الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مصر .. بين الأمس واليوم

أحمد فاروق عباس

2022 / 5 / 12
مواضيع وابحاث سياسية


كنت أدرس - لاعتبارات خاصة بعملى - موضوع الأرصدة الاسترلينية التى كانت مصر دائنة بها على بريطانيا أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية ، وكيف تكونت تلك الديون ، وكيف تمت معالجتها ، وكيف ماطلت بريطانيا فى تسديدها كثيرا حتى أكلت أغلبها ، وهو فصل شيق وحزين من قصة الاستعمار فى بلادنا وفى العالم الثالث ..

وكان الداعى لذلك ما لمسته طوال السنوات الماضية من كمية تزييف مروعة فى هذا الموضوع ، إلى درجة الادعاء بأن سنوات الاستعمار البريطاني لمصر كانت سنوات تقدم ونهضة فى مصر !!

وهو شئ كان سيصيب شخصيات مصرية عظيمة مثل أحمد عرابى ومصطفى كامل ومحمد فريد ولطفى السيد وسعد زغلول ومصطفى النحاس وجمال عبد الناصر بالمرارة والحزن الشديد ، فكيف أن بعض أحفادهم يرفعون الان من شأن من أفنوا عمرهم كله فى محاربتهم !!

قادنى ذلك إلى دراسة موضوع أوسع من مجرد قضية الأرصدة الاسترلينية ، إلى دراسة موضوع أثر الحروب البريطانية الهائل على الاقتصاد المصرى فى النصف الأول من القرن العشرين ..

وكيف استنزفت تلك الحروب الاقتصاد المصرى بصورة كاملة ..
وكيف حدَّت وعطلت تلك الحروب من تطوره ونموه بصورة مؤثرة ؟
وما أثر تلك الحروب على الإنسان المصري فى حياته وفى معاشه ؟
وما أثرها على الحياة الاقتصادية المصرية .. فى الزراعة والصناعة والخدمات ؟
وكيف تم استنزاف المرافق المصرية بالكامل في تلك الحروب التى لم يكن لمصر فيها ناقة ولا جمل ، كما كانوا يصفونها آنذاك ..

وضمن إطار ذلك الموضوع المتشعب ، لفت نظري بعض الأرقام التى جاء ضمن تقرير طويل أعدته لجنة التجارة والصناعة، وهى لجنة أنشأتها الحكومة عام ١٩١٦ للبحث في سبل علاج أوجه النقص الخطيرة في التجارة والصناعة المصرية ، التى نشأت خلال ظروف الحرب العالمية ..

وضمن ما جاء في التقرير الشهير للجنة التجارة والصناعة موضوع " ضرورة البحث عن موارد جديدة لمصر " فموارد الثروة فيها لم تعد كافية طبقا لذلك التقرير ..

كان ذلك عام ١٩١٦ ( اى من ١٠٦ ) سنة ، وكان عدد سكان مصر وقتها ١٢ مليون وسبعمائة ألف نسمة !!

الغريب أن كثير من المصريين الآن ، وبعضهم من المتخصصين للأسف - ونحن في سنة ٢٠٢٢ وعدد سكان مصر تخطى ١٠٠ مليون إنسان - يؤكدون أن موارد مصر هائلة ، وأن مشكلة مصر تنحصر في الفساد أو فى سوء التوزيع !!

وكان مما توصلت إليه اللجنة فى تقريرها :
- أن موارد مصر محدودة للغاية ( وليست كبيرة كما يرى البعض أو لانهائية كما يتصور أخرون )
- أن أقصى ما يمكن أن تصل إليه الزراعة المصرية هو ٧ مليون فدان ونصف ( قدرت اللجنة أن ذلك ما ستصل إليه مصر بعد جهود متواصلة خلال ٣٠ سنة قادمة ، أى عام ١٩٤٥ ، بعدد سكان سوف يصل وقتها إلى ٢٠ مليون نسمة ) !!

- أن الصناعة هى مجال التقدم الوحيد المتاح أمام الاقتصاد المصرى ، فلا الزراعة - وقتها - كافية لاعاشة المصريين حياة لائقة ، ولا موارد مصر كافية ..

