الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أسطورة الدّيمقراطية الأمريكية

الطاهر المعز

2022 / 5 / 8
مواضيع وابحاث سياسية


يتعرض الجزء الأول إلى هيمنة الولايات المتحدة على المنظومة العسكرية والإعلامية على مستوى عالمي، وهو ما تُظْهِرُهُ الأحداث الحالية المُتعلِّقَة بأوكرانيا، فيما يتعرّض الجزء الثاني إلى الوضع الدّاخلي، من خلال التّأكيد على الإستغلال الطبقي وعلى الإضطهاد الذي يتعرّضُ له المواطنون السُّود

الجزء الأول
الحروب الأمريكية على الجبهة الإعلامية والإيديولوجية:

توطئة:
لم تُحرِّر الولايات المتحدة أوروبا، إبّان الحرب العالمية الثانية (التي جرت بعيدًا عن أراضي أمريكا الشمالية)، بينما حرّر الجيش الأحمر السُّوفييتي أراضيه المحتلة، ثم انطلق لِدَحْر جيش ألمانيا النّازية، من ستالينغراد إلى برلين (حوالي 2800 كيلومترا)، بدون أي مُساعدة خارجية، وكَشَفَ عن المُحْتَشَدات الضخمة وحرّر المُعْتَقَلِين داخلَها... كان الجيش الأحْمَر يخوض حربًا وطنية دفاعية، وأظْهَرَ الحصار والحرب التحام الجيش والشّعب...
في الأثناء لم تُطارد الولايات المتحدة النّازِيِّين، كما تَزْعَمُ الدّعاية الأمريكية والأوروبية، بل كانت السُّلُطات الأمريكية تتّصل، عبر المخابرات العسكرية، بكبار الضُّبّاط من الجيش النّازي، وكبار عُلماء ألمانيا في كافة المجالات، لتُرْسِلَهُم إلى الولايات المتحدة قبل وبعد نهاية الحرب، لتستفيد من خبراتهم في الفيزياء وعلوم الفضاء وتطوير "أسلحة الدّمار الشامل".
كانت الحرب العالمية الثانية فُرْصَة لإطْلاق أكبر كذبة إعلامية/إيديولوجية من قِبَلِ الولايات المتحدة التي دَمّرتْ قنابلُهَا الجَوِّيّةُ العديدَ من المُدُنِ الأوروبيةِ، لتستفيدَ المَصارفُ الأمريكيةُ من إقراض دول أوروبا الغربية (مُخطّط مارشال) ولتستفيدَ الشركاتُ الأمريكيةُ من "إعادة الإعمار"، ولم يخرج الجيشُ الأمريكيُّ من أوروبا، بعد هزيمة النّازية (على يد الجيش الأحمر)، بل لا تزال القواعدُ الأمريكيةُ الضّخمةُ متواجدةً بألمانيا وإيطاليا وبريطانيا وغيرها، ثم ببلدان أوروبا الشرقية، بعد انهيار الإتحاد السُّوفييتي، وتَقُود الإمبرياليةُ الأمريكيةُ العالمَ الرأسماليَّ، بواسطة القوة العسكرية والدّولار، ولا علاقة لذلك ب"الأخلاق" و"الدّيمقراطية"، التي تدّعي الدّراسات الأكاديمية والإعلام الأمريكي أنها من دعائم القُوة الأمريكية...
تُشكل هذه الوَرَقَةُ مُحاوَلَةً لدراسة أساليب الخداع الإعلامي الأمريكي، ضد "العَدُوّ الدّاخلي" (المواطنين السود والفُقَراء) وضد الأعداء والخُصُوم والمُنافِسِين الخارجِيِّين، لِيُشَكّلَ "الأُسْطول الإعلامي" والدّعاية الإيديولوجية، رديفًا للقُوّة العسكرية.

استفزاز أمريكي:
التقى وزيرا الحرب ( لويد أوستن) والخارجية ( أنتوني بلينكن) الأمريكيَّان الرئيس الأوكراني (فولوديمير زيلنسكي)، يوم 24 نيسان/ابريل 2022، في "كييف"، عاصمة أوكرانيا، قبلَ لقاءٍ أشرفت عليه الولايات المتحدة، وهي علامة، بعد شهرين من الحرب، على إعلان الإنخراط الأمريكي العَلَنِي والمُباشر في الحرب، وأدلى وزير الحرب الأميركي لويد أوستن، في كييف، بتصريح أعلن فيه أن المطلوب هو «إضعاف روسيا إلى درجة تركيعها كي لا تتمكّن فيها من الإقدام على خطوات أخرى مُماثلة»، وأتى الاجتماع الأمني الذي عُقِد في قاعدة «رامشتاين» الجوية في ألمانيا، والذي جَمَع، يوم الثلاثاء 26 نيسان/ابريل 2022، الولايات المتحدة و43 دولة حليفة لها، منها الدّول الأعضاء بحلف شمال الأطلسي، ومُمثّلِي أربع دول عربية (المغرب وتونس والأردن وقَطَر)، لتنظيم إحدى أضخم عمليات تدفُّق السلاح نحو أوكرانيا، بإشراف حلف شمال الأطلسي الذي أعلن ناطق باسمه أنه قدّم دعماً عسكرياً لأوكرانيا لا تقلّ قيمته عن ثمانية مليارات دولار، وأعلن وزير الحرب الأمريكي، خلال نفس الإجتماع "إن واشنطن عازمة على المضيّ في مواجهة طويلة الأمد مع موسكو، لاستنزافها وإنزال هزيمة منكرة بها"، أي استخدام الأوكرانيين لإنجاز أهداف أمريكية.
في كييف، أعلن الوزيران الأمريكيان عن مساعدة عسكرية جديدة بقيمة 713 مليون دولار، ما يرفع قيمة الأسلحة المُسَلّمة إلى أوكرانيا، بين 24 شباط/فبراير و 24 نيسان/ابريل 2022، إلى نحو 3,7 مليارات دولارا، بالإضافة إلى قرار الكونغرس رفع المُساعدة العسكرية الأمريكية لأوكرانيا إلى 6,5 مليارات دولارا، كجزء من مساعدات إجمالية بقيمة 13 مليار دولارا...
مثل الاجتماع الأمني في «رامشتاين» محطّة مهمّة في مسار تحول الحرب مع روسيا، إلى حربٍ عالمية، وتوفّرت على هامش الإجتماع معلومات عن حجم التورّط الأطلسي في تجهيز عناصر جيش ومليشيات اليمين المتطرف بأوكرانيا بأسلحة نوعية مضادة للدروع والطائرات، وبتدريبهم عليها، منذ العام 2015، وكذلك عن وجود قوات خاصة أميركية وبريطانية وفرنسية، للمساهمة في مواجهة القوات الروسية حالياً... قدّمت الولايات المتحدة وحلفاؤها، منذ بداية الحرب، مُدَرّعات ورادارات وأنظمة اتصالات ومدافع وأسلحة وذخائر وصواريخ موجهة باللِّيزر وطائرات آلية وقذائف وبنادق، وقرّر المُشاركون في اجتماع "رامشتاين" مضاعفة كميات الأسلحة المرسلة إلى أوكرانيا ونوعيتها استعدادًا لحرب استنزاف طويلة قد تستمرُّ رُبُعَ قَرْنٍ، بحسب بعض التّصْرِيحات، يخوضها «الناتو» بالوكالة وقد تتحول إلى حرب عالمية ثالثة وإلى صدام مباشر أطلسي - روسي.
شارك وزراء دفاع أربع دول عربيّة (المغرب، الأردن، قطر، تونس) في المُؤتمر الدولي لدعم أوكرانيا الذي نظّمته الولايات المتحدة الأمريكيّة، والذي لم تحضره حكومات دول معروفة بعمالتها للإمبريالية، مثل السعودية ومصر والإمارات، وطرحت مُشاركة النّظام التونسي تساؤلات بخصوص الشعارات التي كان يُلَوِّحُ بها الرئيس "قيس سعيد" ومن يدعمه، خصوصًا وأن تونس لا تنتمي (وكذلك المغرب وقَطر والأردن) إلى حلف شمال الأطلسي، بل وقّعت سنة 2015، خلال فترة التحالف الدّستوري (الباجي قائد السبسي) الإخوانجي (راشد الغنوشي) اتفاقية شراكة مع الحِلْف، بعنوان "حليف رئيسي من خارج الناتو"، والدّول العربية المُشاركة ليست دُوَلاً مُصنّعة للسّلاح، فالحلف يَضُمُّ ثلاثين دولة مُصنِّعة للمعدّات العسكريّة، وما مُشاركة الدول العربيّة الأربع في مؤتمر تسليح أوكرانيا سوى رمزًا للتّبَعِية، وشهادة زُور عبر الإنحياز إلى الصّف الأمريكي، الدّاعم الأكبر لدولة الاحتِلال الصُّهْيوني، وألدّ أعداء الشّعب الفلسطيني والشُّعُوب العربية والشُّعُوب المُضْطَهَدَة في العالم...
شكَّلَ تواجد وزيرَيْن أمريكيّيْن من العيار الثقيل (الحرب والخارجية) مُؤَشِّرًا على حجم الإلتزام الأمريكي بدعم أوكرانيا، عبر تكثيف عمليات نقل أسلحة نوعية جديدة ، لكن موسكو لم ترضخْ، فبعد ساعات قليلة من زيارة المسؤولين الأمريكيين لأوكرانيا، قصفت الصّواريخ الروسية خمس محطات للسكك الحديدية التي تمر عبرها هذه الأسلحة الأمريكية، في وسط وغرب أوكرانيا، تنفيذًا للتحذير الذي أصدَرَتهُ روسيا منتصف نيسان/ابريل 2022.
تنتهج الولايات المتحدة استراتيجية متوسّطة المدى، تخدم مصالح "مُجَمّع الصناعات العسكرية" الأمريكية، بشكل مُباشر، وخطة طويلة المدى، إذ تشتري الولايات المتحدة مخزونات الأسلحة السوفيتية والتي لا تتوافق مع أنظمة أسلحة دول الناتو، وتمتلكها دول أوروبا الوسطى والشرقية التي أصبحت تنتمي لحلف شمال الأطلسي (تشيكيا وبولندا ورومانيا وبلغاريا والمجر وغيرها)، لتسلمها إلى أوكرانيا التي تستخدمها في محاربة روسيا، بتوجيه من أجهزة الاستخبارات الأمريكية والأوروبية، ومن أجهزة المراقبة والخبراء العسكريين وصور الأقمار الصناعية، من أجل تحقيق الهدف المنشود والمتمثل في "تركيع روسيا" اقتصاديا وعسكريا.

الإعلام المُخادع:
تُشَكِّلُ وسائل الإعلام والصحافة "الغربية (الأوروبية والأمريكية) جُزْءًا من المنظومة الرأسمالية الإمبريالية، وهي مملوكة في معظمها لأثرياء أو لشركات عابرة للقارات، وتُمْعِن، منذ "الحرب الباردة" في نشر المعلومات الكاذبة والمُضللة، وقلب الحقائق وإنكار واقع عُنف السّلطة الأمريكية وواقع الإستغلال والإستعباد والعدوان على البُلْدان والشُّعُوب، ومنذ احتداد الأزمة بين روسيا والولايات المتحدة، التي تُحَرِّضُ أوكرانيا على التّحرش بروسيا واستفزازها، حتى قبل بداية الحرب، فَرَضَت سُلُطات حلف شمال الأطلسي سَرْدِيّة إعلامية وحيدة مُتناغمة مع الدعاية الأوكرانية التي تُشْرِف عليها مُؤسّسات أمريكية مثل الوكالة الأمريكية للتعاون والتنمية الدّولية و"نيد" و"المجتمع المفتوح" وكذلك "المؤسسة الأوروبية للديمقراطية"، وغيرها من المُنظّمات التي تُدير الجبهة الإعلامية للحرب، عبر الإستهزاء وتَشْويه الخُصُوم وتركيب الصُّوَر والتّلاعب بعُقول المُواطنين وصُنْع "الرّأي العام" وتوجيهه لِيَدْعَمَ العُدْوان على الشعوب والبلدان ويُساند الإحتلال والقَتْل والتّعذيب والتدمير، وحَظْر وسائل الإعلام التي تنشُرُ رأيًا وموقفًا مُخْتَلِفًا...
إن وسائل الإعلام منحازة، وهي جُزْءٌ من المنظومة الرأسمالية الإمبريالية، وتدعم إيديولوجيتها، وتنشُرُ خطاب الكراهية والعنصرية وتُمَجِّدُ السلوك العدواني في الدّاخل، لقمع الفُقراء والعُمّال المُضْرِبين، المُطالبين بحقوقهم، وتمجّد قمع واضطهاد اللاجئين والمُهاجِرِين. أما في الخارج فتدعم وسائل الإعلام خطاب العداء والكراهية للشعوب، سواء في يوغسلافيا وأفغانستان والعراق وسوريا وليبيا، أو في روسيا، بمناسبة هذه الحرب التي تبدو ظاهريا، بين روسيا وأوكرانيا، وعَمَلِيًّا وواقعًا هي بين روسيا وحلف شمال الأطلسي بزعامة الولايات المتحدة، واتخذت سُلُطات الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة قرار إقصاء روسيا من المنظومة المالية الدّولية ومن البطولات الرياضية (وهو ما لم يحصل ضد الدكتاتوريات العسكرية ) ومُنِعَ المواطنون من الإطّلاع على وجهة النّظر الرُّوسية، واعتبرتهم السُّلُطات قاصرين لا يُمْكِنُهُم التّمْيِيز بين الغث والسّمين، لجعْلِ جميع المواطنين مُتَحَيِّزِين، مُوالين لأوكرانيا، أي لحلف شمال الأطلسي ولليمين المتطرف وللثورات المُلَوَّنة، وبذلك يُمْنَعُ النّقاش واختلاف الرّأي وحرية التعبير والتفكير، ونادرًا ما تذكُر وسائل الإعلام تغلغل وكالة الإستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي إيه) بأوكرانيا وإشرافها (مع شركة يُديرُها ابن الرئيس بايدن) على ما لا يقل عن ثلاثين مُخْتَبر بيولوجي عسكري في أوكرانيا، كما تتعمد وسائل الإعلام تَجاهُل وجود مِئات المُدرّبين العسكريين الأمريكيين والبريطانيين وغيرهم للإشراف على الإعداد العسكري لجيش أوكرانيا والمليشيات المُسلحة اليمينية المتطرفة التي قتلت آلاف المواطنين من منطقة "دونباس"، منذ 2014، سنة الإنقلاب واقتسام السّلطة مع قوى يمينية أخرى موالية لأمريكا وأوروبا...
تكمن خُطورة المُخَطّط الأمريكي في إطالة أمد الحرب، دون الإكتراث بمعاناة الشعوب، وتبرُزُ مساهمة وسائل الإعلام في الدّعاية التي تُصَوِّرُ روسيا بمثابة العدو الشّرس الذي يذبح المدنيين في أوكرانيا ويهدد أوروبا كلها، ويُصَوِّرُ عناصر الكتائب النّازية (مثل آزوف وسفوبودا وقطاع اليمين وغيرها) كمقاتلين وطنيين شجعان يقاومون الغزاة، لتبرير إرسال الولايات المتحدة أطنان الأسلحة، بقيمة ثلاثة مليارات دولارا، وإرسال دول الإتحاد الأوروبي (خصوصًا ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وبولندا...) كميات متزايدة من الأسلحة والخُبَراء لتدريب الجيش ومليشيات النازيين الجدد، ودون أي إشارة إلى نشاط وحدة القوات الخاصة الجديدة التي أنشأتها الولايات المتحدة سنة 2016، بهدف خَلْقِ وضع متفجّر يُجْبِرُ روسيا على التّدخّل العسكري...
يُمْكِنُ لوسائل الإعلام المُهَيْمِنَة الإطّلاع على ما نشرته وزارة الحرب الأمريكية (بنتاغون) يوم 14 نيسان/أبريل 2022 بشأن لائحة الأسلحة التي قدمتها إلى جنود ومليشيات أوكرانيا، ويمكنها الإطلاع على الوثائق الأمريكية التي درست خطط تقسيم روسيا إلى دول صغيرة تَسْهُل السيطرة عليها (كما حال تيمور الشرقية أو كوسوفو أو البوسنة) وعلى الثروات الهائلة في روسيا، ولهذا الغرض كثّفت الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي المُناورات العسكرية في شمال النرويج (كان آخرها في شهر شباط/فبراير 2022) قريبا من الأراضي الروسية بالقُطب الشمالي.
بذلت الولايات المتحدة ما في وسعها لإفشال المفاوضات المباشرة بين سلطات روسيا وأوكرانيا، وأغرقت أوكرانيا بالسلاح بهدف إدامة الحرب لفترة تتراوح بين عشرة، وخمس وعشرين سنة، وهو ما حصل في أفغانستان والعراق وسوريا وليبيا واليمن، ما يخدم أهداف الهيمنة الأمريكية، ومصلحة مُجَمّع الصناعات العسكرية الأمريكية، وتُدْرِك وسائل الإعلام الأمريكية والأوروبية إنها حرب حلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة ضد روسيا، وما أوكرانيا سوى أداة.

