارة الإنسان الأعلى (رجال الإفتداء) "أفراد مختارون... مؤهلون للمهام الكبرى الخالدة أولئك الذين يملكون إرادة القوة، فان الحضارة كلها هي من صنع أصحاب القوة والسطوة الذين ما زالوا يمتلكون إرادة قوة لا تقهر وشهوة للسلطة، أولئك الذين انقضوا على الأجناس الأضعف"
- على هذا النحو يبشر نيتشه بأخلاق البطولة والقوة والسلطة والسطوة ضد أخلاق العبيد، والتهذيب والمؤانسة والمسالمة والشفقة واليد الحنون الكريمة، والقلب الدافئ، والصبر، والمثابرة والتواضع... الأخلاق تنفي الحياة، لقد كان نيتشه يراهن على تفسخ الحضارة الحديثة حتى الإنسان الأخير حينها يبدأ عهد الحضارة النيتشوية().
- إن التشاؤمية الثقافية هي الصورة النقيض للتشاؤمية التاريخية، مثلما فكرة الاضمحلال هي نقيض فكرة التقدم, المتشائم التاريخي يرى مزايا ومناقب الحضارة الحديثة واقعة تحت هجوم قوى شريرة ومدمرة، ولا نستطيع إن تتغلب عليها، التشاؤمية الثقافية تزعم أن تلك القوى هي التي تشكل عملية التحضير من البداية لدى المتشائم التاريخي القلق، لان مجتمعه على وشك إن يدمر نفسه، المتشائم الثقافي يقول إنه يستحق التدمير.المتشائم التاريخي يرى أن الكارثة بادية في الأفق والمتشائم الثقافي يتطلع إلى الكارثة اذ يعتقد بأن شيئاً ما سوف يبزغ من بين رمادها.
إن هذه المشاعر المضطربة بالخوف والقلق من التفسخ والانحلال لم تكن أضغاث أحلام بل كانت نابعة من حقيقة ما كان يعتمل في السياق التاريخي الأوروبي الحديث، وما شهده من تفكك اجتماعي وزيادة حالة الفقر وسط الجموع الواسعة من الطبقات الاجتماعية، وبنهاية القرن كانت نظرية الانحلال قد هزت كثيراً من ثقة الليبرالية الأوروبية في التقدم والمستقبل()، وتركتها مكشوفة لاعدائها، وبحلول تسعينات القرن التاسع عشر، كان هناك إجماع متزايد على أن مدى من الانحلال والتدهور كان يجتاح المشهد في أوروبا الصناعية، مخلفا حالة واسعة من والاضطرابات والظواهر السلبية من بينها زيادة نسبة الفقر والجريمة والمسكرات والانحرافات الأخلاقية والعنف السياسي... الخ. هذه الارتباكات التي تنمو وتشيع في مختلف البلدان بإنحاء متشابهة، هذه المظاهر المغلقة كانت قد وجدت من يعبر عنها من المثقفين التقدميين الإنسانيين الذين كانوا يخفون نزعة تشاؤمية ويتوجسون من مخاطر الانحلال والتفسخ.
- وقد ظهرت الحافة السوداء القاطعة لتلك النظرة التشاؤمية أول ما ظهرت في بريطانيا عام 1869م، عندما نشر الأديب الإنجليزي "ماثيو ارنولد" (1822-1888م) كتابه "الثقافة والفوضى"()، ويكتب المفكر الإيطالي "لومبروز" "الإنسان المجرم" عام 1876 وفي عام 1888 ظهر كتاب تشارلز فيري "الانحلال والجريمة"، ويرى آثر هيرمان إن وصمة الانحلال التي أخذت تشيع في أوروبا يمكن متابعتها عبر أجيال متلاحقة لتبلغ ذورتها في رواية "أميل زولا" "الانهيار الكامل" عام 1871، وينشر الأمريكي "بروكس ادمز" كتابه "الحضارة والاضمحلال" عام 1893وبعد أربعة أعوام نشر عالم الاجتماع الفرنسي دوركايم كتابه المهم "الانتحار" عام 1897، وفي العام نفسه ظهر كتاب الفيلسوف الألماني "ماكس نوردو" (1849-1923) "الانحلال" وتتوالى الكتابات الناقدة والمنذرة بالإخطار أمثال كتاب "فرويد" عام 1929 "عسر الحضارة"، وكتاب "كارل كروس" "الأيام الأخيرة للنوع البشري" وكتاب "جرانت" "زوال الجنس العظيم" عام 1916 إلى "تدهور الحضارة الغربية" لشبنجلر، و"سقوط الحضارة" لـ "كولن ويلسون"... وغير ذلك من الكتابات التي أفزعت ارنولد توينبي وأيقظته من سباته الليبرالي الفيكتوري(*)، وربما يكون ابرز ملمح للقرن العشرين هو تلك الزيادة الهائلة في موجة التشاؤمية الثقافية في عالم الفكر والأدب والسياسة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. واشنطن تفرض عقوبات جديدة على طهران بعد الهجوم الإيراني الأخي


.. مصادر : إسرائيل نفذت ضربة محدودة في إيران |#عاجل




.. مسؤول أمريكي للجزيرة : نحن على علم بأنباء عن توجيه إسرائيل ض


.. شركة المطارات والملاحة الجوية الإيرانية: تعليق الرحلات الجوي




.. التلفزيون الإيراني: الدفاع الجوي يستهدف عدة مسيرات مجهولة في