وفى هذا الإطار تحدثت اللجنة طويلا عن الصانع المصري وطباعه السيئة والغريبة ، وعن الحكومة التى لا تقدم للصناعة فى مصر أيه مساعدة ، وعن الصناعات المصرية وكيف أن أغلبها حديث الانشاء ( لم يذكر التقرير أن أغلب رؤوس الأموال المستثمرة كانت أجنبية ، وكيف أن أغلبها كان فى صناعة واحدة تقريبا هى صناعة الغزل والنسيج ، المرتبطة بوجود محصول مصرى واحد تعتمد عليه الحياة الاقتصادية للبلاد هو محصول القطن ) ..

وهنا يطرح سؤال نفسه ..
هل كان الاستعمار ، وهو الحاكم الفعلى لمصر وقتها ، وصاحب الكلمة العليا في كل شئونها ، حريصا على الاقتصاد المصرى وتطوره ، ونقله من اقتصاد زراعى إلى اقتصاد صناعى متقدم ؟!!
والجواب لا بالطبع ..

لقد كان ضغط ظروف الحرب على الاقتصاد المصرى فقط هو ما املى قيام اللجنة ، وتحدد اللجنة بنفسها طبيعة مهمتها كالاتى " الزراعة هى الأهم لمصر ، وليس المطلوب أن تصبح مصر بلدا صناعيا بالمعنى الكامل للكلمة ، وإنما المقصود أن تتمكن من إنتاج ما تستطيعه وفاء لحاجتها الذاتية ، وتلافى الأزمة التى تهددها وتجنب الخطر "

ويلفت النظر فى التقرير الذى مضى عليه أكثر من مائة عام الحديث عن المستقبل الغائم والمقلق للقطاع الزراعى فى مصر !!

الغريب أنه لم يكن هناك نقص أيامها في مياه النيل، ولا كانت النزاعات على حصة مصر منه قد بدأت ، ولا كان عصر بناء السدود فى إثيوبيا قد حل ..

ولم يكن سكان مصر قد وصلوا إلى ١٠٠ مليون كما هم الآن ( بل كانوا ١٢ مليونا ونصف ) اى أقل من سكان القاهرة فقط الآن !!
ومع ذلك وجد من يقرع أجراس الخطر ، ويرى المستقبل قاتما !!
ولم يكن زمن اعتماد المصرى الكلى على الحكومة فى مأكله ومسكنه وعمله وكل شئون حياته قد جاء بعد ..

وبغض النظر عن نواحى نقص واضحة فى التقرير إلا أنه كان محاولة متقدمة بمقاييس زمنها ..

كان جهدا قدمه أناس ذوى علم وذوى خبرة فى شئون متخصصة ، ولم يكن - كما يحدث الآن - دقات طبول بدائية تناقش أمور الاقتصاد المتخصصة من هواة لم يدعوهم أحد للحديث ..

كما لم يكن عصر المكايدات السياسية قد وصل إلى مصر بعد ، ولم يقتحم شئون الاقتصاد أو السياسة أو غيرهما من شئون الحياة ، ويحولها إلى حلبة مصارعة ، وليست ساحة لتقديم الاجتهادت بهدوء وبعلم وبتواضع ..

لذا عاش التقرير مائة عام وأكثر ، وسيعيش أيضا بعدها ، لأنه كلمة علم وكلمة خبرة ، بينما سيذهب أغلب ما نقرأه اليوم إلى النسيان بعد يوم أو بعض يوم ، لانه كلمة جهل أو كلمة انتقام أو كلمة هوى !!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الكونغرس يبحث تمويلا إضافيا لإسرائيل| #أميركا_اليوم


.. كبير المفاوضين الإيرانيين في الملف النووي: لدينا القدرة على




.. الخارجية الأمريكية: التزامنا بالدفاع عن إسرائيل قوي والدفاع


.. مؤتمر دولي بشأن السودان في العاصمة الفرنسية باريس لزيادة الم




.. سر علاقة ترمب وجونسون