لمحة تاريخية:
تأسَّسَت دعاية الإمبريالية، طيلة سنوات "الحرب الباردة" على "مُناهضة الشُّمُولية"، ويمكن تعريف "الشمولية" بأنها تعني، في الإعلام والدّعاية والخطاب الإيديولوجي، الخَلْط المُتَعَمّد بين الإشتراكية، أي الإتحاد السوفييتي والنّازية التي لم تنهزم خلال الحرب العالمية الثانية، إلاّ بفضل تضحيات شُعُوب الإتحاد السُّوفييتي، ودأبت الولايات المتحدة، خلال فترة الحرب الباردة وبَعْدَها، على استخدام وسائلَ الإعلام والتّواصل لتشويه و"لِشَيْطَنَةِ" المنافِسين والخُصُوم، بذريعة "انتهاك الحُرّيّات وحُقُوق الإنسان..."، بهدف تهيئة الرأي العام لقبول، بل ولدَعْم العُدْوان العسكري، وبهدف غسْل أدْمِغَة الشُّعُوب، ومن أجل التَّبْرِير المُسبق للحصار والحَظْر الإقتصادي وللعدوان العسكري وارتكاب المجازر وإبادة الشُّعُوب، مثلما حَصَل في يوغسلافيا والعراق وأفغانستان وغيرها وتشريد الملايين من الفُقراء الذين يموتون غَرَقًا في البحر أو على حُدُود الإتحاد الأوروبي، عندما يُحاوِلُون اللجوء إلى الدّوَل التي خَرّبت أوْطانَهُم، باسم الدّفاع عن الحُرّية والدّيمقراطية وحُقُوق الإنسان. أما من تمكّنَ من الدّخُول فيُفاجأُ بالعُنْصُرِية التي تُمارِسُها المُؤسسات الحُكُومية، فضلاً عن الإستغلال والإضطهاد، وارتفاع أَسْهُم الأحزاب اليمينية المتطرفة وزيادة شعبِيّتها في صناديق الإقتراع بجميع بُلدان أوروبا، وانتشار الفكر الإستعماري الذي يُبَرِّرُ دعم الإمبريالية (الأمريكية والأوروبية) للمنظمات الإرهابية في الوطن العربي، ويُبَرِّرُ، بل يَدْعَمُ احتلال وتدمير سوريا وليبيا والعراق واليمن وغيرها...
تَقُود الولاياتُ المتحدةُ الجبهةَ العسكريةَ، من خلال حلف شمال الأطلسي، كما تَقُود جبهةَ الحربَ الإعلاميةَ، وتوجيهَ "الرأيَ العامَّ العالميَّ"، واختراقَهُ من خلال وسائل الإعلام الأمريكية (ومن ضمنها شبكات التّواصل "الإجتماعي") التي تُديرها الإستخبارات الأمريكية التي تُتْقِن فُنُونَ بثّ الإشاعة والأخبارَ الموجهةَ واختراقَ الوَعْيِ، كما تمكّنت الولاياتُ المتحدةُ، ثم أوروبا وبقية دول العالم، من ابتكار ذريعة "مكافحة الإرهاب" لإقرار قوانين استثنائية زَجْرِيّة تُمَكِّنُ من وَضْع المواطنين تحت المُراقبة المُستمرة، ومن انتهاك خصوصياتهم وإلغاء الحُرّيات الفردية والجماعية، لتتحول المكتسبات الدستورية والديمقراطية إلى تَرَفٍ، في بُلْدان تعيش حالة طوارئ مُستمرة وقوانين "استثنائية"، تتحول إلى قاعدة (وليس استثناءً)، وتحكمها الشرطة التي تعتقل وتُصيب وتقتل، وتمنع القوانين الجديدة نَقْدَ ممارسات الشرطة، وتحظر تصوير تجاوزاتها، باسم "مكافحة الإرهاب"، فتتلاءم بذلك ممارسات أجهزة الدّولة بالدّاخل ضد "العَدُوّ الدّاخلي" مع ممارساتها ضد "العَدُوّ الخارجي"، أي شُعُوب البُلْدان التي دَمَّرَتْها الأسلحة الأمريكية والأوروبية...

الشمولية والإستبداد وفق الدّعاية السياسية الأمريكية
رَوّجَ "كارل بُوبِر" ( Karl Popper – 1902 - 1994 ) مفهوم "الشّمولية" كنقيض للنظريات الإشتراكية التي اعتبرها "عِلْمًا زائفًا ومدرسةً فكريةً دُغْمَائِيًة... وغير قابلة للتّنفيذ"، ثم أرْسَت "حَنّا آرنت"، المُناضلة الصّهيونية "النّاعمة" ( Hannah Arendt 1906 – 1975) في مُؤَلّفها "أُصُول الشمولية" مُعادلة تُساوِي بين النّازية الألمانية (موطنها الأصلي ) والإشتراكية السّوفييتية التي تُحاول تَحْقِيرها باختزال تسميتها ونعتها ب"الستالِينية"، وأصبحت "آرنت" مرجَعًا لبعض التّبارات التروتسكية، ويُهاجم مُنَظِّرُو "الشمولية" ما يُسمونه "المجتمع المُغلق"، ويدعون إلى "المجتمع المفتوح"، وعلى سبيل التّذكير، استقى الملياردير الأمريكي "جورج سُورُوس" مُمَوِّل "الثّورات المُلَوَّنَة" إسم منظمته (المُجْتَمَع المفتوح) من مثل هذه النّظرية التي تغَلَّفَتْ بغطاء تقدُّمي لِتُقَدِّمَ أفكارًا رِجْعِيّة...
تستخدم الدّعاية الحكومية الرّسمية والدّعاية الإعلامية الأمريكية، وغير الأمريكية عبارات رنّانة مثل نَشْر (أو الدّفاع عن) الحُرِّيّة والدّيمقراطية، ومحاربة "الشُّمُولية والإستبداد"، لتبرير التّشويه والتّهديد والوعيد ضد المُنافِسين والخُصُوم والأعداء والأنظمة التي تُحاول التّحَرُّر أو التّحكُّم في ثرواتها، وقَطَعت وزارة الحرب الأمريكية شَوْطًا إضافيا، بتوزيعها، خلال صائفة 2021، دليل التدريب الجديد لجيش البحرية على مكافحة الإرهاب، والذي يَنُصُّ حرفيًّا: "إن الاشتراكيين إرهابيون سياسيون، تمامًا مثل النازيين الجدد"، بحسب موقع "إنترسبت" ( The Intercept ) بتاريخ 21 آب/أغسطس 2021، ما يعني إمكانية استخدام مجموعة القوانين الإستثنائية "لمكافحة الإرهاب" ضد مناهضي الرأسمالية، المناضلين من أجل مجتمع يَسُوده العَدْل والمُساواة، لأنهم "مثل النازيين الجدد"، الذين يُروّجون للعُنصرية وللفاشية، بحسب الوثيقة التي أَصْدَرَها مركز القيادة والتدريب التكتيكي البحري، بعنوان "مقدمة إلى الإرهاب/العمليات الإرهابية"، في حين أن الاشتراكيين يريدون توسيع الديمقراطية من المجال السياسي إلى المجال الاقتصادي وتعميم السّكن اللائق والرعاية الصحية المَجانية، على سبيل المثال، فيما يسعى الفاشيون والنازيون الجدد إلى إبادة الملونين والمُعَوّقين، وتعقيم من يعتبرونهم "عالة على المجتمع"، وتُعتَبَر هذه الوثيقة العسكرية تحريضًا على عودة الملاحقات والإنتهاكات التي عانى منها الإشتراكيون والدّيمقراطيون، خلال حقبة "الماكارثية"، نسبة إلى السيناتور "جوزيف ماكارثي" ( 1908 – 1957)، بعد الحرب العالمية الثانية، وتتعارض هذه الوثيقة العسكرية مع التقرير السّنوي لوزارة الأمن الدّاخلي (تشرين الأول/اكتوبر 2020) بعنوان "تقييم التّهديد الدّاخلي"، الذي اعتبَرَ (بحسب تقارير مكتب التحقيقيات الإتحادي إف بي آي) "إن المتطرفين البيض هم التهديد الإرهابي الأكثر دَمَوِيَّةً للولايات المتحدة... وسيظلون التهديد الأكثر إلحاحًا، والأكثر فتكًا بالوطن... وإن العنصريّين المُتعصِّبين البيض كانوا مسؤولين عن أكثر الهجمات دموية خلال العقد الماضي، ويشكلون الجزء الأكبر من ملف الإرهاب المحلي ..."
برّرت وسائل الإعلام، بل دعمت، عمليات الإحتلال والإرهاب العسكري الذي تُمارسُه الإمبريالية الأمريكية بالخارج، وفي الدّاخل، أهملت هذه الوثائق الرّسمية وتغاضت عن الإنتهاكات واسعة النطاق للحقوق الدستورية للمواطنين السُّود وللعُمّال المُطالبين برفع الأَجْر الأدني، وتغاضت عن القمع الوحشي للمُحتجّين أثناء حملة "احتلُّوا وول ستريت" أو احتجاجات المواطنين ضد الإغتيالات التي تنفذها الشرطة وغيرها من الوقائع التي أظْهَرت وحشِيّة قوات الشّرطة وتبرير القمع باسم "مكافحة التطرف"، وأظْهَرت انحياز جهاز القضاء ضدّ المواطنين السّود والفُقراء والعُمّال...

الثورات المُلَوّنة، جزء من الحرب على الفكر التّقدّمي:
نَظّمت الولايات المتحدة ودعمت - ومعها أوروبا الغربية - الإنقلابات العسكرية الدّمَوِية بأمريكا الجنوبية، وأرسلت فرنسا الضّبّاط المُتَوَرِّطين في ممارسة التّعذيب بالجزائر وفيتنام، إلى الأرجنتين والبرازيل وغيرها لتدريب الضُّبّاط الإنقلابيين على تقنيات وأساليب محاربة "العَدُوّ الدّاخلي"، فيما كان ضُبّاط المخابرات والخُبراء العسكريون والإقتصاديون الأمريكيون يُشرفون على إدارة شُؤُون الدّولة، ونَظّمت المخابرات الأمريكية انقلابات ضد الحكومات التقدمية أو التّقدُّمِيّة في جميع أنحاء العالم، في إيران (1953) وفي إندونيسيا (1965) وفي غواتيمالا ضد الرئيس "يعقوب آرنس" سنة 1954، والعشرات من الإنقلابات الأخرى، أشهرها انقلاب تشيلي ضد الرئيس الإشتراكي المُنتَخَب "سلفادور أليندي" في الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 1973... ثم عندما انطلقت الثورات المُضادّة في أوروبا الشرقية تم تقديمها في وسائل الإعلام بمثابة الثورات الدّيمقراطية ضد الدكتاتورية والشمولية، وقادها زعماء أرستقراطيون رجعيون مثل "فاكلاف هافل" (تشيكوسلوفاكيا) الذي كانت قراراته الأولى حَظْر الحزب الشيوعي واستعادة قُصُور وممتلكات عائلته الثرية التي تمت مُصادرتها بعد الحرب العالمية الثانية، وليش فاليزا (بولندا) الذي دعمته الإستخبارات الأمريكية والكنيسة الكاثوليكية (الفاتيكان) وألمانيا الغربية، في بداية ثمانينيات القرن العشرين، وبعد انهيار الإتحاد السوفييتي، دعمت الإستخبارات الأمريكية والمنظمات "غير الحكومية" الأمريكية والأوروبية "ثورات مُلَوّنة" في أوروبا الشرقية وفي الوطن العربي، باسم الشفافية والحَوْكَمَة الرشيدة ومحاربة الفساد والإستبداد والشمولية وما إلى ذلك، ولم تكن جميعها من تدبير الإستخبارات، بل كان بعضها عفويا (تونس ومصر والمغرب واليمن والأردن...) ولكن أسفرت جميعها عن نتائج سلبية، لغياب قوى ثورية تُحول الإنتفاضات إلى ثورات، ولوجود قُوى رجعية مُنظّمة استطاعت ركوب التّيّار (كالإخوان المسلمين) بدعم أمبريالي ورجعي، ثم فشلت في البقاء في الحكم، لكنها أعادت المجتمع عُقُودًا إلى الوراء...
استخدمت الإستخبارات والقوى الإمبريالية الحركات الجماهيرية لتمرير شعارات خطيرة كالتّعايش السّلمي في فلسطين بين المُستعمِرِين المُستوطِنِين والشعب المَسْلُوبة أرضه ووطنه، ولفرض برامج نيوليبرالية عبر صندوق النقد الدّولي والبنك العالمي، ونجحت أحيانًا في تحطيم جهاز الدّولة كما حصل في ليبيا والعراق، وتقسيم البلدان لتتمكن من السيطرة عليها بسهولة، أو لإدامة الحرب الأهلية بين أطراف داخلية رجعية، تختصم من أجل السّلطة، وتُقدّمها وسائل الإعلام السائد على أنها قوى "ديمقراطية" أو "علمانية" أو "حداثية"، ومعظمها عميلة لهذه القُوّة الإمبريالية أو تلك...
تمكّنت المخابرات الأمريكية، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية من إنشاء لجان ومؤسسات تَدّعي العمل من أجل "حُرِّيّة الثقافة والمُثَقّفين" ومن أجل "حرية الرأي والإعلام"، وتمكنت من اختراق مُثقّفي أوروبا الغربية (خلال فترة الحرب الباردة)، دون علم العديد منهم، ونظّمت العديد من المؤتمرات والنّدوات التي شارك بها صحافيون وأُدباء وفلاسفة وفنانون من عشرات البُلدان، منهم من صُنِّفوا من "اليسار المُعتدل" ومنهم من صُنِّفُوا ب"الشيوعيين المُرتدّين"، وتجمعهم قواسم مُشتركة، منها ادّعاء الدّفاع عن حرية التعبير والرأي والحُريات الفردية الأخرى، منها السياسية كاختيار مُمثِّلي السلطة، ومنها الإستهلاكية كحرية اختيار السّلع، أي فَتْح السُّوق أمام السّلع الأجنبية، وكثفت نشاطها في برلين (الغربية آنذاك) وفي باريس، منذ سنة 1950، وسخّرت لها الولاياتُ المتحدةُ ميزانيةً غير محدودة، مكّنت "لجان الثقافة والحريات" من انتشار مراكز الدّراسات والبحث ومن إصدار المجلات التي تُحارب جميعها "الشموالية والإستبداد"، التي يمثلها في نظرها الإتحاد السوفييتي والعقيدة الإشتراكية، وتعمل من أجل نشر "الحُرِّية والدّيمقراطية" التي تُجسّدها الولايات المتحدة كنموذج رأسمالي مُكتَمِل، بدعم من كبار الباحثين مثل "فريدريك هايك" (1899-1992) و "ميلتون فريدمان" (1912 – 2006)، وفي خضم هذا الحراك الليبرالي الدّاعي إلى حُرية الإنسان، من خلال حُرّيّة السوق وحُرّيّة المنافسة، دون تدخّل الدّولة، وُلِد تجمّع الليبرالية الإقتصادية، المُعادي للفكر الإشتراكي وكذلك للكينزية ولتدخّل الدّولة (ضمن النظام الرأسمالي)، سنة 1947، ب"دافوس"، منتجع الأثرياء بسويسرا، وأصبح يُكنَّى "مُؤْتمر دافوس"، كما نشأ اللقاء المُغْلَق المُسمّى "مجموعة بيلدربيرغ" (إسم الفندق الذي تم به أول لقاء بهولندا) سنة 1954 وغيرها من مجموعات الأثرياء التي تُخَطِّطُ للسيطرة على السلطة في العالم، وتمكنت وكالة الإستخبارات الأمريكية وحلف شمال الأطلسي من نشر "قِيم" الرأسمالية الليبرالية (ثم النيوليبرالية) وشَيْطَنَة الخُصُوم، عبر مُثَقّفين وفلاسفة وعُلَماء اقتصاد مُرتَشِين، استقطبتهم المصارف الكُبْرى والشركات العابرة للقارات وبعض المُؤسسات التي خلقتها الولايات المتحدة، برتبة "مُسْتَشَارين"، وسَمحَ انتماؤُهم لهذه المجموعات بتعيينهم في أشهر الجامعات وأهم مراكز البحوث والدّراسات، وسمح لهم الدّعم الأمريكي بحصول عدد منهم على جوائز دولية مثل جائزة نوبل، ودعمت الحكومة الأمريكية الشركات والمصارف والجامعات وبعض الهيئات الأخرى، لإنشاء مجموعات الضّغط واللُّوبيات (ثينك- ثانك) وساعدتها على تأسيس ما لا يقل عن مائة مجموعة تُمَجّد نمط الحياة الأمريكية والنموذج الأمريكي للدّيمقراطية، وتمكنت الولايات المتحدة من اختراق معظم الهيئات الدّولية بواسطة "كَوادر" هذه المجموعات، واستخدمت قُدُرات ومُؤهلات هؤلاء "الخُبَراء" عند تأسيس "المنظمات غير الحكومية" كما تمكّنت الولايات المتحدة من التّحكّم في المنظمات الدّولية ومنظمات الأمم المتحدة ومجموعات "الشفافية" و"الحُكْم الرّشيد" و"التنمية المستدامة" ومكافحة الجوع في البلدان الفقيرة، واستقطبت هذه المنظماتُ المُسمّاةُ زُورًا "غير حكومية" النقابيين ومناضلي اليسار بالدول الفقيرة، للإستفادة من طاقاتهم وتفانيهم، ولتحويلهم إلى "تكنوقراط" يُتقنون إعداد التّقارير عن وضع بلادهم، ولا يعرفون مصير مضمون تقاريرهم، التي تستخدم الإمبريالية الأمريكية بعضها، خلال الإنتفاضات الشعبية، لتغيير الحُكّام الفاسدين بآخرين لا يقلّون عمالةً وفسادًا، لكنهم لم يتورّطوا بَعْدُ بشكل مفضوح، وبذلك تحولت الإنتفاضات في تونس ومصر إلى منصّة للإخوان المسلمين الذين تحالفوا مع القوى التي دعمت بورقيبة وبن علي، أو السادات وحسني مبارك في مصر، وتغير الأشخاص، على رأس السلطة لكن تواصَلَ الخُضُوع لإملاءات البنك العالمي وصندوق النقد الدّولي، وتمرير التّطبيع والتعاون مع سلطات الإحتلال، فارتفعت الدُّيُون والفقر والبطالة، وازاد عدد المنظمات "غير الحكومية" التي تتلقى تمويلات أجنبية، ومنها مؤسسته "ألبير أنشتاين" التي نشطت بعد انتفاضات الجوع، وكان يُديرها "روبير هالفي"، وهي واحدة من عشرات مؤسسات "التفكير" التي أنشأتها المؤسسات الحكومية الأميركية سنة 1983 لتسويق عقيدة ريغان بشأن الديمقراطية الأميركية في العالم، وتميّزت مؤسسة "أنشتاين" بدعم الاستخبارات وبعض المُتَنَفِّذؤين مثل جون ماكين وجورج سوروس وبيل سميث، ومن ضمن أهدافها "التفكير" في تسليح المنظمات "غير الحكومية" باستراتيجية وأدوات وآليات عمل أو ما يسميه "جين شارب" وسائل لشنّ الصراع.
نشرت وكالة الإستخبارات المركزية الأمريكية سنة 2003، كتاب عُرّاب الثورات المُلونة، "جين شارب"، بعنوان "من الدكتاتورية إلى الديمقراطية" بما يزيد عن عشرة ملايين نُسخة، وترجَمَتْهُ إلى 35 لغة، ليكون دليلاً لتأهيل وتمكين وإعداد وتدريب الأجهزة الحكومية والمنظمات غير الحكومية، وتسليحها برؤية استراتيجية تهدف تخريب المجتمعات وتفتيتها، عبر أدوات عمل وآليات منظّمة تُمكّن من تحويل "المجتمع المدني" بالدّول الفقيرة إلى عميل يخدم أهداف ومصالح الدول الإمبريالية والسلطات التابعة لها، رغم النّقد الظاهر، وهو نقد سَطْحِي، يشير إلى النتائج ولا يستهدف الأسباب، ويُقسم المجتمع إلى أقليات وطوائف ومجموعات وأقليات و"نساء" أو "أطفال" أو "مثليين"، ولا يعتبر المواطنين شعبًا له طموحات وطنية واجتماعية واقتصادية، كانت واضحة في شعارات الإنتفاضة مثل "خبز - حرية - كرامة "
في الواقع، تمارس الإمبريالية الأمريكية هيمنتها على المجتمع الأمريكي وعلى العالم، من خلال وسائل عديدة، منها القُوّة المُسلّحة، في الدّاخل وفي الخارج، والمنظمات "غير الحكومية" ومراكز البحوث والدّراسات، والإعلام القادر على ترويج الرُّؤية الأمريكية وخنق كل صوت أو رأي مُخالف، وهو ما يحصل حاليا، خلال الحرب الروسية الأوكرانية، وهي حرب بين الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي من جهة، وروسيا لوحدها، من جهة ثانية، إذ حَظَرَت الولايا المتحدة ودول الإتحاد الأوروبي، ودول أخرى تابعة لهما، نشرَ وجهة النظر الرّوسية، بل وحتى الإطلاع على ما يُنْشَرُ بوسائل الإعلام الرّوسية، باسم "قِيَم الحُرِّية والدّيمقراطية" !!!

الصحافة، بين الإعلام المُوَجَّه والدّعاية الفَجَّة
خلال فترة الحرب الباردة، كان الإعلام الإمبريالي يصف دول أوروبا الشرقية ب"بيادق موسكو"، وبعد انهيار الإتحاد السوفييتي، أصبح إعلام دول أوروبا (غربيها وشرقيها) يتميز بتبعة عمياء، وتَحَوّلَ إلى مُجَرّد بوق أو صدى للإعلام الرّسمي الأمريكي، بدون إبداء أي حَذَر أو تَحفُّظ أو انتقاد أو اختلاف، واتخذت الحكومات الأوروبية قرارات – بارَكَها الإعلام- ضدّ مصالح الشُّعُوب والدّول، ومع ذلك تتشدّق الحكومات ووسائل الإعلام والمنظمات "غير الحكومية" الأوروبية بحرية التعبير والإعلام، عندما يتعلق الأمر بمهاجمة أنظمة البلدان الأخرى...
اقتصرت مهام الإعلام الأمريكي والأوروبي، منذ "الحرب الباردة" على تَرْوِيج وتَبْرِير وجهة النّظر أو الإيديولوجية السّائدة، مع هامش ضَيِّق أو مُنْعَدِم أحيانًا لأي سَرْدِيّة مُختلفة (وليست بالضرورة مُناقِضَة)، وظَهَر هذا الإنحياز جَلِّيًّا خلال الحروب العدوانية ضد يوغسلافيا وأفغانستان والعراق وليبيا وسوريا والتّحرُّش بفنزويلا وكوريا الشمالية وكوبا وإيران وغيرها، حيث تمثّلت مهمة الإعلام في خَلْق موجة عِداء ثم تصْعيدها، لتبرير أي عُدْوان عسكري لاحق، مِثْلَما يُبَرِّئ الإعلامُ النظامَ الرأسماليَّ من مسؤولية الأزمات اقتصادية والغذائية والصّحّيّة...
في حالة أوكرانيا، ومنذ بداية الحرب، تم إغراق الرأي العام الغربي بصور مذهلة، تم نَشْرُها على نطاق واسع، بدون أي تمحيص أو تساؤل أو تحقُّق مما تتقَيّأُهُ وسائل الإعلام التي لا تُوفِّرُ له معلومات عن الوضع الاقتصادي في أوكرانيا أو عمل مؤسساتها السياسية، التي يُشرف على إدارتها وتسييرها خبراء أنغلو ساكسونيون (الولايات المتحدة وبريطانيا)، كما يُشرف هؤلاء الخبراء أيضًا على دعاية الحرب، حيث لا مكان لأي شَكٍّ أو نقد، أو حتى مُطالبة بإثباتات، ومثلت الحرب الإعلامية رديفًا للحرب المُسَلّحَة، المُسْتَعِرَة منذ 24 شباط/فبراير 2022، فكانت حُرّيّة الصحافة إحدى ضحايا هذه الحرب، كما الحُروب العُدوانية الأمريكية التي سبقتها، وتم طَمْسُ العديد من الوقائع والحقائق التي سبقت الحرب، وعمدت الولايات المتحدة إلى تجاهل مطالب روسيا، منذ أكثر من عِقْدَيْن، وإلى توسيع حلف شمال الأطلسي إلى حُدُود روسيا، وإلى إطْلاق "ثورات مُلَوّنة" في جورجيا وأوكرانيا وغيرها، وإلى دعم حكومات يمينية متطرفة على الحدود (بولندا وأوكرانيا) وضاعف حلف شمال الأطلسي من وتيرة ومدّة واتساع نطاق مناوراته على حدود روسيا وفي البحر الأسود، ما زاد من مخاوف روسيا الأمنية، خُصُوصًا منذ سنة 2014، حيث زاد نُفُوذ اليمين المُتطرّف (النّازي) في مؤسسات السلطة والجيش بأوكرانيا، وزادت معه شحنات وزارة الحرب الأمريكية وحلف شمال الأطلسي من الأسلحة والذخائر والصواريخ، وتدفُّق ضُبّاط التدريب العسكري والإستخبارات الأوروبية والأمريكية نحو أوكرانيا.
تبذل دول حلف شمال الأطلسي أقصى جُهُودها لإطالة أمد الحرب بهدف تركيع روسيا، قبل الهجوم على الصّين، وترفض الولايات المتحدة ودول الإتحاد الأوروبي أي اتفاق سياسي بين روسيا وأوكرانيا، فَتُشَدِّدُ الحصار الإقتصادي والتّجاري والمالي، وتدعم المليشيات الفاشية الأوكرانية في أوكرانيا بالمال والسّلاح والتجهيزات الأخرى...
في مجال الدّعم العسكري، اعلنت الولايات المتحدة إرسال أسلحة متطورة إلى أوكرانيا، بقيمة تزيد عن ثلاثة مليارات دولارا، خلال الفترة من 24 شباط/فبراير إلى 24 نيسان/ابريل 2022، وتتمثل في أسلحة مضادة للدبابات ومدفعية وطائرات مرْوَحِيّة وطائرات مسيرة وطلب الرئيس الأمريكي جو بايدن من الكونغرس، يوم الخميس 28 نيسان/أبريل 2022، ميزانية حربية إضافيةً قدرها 33 مليار دولار، يُخَصَّصُ جزء منها لتقديم المزيد من السلاح والمُدَرِّبين والخبراء العسكريين إلى أوكرانيا.
أدّى تدفُّقُ السلاح والخُبراء العسكريين إلى أوكرانيا إلى تصعيد وتيرة الحرب، وشكّل استهداف المدمّرة الاستراتيجية الروسية "موسكفا" مُنعَرَجًا في الحرب الروسية الأوكرانية، حيث أصبحت المواجهة مُباشرة، بدون وسائط أو وُكَلاء، بين حلف شمال الأطلسي وروسيا، لأن حلف شمال الأطلسي، وخاصة الولايات المتحدة وبريطانيا (ثم ألمانيا وفرنسا) زوّدت أوكرانيا بمنظومات التشويش والرصد والتوجيه الراداري، التي لا تتوفر سوى لدى جُيُوش الدّول الأعضاء بالحلف، وهي متوفرة بالسفن الأميركية والبريطانية المتجولة قريبًا من روسيا، ولا يمتلك جيش أوكرانيا مُعدّات وصواريخ قادرة على مُغالطة أجهزة الرادار الرّوسية، إلى أن سلّمتْهُ بريطانيا، بعد بداية الحرب، مثل هذه الصواريخ المستخدَمة في هذه العملية، بإشراف فَنِّيِّين ومهندسين عسكريين من جُيُوش الولايات المتحدة وبريطانيا، ولا تزال دول حلف شمال الأطلسي (وكذلك سويسرا وفنلندا والسويد وغيرها) تَضُخُّ السلاح إلى أوكرانيا عبر بولندا، وإنزال أسلحة من طائرات شحن عسكرية أطلسية في أوكرانيا، واستخدام خطوط السكك الحديدية لنقل سلاح "ناتو" إلى جنوب وشمال وشرق أوكرانيا، ومحاولة دول حلف شمال الأطلسي إغلاق المنافذ البحرية، وإطلاق مُسَيّرات (طائرات آلية) أو مروحيات لاستهداف البُنية التّحتية وشبكات الإتصالات وخطوط المواصلات ومخازن المحروقات الخاصّة بالجيش الروسي...
في مجال الإعلام، لم تُورِد وسائل الإعلام الأوروبية والأمريكية، وجهة النّظَر الرُّوسِيّة بشأن ما يحصل من مُناورات سياسية وعسكرية، أمريكية وأطلسية، منذ انهيار الإتحاد السوفييتي، وبشأن عدم احترام الولايات المتحدة التزاماتها بشأن عدم توسيع حلف شمال الأطلسي، ولم تورد وسائل الإعلام المُهيْمِنَة بيان وزارة الخارجية الروسية (22 آذار/مارس 2022): الذي أشار إلى تجاهل الولايات المتحدة المقترحات المكتوبة التي قدمتها روسيا وقال الناطق باسم وزارة الخارجية الروسية: "تم رفض مقترحاتنا الأمنية، وتم تجاهل العناصر الرئيسية فيها، ولم يكن لدينا خيار، سوى بدء العملية الخاصة في أوكرانيا. إن أوهام الغرب حول إمكانية جعل روسيا تجثو على ركبتيها ستنتهي بشكل مؤسف، فذلك لن يحدث".
لمّحت التصريحات الرسمية ووسائل الإعلام الأمريكية إلى احتمال تنفيذ روسيا هجمات إلكترونية واستخدام أسلحة كيماوية وبيولوجية في أوكرانيا، لتبرير تهديد روسيا ب"عواقب وخيمة وردود من جانب الجبهة الموحّدة لحلف شمال الأطلسي"، وردّت وزارة خارجية روسيا (27 نيسان/ابريل 2022) بأن حكومة أوكرانيا تتظاهر بالتّفاوض، وإن الولايات المتحدة تُتْقِنُ فن الإستفزاز والكذب، وتُساعد مليشيات اليمين المتطرف الأوكراني الخاضعة لسيطرة ممثلي الاستخبارات الأمريكية، على استخدام مواد سامة ضد المَدَنِيِّين، ثم تنسب هذه الأفعال إلى القوات الروسية، في ظل حَظْرِ وسائل الإعلام الروسية وحجْبِ وجهة النّظَر والبيانات الرسمية الروسية، حيث أصبحت الرقابة أكثر صرامة على الشبكات الاجتماعية، ولا سيما لفرض رؤية واشنطن للعلاقات بين الدّول ولتبرير الحروب العدوانية، رغم ترويج أكْذُوبة "حرية الرأي والتعبير" في دول حلف شمال الأطلسي، بدءًا من الولايات المتحدة، وفي واقع الأمر، تُسيطر بضعة شركات عابرة للقارات، وبضعة أثرياء، على وسائل الإعلام، وجسّدت عملية استيلاء "إيلون ماسك" على شبكة "تويتر" (تُقَدّرُ قيمة أسهمها بنحو 44 مليار دولارا) نموذجا لاحتكار الإعلام ووسائل التّعبير في الدول الرأسمالية المتطورة، واستخدامها كأداة للدّفاع عن مصالح الإحتكارات، ولمصادرة حُقُوق الكادحين والشُّعُوب المُضْطَهَدَة...

احتكار وسائل الإعلام
لا يصبح المرء مليارديرًا ومالكًا لوسائل الإعلام ذات النُّفُوذ الكبير، دون التعاون مع هياكل السلطة القائمة، ومُسايرة رُؤيتها لحرية التّعبير، بل إن رجال السلطة السياسية والسلطة المالية ينتمون لنفس الطبقات أو الفئات الإجتماعية ويُدافعون عن نفس المصالح، داخل حُدُود كل بلد وخارجها، وهو ما يُفسِّر تجانس مواقف مختلف مكونات المنظومة الرأسمالية (حكومة وإعلام ومجالس تشريعية وقضاء...) الدّاعمة للكيان الصّهيوني والمناهضة لمصالح الشّعُوب ولمصالح الفُقراء والمُهاجرين، والمُعادية لأي اختلاف بشأن القضايا الدّولية، وممارسة الرقابة على الفكر المُختلف، وحَظْر وسائل الإعلام الروسية والصينية، وترويج خطاب العداء والكراهية ضد المجموعات المُهَمَّشَة وضد الشعوب، وعلى سبيل المثال، تفرض منصّات وسائل التّواصل "الإجتماعي" (وكذلك الوكالات الحكومية ومراكز الدّراسات والبُحُوث الأكاديمية) رقابة صارمة على أي شخص يُحاول مناقضة الرواية الصّهيونية والأمريكية، وتعزّزت الرقابة خلال حرب أوكرانيا، بشكل شبيه بملاحقات ومُحاكمات المكارثية التي عاشتها الولايات المتحدة، خلال العقد الذي تلا نهاية الحرب العالمية الثانية، وبشكل شبيه بما تم ترويجه من تشويهات ضد المُشكِّكِين في كذبة "أسلحة الدّمار الشّامل" بالعراق، قبل احتلاله وتدميره سنة 2003، وأقْصَتْ منصة "تويتر" مفتش الأسلحة السابق للأمم المتحدة في العراق وضابط استخبارات البحرية "سكوت ريتر"، بسبب محاولته تقديم رواية مُخالفة عن أسطورة "أسلحة الدمار الشامل"، وعن جرائم وهمية نُسِبَتْ لجيش العراق أو جيش سوريا، ولعرضه رواية مضادة عن جرائم القتل التي ارْتُكِبَتْ في "بوتشا" (أوكرانيا)، ضد عشرات المصابين بطلقات نارية في الرأس وأيديهم مقيدة خلف ظهورهم، وكتب سكوت ريتر: "بمجرد إلقاء نظرة على جميع البيانات المتاحة أُقَدِّمُ تقييماتٍ واستنتاجاتٍ، منها أن الرصاص أُطْلِقَ من أسلحة الشرطةَ الأوكرانيةَ على الناس في بوتشة، ولكن موقع تويتر يعتبر هذا الموقف، والتّعليل الذي يرافقه، مرفوضًا"، وتتنزل هذه الرّقابة المُشَدَّدَة على مواقع التواصل "الإجتماعي" - من قِبَل الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي - ضمن حملة شاملة ضد حرية الصحافة وحرية التعبير، شملت إقْرارَ القوانين الصارمة المناهضة للإحتجاج والتّظاهر، منذ انهيار الإتحاد السوفييتي، وتَفَرُّد الإمبريالية الأمريكية بقيادة النظام الرأسمالي، وتضْيِيق هامش الحُلفاء، واتهام أي مُشكّك في الرواية الرّسمية للأحداث "بالتبعية أو الخُضُوع للنفوذ الأجنبي"، ومؤخّرًا، منعت منصة "تويتر" موقع "ذي أناليزس"، بعد نشر تحقيق مُصَوّر في ذكرى أحداث العنف في "شارلوتسفيل" من ولاية فيرجينيا، كما منعت منصة "تويتر" موقع المُدَوّنة "تولسي غابارد"، إثر نشرها، يوم الثالث عشر من آذار/مارس 2022، خبرًا عن تمويل الولايات المتحدة مختبرات حيوية (بيولوجية) في أوكرانيا (يُدير أحدها ابن الرئيس جوزيف بايدن"، وألقت بالمسؤولية على الممارسات الإستفزازية وعلى السياسات الخارجية للرئيس بايدن، التي أدّت إلى الغزو الروسي لأوكرانيا، وأظْهرت مجموعة من الأحداث، أن منصات وسائل التواصل الاجتماعي كانت بالمرصاد لإقصاء أولئك الذين يشككون في وجهة النّظر الرّسمية، سواء تعلّق الأمر بالسياسات الدّاخلية أو الخارجية، وهي منصّات تجني مليارات الدولارات من بيع معلوماتنا الشخصية للشركات ووكالات الإعلان وشركات العلاقات العامة السياسية التي تُتْقِن التّكَيُّفَ مع ميولنا ومخاوفنا وعاداتنا وتُسْكِتُ أصواتنا إذا لم نمتثل لقواعدها التي لا تُعْلِنُها...
تُشكّل قوانين مكافحة "الأخبار الزائفة" خطرًا على حُرِّيّة التعبير في دول الإتحاد الأوروبي، خصوصًا وإنها تفرض عُقوبات جزائية على "المُخالفين"، فضلاً عن القوة غير المتناسبة لشركات التكنولوجيا الكبرى مثل "فيسبوك" أو "تويتر" التي أصبحت تحتكر تعريف أو تفسير الحُقُوق الأساسية للمواطنين، كحرية التعبير وحرية الرأي، في غياب أي نقاش وتَغْيِيب المُسْتَخْدِمِين أو أي رأي مُخالف أو مُخْتَلِف، لذلك يضيق هامش حرية التعبير، ويصبح من الصعب اعتبار وسائل الإعلام حرة في تنفيذ مهمتها الإعلامية، فقد حَلّت السلطات الحكومية مَحَلَّ الهيئات التنظيمية المستقلة، وقرّرت حَظْرَ وسائل إعلام صنّفتها مُنحازة أو تابعة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أو لحزب الله أو حماس، قبل حَظْرِ "روسيا اليوم" أو "سبوتنيك"، رغم احترام هذه الصحف والشبكات والمواقع شُرُوطَ الترخيص، بينما تنشر وسائل الإعلام "الرّسمية"، منها وكالة الصحافة الفرنسية (12 آذار/مارس 2022)، معلومات اتّضَحَ زَيْفُها بسرعة، عن قَصْفٍ روسي لم يحصُلْ، بشهادة صُحُف فرنسية أخرى مثل لوفيغارو أو ليبراسيون، واتفقت معظم الصحف والوكالات والمواقع الأوروبية والأمريكية على نشر أخبار مُتَحَيِّزة بشأن الحرب والحَظْر الإقتصادي والتجاري، وحتّى الرّياضي، وبذلك تُعيد الولايات المتحدة نفس الأساليب التي استخدمتها ضد النظام العراقي، سنة 1991، مثل ترديد كذبة قتل أطفال رُضّع، حديثي الولادة بالكويت، أو كذبة المجازر الوَهْمِيّة في بنغازي (ليبيا)، سنة 2011، لتتبوأ وكالة الإستخبارات الأمريكية منصب رئيس تحرير معظم صحف وتلفزيونات وإذاعات ومواقع العالم، فاندثرت الحُدُود بين الدّعاية السياسية للحكومات ووسائل الإعلام التي يُفْتَرَضُ أن تتّسم بالإستقلالية لتَتَمَكّنَ من نَقْد السلطة، ومُمارسة الشّك المَنْهَجِي، لبُلُوغ اليَقِين، واحترامًا لأخلاقيات المهنة، وأدّى التّحيُّز المَفْضُوح لوسائل الإعلام إلى تشويه صورة مجمل منظومة الإعلام، وفقدانها المصداقية لدى الجمهور في الدّول الرأسمالية المتقدّمة، كما في البلدان الفقيرة، وأدْرَك النّاس أن معظم الصحافيين لا يهتمون بالبحث عن الحقيقة، بل هم مُجرد موظفين أو مُرْتَزقة في خدمة الحكومة والمُشَغِّل، صحيفة أو قناة تلفزيونية أو محطّة إذاعة، ما يمنعهم من إنتاج معلومات جادة وموضوعية وَمَوْثُوقة...

سياسيون من صُنع أمريكا، نموذج أوكرانيا:
يُعتَبَرُ "أليكسي أريستوفيتش"، مستشار رئيس أوكرانيا "فولوديمير زيلينسكي"، مديرًا للدعاية الرّسمية، وهي دعاية أمريكية بالأساس، تُعيد نَشْرَها وسائل الإعلام البولندية والغربية كحقيقة مُطْلَقَة، وهو زميل سابق للرئيس زيلينسكي في مجال التمثيل، ثم أصبح ضابط استخبارات عسكرية، مُتخصِّصًا في الترجمة من وإلى اللغة الإنغليزية، وأتاحت له مهنته وانتماؤه إلى الدّوائر الصّهيونية، إجادة "الخَدَمات السّرّية" والتّعرف على عالم السياسة والأعمال والخدمات السرية، فاغتنم فُرْصة "الثورة البرتقالية" لينضَمَّ إلى اليمين المتطرف، سنة 2004، ومكّنه عمله السابق في المخابرات العسكرية، وارتقاؤه في صفوف اليمين المتطرف من تأمين مُستقبل سياسي ومالي، فأسّس شركته الخاصة للإستشارات النّفسية، وشركة أخرى للأعمال التجارية، ثم مكنته علاقاته السياسية والمالية والتجارية من أن يُصبح "خبيرًا ومُعلّقًا سياسيا وعسكريا في وسائل الإعلام الأوكرانية الرئيسية، قبل أن يُصبح سنة 2020، خلال رئاسة زيلينسكي، المتحدث باسم الوفد الأوكراني في مجموعة الاتصال الثلاثية بشأن اتفاقيات مينسك، حيث ظهرت براعته في الكذب، إلى أن ظهرت حقيقته كناطق باسم الإدارة الأمريكية، عندما أعلن، في مقابلة أجريت معه سنة 2021، أن "الحرب الأوكرانية الروسية ستستمر لفترة طويلة جدًا.قد تدوم رُبُعَ قَرْن"، وأظهرت الحرب الحالية أنه "داعية مُحترف"، يعلن بوضوح "إن الدعاية جزء من الحرب، ما يستوجب نشر المعلومات المُضَلِّلَة للتأثير على النّاس، بمساعدة شركات العلاقات العامة ووسائل الإعلام في الولايات المتحدة وبريطانيا وأوروبا..."
أما رئيس أوكرانيا "فولوديمير زيلينسكي"، فهو مُختص في "الإعلام الدّعائي"، أو ما تُسمى "تقنيات الإتصلات"، وأصبح رئيسًا ضمن مهرجان مسرحي، درامي"، بدأ قبل التحاقه بعالم السياسة، أي منذ الإنفصال عن الإتحاد السوفييتي، وربما منذ الحرب العالمية الثانية، عندما كان أَسْلاف "آزوف" وسفوبودا" و "قطاع اليمين"، وغيرها من المُنظّمات اليمينية المتطرفة، يدعمون جيش الإحتلال النّازي للإتحاد السوفييتي، ولأوكرانيا بالذّات، ولا يزال "زيلينسكي" يحكم بدعم داخلي من الأثرياء الصهاينة ومن المنظمات النازية الجديدة، وبدعم خارجي من الكيان الصهيوني ومن الولايات المتحدة وحلفائها...
في أوكرانيا، أوكلت دول حلف شمال الأطلسي، مهمة التخريب والتّفتيت إلى وُكلائها من الميليشيات الإرهابية لليمين الأوروبي المتطرف والإسلاميين الذين أثْبَتُوا تفانيهم وخبراتهم في خدمة مصالح الإمبريالية في أفغانستان، ثم في كوسوفو والبوسنة أو في سوريا أو ليبيا أو أي مكان آخر.
دعمت الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي والكيان الصّهيوني الثورات المُلَوّنة، ومنها "الثورةَ البرتقاليّةَ" منذ بداية القرن الواحد والعشرين (سنة 2004)، ونَظّمت انقلاب 2014، عبر استخدام مليشيات اليمين المتطرف، لتنظيم حملات عنف و ترهيب واغتيالات ضد المواطنين من أصل روسي أو يوناني، والنّاطقين باللغة الرّوسية، ولتنصيب نظام موالي لها، بمشاركة قيادات المليشيات النازية والصهيونية، فالحكومة الأوكرانية ( خلال رئاسة "فولديمير زيلينسكي") تضم ما لا يقل عن ستة من غُلاة الصهاينة، من بينهم رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء وما لا يقل عن أربعة من الوزراء، فضلاً عن الأثرياء الصهاينة، من مُمَوِّلي الحملات الإنتخابية و"المُستشارين" والنُّوّاب ورجال الأعمال والمصرفِيِّين...
أدّى تحشيد القُوّة وتكديس الأسلحة على حدود روسيا، واستمرار التصعيد منذ 2004 وبالأخص منذ النزاع المسلح في جورجيا سنة 2008 ثم انفصال أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، والانقلاب الأوكراني، بدعم من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، سنة 2014، وما تلاه من ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا، واستمرار للعديد من الوقائع الأخرى والنّزاعات التي لم تحدث على حدود الولايات المتحدة أو أوروبا الغربية، بل على حدود روسيا التي شعرت بأنها مهددة في وُجُودِها منذ العقد الأخير للقرن العشرين.
تمثّلت الخطّة الأمريكية (ومعها ألمانيا) سنة 2014، في تنفيذ انقلاب ضد الرئيس والنُّواب المُنتَخَبِين، وتنصيب "بوروشنكو" والجماعات الفاشية في السلطة، للسيطرة على الموقع الجغرافي الاستراتيجي لأوكرانيا وعلى اقتصادها، وعلى مناطقها الشاسعة من "الأراضي السوداء" الخصبة (التي تنتج الحبوب وعباد الشمس) وعلى صناعتها الموروثة من الحقبة السوفيتية، لكن تَمَرُّدَ "دونباس" والانفصال الفعلي لجزء من مقاطعتي دونيتسك ولوهانسك قَوّضَ جزئيًا هذه الخطة الأمريكية-الألمانية، إذْ يتركز 75% من إنتاج الفحم الأوكراني في الجمهوريتين الانفصاليتين، ما اضطرّ شركات الطاقة "شل" و"شيفرون" إلى التّخلِّي، سنة 2015، عن استغلال المحروقات في شرق أوكرانيا، إذ يُدْرِكُ خُبراء هذه الشّركات مدى عمق الأزمة واستحالة الاستثمار والعمل في مثل هذا المناخ من انعدام الأمن.
استقر هانتر بايدن، نجل جوزيف بايدن (نائب رئيس الولايات المتحدة آنذاك) في أوكرانيا، على رأس شركة ( Burisma ) وهي شركة غاز ونفط، تهدف رسميًا إلى تصنيع المحروقات ومُشتقّاتها، و"مساعدة أوكرانيا على التحرر من المُوَرِّد الروسي"، وفي واشنطن، استقبل الكونغرس الأمريكي الرئيس الأوكراني "بوروشنكو"، مُمثّل الأوليغارشية وحليف الميليشيات الفاشية، لكنه أثبت أنه غير قادر على إعادة دونباس بالقوة العسكرية، فعمدت الولايات المتحدة إلى خلْعِهِ، عبر "انقلاب إعلامي" وقررت استبداله ب "زيلينسكي"، المناضل الصهيوني الذي مول ملياردير صهيوني حملته الانتخابية، ويخضع زيلينسكي بالكامل لتوجيهات الولايات المتحدة.
بمجرد وصول جوزيف بايدن إلى البيت الأبيض ، طبق زيلينسكي سياسة واشنطن الجديدة بقيادة بايدن وبلينكين وسوليفان ونولاند، منظمي انقلاب "ميدان 2" ( 2014) مع وكالة المخابرات المركزية والموساد، وأسفر انقلاب "ميدان 2" بين عامي 2014 و 2021، عن هجرة عشرة أو اثني عشر مليون أوكراني، أي أكثر من 20% من إجمالي السكان، على أمل الحصول على ظروف معيشية أفضل، في روسيا وأوروبا والولايات المتحدة، فأصبحت أوكرانيا ضعيفة اقتصاديا وديموغرافيا، وواصلت استهلاك الغاز الروسي، وشراءَهُ "بأسعار مناسبة" من الدول المجاورة التي تحكمها أنظمة عميلة للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي.
أوكرانيا هي مركز صراع عالمي، تم تقديمه سنة 2018 كجزء من العقيدة الاستراتيجية الجديدة للولايات المتحدة التي أعلنت الحرب ضد الصين وروسيا، باعتبارهما خصوم يجب القضاء عليهما وإقصاؤهما من الأسواق العالمية، كما يمكن تسمية الحرب في أوكرانيا، التي عملت الولايات المتحدة على إشعالها، بـ "حرب الغاز" لأن الولايات المتحدة مُصدرة للغاز الصخري، ذي الثمن المرتفع وذي النّوعية الرّديئة، مُقارنة بالغاز الطبيعي الروسي، إلى أوروبا وآسيا، ولذلك يمكن التّأكيد أن الطاقة (النفط والغاز)، مفتاح كل نشاط إنتاجي، تحتل مكانة مركزية في هذه الحرب.

الجزء الثاني
نضالات يُشَوّهُها ويَطْمُسُ أخبارها الإعلام الأمريكي

دَوْر الأمريكيين السُّود في النضالات الطّبقية ومن أجل المُساواة
نشأت الحركة العُمّالية الأمريكية على أُسُسٍ إثنية غير مُعْلَنَة، وتجاهلت مسألة اضطهاد السود، ولما تأسّست النقابات ضمن الفيدرالية الأمريكية للعمل ( AFL ) خلال الرُّبع الأخير من القرن التّاسع عشر، كان عمودها الفقري يتألف من نقابات المِهَنِيِّين والعمال المَهَرَة من ذوي التّأهيل العالي، وكانت ترفض انضمام العُمال غير المَهَرة والعُمّال السُّود، خصوصًا خلال الفترة المتراوحة بين 1880 و 1930، حيث ساهمت الفيدرالية الأمريكية للعمل في تأبيد ونَشْر وممارسة الاضطهاد العرقي، بنفس الدّرجة التي كانت تُمارسها مؤسسات المجتمع الرأسمالي الأمريكي. في المُقابل، كان حوالي 30% من منتسبي نقابة عُمّال الموانئ (تأسست سنة 1902) من العُمّال السُّود، كما كانت نقابة "عمال المناجم المتحدة" (تأسّست سنة 1890) تضم نحو عشرين ألف عاملا من السود، ما اضطرّ قياداتها إلى إثارة مواضيع شبه مُحَرَّمة آنذاك، منها الفوارق في الرواتب وفي الرُتَب بين العُمّال السود والبيض، وكان النضال من أجل المُساواة أحد أسباب محاولات القضاء على هذه النقابة، كما قَمَعت السُّلُطات نقابة ناشري الخشب في لويزيانا، بسبب عدم التفرقة بين السود والبيض.
ساهم العُمّال الإشتراكيون، سنة 1905، في تأسيس منظمة "عمال العالم الصناعيين" (IWW)التي كانت تُعارض الإتجاه "المُحافظ" (الرجعي) للفيدرالية الامريكية للعمل ( AFL ) وكانت تضم كل عمال الصّناعات كيفما كانت درجة تأهيلهم ولون بشرتهم وجنسيتهم، وبلغت نسبة العمال السود بها نحو 10% أو حوالي مائة ألف عامل بقطاع الصناعات، من إجمالي مليون عامل منتسب إلى ( IWW ) وقمعت السُّلُطات بشدّة هذه النقابة بعد مُعارضتها مشاركة الولايات المتحدة في الحرب العالمية الأولى.
منذ بداية القرن العشرين، ارتفعت وتيرة التّصنيع بالولايات الشمالية، بينما كان معظم السود يعيشون في الجنوب، وهاجر نحو مليون منهم من الجنوب إلى الشمال خلال الفترة السابقة للحرب العالمية الأولى، وتواصلت حركة تنقّل السكان السود من الجنوب إلى الشمال، ليعيش جُلُّ السود بولايات الشمال والغرب، قبل نهاية الحرب العالمية الثانية، إذْ كان المَيْز العنصري سائدًا، بتشجيع من الدّولة، رغم غياب الإطار القانوني، حيث أنشأت الدّولة المركزية، خلال أزمة 1929-1933 (رئاسة "روزفلت") مُجَمّعات سكنية ومدارس ومستشفيات للبيض، بعيدًا عن مناطق سكن السود التي كانت تتعرض للحرق والتّفجير في العديد من الولايات.
على الصعيد النّقابي، تأسس اتحاد النقابات (CIO)سنة 1935 خلال موجة من الإضرابات، وكان يُعارض الميز في الحقوق أو ما كان يسميها "ممارسات انعزالية"، وحاول تنظيم العمال السود لإحباط مُخطّطات شركات ولايات الشمال التي تعمل على تأجيج المُنافسة بين العُمّال على أساس العرق واللّون، وتشغيل السّود للقيام بالأعمال الأكثر صعوبة، والأدنى أجرًا، ونجحت الشركات من تقسيم الطبقة العاملة ومن استخدام جُزْءٍ من الطبقة العاملة ضد الجزء الآخر، خصوصًا أثناء الإضرابات، وعلى سبيل المثال، أضرب العُمال البيض بقطاع صناعة السيارات بديترويت، سنة 1943، ونفذوا اعتداءات عنصرية عنيفة ضد العُمّال السّود الذين هاجروا من الجنوب، كما أضْرَبَ العُمّال البيض بخط الترامواي في فيلادلفيا، سنة 1944 ضد تشغيل العمال السود لقيادة القطارات، وأعلن البيض رفض ترقية زملائهم السود الذين تعلموا القيادة.
بدأت الحركة الإشتراكية، منذ سنة 1853، أي قبل تأسيس الأُمَمِيّة الأولى، حملةً لِمُعَارَضةِ اضطهاد السود، وأعلنت عصبة العمال الامريكيين في شيكاغو، "حَقَّ جميع العمال الذين يعيشون في الولايات المتحدة، ودون تمييز في المهنة واللغة واللون او الجنس، أن يصبحوا أعضاء"، وحاولت تَوْحِيدَ الطبقة العاملة، ورَفْضَ استخدام التفرقة والتمييز من قِبَلِ الرأسمالية الامريكية، بهدف زيادة استغلال كل العمال، لكن الحزب الإشتراكي الأمريكي، كان يضم في بداية القرن العشرين، جناحًا يمينيًّا عُنصُرِيًّا، عَرْقَل النّضال من أجل المُساواة، رغم جهود العديد من القيادات والفُرُوع التي كانت تُكافح العنصرية داخل الحركة العمالية.
عندما تأسّس الحزب الشيوعي، سنة 1919، أنشَأَ منظمات مُختلطة، تناضل ضد اضطهاد السود، وشدّدَت الأممية الشيوعية على ضرورة النضال من أجل المُساواة، والنشاط والدّفاع عن قضايا العُمّال السُّود والإهتمام بالمشاكل الخاصة بهم وتحسيس العُمّال البيض بهذه الخصوصيات، خدمةً لقضايا الطّبقة العاملة، وقام الحزب الشيوعي الأمريكي، سنة 1931، بحملة عالمية ونجح في تبرئة ثمانية شبان سود، تم اعتقالهم والحُكْم بإعدامهم ظُلْمًا، بتهمة اغتصاب شابّتَيْن من البيض بولاية آلاباما، في حين أنهم كانوا أبرياء من ذلك، ورفضت "الجمعية الوطنية لترقية الملونين" الدفاع عنهم، فتحمّل الحزب الشيوعي مسؤولية إظْهار الحقيقة وتبرئتهم، ما اكسبه شعبِيّةً لدى المواطنين والعُمّال السُّود.
جَنّدت الحكومة الأمريكية، خلال الحرب العالمية الثانية، حوالي ثلاثة ملايين شاب، وأرسلت منهم نصف مليون إلى أوروبا، وبعد الحرب عزّز هؤلاء (أو من بقي منهم حيًّا) أعداد الفُقراء في الحَواضِر، وبقوا مَحْرُومين من حق التصويت ومن السّكن اللائق ومن العديد من الحقوق السياسية والمدنية والإنسانية، بل كانوا يتعرضون للقمع والملاحقة القضائية والإعدام ضمن إطار القضاء وخارجه، وعبّر العديد من الجنود العائدين عن استيائهم من التمييز في صفوف الجيش، بينما كانت حياتهم مُعَرّضَة للخطر، وبدأت تظهر بعض الأشكال الجديدة للمقاومة ومن التعبير عن رفض الخضوع، ففي شهر شباط/فبراير 1946 تشاجر في كولومبيا (تينيسي) شخصان، أحدهما أسود والآخر أبيض، وكان الأسود مُتغلِّبًا، قبل تدخّل أربعة من عناصر الشرطة (وهم من البيض طبعًا) وانحيازهم إلى جانب المواطن الأبيض، فتظاهر السّكّان السود وهاجموا رجال الشرطة، وتعددت مثل هذه الحوادث التي تُظْهِرُ ارتفاع دَرَجَة غضب المواطنين السّود ورفضهم الخضوع، وبالتوازي مع مظاهر التّمرّد، تعدّدت الاحتجاجات من أجل المُساواة والحُقُوق المدنية والتعليم المختلط، لتتحول بداية من سنة 1955 إلى حركة شعبية، إثر ملاحقة السّلُطات للسيدة "روزا باركس" (1913 – 2005) وإلقاء القبض عليها يوم الأول من كانون الأول/ديسمبر 1955 في "مونتغمري" بولاية "ألاباما"، لرفضها التخلي عن مقعدها بالحافلة لرجل أبيض، فقد كانت مُرهقة بعد انتهاء عملها في خياطة الملابس التي يرتديها السّكّان البيض، وأظْهرت "روزا باركس" أن السود لم يعودوا خائفين، وهم يُدافعون عن حقوقهم الأساسية، بل هم قادرون على تنظيم انتفاضة واسعة، إذ أدّى اعتقالها إلى مُقاطعة السكان السود للحافلات طيلة 381 يوما، فكان حوالي خمسين ألف مواطن أسود بالمدينة يقطعون مسافات تصل إلى عدة كيلومترات بين منازلهم وأماكن عملهم، وكان بعض من لديهم سيارات يتعاونون لنقل بعضهم البعض للذهاب إلى العمل، وسجنت السلطات ما لا يقل عن مائة من هؤلاء المناضلين السِّلْمِيِّين، بتهمة تنظيم حركة المقاطعة، وفَجَّرَ العُنْصُرِيُّون البيض أربع قنابل في كنائس السود، وانتهت حركة المُقاطعة، بإعلان المحكمة العليا حظر الفصل العنصري في وسائل النقل العام، ما شكّل انتصارًا رمزيًّا لحركة المُقاطعة، كفعل جماعي في مسار الكفاح الجماهيري (كنقيض للنّخبوي) ضد الإضطهاد ومن أجل المُساواة، وبقيت حركات الإحتجاج سِلْمِيّةً، لكنها تنوعت وأصبحت أكثر جرأةً، إذ شارك حوالي سبعين ألف طالب أسود في خَرْق الحظر المفروض على الطلاب السّود ارتياد الأماكن المُخَصّصة للبيض، طيلة سنة 1960، وتم اعتقال 3600 من هؤلاء "العُصاة"، كما ألقت الشرطة القبض، سنة 1961 على المواطنين السّود والبيض الذين كانوا يُشاركون في رحلات الحرية ( freedom rides ) دون التّقَيّد بالفصل العُنصري في الحافلات وقاعات الإنتظار ودورات المياه، ما عرّضهم إلى قمع المُنَظَّمات العُنْصُرِيّة والشرطة، ومع توسُّع حركة المُقاطعة، وعدم التّقَيُّد "بقواعد" الفصل العنصري في الفضاء العام والمؤسّسات، بدأت أجهزة الدّولة تعمل، منذ منتصف ستينيات القرن العشرين، على استبدال الإضطهاد المفضوح باضطهاد أخْبَثَ وأقل ظُهُورًا للعيان، للتّحكّم في المواطنين بشكل أفْضَلَ، ولخنق كفاح السُّود وللتّفرُّغ لمحاربة الشيوعية، مع استمرار عمليات اغتيال المواطنين السُّود وممارسة الميز العنصري في مجالات العمل والسّكن والتّعليم، بتواطؤ من النقابات أحيانًا، وظهر جيل جديد من المناضلين السود، منهم "مالكوم إكس" ( 1925 – 1965) الذي أدّى اغتياله إلى احتجاجات عنيفة، وتكررت انتفاضات السّود المحصورة في مدينة أو في ولاية، لكن عدد القتلى والمُعتقَلِين كان مُرتفعًا جدًّا، ففي مدينة "ديترويت"، عاصمة صناعة السيارات، قمع الجيش، سنة 1967، ما لا يقل عن 43 مواطن أسود، وأصاب ما لا يقل عن 1200 بجروح مختلفة الخُطُورة، واعتقل قرابة 7200 متظاهرًا، ودَمَّرَ نحو أَلْفَيْ مسكن ومبنى، إثر عصيان نفذه سُكّان المدينة احتجاجًا على عمليات القمع والإغتيال، ومن هذه الأجيال الجديدة للمقاومين، ظهرت حركة "قُوَّة السُّود" ( بلاك بُوِر ) إثر انتفاضة المَعَازل، أو الغيتوهات، حيث يتم عَزْل السكان السُّود بعيدًا عن مناطق سكن البيض وعن المرافق الضّرورية للحياة اليومية، ومزجت حركة "بلاك بور" النضال ضد العنصرية بالنضال ضد حرب فيتنام، حيث كان عدد القتلى من الجنود السود الفُقراء مُرتفعًا، وكانت مختلف تيارات حركة "بلاك بُوِر" تُعبِّر عن تقدّم أو تَجَذُّر وعي المواطنين السّود، ولكنها، تُمثّل (سياسيا) طموحات البرجوازية الصغيرة المُتعلّمة السوداء، التي تُريد الحصول على حصّة من النمو الإقتصادي، ولذلك لم تكن منخرطة في نضالات الحركة العُمّالية ولا في حركة الصراع الطبقي، خلافًا لحركة "الفُهود السُّود" (بلاك بانترز") التي انتقدت الحركة العمالية الأمريكية لأنها "لم تطرح مسألة السلطة"...
تأسَّسَ حزب الفهود السود سنة 1966، "للدّفاع عن النّفس" وضد حرب فيتنام وضد سحق حركات تَحَرُّر الشعوب من قِبَل الإمبريالية الأمريكية، وكانت شعاراتهم أوْسَعَ نطاقًا من الحركات التي سبقتهم، وربط الحزب القمع الدّاخلي للسود وللفُقراء والعُمّال، ب"الحملة الصليبية التي تشنها أمريكا في العالم باسم الحرية، وما هي سوى قناع لسَلْب إرادة الشُّعُوب" وتمكّن الحزب من اجتذاب شباب الأحياء الأكثر فَقْرًا، وكانوا يحملون السلاح، ويظهرون عند اعتقال الشرطة أي شاب أسود، ويقرؤون مقتطفات من القانون الجنائي، مما يجبر الشرطة للتراجع عن اعتقاله، لأن ذلك مُخالف للقانون، ولأن الرجال المُسَلّحين مُستعدّون للإعتراض على المُمارسات غير القانونية، وبذلك توسّع انتشار حزب الفهود السُّود، خلال أربع سنوات، في حوالي سبعين مدينة، وقام مكتب التحقيقات الإتحادي (إف بي آي) باغتيال قادتهم، منهم "فريد هامبتون" (شيكاغو) ليلاً، في بيته، وقامت الشّرطة بتزوير الوثائق والأدلة المُزَيَّفَة لإدانة العناصر القيادية، واستخدمت الحكومة منظومة برنامج الإستخبارات "كوينتلبرو ( COINTELPRO ) الذي أُنْشِئ في الأصل، سنة 1950، "لمحاربة الشُّيُوعية"، لترويج أدلّة وتُهم مُزَوّرَة بهدف عزل مناضلي الحزب عن محيطهم وعن مُناصريهم، بالتوازي مع تكثيف حملة الإعتقالات والإغتيالات، وخلال احتجاجات المساجين، سنة 1970، اتّهمت إدارة السُّجُون "جورج جاكسون" (سجن "سوليداد" في كاليفورنيا) بقتل أحد حراس السجن، لِتَبْرِير عملية اغتياله، قبل أن تُعلن المحكمة براءة من اتُّهِموا معه، كما تمت بالمُناسبة ملاحقة واعتقال وسجن "أنجيلا ديفيس" ( كانت عضوة في الحزب الشيوعي وفي حزب الفهود السود ) وكان "رونالد ريغن" - رئيس الولايات المتحدة لاحقًا- بصفته حاكم ولاية كاليفورنيا آنذاك (سنة 1969) قد طلبَ طَرْدَهَا من وظيفتها بالجامعة، حيث كانت أستاذة فلسفة، لكن أمرت المحكمة بإعادتها إلى منصبها، كما تمت تبرئتها من تهمة تهريب الأسلحة إلى السّجن (سنة 1970) أثر حملة واسعة لإطلاق سراحها وسراح جميع السجناء السياسيين، وتمت تبرئتها سنة 1972 بعد قضاء 18 شهرًا بالسّجن...
تأسست - في خضم حركة الحقوق المدنية وانتفاضات السود ومعارضة العدوان على فيتنام - منظمات صغيرة دعا بعضُها إلى النضال المشترك داخل الطبقة العاملة، ومن بينها "رابطة العمال الثوريين السود"، التي تأسست سنة 1969 في مدينة "ديترويت"، عاصمة صناعة السيارات، وحاولت التواجد داخل المصانع، "من أجل بناء حزب عمالي ثوري"، وكان قادتها مُتأثِّرِين بأفكار ماو تسي تونغ، وكذلك بفكرة تحرُّر السُّود الأمريكيين، وبالدور الرئيسي للطبقة العاملة في تهديد السلطة الرأسمالية.
انتشر الإحتجاج كذلك بين مشاهير الرّياضيين السود، فقد رفض "محمد علي كلاي"، بطل العالم للملاكمة (وزن ثقيل)، سنة 1967، تأدية فترة الخدمة العسكرية والذّهاب إلى فيتنام، لمناهضته للحرب، وحُكِمَ عليه بخمس سنوات سجن وبغرامة قدرها عشرة آلاف دولارا، وتم حرمانه من ممارسة الملاكمة لثلاث سنوات، وتجريده من لَقَبِهِ، الذي استعاده سنة 1974، كما استغل البَطَلان الأُولمبِيّان "تومي سميث" و "جون كارلوس" منصّة تَتْوِيجِهما، خلال الألعاب الأولمبية بمكسيكو، سنة 1968، لرفع قبضتيهما، منحنيَّيْ الرأس، أثناء النشيد القومي الأمريكي، كتعبير عن غضب السُّود من التمييز والقمع والعُنف الذي يتعرّضُون له...
في هذا المناخ، وفي ظل ملاحقة مكتب التحقيقات الإتحادي للمناضلين والشُّبّان السود (وغيرهم من التّقدّمِيِّين) واعتقال الآلاف من الشّبّان السود بتُهم مختلفة، وسجنهم إثْرَ محاكمات غير مُنْصِفَة، بحسب القوانين والإجراءات الأمريكية، واغتيال العديد منهم، نشبت سنة 1971، حركة تمرد وإضراب السُّجناء العاملين في سجن أتيكا في ولاية نيويورك خلفت ثلاثة وأربعين قتيلا.
يُعدّ هذا الإضراب، وما تلاه (أشهرها إضرابات 2016 و 2021) جُزءًا من نضالات الفئات الأكثر استغلالا ضمن الطبقة العاملة، خصوصًا وأن معظمهم من السّود الذين لا يُشكّلون سوى 12,5% من سكان الولايات المتحدة وقرابة 20% من الطبقة العاملة، وتبلغ نسبة البطالة لدى السود ضعف نسبتها لدى عموم السكان، وتصل إلى 50% لدى الشباب السود، وقد تتجاوز نسبة الـ 70% لدى من ليس لديهم شهادة الدراسة الثانوية، إذ لا يتمكّن 46% من شباب الأُسر السوداء من استكمال مرحلة التعليم الثانوي، مقابل 25% لأبناء الأُسَر البيضاء، وترتفع نسبة الأُمِّيّة (صعوبة الكتابة والقراءة) إلى 38% لدى السود، مقابل 14% لدى البيض وتبلغ نسبة الوفيات لدى القاصرين السود (أقل من 18 سنة) 10% بسبب الفقر والعجز عن تسديد ثمن العلاج وبسبب انتشار الإجرام في الأحياء الفقيرة، فضلا عن الجرائم العنصرية وإطلاق النار عليهم من قِبَل عناصر الشرطة.
أما في صفوف الطبقة العاملة فيُشكّل العُمال السُّود الجُزْءَ الأَكْبَرَ ممّن يشغلون الوظائف الأقل مهارة والأكثر هشاشة والأقل أجْرًا ولذلك لم يكن من اليسير على العُمّال السُّود جَرّ العُمّال البيض، للإضراب والنّضال ضد رأس المال الذي يستغل الجميع، غير أن للعُمال البيض امتيازات فهم يشغلون وظائف برواتب أعلى وبعقود ثابتة، حيث يُقَدَّرُ متوسط دخل الأُسر البيضاء بضعف دخل أُسَر المواطنين السُّود، ولم يستفد السُّود كثيرًا من ارتفاع مستوى الدّخل، حيث بقي وضعهم على حاله منذ 1960، ليبلغ معدل الفقر لدى السود ثلاث أضعافه لدى البيض، ويبلغ متوسط ثروات أُسَر البيض ستة أضعاف معدل ثروات أُسَر السود، مع التّأكيد على ارتفاع تكاليف التعليم والرعاية الصحية... على أي حال اكتسبت الرأسمالية الأمريكية خبرة فائقة في تقسيم الطبقة العاملة وعزل المُناضلين وشن الحملات الإعلامية، بالتّوازي مع التّشويه والإعتقالات والإغتيالات، لمنع اتحاد كل فئات العاملين ضدها، كعدو مُشترك للطبقة العاملة، في ظل غياب حزب عُمّالي ثوري...
أدّت نضالات حركات السود الأمريكيين ومُساهمتهم في نضالات الطبقة العاملة، وفي تَوْسيع فضاء الحُرّيات، إلى فتح بعض الآفاق وتراجع الأشكال المَفْضُوحة للمَيْز العُنصُري، في أكبر قُوة امبريالية عالمية، لكن الرأسمالية الأمريكية تمكّنت من الإلتفاف على بعض المُكْتَسبات، ومن عَزْلِ المواطنين (والعُمّال) السود عن رفاقهم البيض، عبر تغيير شكل الدّعاية الإيديولوجية التي تنشرها وسائل الإعلام وبرامج التّعليم وأجهزة الدّولة، وعبر القمع السّافر والتّصفيات الجسدية (الإغتيال أو الحُكم بالإعدام عبر جهاز القضاء المُنْحاز) والإعتقال والسجن، ولا يزال المواطنون السُّود يُسَدّدون ثمنًا باهضًا لتطور الرأسمالية بالولايات المتحدة، فلا يزال المناضل "موميا أبو جمال" يقبع بالسّجن منذ 1981، وأُدين بجريمة قتل ثبتت براءته منها، وكذلك ألبرت وودفوكس ( الفهود السود) في زنزانة انفرادية منذ 43 عاما، فضلاً عمّن تم اغتيالهم داخل السّجون أو خارجها (راجع الفقرة المُوالية عن السُّجُون).
لا يزال أكثر من أربعين مليون أميركي من السود في أسفل دَرَجات السُّلَّم الطبقي، وهم يُمثِّلُون جُزْءًا هامًّا من الطبقة العاملة الأمريكية، ولا يزال المواطنون السود يتعرضون للإغتيال من قِبَل عناصر الشرطة (ممثلي السّلطة ) وللإعتقال العشوائي وللأحكام الجائرة، ولم يخْتَفِ الإرث النّضالي لحركات الحقوق المَدَنِية والحركات الثورية، لكن لا يمكن للإنتفاضات العفوية إحداث تغيير جذري في أي بلد، وخاصة في عقر دار الإمبريالية المُهَيْمِنَة، خاصة مع تغيير الظّروف وتراجع دور النقابات والقوى التقدمية، في الولايات المتحدة وفي العالم، ولا يمكن مواجهة تدهور ظروف العيش وتدهور ظروف العمل وقطاعات السّكن والصّحة والتعليم دون وحدة المُتَضَرِّرِين من الإستغلال ومن الإضطهاد، سواء داخل الولايات المتحدة أو خارجها و،دون وجود حركات ثورية قَوِيّة ومُنضَبِطَة، ودون برامج وخطط، ودون استخلاص الدُّرُوس من التّجارب المحلّيّة والعالمية، ودون تضامن المُسْتَغَلِّين والمُضْطَهَدِين في العالم...

السّجون الأمريكية
استغلال عمل السّجناء وزيادة أرباح الشركات

لقد تَطَرَّقْتُ، منذ العام 2006، وفي مناسبات عديدة إلى التمييز في الولايات المتحدة واندماج المَيْز العُنْصُري بالإستغلال وبالإضطهاد والإحتقار(الإزدراء)، وكان آخرها مقال بعنوان "إضرابات العاملين بالولايات المتحدة" (تشرين الأول/اكتوبر 2021)، حيث أَشَرْتُ إلى الإضراب التاريخي الذي نفّذهُ المساجين العاملون، بمبادرة وإشراف مناضلي حزب "الفهود السّود"، خلال عقد السبعينيات، ويُعدُّ هذا الإضراب جُزْءًا من تاريخ نضالات الطبقة العاملة الأمريكية.
تُشَكِّلُ أجهزة السُّلْطة من شُرْطة وقضاء وسُجُون، أدواتٍ لتطبيق هذه النّظرة الإستعلائية، وتُشكّل السّجُون صُورَةً مُصغَّرَة عن الوضع داخل الولايات المتحدة، وسبق أن تمّ الإتفاق بين الجهاز التنفيذي (الحكومة الإتحادية) والجهاز القضائي (الكونغرس) منذ سبعينيات القرن العشرين على خصخصة السُّجُون، ضمن "البرنامج الإقتصادي الجديد" الذي أقرته الحكومة الإتحادية، في آب/أغسطس 1971، خلال فترة رئاسة "رتشارد نيكسون"، مع تجميد وحتى تخفيض الرواتب، ومنذ الثمانينيات، بدأ تفكيك ما تبَقّى من القطاع العام، ومنها نظام السجون، فتعاقدت الحكومة الأمريكية مع شركات خاصة تُشرف على إدارة وسَيْر السجون، وتعاقدت هذه الشركات بدورها مع شركات إنتاج صناعي لاستغلال العُمال المساجين...
تعكِسُ مُعاملة ذوي الإعاقة الذّهنية والمُسِنِّين الفُقراء والمَسَاجين حقيقة الدّيمقراطية في أي بَلَد، وفي الولايات المتحدة، أشارت المناضلة "أنجيلا ديفيس" (سجينة سياسية سابقة وعضو حزب الفُهُود السُّود، وعضو الحزب الشيوعي الأمريكي، سابقًا) إلى البُعْد الطّبقي للأحْكام القضائية، ولمعاملة المساجين داخل السّجون الأمريكية، ضمن مقال نَشَرَتْهُ، سنة 1997، بعنوان "علاقة العِرق بتجريم الأشخاص: السُّود الأمريكيون وتصنيع منظومة العُقُوبات"، وتضمن مقال أنجيلا ديفيس ما يجري في ولاية كاليفورنيا، ذات الرقم القياسي الأمريكي والعالمي في عدد المساجين، مقارنة بعدد السّكّان، حيث نَشَرت "إدارة إصدار الأحكام" بهذه الولاية، منذ سنة 1990، كُرّاسًا يُظْهِرُ مدى استفادة رأس المال من عمل المساجين، شبه المَجاني، ويروج الكُرّاس لبرنامج شراكة مبتكر بين القطاعين العام والخاص (هذه "الشَّرَاكة" التي أصبح تطبيقها واحدًا من شُرُوط الإقتراض من صندوق النقد الدّولي والبنك العالمي)، ويُعدّد البرنامج مزايا عمل المساجين، فهم قوة عمل شبه مجانية، جاهزة، تتضمن العديد من العُمّال المُؤهّلين، لا يُمكنهم الإضراب أو التّغَيُّب، ويستفيد رَبّ العمل من الإعفاء من تسديد التّأمينات والضّرائب، أما الأُجُور فهي رَمْزِيّة، ولا تتجاوز 15% (كحدٍّ أَقْصَى) من الأُجر الأدنى المعمول به بالولاية، وبذلك تنخفض تكاليف السلع الأمريكية، لتتمكّن من مُنافَسَة إنتاج الشركات والدّول المُنافِسَة...
سَنّت السُّلُطات الإتحادية، والسُلُطات المحلية في أربعين ولاية أمريكية، منذ العقد الأخير من القرن العشرين، قانونًا يسمح بالحُكم بالسّجْن المُؤَبَّد على أي شخص (ولو كان قاصِرًا) تمت إدانته ثلاث مرات، بارتكاب جريمة أو جُنْحة، واقترح حاكم "كاليفورنيا" تخفيض عتبة الإدانة إلى جُنْحَتَيْن، بدل ثلاثة، وكتَبَتْ "أنجيلا ديفيس"، تعليقًا على القانون: إن الهدف هو تكثيف الإعتقالات "الوقائية"، أي الإعتقال بسبب الإشتباه أو الظّن بأن الشخص يعتزم ارتكاب جريمة، وتعتبر أجهزة الدّولة، والإعلام السائد، أن السكان السود والمهاجرين والفُقراء هم مُجْرِمُون بطبعهم، لذلك تنتشر دوريات الشرطة بصورة دائمة في أحياء الطبقة العاملة والفُقراء، لاعتقال من يُشتَبَهُ به، بصورة استباقية، وتم بناء سُجُون ضخمة، بصورة استباقية أيضًا، وَجَبَ ملْؤُها وإجبارُ "نُزلائها" على العمل شبه المجاني، لكي تستغلهم الشركات الإحتكارية، وتستفيد من "الشراكة بين القطاعَيْن العام والخاص"...
اجتمعت هذه العوامل: تكثيف الدّوريات البوليسية والإعتقالات والأحكام الجائرة واعتقال وسجن المناضلين المُطالبين بالمُساواة، لتجعل من السُّجُون بُؤْرَة غَضَب، وكان انفجار هذه الغضب عَفْوِيًّا في معظم الأحيان، ومُنَظَّمًا أحيانًا، وتُعَدُّ إضرابات المساجين عن العمل، من أهم محطات نضالات الفئات المَسْحُوقَة من الطبقة العاملة الأمريكية، فالولايات المتحدة تستغل قوة عمل المساجين لتعظيم أرباح الشركات العابرة للقارات، وخفض تكاليف إنتاج العديد من السّلع والتجهيزات والملابس، لتَقِلَّ عن تكلفة السّلع المُصنّعة بالهند أو بنغلادش أو كولومبيا...
يُشكّل سُكّان الولايات المتحدة نحو 5% من العدد الإجمالي لِسُكّان العالم، فيما تَضُمُّ سُجُونُها 25% من العدد الإجمالي لمساجين العالم، ويتّفق الحزبان الحاكمان على تشديد القَمع بذريعة مكافحة الجرائم والمُخدّرات، ما يُفسِّرُ ارتفاع عدد السجناء بين سنتَيْ 1970 و 2005، أي خلال فترات حُكْم الحِزْبَيْن الجمهوري والدّيمقراطي، بنسبة 700%، نتيجة تخطيط سياسي مُسْبَق، وبرامج مُعَدّة سَلَفًا، لتتمكن الرأسمالية الأمريكية (بما فيها وزارة الحرب الأمريكية)، قبل وبعْد خصخصة السُّجُون، من زيادة حجم العمالة الرّخيصة، واستغلال عمل السُّجناء، وخفض ثمن تصنيع الإنتاج والسّلع، وتحقيق نسبة عالية جدًّا من الربح، عند بيعها في الأسواق الدّاخلية والخارجية، دون أي إشارة إلى ظُرُوف إنتاجها، بل تُزايد الولايات المتحدة، ومعها منظمات "حقوق الإنسان"، بخصوص عمل الأطفال في بعض البُلْدان، بينما تُشَرِّعُ العمل في ظُرُوف شبيهة بالعُبُودية في السّجُون وكذلك في المَزارع الكُبْرَى، حيث يعمل المُهاجرون 14 ساعة، ويتعرّضُون يوميا إلى المُبِيدَات الخطيرة التي تُسبّب الوفاة بأمراض خطيرة، منها السّرطان.
ارتفع عدد إضرابات العُمّال السُّجناء بالولايات المتحدة، خلال خمس سنوات ( 2016 – 2020)، وتعددت إضرابات المساجين العاملين بمصانع الشركات الكبرى التي تستغلهم عبر نظام شبيه بنظام السّخرة، سنة 2016، وكذلك سنة 2018، "ضدّ نظام العمل العُبودِي"، حيث تمكّن السّجناء من التنسيق بين نُزلاء سُجُون العديد من الولايات، لبدْء إضراب في الحادي والعشرين من شهر آب/أغسطس 2016، ويمثل هذا التّاريخ ذكرى مقتل "جورج جاكسون" (عضو قيادي بمنظمة "الفهود السود"، الذي واصل النّضال داخل السّجن وحاز على احترام المساجين )، من قِبَل الحراس المُسلَّحين، في سجن "كوينتين"، بولاية كاليفورنيا، أثناء محاولة الهروب يوم 21/08/1971، لينتهي الإضراب يوم التّاسع من أيلول/سبتمبر 2016، يوم ذكرى انتفاضة سجن "أتيكا"، بنيويورك، سنة 1971، التي تم سحقها بقُوّة السّلاح، بقرار من حاكم ولاية نيويورك آنذاك "نيلسون روكفلر"، وريث الأُسْرة التي تحمل نفس الإسم، والتي اشتهرت بثرائها، لهيمنتها على صناعة النفط وامتلاكها مؤسسات مصرفية... أما مطالب العاملين السُّجناء فتتلخّصُ في "إنهاء نظام السّخرة في السّجن، ومعاملة العُمال كغيرهم من العاملين بالمصانع، خارج السّجون"، وتراوحت أشكال التعبئة من الإضراب عن العمل إلى الإعتصامات بالزنزانات وبساحات السّجون، والإضراب عن الطعام ومقاطعة متاجر السجون التي تبيع الإنتاج الرديء بأسعار مُضاعفة، مع الإشارة أن الدّستور الأمريكي، الذي يعتبره البعض "رمز الدّيمقراطية"، يسمح بعبودية الأشخاص المدانين بجريمة، أي السجناء، وفق التعديل الثالث عشر، واستهدفت حركة الحقوق المدنية ونضالات السّود الأمريكيين، في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، الإطاحة بمنظومة القوانين التي أقرّت أشكالاً جديدة من العبودية، لكن استمرت العبودية في السجون، ليس في الجنوب لوحده، وإنما في جميع أنحاء البلاد.
اعتبر قادة إضرابات السّجناء (2016 و 2018) أنهم جزء من الطبقة العاملة، يؤدي استغلالهم المُجْحِف إلى خفض رواتب العاملين بالمصانع، خارج السّجون، وإلى تدهْوُرِ ظروف عمل الطبقة العاملة بأكملها، لأن السّجون تتعاقد مع شركات، وتُجْبِرُ المساجين على العمل برواتب هزيلة جدًّا، أو بدون راتب أحيانًا، ولا يتجاوز راتب العامل المُختص بالسجن، عشرين دولارا شهريا (بين 13 و 16 سنتا بالساعة)، بعد أن تقتطع سُلطات السّجن أكثر من النّصف ( 55% ) مُقابل "الخدمات" التي تقدّمها إدارة السّجن (الطعام والنظافة والملابس...)، ورغم الدّعم الذي تلقاه العمال المساجين في 21 مدينة أمريكية، لم يعِ قادة الحركة النقابية العُمالية أن هؤلاء السجناء من العُمّال، وهم جزء من الطبقة العاملة، وأن الدّفاع عنهم ومُساندة مطالبهم وإضرابهم من مصلحة جميع العمال، ولم تدعم قيادات النقابات هذه النضالات.
اخْتُزِلت المطالب في "إنهاء العُبُودية" للعمّال المساجين، لكن المعتقلين طرحوا تسعة مطالب أخرى، بخصوص ظروف الاعتقال وحقوق المعتقلين، منها حق التصويت، حيث تَحْرِمُ 48 ولاية (من خمسين) المساجين من التسجيل بالقائمات الإنتخابية، وتحرم بعض الولايات المُدانين (بعد إنهاء محكوميتهم) من حق التصويت، ما يقصي ملايين المواطنين من ممارسة واحد من حُقُوقهم الدّستورية (حق التصويت) الذي ناضلت من أجله أجْيال من السُّود الأمريكيين، ومن المطالب أيضًا إلغاء قانون "هيلاري كلينتون" الذي يحد من حق السجناء في التماس الإنصاف في المحكمة بسبب سوء المعاملة التي تعرضوا لها، ليعترفوا أحيانًا كثيرة بجرائم لم يقترفوها، وكانت المُرشّحة الأرستقراطية، عن الحزب الديمقراطي، "هيلاري كلينتون" (حليفة باراك أوباما) قد أصَرّت، خلال الحملة الإنتخابية، سنة 2016، على استخدام عبارة "الحيوانات فائقة الإفتراس" التي وَصفت بها الشبّان الذين كانوا يتظاهرون ضد الميز العنصري، ودافع عنها زوجها، الرئيس الأسبق "بيل كلينتون"، الذي عارض احتجاجات المتظاهرين من حملة "حياة السود مهمة"، وبذلك تحالَفَ الحزبان الحاكمان بالولايات المتحدة، من أجل إرساء أو تعزيز نظام طبقي، يُشرْعن الاضطهاد العرقي للأميركيين السّود الذين تتجاوز نسبة اعتقالهم أربعة أو خمسة أضعاف المواطنين البيض، وعند إنهاء محكوميتهم والإفراج عنهم، يُحْرَمُون من العثور على عمل مناسب، لأنهم من المُدَانين السابقين...
أشار الباحثون الذين كتبوا عن إضرابات السّجون إلى صعوبة الحُصُول على المعلومات الضّرورية، حيث تنفي السلطات حصولها، رغم الشّهود وبعض الوثائق، وتُهدّد السّلُطاتُ المساجين الذين يتحدّثون عن تلك الإضرابات، خارج السّجن، حتى بعد الإفراج عنهم، وتنفذ الشرطة ضدهم أعمالاً انتقامية تُعيدهم إلى السجن، ليضلّوا فترة في الحبس الإنفرادي والعَزْل، بحسب مجموعة ( ( Jailhouse Lawyers Speak ، وهي شبكة من السجناء السابقين الذين درسوا القانون داخل السجون ويساعدون المساجين في تنظيم الإضرابات والإحتجاجات، وفي تحقيق مطالبهم، وتمكّنت الشرطة من تدبير مؤامرات ضدّ بعضهم وبعض مُنَظِّمِي الإضرابات، أو من كتبوا مقالات عن ظروف السّجن، بعد خروجهم، وتمت إعادتهم إلى السّجن، وعزلهم وحرمانهم من التواصل مع الخارج وحتى من الإستحمام، بحسب موقع "الديمقراطية الآن"...
كتَبَ الرئيس الكوبي "راؤول أنطونيو كابوتي" نَصًّا قصيرًا بصحيفة "غرانما" حول خصخصة السجون في الولايات المتحدة واستغلال الشركات الإحتكارية لقوة العمل داخل السّجون، أو كيف يكون القضاء الطّبقي، في خدمة الاحتكارات الساعية للربح، ووصَفَ "الأعمال المربحة للسجون الخاصة"، بأنها "عمل تجاري ناجح"، وأشار إلى إنشاء "جاك ماسي" أول شركة سجون كبرى ،( Corrections Corporation of America - CCA) ، سنة 1983، ليصل عددها، سنة 2020، إلى حوالي 130 سجنًا خاصًا في 30 ولاية، تسيطر على معظمها شركتان رئيسيتان: CCA و Geo، وبلغت أرباح الأولى، سنة 2011، نحو 1,7 مليار دولارا، والثانية 1,6 مليار دولارا.
للتذكير، يُشكل سُكّان الولايات المتحدة نحو 5% من سكان العالم، وتضم سُجُونها 25% من سجناء العالم، ويعمل أكثر من مليون سجين بدوام كامل، لصالح الشركات العابرة للقارات التي تعتبرهم عبيدًا، وليس عُمّالا لهم بعض الحُقُوق، بل يتقاضون ما بين 16 و 65 سنتًا أي أقل من الحد الأدنى للأجور بحوالي 95 مَرّة... وأهم هذه الشركات ( IBM و Motorola و Microsoft و Telecom و Target و Pierre Cardin و Macy s و Victoria s Secret ... )، ولئن وَقَّعت حوالي أربعة آلاف شركة عُقُودًا مع إدارة السُّجُون الأمريكية، فإن المصارف مثل "غولدمان ساكس" و "جي بي مورغان" و "سيتي بنك" وغيرها هي المستفيد الأكبر من أنظمة السّجون، بفعل القُروض التي تطلبها الولايات لبناء وتسيير السجون. أما العُمّال فمعظمهم من الفُقراء كالسود والمهاجرين المحتجزين، تطبيقًا لقوانين وُضِعَتْ أساسًا من أجل ضمان تدفُّقٍ مُستمر للمُعتقلين، لتوفير قوة عمل رخيصة، وفق تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، وكشفت العديد من الدراسات تورُّط العديد من النّواب الأمريكيين في عمليات فساد ورشوة وارتباطات بمجموعات ضغط، يُديرها أرباب العمل والشركات الكُبرى، من أجل سن قوانين أكثر تشدُّدًا، لضمان الرّبح الوفير، جراء استغلال المساجين العاملين...

موجة الإضرابات الكبرى 1970-1971:
كانت تلك من أكبر موجات الإضرابات، بالولايات المتحدة، حيث قادت نقابات عُمّال قطاعات البناء ونقل السّلع (بالشّاحنات) وصناعة السيارات والمرافئ والعديد من عُمال قطاع الصناعات التّحويلية، إضرابات، سَنَتَيْ 1970- 1971، بمشاركة الآلاف من العُمّال غير المنتسبين للنقابات، ولا تزال البُحوث والدّراسات نادرة، بخصوص هذه الحقبة من تاريخ الطبقة العاملة بسبب تجاهل الأكاديميين والباحثين ووسائل الإعلام الرأسمالية السّائدة، لتاريخ وإنجازات الطبقة العاملة الأمريكية، فقد أَفْضَتْ تلك الإضرابات إلى زيادات فورية بنسبة 25% في الأجور، وحسّنت شروط عقود العمل الجماعية (ما يُسمّى “الإتفاقيات المُشتَرَكة” في بعض البلدان العربية) ومُراجَعَتُها وتجديدها خلال ثلاث سنوات، بدل ست سنوات، وتمكّنت الحركة العُمّالية من فرْض بعض المكتسبات، منها حَظْر إيقاف العمال والنقابات، خلال فترة عملهم، ما يضطر أرباب العمل إلى اللجوء إلى التّحكيم الحكومي كواسطة أو كطرف ثالث (وإن كانت الحكومة تُمثّل مصالح أرباب العمل والأثرياء) لإنهاء الإضرابات ولتوقيع الاتفاقيات التعاقدية.
شكّلت تلك الإضرابات ردًّا أو رَفْضًا من قِبَلِ الطبقة العاملة ل”البرنامج الإقتصادي الجديد”، الذي أقرّته الحكومة الإتحادية، في آب/أغسطس 1971، خلال فترة رئاسة “رتشارد نيكسون”، ويتضمن تجميد وتخفيض الأجور، بالتزامن مع إنهاء مُعادلة الدّولار بالذّهب، ومُهاجمة “الحُلفاء” في أوروبا واليابان، واتهامهم “بالمُنافسة غير الشريفة”، ما يُعَدّ بداية التّراجع عن منظومة “بريتن وودز” التي فرضتها الإمبريالية الأمريكية نفسها، سنة 1944، قبل نهاية الحرب العالمية الثانية، وأفرزت توازناتُ نهاية الحرب، المنظومةَ التي تأسست بموجبها الأممُ المتحدةُ وصندوقُ النقد الدّولي والبنكُ العالمي وغيرها من مؤسسات النظام الرأسمالي العالمي…
قَدَّرَتْ وزارة العمل الأمريكية في وثيقة “تحليل حالات التوقّف عن العمل” (نُشِرَتْ سنة 1973) عدد الإضرابات الكبرى بين سنتَيْ 1970 و 1972، بنحو 10800 إضراب، شارك بها 6,6 ملايين عامل، وأدّت إلى “خسارة 114 مليون يوم عمل”، وشبّهتها وثيقة وزارة العمل بموجة إضرابات سنَتَيْ 1945/1946 - مباشرةً إثر الحرب العالمية الثانية التي شارك بها الجيش الأمريكي، لكنها لم تجْرِ على الأرض الأمريكية، ولم تُدمِّر البنية التحتية والمُدُن والمصانع الأمريكية - وبلغ عدد الإضرابات آنذاك 9750 إضرابًا بمشاركة أكثر من ثمانية ملايين عامل، وأدّت إلى خسارة 154 مليون يوم عمل…

السجون، مناطق خارج القانون
عند ذِكْر السُّجُون، تستحضر الذّاكرة مُحْتَشَد "غوانتنامو"، وهي قطعة ارض تقع جنوب شرقي كوبا، تحتلها الولايات المتحدة، منذ 1903 في شكل تأجير غير محدود المُدّة، ويقع المُعْتَقَل، منذ سنة 2002، داخل القاعدة العسكرية الضخمة، فلا يخضع للقانون الأمريكي، ولا لأي سُلْطَة أخرى، حيث يُسجن المشبوه لفترة غير محدودة، دون توجيه أي تهمة، ودون مُحاكمة، ودون مراقبة قضائية أو دولية، وأوردت شهادات النّاجين منه، نماذج من الإهانات والتعذيب وترفض الولايات المتحدة غلق المُحتشد، وإجلاء القاعدة العسكرية، لكن ممارسة التعذيب والإغتيال والعَزْل لا تقتصر على مُحتشد "غوانتنامو" ولا على المُعتَقَلِين الأجانب، بل تعدّدت الشهادات حول المُمارسات المُهينة والعزل والإغتيال، داخل السجون الأمريكية، وخصوصًا ضد المواطنين السّود، فضلا عن الإستغلال الفاحش والعمل المَفْرُوض وشبه المَجاني للمساجين، ما أدى إلى إطلاق ما لا يقل عن ثلاث موجات من الإضرابات المعروفة، خلال خمسة عُقُود...
تم سحق إضراب وانتفاضة المُعْتَقَلِين بسجن “أتيكا” (نيويورك) يوم التاسع من أيلول/سبتمبر سنة 1971، بقُوّة السّلاح، بقرار من حاكم ولاية نيويورك آنذاك “نيلسون روكفلر”، وريث الأُسْرة التي تحمل نفس الإسم، والتي اشتهرت بثرائها، لهيمنتها على صناعة النفط وامتلاكها مؤسسات مصرفية، وكان العُمّال المساجين يُطالبون "بحقوق متساوية للعاملين داخل وخارج السّجن وإلغاء العمل الإجباري شبه المجاني".
استغلت مُؤَسّسة الحكم الأمريكية تلك الإنتفاضة لتتراجع بشكل تكتيكي، قبل إحكام قبضتها من خلال هيمنة النيوليبرالية وزيادة وتيرة القمع والإستغلال والإضطهاد، وفي مجال القمع ارتفع عدد المساجين من حوالي 200 ألف ببداية سبعينيات القرن العشرين (إبّان انتفاضة سجن "أتيكا"، سنة 1971) إلى أكثر من مليون سجين، سنة 1995، أي مليون عامل، بدون حُقُوق، وبدون أجر تقريبا...
أثارت انتفاضة سجن "أتيكا" مسائل جوهرية مثل إصلاح نظام السجون والقضاء، وتمويل الشرطة، وإعادة هيكلة نظام الكفالة...
تُعتَبَرُ انتفاضة سجن أتيكا الأكثر تنظيمًا بين نضالات المساجين، وقاومت عسكرة الشرطة الأمريكية وحراس السّجون والحياة الأمريكية بشكل عام، بالتزامن مع احتداد العدوان على شعب فيتنام في الخارج، وعلى السّود في الدّاخل، خصوصًا بعدما تمكنت منظمة الفهود السّود من إدارة التنظيم المجتمعي وأسست ورش العمل التعليمية وبنوك الطعام، والعمل الشعبي وتوعية المواطنين الفُقراء من السّود والبيض بحقوقهم وبضرورة النضال من أجل نَيْل هذه الحُقُوق، وقاومت السلطات الأمريكية هذا الإضراب بوحشية نادرة أدت إلى قَتْل ما لا يقل عن 43 شخصاً وجرح أكثر من تِسْعِينَ آخرين، ثاروا، بداية من يوم التاسع من أيلول/سبتمبر 1971، ضد التمييز العُنصري وضد عدم المساواة وضد سوء المُعاملة، واستمرت انتفاضة السجناء الذين بلغ عددهم 1300 سجين، من إجمالي حوالي 2200 سجين، لمدة خمسة أيام متوالية، وتمكنت السلطات من قمعها بالسلاح بشكل دموي، يوم الثالث عشر من أيلول/سبتمبر 1971، وأدْلى بعض المُشاركين بشهاداتهم في الشريط الوثائقي الذي أخرجَهُ "ستانلي ويلسون"، بمناسبة الذّكرى الخمسين لانتفاضة مُعتَقَلِي هذا السّجن، التي كانت سبباً رئيسياً في إحداث إصلاح شامل لنظام سجون ولاية نيويورك التي كان حاكمها "نيلسون روكفلر" الذي كان يُردّد (بتأييد من الرئيس "رتشارد نيكسون") عبارات مثل "ضرورة حفظ الأمن والنظام... وعدم السّماح للسُّود بالإخلال بالنّظام"، وزعمت تقارير إعلامية كاذبة آنذاك أن المساجين ذبحوا عددًا من حراس السّجن، الذين احتجزوهم كرهائن، لتبرير الغارة العسكرية واستخدام الأسلحة الحربية ضد مساجين عُزّل، وبعد أربع سنوات، انتقم جهاز القضاء من المنتفضين، بتوجيه تهم خطيرة إلى 62 سجينًا في 42 لائحة اتهام مع 1289 تهمة منفصلة، فيما أقام نزلاء وعائلات السجناء الذين قتلوا، دعوى قضائية ضد ولاية نيويورك لانتهاكات الحقوق المدنية من قبل ضباط إنفاذ القانون أثناء وبعد عقود، وافقت ولاية نيويورك سنة 2000 على دفع 8 ملايين دولار (12 مليون دولار مطروحًا منها الرسوم القانونية) لتسوية القضية
نبذة عن "نيلسون روكفلر"، حاكم نيويورك والمسؤول عن قمع انتفاضة سجن "أتيكا":
ولد نيلسون روكفلر في 8 تموز/يوليو 1908 في واحدة من أغنى العائلات الأمريكية، فَكان جَدُّهُ جون د. روكفلر الأول يُدِيرُ شركة ستاندرد أويل، وأصبح نيلسون روكفلر مُنسّقًا للشؤون الأمريكية بوزارة الخارجية سنة 1940، ثم مُساعدًا لوزير الخارجية لأمريكا الجنوبية، سنة 1944، خلال رئاسة فرنكلين دي روزفلت، وشغل منصب رئيس المجلس الاستشاري للتنمية الدولية المعني بمساعدة البلدان المتخلفة، خلال رئاسة "ترومان"، إدارة ترومان، وتم تعيينه وكيل وزارة الصحة والتعليم والرعاية الاجتماعية (1953-1955) ثم مساعد الرئيس للشؤون الخارجية، إلى أن أصبح سنة 1958، حاكمًا لولاية نيويورك، وأمَر بإطلاق النار بكثافة على المساجين المُضْرِبين بسجن "أتيكا"، وبقي بمنصبه إلى أن أصبح جيرالد فورد رئيسًا، سنة 1974، بعد فضيحة ووترغيت التي أدت إلى استقالة الرئيس نيكسون، وأصبح روكفلر نائبًا للرئيس، وتولى رئاسة لجنة روكفلر التي تحقق في الأنشطة غير القانونية لوكالة المخابرات المركزية...

خاتمة:
تُمثِّل السُّلْطة السياسية في الولايات المتحدة وأوروبا مصالح مجموعات مالية وشركات عابرة للقارات، ولا تهتم الحكومات بمصير البشر، بل لا تهتم سوى بنَهْبِ ثروات البلدان، وبالموقع الجغرافي الاستراتيجي لأوكرانيا أو فنزويلا والعراق وأفغانستان والصومال، وأثبتت التجارب إنه كلما تدخلت الإمبريالية الأمريكية والإتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي في بلد، باتَ أفْقَرَ من ذي قبل، وأصبح مُجزّأً ومنقسمًا إلى طوائف وأقليات.
كتب أحدُ مُصَمِّمِي مُخطّطات السياسات الإستراتيجية الأمريكية، مُستشار الأمن القومي الأمريكي السابق "زبغنيو بريجينسكي" (1928-2017)، سنة 2016، إن عصر انحدار الولايات المتحدة قد بدأ، وإنها لم تعد القوة الإمبريالية المهيمنة على العالم، وسبَق أن نَشَرَ "بريجينسكي"، سنة 1997، كتابًا بعنوان "رقعة الشطرنج الكبرى" تَضمَّنَ تحذيرًا من إمعان الولايات المتحدة، وحلف شمال الأطلسي، في انتهاج سياسات الغطرسة والتّشبّث بمنطق القوة العسكرية، ويمكن تفسير الشراسة والغطرسة الأمريكية الحالية بمحاولة تأجيل وإبطاء الإنحدار...
تُوصَفُ الولايات المتحدة من قِبَلِ إعلامها الممْلُوك للشركات العابرة للقارّات بأكبر ديمقراطية في العالم، وهي "ديمقراطية" تأسّست على المجازر وإبادة الشُّعُوب الأصْلِيّة، وعلى استعْباد ملايين البشر الذين استُجْلِبُوا قَسْرًا من غرب إفريقيا، وعلى تَقْدِيس العُنْف ضدّ السُّود والفُقراء والشُّعُوب المُضْطَهَدَة، وبلغت الميزانية المُعْلَنَة للحرب 740 مليار دولارا، سنة 2022، وطلب الرئيس جوزيف بايدن بنهاية شهر نيسان/ابريل 2022 مبلغًا إضافيا مُعْلَنًا بقيمة ثلاثين مليار دولارا، وقُدِّرت حصة الولايات المتحدة ب38% من الصادرات العالمية للسلاح، سنة 2020، أو ما قيمته 175 مليار دولارا، أما حجم إجمالي تجارة السلاح فيتجاوز 250 مليار دولارا، منها 70 مليار دولارا للأسلحة والذخائر المُباعة داخل البلاد، حيث يمتلك الأمريكيون (330 مليون نسمة) ما لا يقل عن 360 مليون قطعة سلاح، ويُشكل الأمريكيون 5% من سُكّان العالم، ويمتلكون 42% من الأسلحة التي يمتلكها المَدَنِيُّون في العالم، يموت بواسطتها 45 ألف شخصا ( 10% من القاصِرِين)، سنويا أو ما يعادل 123 قتيلا في اليوم الواحد، بالإضافة إلى ما لا يقل عن ألف شخص (لا يُحتَسَبُ سوى من يموتون خلال أربع وعشرين ساعة من إصابتهم، أما من يموت بعد ذلك جراء الإصابة فهو خارج الحساب) تقتلهم الشّرطة كل عام...
أدّت الزيادات المُستمرة للإنفاق العسكري الأمريكي إلى ارتفاع أرباح الشركات الخاصة المُصنّعة للأسلحة، وإلى تصعيد التوتر مع الصين ومع إيران ومع روسيا، وإلى الإعتداء على شعوب كثيرة، من أفغانستان إلى غرب إفريقيا، كما أدّت إلى عسكرة السياسة الخارجية الأمريكية، وإلى عسكرة الحياة الدّاخلية التي أفْضَت إلى "عَسْكَرَة" عُقُول الأمريكيين، إذ تعتبر أغلبية الأمريكيين أن امتلاك السّلاح، وتأسيس المليشيات المُسلّحة، حق دستوري، ويدخل في باب الحُرّيّات، ما يُهَمِّش مَطْلَب حَظْر أو ضَبْطَ بيع السلاح، في مقابل تزايد نُفُوذ مجموعات الضّغط التي يُحرّكها مُجَمّع الصّناعات العسكرية الأمريكية، الذي يُنفق مبالغ طائلة لتمويل الحملات الإنتخابية لنواب الكونغرس وحُكّام الولايات، وتَضُمُّ إحدى المجموعات (الجمعية الأمريكية للبندقية - إن إر آي) أكثر من خمسة ملايين عضو من العُنصريين البيض...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رئيس وزراء بريطانيا يعلن عن أكبر حزمة مساعدات عسكرية لأوكران


.. متظاهرون يحتشدون أمام جامعة نيويورك دعما لاعتصام طلابي يتضام




.. الجناح العسكري لحركة حماس يواصل التصعيد ضد الأردن


.. وزير الدفاع الروسي يتوعد بضرب إمدادات الأسلحة الغربية في أوك




.. انتشال جثث 35 شهيدا من المقبرة الجماعية بمستشفى ناصر في خان